خطب ومحاضرات
التعليق على كتاب الفوز الكبير في أصول التفسير [5]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا ونبينا محمد خاتم النبيين وإمام المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال الإمام ولي الله الدهلوي في كتابه الفوز الكبير: [ الباب الثالث في بديع أسلوب القرآن:
الفصل الأول في أسلوب تصدير وختم السور، لم يجعل القرآن مبوباً مفصلاً ليطلب كل مطلب منه في باب أو فصل، بل كان كمجموع المكتوبات فرضاً كما يكتب الملوك إلى رعاياهم بحسب اقتضاء الحال مثالاً، وبعد زمان يكتبون مثالاً آخر، وعلى هذا القياس حتى تجتمع أمثلة كثيرة، فيدونها شخص حتى يصير مجموعاً مرتباً، كذلك نزل الملك على الإطلاق جل شأنه على نبيه صلى الله عليه وسلم؛ لهداية عباده سورةً بعد سورة بحسب اقتضاء الحال، وكان في زمانه صلى الله عليه وسلم كل سورة محفوظة ومضبوطة على حدة من غير تدوين السور، ثم رتبت السور في مجلد بترتيب خاص في زمان أبي بكر و عمر رضي الله عنهما، وسمي هذا المجموع بالمصحف ].
هذا الباب عقده المؤلف لما يتعلق بترتيب القرآن الكريم، وأسلوب السور فيه، فذكر في بداية هذا المبحث أن القرآن لم يكن على منهج المتون المبوبة والمفصلة، بحيث يكون كل موضوع في سورة معينة، ومثله بمجموعة الرسائل والفرامين أي: المرسومات الملكية التي يوجهها الملوك والسلاطين إلى رعاياهم.
وعندي في هذا التشبيه إشكال، وهي أن القرآن له ترتيبه الفريد الذي لا يمكن أن يشبهه شيء من عمل البشر ولا يقاربه، وكذلك ترتيب السورة ترتيب محكم، أي: مرتبط بالحكمة، بخلاف عمل البشر فإن جاز أن يوضع نوع من مشابهة فالمشابهة في قضية أن السلطان حينما يكتب هذه الرسائل أو الفرامين يكتبها على حسب مقتضى الحال فقط، أما قضية الترتيب وكيف تكون فهذه قضية لا يمكن أن يقاس القرآن بغيره فيها، فهذه قاعدة كلية يجب أن ننتبه لها، بأنه لا يمكن أن نقيس القرآن بغيره إطلاقاً، وأيضاً لا يمكن أن نتحكم بقضية موضوعات القرآن وكيف ترتب، فحينما يأتي واحد ويقول: إن الأصل أن توضع الموضوعات المتشابهة في مكان واحد، نقول: هذا الأصل من أين أخذته؟ وكيف جعلت هذا هو الأصل؟ فإن هذا أصل إنما تركب بعد ضبط العلوم ومساراتها، وصار العلماء يضبطون المعلومات المتشابهة بعضها مع بعض، وعلى سبيل المثال لما نأخذ صحائف الحديث المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن مرتبةً على باب معين، وإنما كان العالم يكتب ما رواه عن شيوخه، وأحسنهم حالاً من كان يرتب ما رواه عن فلان، ثم ما رواه عن فلان، ثم ما رواه عن فلان.
فالمقصد من ذلك أن المقايسة بين ترتيب القرآن في موضوعاته وبين عمل البشر ليست مقايسة دقيقة، فإذاً يحسن ألا نقرب من هذه الجهة؛ لأن عمل البشر مهما كان مع نقصه فهو عمل متنوع ومتطور وليس عملاً واحد.
نأتي إلى هذا الباب ونعيد النظر مرة أخرى في قضية ترتيب موضوعات القرآن، وكما قلت: بما أن هذا من لدن حكيم خبير، فالأصل في ترتيب هذه الموضوعات أنه جاء وفق الحكمة، فإذاً يكون بحثنا نحن في تبين وجوه الحكمة من ترابط هذه الموضوعات التي في القرآن، ومن أمعن النظر في موضوعات القرآن سيظهر له جلياً هذا الارتباط الوثيق بين موضوعات القرآن، حتى ولو كانت لأول وهلة موضوعات قد يظن أنها متباعدة، ولكن عند التدقيق والنظر سيرى أنها متقاربة، وسيرى كيف يرتبط الموضوع بالموضوع، وتربط القضية بالقضية بطرائق متعددة، وهو ما يسمى عند البلاغيين بحسن التخلص، وهو الانتقال من فكرة إلى فكرة، والرابط بينها.
فيجب أن نبحث عن هذا الأسلوب الفريد الذي تميز به القرآن في ترتيب موضوعاته.
القضية الأخرى التي نبه عليها المؤلف وهي نزول القرآن حسب مقتضيات الأحوال والظروف، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم حسبما يأتيه من الوحي كان يضع الآيات في أماكنها التي يأمره الله سبحانه وتعالى بها.
وهنا فائدة أحب أن أنبه عليها، وهي قضية مرتبطة بالوحي للأنبياء، وأن كتب الأنبياء التي ذكرها الله سبحانه وتعالى لنا أنه أنزلها لا نعلم بها كلها، ولا نعلم كيفية إنزال كتب الله سبحانه وتعالى على جميع أنبيائه، وما يقوله بعض العلماء من كون القرآن نزل مفرقاً خلافاً لنزول الكتب السابقة فإنها نزلت جملةً، فدليل ذلك ليس دليلاً يقينياً بحيث يرفع الخلاف. ولكن المقصد من ذلك أن الذي يترجح ويتوجه إليه المقام: أن الكتب السابقة أنزلت جملة، وأن القرآن نزل مفرقاً، فتقع شبهة عند بعضهم، وهي أن الكتب السابقة إذا كانت نزلت جملة فالحوادث التي تقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كيف يكون الوحي إلى النبي بها؟ فنقول هنا: إن الوحي إلى الأنبياء صوره متعددة، فقد يكون وحياً مرتبطاً بالكتاب الذي ينزله الله سبحانه وتعالى، وقد يكون وحياً مرتبطاً بالحكمة التي يؤتاها كل نبي وهي السنة، والسنة الوحي بها متعدد كما هو معلوم، فقد يكون من طريق المنام، وقد يكون من طريق الإلقاء في الروع، وقد يكون من طريق الملك، وقد يكون من طريق التكليم المباشر من الله سبحانه وتعالى لعبده، وهذا لم يحصل إلا لـآدم عليه السلام، ولـموسى عليه السلام، ولنبينا محمد عليهم جميعاً أفضل الصلاة وأتم التسليم، وإن كانت تختلف مقامات التكليم الإلهي لهم، وإنما تميز موسى بكونه كليم الله لأن الوحي جاءه مباشرةً بكلام الله، بخلاف غيره من الأنبياء، والمقصد من هذا أن ننتبه إلى هذا الملحظ فيما يتعلق بقضية الوحي الذي ينزل على الأنبياء وأنواعه، وكون القرآن نزل مفرقاً، والكتب السابقة نزلت جملة ليس فيه إشكال ولا مطعن من هذه الجهة؛ لأن بعض الفضلاء قد لحظ هذا، ولكنه لم ينتبه إلى قضية أنواع الوحي الأخرى، وهذه السور التي نزلت كانت مجموعة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ومضبوطة ومكتوبة، وهذه فائدة يجب أن ننتبه لها، وليس هناك دليل تفصيلي، وإنما هناك أدلة مفرقة يظهر منها عناية النبي صلى الله عليه وسلم العناية التامة بكتابة ما ينزل عليه من الوحي، وأخص الصحابة الذين كانوا يعلمون ما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم ويكتبون له هو زيد بن ثابت كما ثبت في صحيح البخاري في كلامه عن قصة جمع المصحف في عهد أبي بكر ، فقد كان الكاتب المختص بالوحي، ولا يعني أن غيره لم يكتب، بل غيره كان يكتب، لكن كان هو الكاتب الخاص بالنبي إذا نزلت سورة أو آية دعاه فكتب.
والنبي صلى الله عليه وسلم جمع المصحف في ما كان من مادة القوم: الأكتاف، والرقاع، وسعف النخل وغيرها، ثم لما جاء عهد أبي بكر جمع أبو بكر هذا المفرق الذي في صدور الرجال، وفي السطور المكتوبة عندهم، أو فيما جمع بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، فإذاً عمل أبي بكر هو جمع متفرق، فجمع في عهده رضي الله عنه، وسمي بالمصحف.
وعندي أن هذه التسمية أخذوها من القرآن؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً [البينة:2]، وأشار إليه أيضاً في سورة عبس فقال: فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ [عبس:13]، فعندي أنهم أخذوها من الإشارات التي ذكرها الله سبحانه وتعالى، وليس كما ورد في بعض الأخبار أنهم اجتمعوا لكي يسموه فاختلفوا فيه، والله أعلم بالصواب.
الحكمة في ترتيب السور
وأما البحث عن الحكمة من تناسب السور فهو يترتب على الخلاف الوارد: هل الترتيب توقيفي أو غير توقيفي؟
والرسول صلى الله عليه وسلم قد ثبت عنه أنه قرأ بخلاف الترتيب الموجود.
فنقول: الحكمة باقية سواءً كان الترتيب باجتهاد أو كان بتوقيف، لكن الحكمة إذا كانت بتوقيف فطلبها مشروع؛ لأن ما يصدر عن الحكيم فلابد أن يكون عن حكمة، فطلبها يكون مشروعاً، فإذا ثبت أن السور إنما كانت باجتهاد فالبحث عن حكمة في عمل الصحابة أيضاً ممكن، لكنه ليس بدرجة الأول، ومعنى ذلك أنه على كل الأحوال البحث في الحكمة ليس فيه إشكال، فإن كان من الأول فمرتبته لا شك أرقى؛ لأنه صادر عن حكيم فيبحث عن حكمته، وهو الترتيب التوقيفي، وإن كان من فعل الصحابة فهو إجماع منهم على هذا الترتيب، فأيضاً يجوز فيه البحث عن الحكمة، فإذاً بحث التناسب على كل الأحوال جائز وممكن، لكنه يختلف بحسب اختلاف الترتيب هل هو توقيفي أو اجتهادي.
مخالفة ترتيب المصحف في قراءة السور
القضية الثانية: أن قراءة الرسول صلى الله عليه وسلم البقرة ثم النساء ثم آل عمران لم يرد له ناسخ، ولم يرد عنه صلى الله عليه وسلم نهي عن أن يقرأ القرآن بغير هذا الترتيب، ولم يرد كذلك عن الصحابة نهي في ذلك، فدل على أن فعل الرسول صلى الله عليه وسلم يستفاد منه الجواز، يعني جواز مخالفة الترتيب، وإن كان الترتيب هو الأولى، أما أثر ابن مسعود لما سئل عن رجل ينكس القرآن قال: ذلك رجل منكوس القلب، فمراده في الآيات وليست السور، هذا هو الظاهر؛ لأن تنكيس السور مما أجمع المسلمون على جوازه في الكتاتيب، فهم يعلمون الصبيان، ويبدءون بهم بـ (قل أعوذ برب الناس)، ثم (قل أعوذ برب الفلق)، ثم (قل هو الله أحد)، فلو كان هذا لا يجوز لما جاز في التعليم، فهذا من الأدلة التي يمكن أن يعتمد عليها في أن المراد بحديث ابن مسعود تنكيس الآيات وليس تنكيس السور؛ لأن تنكيس الآيات هو الذي يحصل به اختلال نظم القرآن.
وأما البحث عن الحكمة من تناسب السور فهو يترتب على الخلاف الوارد: هل الترتيب توقيفي أو غير توقيفي؟
والرسول صلى الله عليه وسلم قد ثبت عنه أنه قرأ بخلاف الترتيب الموجود.
فنقول: الحكمة باقية سواءً كان الترتيب باجتهاد أو كان بتوقيف، لكن الحكمة إذا كانت بتوقيف فطلبها مشروع؛ لأن ما يصدر عن الحكيم فلابد أن يكون عن حكمة، فطلبها يكون مشروعاً، فإذا ثبت أن السور إنما كانت باجتهاد فالبحث عن حكمة في عمل الصحابة أيضاً ممكن، لكنه ليس بدرجة الأول، ومعنى ذلك أنه على كل الأحوال البحث في الحكمة ليس فيه إشكال، فإن كان من الأول فمرتبته لا شك أرقى؛ لأنه صادر عن حكيم فيبحث عن حكمته، وهو الترتيب التوقيفي، وإن كان من فعل الصحابة فهو إجماع منهم على هذا الترتيب، فأيضاً يجوز فيه البحث عن الحكمة، فإذاً بحث التناسب على كل الأحوال جائز وممكن، لكنه يختلف بحسب اختلاف الترتيب هل هو توقيفي أو اجتهادي.
القضية الثانية: أن قراءة الرسول صلى الله عليه وسلم البقرة ثم النساء ثم آل عمران لم يرد له ناسخ، ولم يرد عنه صلى الله عليه وسلم نهي عن أن يقرأ القرآن بغير هذا الترتيب، ولم يرد كذلك عن الصحابة نهي في ذلك، فدل على أن فعل الرسول صلى الله عليه وسلم يستفاد منه الجواز، يعني جواز مخالفة الترتيب، وإن كان الترتيب هو الأولى، أما أثر ابن مسعود لما سئل عن رجل ينكس القرآن قال: ذلك رجل منكوس القلب، فمراده في الآيات وليست السور، هذا هو الظاهر؛ لأن تنكيس السور مما أجمع المسلمون على جوازه في الكتاتيب، فهم يعلمون الصبيان، ويبدءون بهم بـ (قل أعوذ برب الناس)، ثم (قل أعوذ برب الفلق)، ثم (قل هو الله أحد)، فلو كان هذا لا يجوز لما جاز في التعليم، فهذا من الأدلة التي يمكن أن يعتمد عليها في أن المراد بحديث ابن مسعود تنكيس الآيات وليس تنكيس السور؛ لأن تنكيس الآيات هو الذي يحصل به اختلال نظم القرآن.
تقسيم السور عند الصحابة
الملقي: قال رحمه الله: [ وقد كانت السور مقسومةً عند الصحابة إلى أربعة أقسام:
القسم الأول: السبع الطوال التي هي أطول السور.
والقسم الثاني: سور في كل منها مائة آية، أو تزيد شيئاً قليلاً.
والقسم الثالث: ما فيه أقل من المائة، وهي المثاني.
والقسم الرابع: المفصل، وقد أدخل في ترتيب المصحف سورتان أو ثلاثة من عداد المثاني في المئين؛ لمناسبة سياقها سياق المئين، وعلى هذا القياس ربما وقع في بعض الأقسام أيضاً تصرف ].
تقسيم السور ورد فيه أحاديث، وآثار عن الصحابة رضي الله عنهم، وهذا التقسيم الذي هو السبع الطوال، والمئين، والمثاني، والمفصل قد يرد في بعض الطوال ما ليس من الطوال، وقد يرد في المئين ما هو أقل منها، وقد يرد في المثاني ما هو أكثر، لكن المقصود هو الجملة الغالبة على هذا القسم، فلو بدأنا بالطوال فالفاتحة ليست منها؛ بل تبدأ الطوال بالبقرة، ثم آل عمران، ثم النساء، ثم المائدة، ثم الأنعام، ثم الأعراف، ثم الأنفال، إذا قلنا: إنها سبع بهذا، وبعض العلماء يرى أن الأنفال والتوبة سورة واحدة وهي التي تكمل السبع المثاني، ودليل هذا الرأي أثر ابن عباس المشهور لم عمدتم إلى سورة الأنفال وجمعتموها مع سورة براءة، ولم تجعلوا بينهما سطر باسم الله؟ وهو أثر مشهور. والمقصد أن هناك خلافاً بين العلماء في تحديد السابعة، وبعضهم يقول: السابعة هي سورة يونس، وهذا الاختلاف في تحديد السابعة لا يؤثر على كونها سبع طوال، وأيضاً لا يؤثر لو عددنا الأنفال؛ لأن المراد بها الأغلبية، فهذه السبع أغلبها طوال، فسقوط واحدة من الطول لا يؤثر على أن تكون كلها طوال.
القضية الثانية: في المفصل وحده أيضاً وقع خلاف بين العلماء في تحديد أوله، والخلاف هذا مبني على هل تدخل سورة الفاتحة في العد أو ليست في العد؟ بناءً على حديث وفد بني تميم، لما قال: كيف تحزبون القرآن؟ قالوا: ثلاثاً وخمساً، وسبعاً، وتسعاً، وأحدى عشر، وثلاث عشر، ثم حزب المفصل.
فإذا عدت الفاتحة فسيكون البدء بقاف، وإذا لم تعد فسيكون البدء بالحجرات، والمقصد من هذا أن المفصل لا يخرج عن أن يكون بين هاتين السورتين، وتقسيمات سور القرآن من المعلومات التي يقل البحث فيها.
التفنن في تقسيم السور
يمكن أن تنظر في تقسيمات السور بأنظار متعددة، فعلى سبيل المثال -وهذا قد عمله بعض العلماء- السور التي بدأت بالخبر، والسور التي بدأت بالإنشاء، التي بدأت بالجملة الخبرية، والجملة الإنشائية، فيمكن أن يقسم القرآن إلى هذا، وكذلك السور التي ابتدأت بجملة اسمية، والتي ابتدأت بحروف، والسور التي ابتدأت بالحمد، والسور التي ابتدأت بالأحرف المقطعة، ثم في الأحرف المقطعة التي بدئت بخماسي، ثم برباعي، ثم بثلاثي، ثم بثنائي، ثم بفردي.
بمعنى أنه يمكن النظر إلى التقسيم بأنظار متعددة، وبعض هذه التقسيمات يكون مفيداً للسامع، وبعضها قد يكون من باب التقسيم الفني الذي يكون من لطائف العلم، ويطرب له السامع، وإن لم يكن من متين العلم، فعلى سبيل المثال جمع السور التي ابتدأت بالحمد، ثم البحث في موضوع الحمد في هذه السور، لم خصت هذه بالبدء بالحمد، وهل تشترك في موضوع مرتبط بالحمد أو لا؟ فعندما ننظر إلى قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، وقوله مثلاً: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [فاطر:1]، موضوع هذه السورة وموضوع السور الأخرى وكذا بقية الخمس التي ابتدأت الحمد، وهل الابتداء بالحمد له حكمة معينة يمكن أن نصل إليها من خلال النظر في موضوع الآيات أو لا؟ والقصد من ذلك أن يكون عندنا نوع من إثارة معلومات القرآن بالنسبة للأذهان، بحيث أن المسلم وهو يقرأ القرآن يكون عنده أكثر من نظر ويتبصر ويتأمل.
قد يقول قائل: سندخل بهذا في التكلف، فأقول: لا يخلو بحث مرتبط بهذه الأمور من وجود التكلف، لكن المقصود والثمرة ما دامت موجودة فهذه مطلب، وهو تدبر القرآن بأنظار متعددة، وكونه يقع التكلف في بعض الأحيان فهذا التكلف يمكن التخلص منه شيئاً فشيئاً، وكلما كانت المعلومة مشاعةً بين المسلمين، ويثقون بها، ويتفقون عليها كانت أقوى من معلومة قد يقع فيها خلاف وجدال كثير، فلا نخشى قضية التكلف فنجعلها دائماً عقبة في عدم البحث والنظر في آيات القرآن.
الملقي: قال رحمه الله: [ وقد كانت السور مقسومةً عند الصحابة إلى أربعة أقسام:
القسم الأول: السبع الطوال التي هي أطول السور.
والقسم الثاني: سور في كل منها مائة آية، أو تزيد شيئاً قليلاً.
والقسم الثالث: ما فيه أقل من المائة، وهي المثاني.
والقسم الرابع: المفصل، وقد أدخل في ترتيب المصحف سورتان أو ثلاثة من عداد المثاني في المئين؛ لمناسبة سياقها سياق المئين، وعلى هذا القياس ربما وقع في بعض الأقسام أيضاً تصرف ].
تقسيم السور ورد فيه أحاديث، وآثار عن الصحابة رضي الله عنهم، وهذا التقسيم الذي هو السبع الطوال، والمئين، والمثاني، والمفصل قد يرد في بعض الطوال ما ليس من الطوال، وقد يرد في المئين ما هو أقل منها، وقد يرد في المثاني ما هو أكثر، لكن المقصود هو الجملة الغالبة على هذا القسم، فلو بدأنا بالطوال فالفاتحة ليست منها؛ بل تبدأ الطوال بالبقرة، ثم آل عمران، ثم النساء، ثم المائدة، ثم الأنعام، ثم الأعراف، ثم الأنفال، إذا قلنا: إنها سبع بهذا، وبعض العلماء يرى أن الأنفال والتوبة سورة واحدة وهي التي تكمل السبع المثاني، ودليل هذا الرأي أثر ابن عباس المشهور لم عمدتم إلى سورة الأنفال وجمعتموها مع سورة براءة، ولم تجعلوا بينهما سطر باسم الله؟ وهو أثر مشهور. والمقصد أن هناك خلافاً بين العلماء في تحديد السابعة، وبعضهم يقول: السابعة هي سورة يونس، وهذا الاختلاف في تحديد السابعة لا يؤثر على كونها سبع طوال، وأيضاً لا يؤثر لو عددنا الأنفال؛ لأن المراد بها الأغلبية، فهذه السبع أغلبها طوال، فسقوط واحدة من الطول لا يؤثر على أن تكون كلها طوال.
القضية الثانية: في المفصل وحده أيضاً وقع خلاف بين العلماء في تحديد أوله، والخلاف هذا مبني على هل تدخل سورة الفاتحة في العد أو ليست في العد؟ بناءً على حديث وفد بني تميم، لما قال: كيف تحزبون القرآن؟ قالوا: ثلاثاً وخمساً، وسبعاً، وتسعاً، وأحدى عشر، وثلاث عشر، ثم حزب المفصل.
فإذا عدت الفاتحة فسيكون البدء بقاف، وإذا لم تعد فسيكون البدء بالحجرات، والمقصد من هذا أن المفصل لا يخرج عن أن يكون بين هاتين السورتين، وتقسيمات سور القرآن من المعلومات التي يقل البحث فيها.
يمكن أن تنظر في تقسيمات السور بأنظار متعددة، فعلى سبيل المثال -وهذا قد عمله بعض العلماء- السور التي بدأت بالخبر، والسور التي بدأت بالإنشاء، التي بدأت بالجملة الخبرية، والجملة الإنشائية، فيمكن أن يقسم القرآن إلى هذا، وكذلك السور التي ابتدأت بجملة اسمية، والتي ابتدأت بحروف، والسور التي ابتدأت بالحمد، والسور التي ابتدأت بالأحرف المقطعة، ثم في الأحرف المقطعة التي بدئت بخماسي، ثم برباعي، ثم بثلاثي، ثم بثنائي، ثم بفردي.
بمعنى أنه يمكن النظر إلى التقسيم بأنظار متعددة، وبعض هذه التقسيمات يكون مفيداً للسامع، وبعضها قد يكون من باب التقسيم الفني الذي يكون من لطائف العلم، ويطرب له السامع، وإن لم يكن من متين العلم، فعلى سبيل المثال جمع السور التي ابتدأت بالحمد، ثم البحث في موضوع الحمد في هذه السور، لم خصت هذه بالبدء بالحمد، وهل تشترك في موضوع مرتبط بالحمد أو لا؟ فعندما ننظر إلى قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، وقوله مثلاً: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [فاطر:1]، موضوع هذه السورة وموضوع السور الأخرى وكذا بقية الخمس التي ابتدأت الحمد، وهل الابتداء بالحمد له حكمة معينة يمكن أن نصل إليها من خلال النظر في موضوع الآيات أو لا؟ والقصد من ذلك أن يكون عندنا نوع من إثارة معلومات القرآن بالنسبة للأذهان، بحيث أن المسلم وهو يقرأ القرآن يكون عنده أكثر من نظر ويتبصر ويتأمل.
قد يقول قائل: سندخل بهذا في التكلف، فأقول: لا يخلو بحث مرتبط بهذه الأمور من وجود التكلف، لكن المقصود والثمرة ما دامت موجودة فهذه مطلب، وهو تدبر القرآن بأنظار متعددة، وكونه يقع التكلف في بعض الأحيان فهذا التكلف يمكن التخلص منه شيئاً فشيئاً، وكلما كانت المعلومة مشاعةً بين المسلمين، ويثقون بها، ويتفقون عليها كانت أقوى من معلومة قد يقع فيها خلاف وجدال كثير، فلا نخشى قضية التكلف فنجعلها دائماً عقبة في عدم البحث والنظر في آيات القرآن.
قال رحمه الله: [ ولما كان بين أسلوب السور وأسلوب أمثلة الملوك مناسبة تامة روعي في الابتداء والانتهاء طريق المكاتيب كما يبتدءون في بعض المكاتيب بحمد الله عز وجل، والبعض الآخر ببيان غرض الإملاء، والبعض الآخر باسم المرسل والمرسل إليه، ومنها ما يكون رقعةً صغيرة بغير عنوان، وبعضها يكون مطولاً، وبعضها مختصراً، وكذلك سبحانه وتعالى صدر بعض السور بالحمد والتسبيح، وبعضها ببيان غرض الإملاء، كما قال عز وجل: ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:2].
وقال تعالى: سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا [النور:1]، وهذا القسم يشبه ما يكتب: هذا ما صالح عليه فلان وفلان، وهذا ما أوصى به فلان، وقد كتب النبي صلى الله عليه وسلم في واقعة الحديبية: ( هذا ما قاضى عليه محمد صلى الله عليه وسلم )، وبعضها يذكر المرسل والمرسل إليه كما قال تعالى: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [الزمر:1].
وقال: كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود:1]، وهذا القسم يشبه ما يكتبون، صدر الحكم من حضرة الخلافة، أو يكتبون هذا إعلام لسكنة البلدة الفلانية من حضرة الخلافة.
وقد كتب صلى الله عليه وسلم: ( من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم ).
وبعضها على أسلوب الرقاع والشقق بغير عنوان كما قال عز وجل: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ [المنافقون:1].
وقوله: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا [المجادلة:1].
وقوله: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ [التحريم:1] ].
سبق التنبيه على قوله: إن أسلوبها مثلما الأسلوب في الفرامين، وقلنا: إن هذا فيه نظر؛ لأن الأمر مختلف جداً، فهي مقايسة بين أمرين مختلفين.
قال رحمه الله: [ ولما كانت القصائد في فصاحة الكلام أبرز شهرة عند العرب، وكان من عاداتهم في مبدأ القصائد التشبيب بذكر مواضع عجيبة ].
ما يصلح هذا؛ لأن التشبيب شيء، وذكر المواضع شيء، في نسخة (وكان بدء القصائد بالتشبيب وبذكر المواضع العجيبة).
قال رحمه الله: [ وكان من عاداتهم في مبدأ القصائد التشبيب وذكر مواضع عجيبة، ووقائع هائلة، اختار الله عز وجل هذا الأسلوب في بعض السور كما قال تعالى: وَالصَّافَّاتِ صَفّاً * فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً [الصافات:1-2]. وقال: وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً * فَالْحَامِلاتِ وِقْراً [الذاريات:1-2].
وقال: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ [التكوير:1-2] ].
هذا أيضاً نفس القضية السابقة؛ لأن هذا غير لازم، فالقصيدة ومبناها غير السورة ومبناها، فليس هناك نوع من تقارب؛ وأنا استغرب من المؤلف رحمه الله تعالى كيف يجعل كلام الله سبحانه وتعالى أو طريقة القرآن مثل طريقة عمل هؤلاء، أهذا الذي يأتي من غير نظام يكون مقايساً بمن كلامه سبحانه وتعالى كله حكمة ومبني على الحكمة؟ هذا مشكل من هذه الجهة، فأنا أرى المؤلف رحمه الله تعالى قد قصر في هذا، ولو لم يربط الموضوع بفرامين السلاطين، وبقصائد العرب في هذا لكان أولى.
استمع المزيد من صفحة د. مساعد الطيار - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
التعليق على كتاب الفوز الكبير في أصول التفسير [7] | 3084 استماع |
التعليق على كتاب الفوز الكبير في أصول التفسير [1] | 2809 استماع |
التعليق على كتاب الفوز الكبير في أصول التفسير [6] | 2629 استماع |
التعليق على كتاب الفوز الكبير في أصول التفسير [4] | 2163 استماع |
التعليق على كتاب الفوز الكبير في أصول التفسير [2] | 1940 استماع |
التعليق على كتاب الفوز الكبير في أصول التفسير [3] | 1438 استماع |