التعليق على كتاب الفوز الكبير في أصول التفسير [3]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا ونبينا محمد خاتم النبيين وإمام المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال الإمام الدهلوي رحمه الله: [ الباب الثاني: بيان وجه الخفاء في معاني نظم القرآن، وإزالة هذا الخفاء.

الفصل الأول: في ورود غريب القرآن.

ليعلم أن القرآن قد نزل بلغة العرب سوياً بغير تفاوت، وهم فهموا معنى منطوقه بقريحة جبلوا عليها كما قال: وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ [الزخرف:2]، وقال: قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [يوسف:2]، وقال: أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ [هود:1] ].

البحث عن المسائل التي لم يسأل عنها السلف

[ وكان من مرمى الشارع عدم الخوض في تأويل متشابه القرآن، وتصوير حقائق الصفات الإلهية، وتسمية المبهم، واستقصاء القصص وما أشبه ذلك، ولهذا ما كانوا يسألونه صلى الله عليه وسلم عن شيء من ذلك، والذي يرفع إليهم في هذا الباب شيء قليل، ولكن لما مضت تلك الطبقة ودخلهم العجم، وتركت تلك اللغة استصعب فهم المراد في بعض المواضع، واحتيج إلى تفيش اللغة والنحو، وجاء السؤال والجواب في ذلك، وصنفت كتب التفسير، فلزم أن نذكر مواضع الصعوبة إجمالاً، ونورد أمثلةً فيها؛ لئلا يحتاج عند الخوض إلى زيادة بيان، ويقع الاضطرار إلى الكشف عن تلك المواضع ].

هذه المقدمة لهذا الفصل التي ذكرها المؤلف فيه قضية نحب أن ننتبه إليها وهي مرتبطة بالتاريخ والحاجة العلمية، وهذا الموضوع أرى أنه مهم بحثه، فذكره المؤلف، أن الصحابة كان سؤالهم للرسول صلى الله عليه وسلم عن التفاصيل أقل ممن جاء بعد الصحابة، وهناك كما ذكر أشياء من المبهمات، وتفاصيل في القصص لم يكن يعنى بها الصحابة، وصارت العناية بها عند من جاء بعدهم أكثر.

السؤال الذي يرد: هل البقاء في مثل هذه الأمور على ما كان عليه الصحابة هو الأولى، أو أن نقول: إن هذا من لوازم الطبيعة التاريخية لحركة المسلمين؟

بمعنى أن نقول: إنه في مثل هذه الأمور التي نتكلم عنها ما كان الصحابة رضي الله عنهم يحتاجون إليها، بل قد اكتفوا بهدايات القرآن العامة دون الخوض في هذه التفاصيل، خصوصاً أنهم يشاهدون الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو ينزل عليه الوحي، فما كانت عندهم مثل هذه الاستفسارات التي جاءت عند من جاء بعدهم.

ولو تأملت في التاريخ ستجد أن من جاء بعد التابعين وأتباع التابعين خوضهم في هذه التفاصيل أكثر، وهكذا حتى تصل إلى عصرنا هذا ستجد أن بعض المعاصرين خاض في تفاصيل وردت في القرآن لم يتكلم عنها من كان قبل جيله، فضلاً عن أن يكون تكلم عنها من كان قبلهم إلى عهد الصحابة رضي الله عنهم، ففي مثل هذه البحوث العلمية يجب أن يكون عندنا نوع من اعتدال في قبولها أو نقلها، فلا ترفض رفض تاماً ولا تقبل بحذافيرها وبكل ما فيها.

القاعدة الكلية في مثل هذا هو النظر إلى الثمرة التي تجنى من بحث هذه المعلومات بالنسبة للدارسين، فقد تكون بعض المعلومات بالنسبة للدارسين في هذا الوقت مثمرة ومفيدة، وقد تكون هذه المعلومات لو درست قبل هذا لكانت ناقصة، وليس فيها ذلك الأثر والفائدة التي جناها المعاصرون، وأقصد من ذلك أنه لا تثريب على المسلمين في البحث وتجلية هذه المعلومات جيلاً بعد جيل، ولا يلزم أن نقول: ما دام الصحابة لم يبحثوا هذه المعلومات فإننا لا نبحثها، ولا نتأمل فيها، ولا نتدبر، ولا نستفيد منها، فمثل هذا الموضوع يحتاج إلى نوع من اعتدال.

والذي يمكن أن نقوله أن نجتهد في معرفة ما السبب الذي جعل الصحابة لا يعتنون بمثل هذا، ثم هل اعتناؤنا نحن بمثل هذه الأمور يجني لنا ثمرةً علمية نستفيد منها أو هو من فضول العلم وضياع الأوقات؟ فهذه مسألة مهمة.

وكذلك أيضاً في نفس الموضوع أحياناً قد يكون الأمر لتدريب الطلاب، يعني الثمرة أو المقصود هو تدريب الطالب، وليس المقصود هو الحصول على معلومة إيجابية أو سلبية.

وبعض الطلاب لا يفهم هذا المقصد فتجده يعيب الدراسة بهذه الطريقة فيقول: لماذا أنا أتعب في بحث من هو الذبيح هل هو إسماعيل أو إسحاق؟ خلاص كفينا في هذا، العلماء بينوا لنا هذا، وعرفنا الراجح، والمقصود هنا ليس المقصود أن تصل إلى نتيجة، النتيجة معروفة، ولكن المقصود تدريبك على البحث ومعرفة الأقوال، والنظر فيها، ومعرفة من قال بهذا، ومن قال بذاك، وأشياء كثيرة تحوط هذا البحث، فمثل هذه الأمور تحتاج منا إلى نوع من الاعتدال في طرقها وبحثها؛ لأن بعض الدارسين وطلاب العلم يشنع على بعض العلوم أو بعض المعلومات تشنيعاً شديداً، حتى أنه يراها أحياناً من الأمور التي تعتبر من السفاسف؛ لأن السلف لم يعتنون بها، ولا شك أن هذه القاعدة الكلية صحيحة، لكن أيضاً يجب أن ننتبه إلى أنه حينما نجد ثمرة فعلية فإننا نتمسك بها.

ونقول: بأن كل وقت له معلوماته التي تكون موجودة فيه وتناقش، فهذا ما يتعلق بما ذكره من سبب قلة سؤال الصحابة رضي الله عنهم، ثم ازديادها في الطبقات التي بعد جيل الصحابة، ولا شك أن دخول العجم وكذلك كثرة المسلمين، وتنامي العلوم أن هذه من أكبر الأسباب التي دعت إلى أن تبحث مثل هذه القضايا التي ذكرها المؤلف.

أسباب صعوبة فهم مراد المتكلم

قال رحمه الله: [ فنقول: إن عدم الوصول إلى فهم المراد باللفظ يكون تارةً بسبب استعمال لفظ غريب، وعلاجه نقل معنى اللفظ عن الصحابة والتابعين وسائر أهل المعاني، وتارةً يكون ذلك لعدم تمييز المنسوخ من الناسخ، وتارةً يكون لغفلة عن سبب النزول.

وتارةً يكون بسبب حذف المضاف أو الموصوف أو غيرها.

وتارةً لإبدال شيء مكان شيء، أو إبدال حرف بحرف، أو اسم باسم، أو فعل بفعل، أو لذكر الجمع موضع المفرد وبالعكس، أو لاستعمال الغيبة مكان الخطاب.

وتارةً بتقديم ما حقه التأخير وبالعكس.

وتارةً بسبب انتشار الضمائر وتعدد المراد من لفظ واحد.

وتارةً بسبب التكرار والإطناب.

وتارةً بسبب الاختصار والإيجاز.

ومرةً بسبب استعمال الكناية والتعريض والمتشابه والمجاز العقلي، فينبغي لأهل السعادة من الأحباب أن يطلعوا في مبدأ الكلام على حقيقة هذه الأمور، وشيء من أمثلتها، ويكتفوا في موضع التفسير بإشارة ورمز ].

لو تأملنا هذه التي بدأ بقوله: [ فتارة ] ثم ذكر مجموعة من القضايا التي يمكن أن نقول عنها: إنها أسباب مانعة من الفهم.

فذكر المثال الأول وهو واضح: وهو أن تكون اللفظة غريبة من جهة اللغة، وقضية غرابة اللفظة من جهة اللغة قضية نسبية.

ومن باب الفائدة أيضاً فهذه من البحوث التي يمكن أن تعمل في كتب غريب القرآن وهي: النظر إلى نسبية الغرابة عند المؤلفين، بمعنى لو أننا أخذنا مجاز القرآن لـأبي عبيدة وهو في الغريب، وأخذنا الكتاب الذي يليه تفسير غريب القرآن لـابن قتيبة ، وقد استفاد من كتاب أبي عبيدة ، وصنعنا موازنة بين الكتابين في عدد الغريب الذي ذكروه في كل صورة، ثم العدد الكلي مثلاً، وهل تركوا شيئاً بالنسبة لنا نحن غريب أو لا؟ ما دام ترك فالأصل أنه بالنسبة له ليس بغريب، وقد يكون بالنسبة لنا من الغريب.

وهل ذكر شيء بالنسبة لنا واضح؟ وإذا كان واضحاً ولا يتوقع الاختلاف فيه فلماذا ذكره؟ فهذه أيضاً من المباحث التي لو أعملتها في جملة من كتب الغريب فسيتبين لك كيف تتعامل مع الغريب، وأحياناً قد يكون أيضاً من باب الاتفاق، وأن المؤلف يذكر هذه اللفظة وإن كانت معلومة المعنى وواضحة، لكنه يذكرها مجرد ذكر اتفاقي وليس له مقصد أنها تدخل في الغريب.

وما ذكره المؤلف فبعضه ممكن نسميه أسباب الاختلاف، فإذا تأملنا هذه فنقول: لم نفهم المعنى لصعوبة ما ورد فيه، أو لخفاء اللفظ من جهة الغريب، أو الكناية، أو المجاز، أو بسبب اختلاف المفسرين فيه، يعني لاحتماله لأكثر من مدلول.

فالمقصد من ذلك أننا يمكن أن نستفيد من هذه التي ذكرها المؤلف بالنظر فيما يدخل في أسباب الاختلاف، والنظر فيما يدخل في أسباب خفاء معاني القرآن الكريم، والمفترض أنه الفصل الأول.

الطريقة لفهم غريب القرآن

قال: [ الفصل الأول في شرح غريب القرآن.

وأحسن الطرق في شرح الغريب ما صح عن ترجمان القرآن عبد الله بن عباس من طريق ابن أبي طلحة ، واعتمده البخاري في صحيحه غالباً، ثم طريق الضحاك ، عن ابن عباس ، وجواب ابن عباس عن أسئلة نافع بن الأزرق ، وقد ذكر السيوطي هذه الطرق الثلاث في الإتقان.

ثم ما نقله البخاري من شرح الغريب عن أئمة التفسير.

ثم ما رواه سائر المفسرين من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين من شرح الغريب.

ومن المستحسن عندي أن أجمع في الباب الخامس من الرسالة جملةً صالحةً من شرح غريب القرآن مع أسباب النزول فأجعلها رسالةً مستقلة، فمن شاء أدخلها في هذه الرسالة، ومن شاء أفردها على حدة، وللناس فيما يعشقون مذاهب ].

ذكر المؤلف هنا نقطتين:

النقطة الأولى: ما يتعلق بأفضل شروح غريب القرآن، ولا شك أن الشروح الواردة عن ابن عباس من الشروح المقدمة، لكن هذه الإطلاقات إطلاقات جملية وليست تفصيلية، بمعنى أننا لا نجعل أن الأصل أن كل ما ورد عن ابن عباس أو ما يساويه أنه صحيح، وأنه يقدم، فهذه القاعدة ليست صحيحة، ولم يعمل بها إلا قلة من العلماء، لكن لا شك أن قول ابن عباس من حيث العموم معتبر؛ لدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم له بتعليم التأويل.

وهذه الطرق التي ذكرها ابن عباس ، هناك طرق أصح منها وأقوى، فالطرق التي ذكرها كلها طرق متكلم فيها، طريق علي بن أبي طلحة ، وطريق الضحاك ، وسؤالات نافع ، وأضعفها سؤالات نافع ، ثم طريق الضحاك ، ثم طريق علي بن أبي طلحة ، ولن نتكلم عن تفاصيل هذه الطرق، ولكن المقصد أن ولي الله الدهلوي رحمه الله تعالى ترك الطرق المعتبرة والأقوى من هذه الطرق في تفسير ابن عباس ، وكان الأولى ذكرها، ولهذا لا نحتاج إلى أن نفصل في هذه الطرق.

ولكن نقول: القاعدة الكلية في هذا: أن ما ورد عن الصحابة من حيث العموم فهو المقدم؛ لأن هؤلاء الصحابة هم الذين نزل القرآن بلسانهم، فهم أهل اللسان المعتبر، وإليهم المرجع، فإذا وردت عن صحابي فإنه يحكم بأنها لغة بلا ريب.

وإذا وقع اختلاف بين الصحابة في تحديد المدلول اللغوي فنحكم بأن كل ما قالوه من جهة اللغة صحيح، وأنه من باب الاشتراك اللغوي، ثم يأتي التحرير في هل الآية تقبل جميع الأقوال أو بعضها يقدم على بعض؟

وأيضاً نلاحظ أن صاحب الكتاب رحمه الله تعالى اعتمد على ما ذكره عن شيخ شيوخه السيوطي في الإتقان، وكأن مرجعه في هذه المعلومة الإتقان لا غير، وهذا أيضاً من باب الفائدة، وهي أن ننتبه له من الجهة العلمية وأن الاقتصار على بعض المراجع دون النظر الموسوع في المراجع الأخرى قد يورث مثل هذا النقص في المعلومات، فهو رحمه الله تعالى لم يذكر لنا من مراجعه إلا ما ذكره عن البخاري وذكره في الإتقان فقط، مع أن هناك تفسير ابن جرير الطبري ، و ابن أبي حاتم ، حتى شيخ شيوخه الذي هو السيوطي له تفسير الدر المنثور مليء بالمنقولات عن الصحابة، فلو كان شملها لكان أولى.

رسالة المؤلف التي جمعها في شرح غريب القرآن

القضية الثانية: فيما يتعلق بالرسالة الأخيرة التي ذكرها، فهذه الرسالة لم تطبع في ما بين أيدينا، ولا أيضاً طبعها سلمان الندوي ، وليته ألحقها بكتاب الفوز الكبير؛ لأن المؤلف أعطى خياراً: من أراد أن يلحقها بالفوز الكبير فتكون في الفصل الخامس عنده، ومن أفردها برسالة فتكون مستقلة، ولهذا سمى الفصل هذا الأخير: فتح الخبير بما لا بد من حفظه في علم التفسير، وأحد الطبعات هذه طبعة باكستانية ألحقوا بها كتاب فتح الخبير، فجعلوها في كتاب واحد، مثل ما أراد المؤلف على الوجه الأول، والوجه الثاني إفرادها، وليست عندي مفردة، ولا رأيتها أيضاً مفردة، وهي التي قال عنها: للناس فيما يعشقون مذاهب، يعني إن أردت أن تكمل بها الكتاب أو تفصلها.

طرق تفسير الصحابة والتابعين ألفاظ القرآن

قال رحمه الله: [ ومما ينبغي أن يعلم ها هنا أن الصحابة والتابعين ربما يفسرون اللفظ بلازم معناه، وقد يتعقب المتأخرون التفسير القديم من جهة تتبع اللغة، وتفحص موارد الاستعمال، والغرض من هذه الرسالة سرد تفسيرات السلف بعينها، ولتنقيحها ونقدها موضع غير هذا الموضع، ولكل مقام مقال ].

هذه قضية مهمة قال: (وليعلم أن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين يفسرون اللفظ أحياناً بلازم معناه)، فحين نأتي إلى التفسير، فعندنا التفسير اللفظي، ثم التفسير المعنوي، والتفريق بين التفسير اللفظي والتفسير بلازم المعنى قضية من أهم القضايا في أصول التفسير لمن يقرأ في تفسير السلف، فعلى سبيل المثال ما ذكره المؤلف في كتاب هذا عن الكوثر، قال: الكوثر قال رسول صلى الله عليه وسلم: ( هو نهر في الجنة ). ثم قال: (شانئك): عدوك، والذي نريد أن نتكلم عنه قوله: (بلازم المعنى) فإن الشانئ في اللغة المبغض، ولا يلزم من أن يكون كل مبغض عدواً، بل قد يكون مبغضاً له ولا يكون عدواً له، لكن كل عدو يلزم أن يكون مبغضاً وليس كل مبغض عدواً.

فلما ننظر إلى هذا فهذا يجعلنا ندرك العلاقات التي ذكرها المؤلف وأنه أحياناً قد يكون التفسير لفظياً، وقد يكون بلازم المعنى، ومعنى ذلك أننا لا بد أن نتعلم مفرادات اللغة، ونعرف معانيها الأصلية في اللغة؛ لكي نستطيع أن نميز بين المعنى الأصلي والتفسير الذي يأتي بلازم هذا المعنى، فهذا إدراكه يكون بمعرفة ألفاظ العربية عند علماء العربية.

وقد يرد عندنا إشكالات في بعض الألفاظ حين ترد عن الصحابة والتابعين هل هي من لازم المعنى أو المعنى الأصلي؟ وهذه قليلة يمكن أن تحرر في مكانها، ولا يؤثر على فهم المعنى الخلاف فيها وإنما يؤثر فيها هل هي من اللغة أو من لوازم هذا اللفظ؟ فالخلاف فيها لا يؤثر على التفسير، وإنما يؤثر على نقل اللغة، مثلاً: الشانئ هو العدو، والشانئ هو المبغض، فإذا قلت لك: لماذا قلت بهذا؟ فتقول: لأنه ورد في التفسير الشانئ بمعنى العدو، والشانئ بمعنى المبغض، فنقول: لا، الأصل أن الشانئ بمعنى المبغض، والتفسير بالعدو له ارتباط بالشانئ، وليس أن الشانئ هو العدو، فهنا تحرير من جهة إطلاق اللغة فقط، وأما من جهة التفسير فنقول تفسير (شانئك) بمعنى صحيح لكنه تفسير معنوي وليس تفسيراً لفظياً؛ لأن التفسير اللفظي أن الشانئ بمعنى المبغض.

[ وكان من مرمى الشارع عدم الخوض في تأويل متشابه القرآن، وتصوير حقائق الصفات الإلهية، وتسمية المبهم، واستقصاء القصص وما أشبه ذلك، ولهذا ما كانوا يسألونه صلى الله عليه وسلم عن شيء من ذلك، والذي يرفع إليهم في هذا الباب شيء قليل، ولكن لما مضت تلك الطبقة ودخلهم العجم، وتركت تلك اللغة استصعب فهم المراد في بعض المواضع، واحتيج إلى تفيش اللغة والنحو، وجاء السؤال والجواب في ذلك، وصنفت كتب التفسير، فلزم أن نذكر مواضع الصعوبة إجمالاً، ونورد أمثلةً فيها؛ لئلا يحتاج عند الخوض إلى زيادة بيان، ويقع الاضطرار إلى الكشف عن تلك المواضع ].

هذه المقدمة لهذا الفصل التي ذكرها المؤلف فيه قضية نحب أن ننتبه إليها وهي مرتبطة بالتاريخ والحاجة العلمية، وهذا الموضوع أرى أنه مهم بحثه، فذكره المؤلف، أن الصحابة كان سؤالهم للرسول صلى الله عليه وسلم عن التفاصيل أقل ممن جاء بعد الصحابة، وهناك كما ذكر أشياء من المبهمات، وتفاصيل في القصص لم يكن يعنى بها الصحابة، وصارت العناية بها عند من جاء بعدهم أكثر.

السؤال الذي يرد: هل البقاء في مثل هذه الأمور على ما كان عليه الصحابة هو الأولى، أو أن نقول: إن هذا من لوازم الطبيعة التاريخية لحركة المسلمين؟

بمعنى أن نقول: إنه في مثل هذه الأمور التي نتكلم عنها ما كان الصحابة رضي الله عنهم يحتاجون إليها، بل قد اكتفوا بهدايات القرآن العامة دون الخوض في هذه التفاصيل، خصوصاً أنهم يشاهدون الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو ينزل عليه الوحي، فما كانت عندهم مثل هذه الاستفسارات التي جاءت عند من جاء بعدهم.

ولو تأملت في التاريخ ستجد أن من جاء بعد التابعين وأتباع التابعين خوضهم في هذه التفاصيل أكثر، وهكذا حتى تصل إلى عصرنا هذا ستجد أن بعض المعاصرين خاض في تفاصيل وردت في القرآن لم يتكلم عنها من كان قبل جيله، فضلاً عن أن يكون تكلم عنها من كان قبلهم إلى عهد الصحابة رضي الله عنهم، ففي مثل هذه البحوث العلمية يجب أن يكون عندنا نوع من اعتدال في قبولها أو نقلها، فلا ترفض رفض تاماً ولا تقبل بحذافيرها وبكل ما فيها.

القاعدة الكلية في مثل هذا هو النظر إلى الثمرة التي تجنى من بحث هذه المعلومات بالنسبة للدارسين، فقد تكون بعض المعلومات بالنسبة للدارسين في هذا الوقت مثمرة ومفيدة، وقد تكون هذه المعلومات لو درست قبل هذا لكانت ناقصة، وليس فيها ذلك الأثر والفائدة التي جناها المعاصرون، وأقصد من ذلك أنه لا تثريب على المسلمين في البحث وتجلية هذه المعلومات جيلاً بعد جيل، ولا يلزم أن نقول: ما دام الصحابة لم يبحثوا هذه المعلومات فإننا لا نبحثها، ولا نتأمل فيها، ولا نتدبر، ولا نستفيد منها، فمثل هذا الموضوع يحتاج إلى نوع من اعتدال.

والذي يمكن أن نقوله أن نجتهد في معرفة ما السبب الذي جعل الصحابة لا يعتنون بمثل هذا، ثم هل اعتناؤنا نحن بمثل هذه الأمور يجني لنا ثمرةً علمية نستفيد منها أو هو من فضول العلم وضياع الأوقات؟ فهذه مسألة مهمة.

وكذلك أيضاً في نفس الموضوع أحياناً قد يكون الأمر لتدريب الطلاب، يعني الثمرة أو المقصود هو تدريب الطالب، وليس المقصود هو الحصول على معلومة إيجابية أو سلبية.

وبعض الطلاب لا يفهم هذا المقصد فتجده يعيب الدراسة بهذه الطريقة فيقول: لماذا أنا أتعب في بحث من هو الذبيح هل هو إسماعيل أو إسحاق؟ خلاص كفينا في هذا، العلماء بينوا لنا هذا، وعرفنا الراجح، والمقصود هنا ليس المقصود أن تصل إلى نتيجة، النتيجة معروفة، ولكن المقصود تدريبك على البحث ومعرفة الأقوال، والنظر فيها، ومعرفة من قال بهذا، ومن قال بذاك، وأشياء كثيرة تحوط هذا البحث، فمثل هذه الأمور تحتاج منا إلى نوع من الاعتدال في طرقها وبحثها؛ لأن بعض الدارسين وطلاب العلم يشنع على بعض العلوم أو بعض المعلومات تشنيعاً شديداً، حتى أنه يراها أحياناً من الأمور التي تعتبر من السفاسف؛ لأن السلف لم يعتنون بها، ولا شك أن هذه القاعدة الكلية صحيحة، لكن أيضاً يجب أن ننتبه إلى أنه حينما نجد ثمرة فعلية فإننا نتمسك بها.

ونقول: بأن كل وقت له معلوماته التي تكون موجودة فيه وتناقش، فهذا ما يتعلق بما ذكره من سبب قلة سؤال الصحابة رضي الله عنهم، ثم ازديادها في الطبقات التي بعد جيل الصحابة، ولا شك أن دخول العجم وكذلك كثرة المسلمين، وتنامي العلوم أن هذه من أكبر الأسباب التي دعت إلى أن تبحث مثل هذه القضايا التي ذكرها المؤلف.

قال رحمه الله: [ فنقول: إن عدم الوصول إلى فهم المراد باللفظ يكون تارةً بسبب استعمال لفظ غريب، وعلاجه نقل معنى اللفظ عن الصحابة والتابعين وسائر أهل المعاني، وتارةً يكون ذلك لعدم تمييز المنسوخ من الناسخ، وتارةً يكون لغفلة عن سبب النزول.

وتارةً يكون بسبب حذف المضاف أو الموصوف أو غيرها.

وتارةً لإبدال شيء مكان شيء، أو إبدال حرف بحرف، أو اسم باسم، أو فعل بفعل، أو لذكر الجمع موضع المفرد وبالعكس، أو لاستعمال الغيبة مكان الخطاب.

وتارةً بتقديم ما حقه التأخير وبالعكس.

وتارةً بسبب انتشار الضمائر وتعدد المراد من لفظ واحد.

وتارةً بسبب التكرار والإطناب.

وتارةً بسبب الاختصار والإيجاز.

ومرةً بسبب استعمال الكناية والتعريض والمتشابه والمجاز العقلي، فينبغي لأهل السعادة من الأحباب أن يطلعوا في مبدأ الكلام على حقيقة هذه الأمور، وشيء من أمثلتها، ويكتفوا في موضع التفسير بإشارة ورمز ].

لو تأملنا هذه التي بدأ بقوله: [ فتارة ] ثم ذكر مجموعة من القضايا التي يمكن أن نقول عنها: إنها أسباب مانعة من الفهم.

فذكر المثال الأول وهو واضح: وهو أن تكون اللفظة غريبة من جهة اللغة، وقضية غرابة اللفظة من جهة اللغة قضية نسبية.

ومن باب الفائدة أيضاً فهذه من البحوث التي يمكن أن تعمل في كتب غريب القرآن وهي: النظر إلى نسبية الغرابة عند المؤلفين، بمعنى لو أننا أخذنا مجاز القرآن لـأبي عبيدة وهو في الغريب، وأخذنا الكتاب الذي يليه تفسير غريب القرآن لـابن قتيبة ، وقد استفاد من كتاب أبي عبيدة ، وصنعنا موازنة بين الكتابين في عدد الغريب الذي ذكروه في كل صورة، ثم العدد الكلي مثلاً، وهل تركوا شيئاً بالنسبة لنا نحن غريب أو لا؟ ما دام ترك فالأصل أنه بالنسبة له ليس بغريب، وقد يكون بالنسبة لنا من الغريب.

وهل ذكر شيء بالنسبة لنا واضح؟ وإذا كان واضحاً ولا يتوقع الاختلاف فيه فلماذا ذكره؟ فهذه أيضاً من المباحث التي لو أعملتها في جملة من كتب الغريب فسيتبين لك كيف تتعامل مع الغريب، وأحياناً قد يكون أيضاً من باب الاتفاق، وأن المؤلف يذكر هذه اللفظة وإن كانت معلومة المعنى وواضحة، لكنه يذكرها مجرد ذكر اتفاقي وليس له مقصد أنها تدخل في الغريب.

وما ذكره المؤلف فبعضه ممكن نسميه أسباب الاختلاف، فإذا تأملنا هذه فنقول: لم نفهم المعنى لصعوبة ما ورد فيه، أو لخفاء اللفظ من جهة الغريب، أو الكناية، أو المجاز، أو بسبب اختلاف المفسرين فيه، يعني لاحتماله لأكثر من مدلول.

فالمقصد من ذلك أننا يمكن أن نستفيد من هذه التي ذكرها المؤلف بالنظر فيما يدخل في أسباب الاختلاف، والنظر فيما يدخل في أسباب خفاء معاني القرآن الكريم، والمفترض أنه الفصل الأول.

قال: [ الفصل الأول في شرح غريب القرآن.

وأحسن الطرق في شرح الغريب ما صح عن ترجمان القرآن عبد الله بن عباس من طريق ابن أبي طلحة ، واعتمده البخاري في صحيحه غالباً، ثم طريق الضحاك ، عن ابن عباس ، وجواب ابن عباس عن أسئلة نافع بن الأزرق ، وقد ذكر السيوطي هذه الطرق الثلاث في الإتقان.

ثم ما نقله البخاري من شرح الغريب عن أئمة التفسير.

ثم ما رواه سائر المفسرين من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين من شرح الغريب.

ومن المستحسن عندي أن أجمع في الباب الخامس من الرسالة جملةً صالحةً من شرح غريب القرآن مع أسباب النزول فأجعلها رسالةً مستقلة، فمن شاء أدخلها في هذه الرسالة، ومن شاء أفردها على حدة، وللناس فيما يعشقون مذاهب ].

ذكر المؤلف هنا نقطتين:

النقطة الأولى: ما يتعلق بأفضل شروح غريب القرآن، ولا شك أن الشروح الواردة عن ابن عباس من الشروح المقدمة، لكن هذه الإطلاقات إطلاقات جملية وليست تفصيلية، بمعنى أننا لا نجعل أن الأصل أن كل ما ورد عن ابن عباس أو ما يساويه أنه صحيح، وأنه يقدم، فهذه القاعدة ليست صحيحة، ولم يعمل بها إلا قلة من العلماء، لكن لا شك أن قول ابن عباس من حيث العموم معتبر؛ لدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم له بتعليم التأويل.

وهذه الطرق التي ذكرها ابن عباس ، هناك طرق أصح منها وأقوى، فالطرق التي ذكرها كلها طرق متكلم فيها، طريق علي بن أبي طلحة ، وطريق الضحاك ، وسؤالات نافع ، وأضعفها سؤالات نافع ، ثم طريق الضحاك ، ثم طريق علي بن أبي طلحة ، ولن نتكلم عن تفاصيل هذه الطرق، ولكن المقصد أن ولي الله الدهلوي رحمه الله تعالى ترك الطرق المعتبرة والأقوى من هذه الطرق في تفسير ابن عباس ، وكان الأولى ذكرها، ولهذا لا نحتاج إلى أن نفصل في هذه الطرق.

ولكن نقول: القاعدة الكلية في هذا: أن ما ورد عن الصحابة من حيث العموم فهو المقدم؛ لأن هؤلاء الصحابة هم الذين نزل القرآن بلسانهم، فهم أهل اللسان المعتبر، وإليهم المرجع، فإذا وردت عن صحابي فإنه يحكم بأنها لغة بلا ريب.

وإذا وقع اختلاف بين الصحابة في تحديد المدلول اللغوي فنحكم بأن كل ما قالوه من جهة اللغة صحيح، وأنه من باب الاشتراك اللغوي، ثم يأتي التحرير في هل الآية تقبل جميع الأقوال أو بعضها يقدم على بعض؟

وأيضاً نلاحظ أن صاحب الكتاب رحمه الله تعالى اعتمد على ما ذكره عن شيخ شيوخه السيوطي في الإتقان، وكأن مرجعه في هذه المعلومة الإتقان لا غير، وهذا أيضاً من باب الفائدة، وهي أن ننتبه له من الجهة العلمية وأن الاقتصار على بعض المراجع دون النظر الموسوع في المراجع الأخرى قد يورث مثل هذا النقص في المعلومات، فهو رحمه الله تعالى لم يذكر لنا من مراجعه إلا ما ذكره عن البخاري وذكره في الإتقان فقط، مع أن هناك تفسير ابن جرير الطبري ، و ابن أبي حاتم ، حتى شيخ شيوخه الذي هو السيوطي له تفسير الدر المنثور مليء بالمنقولات عن الصحابة، فلو كان شملها لكان أولى.

القضية الثانية: فيما يتعلق بالرسالة الأخيرة التي ذكرها، فهذه الرسالة لم تطبع في ما بين أيدينا، ولا أيضاً طبعها سلمان الندوي ، وليته ألحقها بكتاب الفوز الكبير؛ لأن المؤلف أعطى خياراً: من أراد أن يلحقها بالفوز الكبير فتكون في الفصل الخامس عنده، ومن أفردها برسالة فتكون مستقلة، ولهذا سمى الفصل هذا الأخير: فتح الخبير بما لا بد من حفظه في علم التفسير، وأحد الطبعات هذه طبعة باكستانية ألحقوا بها كتاب فتح الخبير، فجعلوها في كتاب واحد، مثل ما أراد المؤلف على الوجه الأول، والوجه الثاني إفرادها، وليست عندي مفردة، ولا رأيتها أيضاً مفردة، وهي التي قال عنها: للناس فيما يعشقون مذاهب، يعني إن أردت أن تكمل بها الكتاب أو تفصلها.