التعليق على كتاب الفوز الكبير في أصول التفسير [7]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا ونبينا محمد خاتم النبيين وإمام المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال الإمام ولي الله الدهلوي في كتابه الفوز الكبير: [ الفصل الثاني: الآثار المروية في كتب التفسير.

من جملة الآثار المروية في كتب التفسير: بيان سبب النزول.

أقسام أسباب النزول الواردة في آثار السلف

وسبب النزول على قسمين:

القسم الأول: أن تقع حادثة يظهر فيها إيمان المؤمنين ونفاق المنافقين، كما وقع في أحد والأحزاب، أنزل الله تعالى مدح هؤلاء، وذم أولئك ليكون فيصلاً بين الفريقين، وربما يقع في مثل هذا من التعريض بخصوصيات الحادثة ما يبلغ حد الكثرة، فيجد أن يذكر شرح الحادثة بكلام مختصر؛ ليتضح سوق الكلام على القارئ.

القسم الثاني: أن يتم معنى الآية بعمومها من غير احتياج إلى العلم بالحادثة التي هي سبب النزول، والحكم لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، وقد ذكر قدماء المفسرين تلك الحادثة بقصد الإحاطة بالآثار المناسبة للآية، أو بقصد بيان ما صدق عليه العموم، وليس ذكر هذا القسم من الضروريات، وقد تحقق عند الفقير أن الصحابة والتابعين كثيراً ما كانوا يقولون: نزلت الآية في كذا وكذا، وكان غرضهم تصوير ما صدقت عليه الآية، وذكر بعض الحوادث التي تشملها الآية بعمومها، سواء تقدمت القصة أو تأخرت، إسرائيلياً كان ذلك أو جاهلياً، أو إسلامياً، استوعبت جميع قيود الآية أو بعضها، والله أعلم.

أسباب النزول الاجتهادية

فعلم من هذا التحقيق أن للاجتهاد في هذا القسم مدخلاً، وللقصص المتعددة هنا لك سعة، فمن استحضر هذه النكتة يتمكن من حل ما اختلف من سبب النزول بأدنى عناية، ومن جملة ذلك تفصيل قصة وقع في نظم القرآن تعريض بأصلها، فيأخذ المفسرون استقصاء القصة من أخبار بني إسرائيل، أو من علم السير، فيذكرونها بجميع خصوصياتها، وها هنا أيضاً تفصيل ما كان في الآية تعريض به ظاهراً، بحيث يقف هناك العارف باللغة متفحصاً، فذكره من وظيفة المفسر، وما كان خارجاً من هذا الباب مثل ذكر بقرة بني إسرائيل أذكراً كانت أم أنثى؟ ومثل بيان كلب أصحاب الكهف أأبقعاً كان أم أحمر؟ فهو تكلف ما لا يعني، وكانت الصحابة رضي الله عنهم يعدون ذلك قبيحاً من قبيل تضييع الأوقات، ويحفظ ها هنا نكتتان:

موقف السلف من تعريضات الآيات

الأولى: أن الأصل في هذا الباب إيراد القصص المسموعة بلا تصرف عقل، وربما يتخذ جمع من قدماء المفسرين ذلك التعريض قدوة، فيفرضون محملاً مناسباً لذلك التعريض، فيقررونه بصورة الاحتمال، فيشتبه على المتأخرين، وكثيراً ما يشتبه التقرير على سبيل الاحتمال بالتقرير مع الجزم في كلامهم، ويذكرون هذا مقام ذاك؛ لأن أساليب التقرير لم تكن منقحةً في ذلك الزمان، وهذا أمر مجتهد فيه، للنظر العقلي فيه مجال، ودائرة قيل ويقال هنالك متسعة، فيمكن فيه إرخاء العنان، ومن حفظ هذه النكتة حكم حكماً فيصلاً في كثير من مواضع اختلف فيها المفسرون، ويمكن أن يتحقق في كثير من مناظرات الصحابة أنه ليس بقول، وإنما تفتيش علمي يعرضه بعض المجتهدين على بعض، والفقير على هذا المحمل يحمل قول ابن عباس رضي الله عنهما في آية وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6]، لا أجد في كتاب الله إلا المسح، لكنهم أبوا إلا الغسل، فالذي يفهمه الفقير أنه ليس بذهاب إلى وجوب المسح، وليس فيه جزم بحمل الآية على ركنية المسح، فالذي تقرر عند ابن عباس رضي الله عنهما الغسل، ولكنهم يرون هنالك إشكالاً، ويظهرون احتمالاً ليعلم بأي وجه يذكر علماء العصر التطبيق في هذا التعارض، وأي مسلك يسلكون، ومن لم يطلع على حقيقة محاورة السلف يظنه قول ابن عباس ، ويعده مذهباً له حاشاه وحاشاه.

النكتة الثانية: أن النقل عن بني إسرائيل دسيسة دخلت في ديننا، ( ولا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم ) قاعدة مقررة، فلزم أمران:

الأول: ألا يرتكب النقل على أهل الكتاب إذا وجد في سنة نبينا صلى الله عليه وسلم بيان لتعرض القرآن مثلاً، حيث وجد لقوله تعالى: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ [ص:34] محمل في السنة النبوية، وهو قصة ترك إن شاء الله، والمؤاخذة عليه، فلا يرتكب قصة صخر المارد.

الأمر الثاني: إن الضروري يتقدر بقدر الضرورة، فليكن ذلك ملحوظاً عند التفسير، فلا يقع الكلام إلا بقدر اقتضاء التعريض؛ ليحصل التصديق بشهادة القرآن، فيكف اللسان عن الزيادة، وها هنا نكتة لطيفة الغاية، فلا تغفل عنها، وهي أنها قد تذكر في القرآن العظيم قصة في موضع بالإجمال، وفي موضع بالتفصيل مثلما قال تعالى: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:30]، ثم قال: إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ [البقرة:33]، فهذه المقولة هي المقولة المتقدمة ذكرت بنوع من التفصيل، فيمكن أن يعلم من التفصيل تفسير الإجمال، وينتقل من الإجمال إلى التفصيل، مثلاً ذكر في سورة مريم قصة سيدنا عيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام إجمالاً وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً [مريم:21]، وفي سورة آل عمران تفصيلاً وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [آل عمران:49] إلى آخره، ففي هذه المقولة بشارة تفصيلية، وتلك المقولة بشارة إجمالية، فمن ثم استنبط العبد الضعيف أن معنى الآية: رسولاً إلى بني إسرائيل مخبراً بأني قد جئتكم، وهذا كله داخل في خبر البشارة، ليس بمتعلق بمحذوف، كما أشار إليه السيوطي حيث قال: فلما بعثه الله قال: إني رسول الله إليكم بأني قد جئتكم. والله أعلم.

ومن جملة ذلك شرح الغريب وبناؤه على تتبع لغة العرب، أو التفطن لسياق الآية وسباقها، والعلم بمناسبة اللفظ بأجزاء جملة وقع هو فيها، فها هنا أيضاً مدخل للعقل، وسعة للاختلاف؛ لأن الكلمة الواحدة.. ].

ما ذكره المؤلف هنا قد أشار إليه سابقاً، لكن ها هنا أيضاً من التفصيل فيما يتعلق بأسباب النزول ما ليس هناك، وقد سبق أن ذكرت ما يتعلق بالتفصيل بأسباب النزول في دروس سابقة، وكذلك بعض القضايا التي مرت سبق أن شرحتها، فاقتصرت بالإجمال في الشرح، ومن أراد العودة إليها فيمكن الرجوع إليها.

أسباب النزول التي يشترط على المفسر معرفتها

الروايات التي في أسباب النزول ذكر المؤلف أنها تنقسم إلى قسمين: أن يقع حادث فينزل بشأنه قرآن، وذكر مثال ما يقع للمؤمنين أو يقع للمنافقين في غزوة أحد والأحزاب.

والثاني: أن يكون معنى الآية مستقلاً تاماً بعموم صيغتها، وفي هذه الحالة لا يحتاج إلى سبب النزول، وقد سبق تقرير هذا متى نحتاج إلى سبب النزول، ومتى لا نحتاج إلى سبب النزول.

والقاعدة في هذا: أن الآية إذا لم تفهم إلا بسبب النزول فيكون سبب النزول من مهمات المفسر، ومما يشترط فيه معرفة المفسر، وإذا كانت الآية تفهم بعمومها، وإن كان لها سبب نزول ولا يحتاج إليه فإنه لا يعد في هذه الحال من شروط المفسر، وسبق أن ذكرت مثالاً بداية سورة الممتحنة يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ [الممتحنة:1]، حيث نزلت في شأن حاطب ، فإن لم تعرف قصة حاطب فلا تؤثر ذلك في فهم معنى الآية، ولكن معرفة القصة لا شك أنه يقوي هذا الفهم.

أما الأمثلة على النوع الأول فهي كثيرة جداً، وذكرنا مثال قصة الإفك.

مراد السلف بمصطلح النزول

أيضاً ذكر فائدة مهمة جداً، وهذه لمن اطلع على كتب التفسير ولم يدرك هذا، فإنه يقع عنده إشكال في أن الصحابة والتابعين وأتباع التابعين قد يذكرون قصص وحوادث لا على أنها أسباب النزول، ولكنهم يريدون أنها تدخل في معنى الآية، ولهذا قد تكون هذه القصص سابقة أو لاحقة للآية، وليست مباشرة لها، فلا يفهم منها أنها سبب النزول، حتى لو جاءت فيها عبارة نزلت هذه الآية في كذا، وسبق أيضاً أن ذكرت مثالاً في ذلك.

وأما ما يتعلق بقضية الاجتهاد في النوع الثاني فهذا ظاهر يعني أنه هناك مدخل للاجتهاد في التعبير بنزلت هذه الآية في كذا، ولهذا لو قيل اليوم: نزل قوله تعالى: إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ [الكوثر:3] في الدينمارك وما قاموا به من الرسوم المسيئة للنبي صلى الله عليه وسلم، فيصح هذا القول؛ لأنه ليس المراد أنهم هم سبب النزول، وإنما المراد أن فعلهم هذا يدخل في قوله سبحانه وتعالى: إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ [الكوثر:3]، والتعبير بالنزول ليس مشكلاً على هذا الفهم الذي ذكره المؤلف، وهو الصحيح، ولهذا قاعدة: أن التعبير بالنزول فيه سعة عند السلف، وليس مرادهم بهذه الصيغة دائماً سبب النزول المباشر، فإذا فهمت هذا المعنى يزول عنك الإشكال في آثار كثيرة ورد فيها التعبير بالنزول.

علاقة الإسرائيليات بأسباب النزول

القضية الثانية: فيما يتعلق بالإسرائليات، وهذه أشار إليها إشارةً سريعة، وذكر أنها أيضاً لها علاقة أو مدخل بما يتعلق بأسباب النزول؛ لأنها في الحقيقة قصص، وذكر أو أشار أيضاً إلى مبنى الاجتهاد في هذا، وهنا قاعدة أيضاً نقولها: كل تفسير محمول على قصة إسرائيلية فهو من باب الاجتهاد. بمعنى أن المفسر يجتهد في ربط القصة الإسرائيلية بهذه الآية، مثال ذلك فيما ذكره لاحقاً فيما يتعلق بقصة سليمان وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ [ص:34]، هل المراد بالجسد الشيطان، أو المراد بالجسد ما حصل مما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أن نبي الله سليمان عليه السلام قال: ( لأطوفن على مائة امرأة، تلد كل واحدة منهن غلاماً يجاهد في سبيل الله، فقال له الملك: قل: إن شاء الله، لكن سليمان لم يستثن، يعني: لم يقل: إن شاء الله، فولدت له امرأة واحدة نصف غلام )، يعني غلام بشق فقط، فبعض المفسرين حمل هذه الآية على هذا المعنى، وعلى العموم سواء من حملها على حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، أو من حملها على الإسرائيلية فالمقام هنا مقام اجتهاد، ولهذا نقول: إن ربط الإسرائيليات بالتفسير من باب الرأي والاجتهاد، وإذا كان من باب الرأي والاجتهاد فلا إشكال في الاعتراض على أن تفسر الآية بهذا الخبر الإسرائيلي، ولكن الاعتراض والاستدراك لا يلحق المفسر الذي قال بهذا، بل يجب أن ننتبه إلى الفرق بين الأمرين، بمعنى حينما تأتينا إسرائيلية واردة بالأسانيد الصحيحة عن الصحابة والتابعين، لو أن المستدرك يعني استدرك عليها، فهذا الاستدراك يكون منصباً على الرواية الإسرائيلية، وليس على القائل بها؛ لأن الذي قال بها قالها من باب الاجتهاد، فإذا ورد اعتراض صحيح على هذا فإنه يمكن قبوله، ولكنه لا يتعدى الطعن فيمن قال به من الصحابة أو التابعين أو أتباع التابعين، وهذه قاعدة لا بد أن تستصحبها؛ لأن بعض المعاصرين يخلط بين الأمرين، فيرى الطعن في الإسرائيليات وفي ناقل الإسرائيليات، ولهذا نراهم يعدون أن نقل الإسرائيليات نقصاً، فيتنقصون من ينقلها، وهذا ليس بصحيح على إطلاقه، بل المسلك الصحيح للتعامل مع الإسرائيليات هو أنك إذا اعترضت أو استدركت على حمل الآية على إسرائيلية ما فإن هذا لا يلحق القائل بها؛ لأن القائلين بها علماء فضلاء وأجلاء، بل أحياناً قد يكونون من الصحابة، فلا يصح الاعتراض عليهم هم، وإنما يكون الاعتراض على ارتباط الإسرائيلية بهذه الآية، كما أنه قد يكون نظرك قصراً في معرفة ارتباط الآية بهذه القصة الإسرائيلية، واحتمال الآية لهذه القصة الإسرائيلية، فيكون إذاً وجهة النظر اختلفت، فقد تكون القصة الإسرائيلية لا إشكال فيها من حيث العموم، فحمل الآية عليها غير مشكل لا من جهة المعنى، ولا من جهة أيضاً السند المنسوب إلى أحد الصحابة والتابعين وأتباع التابعين، لكن لأنه قد تقرر عندك إشكال في الإسرائيليات فتراك ترفض هذا، ويكون قصور النظر عندك أنت وليس عند من قال بها، وهذه مسألة تطول، ولهذا النظر الأولي في القصص الإسرائيلية يتجه إلى المعاني التي تحملها هذه القصص، ثم أيضاً يتجه إلى المعنى الجملي أو الكلي الذي تحمله هذه القصة، فإذا كان المعنى الجملي أو الكلي الذي تحمله هذه القصة معنىً غير مخالف، فإنه يقبل ما فيها من المعنى الجملي والكلي، وإذا كانت الآية تدل عليه ويندرج هذا المعنى فيها فإنه يقبل من هذه الجهة، أما تفاصيل ما يرد في هذه القصة الإسرائلية، فهذا لا يقبل إلا بخبر المعصوم.

لو جعلت هذه القاعدة هي قاعدة التعامل مع الإسرائيليات لما وقع إشكال في كثير منها، إذاً القاعدة في النظر في الإسرائيليات هو النظر في المعنى الجملي الذي تحكيه القصة، فإن كان هذا المعنى الجملي ليس فيه ما يخالف، ويمكن قبوله واحتماله فإننا نقبل هذا المعنى الجملي، أما التفصيلات الواردة في الخبر في القصة فإننا لا نقبلها لاحتياجها لخبر المعصوم، فإذا كنا نقبل الأول وهو مندرج تحت الآية فلا إشكال، وعلى هذا أمثلة كثيرة، نذكر مثالاً من أخطر الأمثلة في هذا ليكون ميزاناً يقاس عليه، هذه القصة التي ذكرها عن سليمان ، قال فيها: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ [ص:34]، قال في نسخة أخرى (فكيف يصح أن نذكر قصة صخر المارد من الروايات الإسرائيلية؟) هذا الاعتراض من المؤلف رحمه الله تعالى يمكن أن يستدرك عليه كالآتي، نقول أولاً: إن قصة الجسد التي في الخبر النبوي الصريح لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر الآية بما قاله صلى الله عليه وسلم، فدل على أن ربط الحديث بالآية من اجتهاد المفسر، كما أن ربط الإسرائيلية بالآية من اجتهاد المفسر، فإذاً الأمر في الحالين قائم على الاجتهاد، وقصة المارد أشبه بالسياق من قصة الجسد، لأننا إذا تأملنا قصة سليمان عليه السلام في الفتنة التي ذكرها الله سبحانه وتعالى عنه فإنه حصل له أمران:

الأمر الأول: أنه فتن بالشيطان.

والأمر الثاني: أنه فتن بالجياد، فأبدله الله سبحانه وتعالى بفتنة الشيطان أن سخر له الشياطين، وأبدله بفتنة الجياد أن سخر له الريح السريعة، فهنا في تناسب واضح جداً بين الأمرين، وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ [ص:34]، هذا في القصة الأولى، والجسد هو الذي وقع فيه خلاف: هل هو ما ذكر في الحديث النبوي، أو ما ذكر في الرواية الإسرائيلية من قصة الشيطان، المارد هذا الذي استولى على ملك سليمان فترة من الزمن.

والثانية: إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ * فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ [ص:31-33].

والصحيح أنه قتل هذا الخيل، وأيضاً ليس هناك أي إشكال في كونه قتل هذا الخيل، واعتراضات بعض المفسرين عليها اعتراضات عقلية فقط، وليست اعتراضات مرتبطة بالنقل؛ لأن شرائع الأنبياء متعددة، فاحتمال أن يكون في شرع سليمان ما لم يكن في شرع نبينا صلى الله عليه وسلم من جواز إتلاف الخيل، فأبدله الله سبحانه وتعالى لما تخلى عما يحب وهي الخيل بسبب تأخره عن الصلاة بسببها أبدله الله عنها بالريح غدوها شهر ورواحها شهر، وأبدله بفتنة الشيطان كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ [ص:37] من الشياطين، فهذا تناسق وتناسب بين الآيات.

قد يشكل علينا قضية كيف يسلط الشيطان على النبي فنقول: يوجد في الشريعة إشارة إلى جواز تسليط الشيطان على النبي، يوجد ذلك في نفس السورة قال أيوب: (ربي إني مسني الشيطان بنصب وعذاب)، والرسول صلى الله عليه وسلم سحر، والسحر من عمل الشيطان، فسلط أيضاً على النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه الابتلاءات في الأنبياء هي كمالات؛ لأن الأنبياء بشر، فيلحقهم ما يلحق البشر، فهذا التسليط الذي قدره الله سبحانه وتعالى، وهذا ليس من اختراعنا؛ بل هو ظاهر كلام الله سبحانه وتعالى، وهذا التسليط إنما كان في الجانب البشري في الأنبياء، وليس له أي أثر في الجانب النبوي، وهذا قيد مهم، وكذلك أن تسليط الشيطان على الأنبياء الذي وقع له أثر مثل ما وقع في أيوب عليه السلام وهو صريح، وكذلك ما وقع في نبينا، وهذا التسليط كان في وقت معين ثم زال وارتفع، فإذا كنا نتفق على هذا الأصل، إذا رجعنا إلى قصة سليمان عليه السلام والشيطان المارد هذا، فلا يمنع العقل بناءً على ذلك من أن يكون هذا الشيطان سلط على ملك سليمان فترة الله أعلم بها؛ لأننا لا نستطيع أن نحدد زمن هذه الفترة، ثم أعاد له ملكه، لكن التفاصيل الواردة في القصة: هل كان سليمان يملك هؤلاء الجن بالخاتم؟ وكم فترة تسليط الشيطان على ملك سليمان؟ وهل وقع ما وقع مما تذكره بعض الروايات أن الشيطان جامع نساء سليمان؟ فهذه بعضها ننكرها إنكاراً تاماً، وهي الخبر الأخير هذا بأن الشيطان سلط على نساء سليمان ، فهذا لا شك أنه لم يحصل إطلاقاً، ولا يمكن، أما الأولى فاحتمالات أن تقع في الاحتمال العقلي ولكن أيضاً لا نثبتها، لكن نثبت إجمالي القصة وهو تسليط الشيطان على ملك سليمان من باب الإجمال فقط، أما من باب تفصيلات القصة فإننا لا نقبلها إلا بقول معصوم، وما ورد منها من منكر فإنه مردود، فهذا باختصار إشارة إلى كيفية التعامل في مثل هذه القضية، وذكرت أيضاً مثالاً بأنه من أصعب الأمثلة في التعامل مع الإسرائيليات، فلم نأخذ منه إلا ما دل الشرع عليه على وقوعه وحصوله، وأما باقي القصة من تفاصيل فإننا لا نثبت منها إلا ما دل أو ما جاء خبراً عن المعصوم، وما لا يوجد خبر عن المعصوم فنتوقف فيه ونرده، وما ورد فيها من أخبار منكرة فإنه أيضاً يرد مثل ما ورد من أن الشيطان سلط على نساء سليمان، هذا باختصار ما يتعلق بالإسرائيليات وكيف نتعامل معها من حيث الإجمال ومعنى (ثم أناب). أي أنه لما سلب ملكه وعلم أنه قد فتن رجع إلى الله سبحانه وتعالى.

وسبب النزول على قسمين:

القسم الأول: أن تقع حادثة يظهر فيها إيمان المؤمنين ونفاق المنافقين، كما وقع في أحد والأحزاب، أنزل الله تعالى مدح هؤلاء، وذم أولئك ليكون فيصلاً بين الفريقين، وربما يقع في مثل هذا من التعريض بخصوصيات الحادثة ما يبلغ حد الكثرة، فيجد أن يذكر شرح الحادثة بكلام مختصر؛ ليتضح سوق الكلام على القارئ.

القسم الثاني: أن يتم معنى الآية بعمومها من غير احتياج إلى العلم بالحادثة التي هي سبب النزول، والحكم لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، وقد ذكر قدماء المفسرين تلك الحادثة بقصد الإحاطة بالآثار المناسبة للآية، أو بقصد بيان ما صدق عليه العموم، وليس ذكر هذا القسم من الضروريات، وقد تحقق عند الفقير أن الصحابة والتابعين كثيراً ما كانوا يقولون: نزلت الآية في كذا وكذا، وكان غرضهم تصوير ما صدقت عليه الآية، وذكر بعض الحوادث التي تشملها الآية بعمومها، سواء تقدمت القصة أو تأخرت، إسرائيلياً كان ذلك أو جاهلياً، أو إسلامياً، استوعبت جميع قيود الآية أو بعضها، والله أعلم.

فعلم من هذا التحقيق أن للاجتهاد في هذا القسم مدخلاً، وللقصص المتعددة هنا لك سعة، فمن استحضر هذه النكتة يتمكن من حل ما اختلف من سبب النزول بأدنى عناية، ومن جملة ذلك تفصيل قصة وقع في نظم القرآن تعريض بأصلها، فيأخذ المفسرون استقصاء القصة من أخبار بني إسرائيل، أو من علم السير، فيذكرونها بجميع خصوصياتها، وها هنا أيضاً تفصيل ما كان في الآية تعريض به ظاهراً، بحيث يقف هناك العارف باللغة متفحصاً، فذكره من وظيفة المفسر، وما كان خارجاً من هذا الباب مثل ذكر بقرة بني إسرائيل أذكراً كانت أم أنثى؟ ومثل بيان كلب أصحاب الكهف أأبقعاً كان أم أحمر؟ فهو تكلف ما لا يعني، وكانت الصحابة رضي الله عنهم يعدون ذلك قبيحاً من قبيل تضييع الأوقات، ويحفظ ها هنا نكتتان:

الأولى: أن الأصل في هذا الباب إيراد القصص المسموعة بلا تصرف عقل، وربما يتخذ جمع من قدماء المفسرين ذلك التعريض قدوة، فيفرضون محملاً مناسباً لذلك التعريض، فيقررونه بصورة الاحتمال، فيشتبه على المتأخرين، وكثيراً ما يشتبه التقرير على سبيل الاحتمال بالتقرير مع الجزم في كلامهم، ويذكرون هذا مقام ذاك؛ لأن أساليب التقرير لم تكن منقحةً في ذلك الزمان، وهذا أمر مجتهد فيه، للنظر العقلي فيه مجال، ودائرة قيل ويقال هنالك متسعة، فيمكن فيه إرخاء العنان، ومن حفظ هذه النكتة حكم حكماً فيصلاً في كثير من مواضع اختلف فيها المفسرون، ويمكن أن يتحقق في كثير من مناظرات الصحابة أنه ليس بقول، وإنما تفتيش علمي يعرضه بعض المجتهدين على بعض، والفقير على هذا المحمل يحمل قول ابن عباس رضي الله عنهما في آية وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6]، لا أجد في كتاب الله إلا المسح، لكنهم أبوا إلا الغسل، فالذي يفهمه الفقير أنه ليس بذهاب إلى وجوب المسح، وليس فيه جزم بحمل الآية على ركنية المسح، فالذي تقرر عند ابن عباس رضي الله عنهما الغسل، ولكنهم يرون هنالك إشكالاً، ويظهرون احتمالاً ليعلم بأي وجه يذكر علماء العصر التطبيق في هذا التعارض، وأي مسلك يسلكون، ومن لم يطلع على حقيقة محاورة السلف يظنه قول ابن عباس ، ويعده مذهباً له حاشاه وحاشاه.

النكتة الثانية: أن النقل عن بني إسرائيل دسيسة دخلت في ديننا، ( ولا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم ) قاعدة مقررة، فلزم أمران:

الأول: ألا يرتكب النقل على أهل الكتاب إذا وجد في سنة نبينا صلى الله عليه وسلم بيان لتعرض القرآن مثلاً، حيث وجد لقوله تعالى: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ [ص:34] محمل في السنة النبوية، وهو قصة ترك إن شاء الله، والمؤاخذة عليه، فلا يرتكب قصة صخر المارد.

الأمر الثاني: إن الضروري يتقدر بقدر الضرورة، فليكن ذلك ملحوظاً عند التفسير، فلا يقع الكلام إلا بقدر اقتضاء التعريض؛ ليحصل التصديق بشهادة القرآن، فيكف اللسان عن الزيادة، وها هنا نكتة لطيفة الغاية، فلا تغفل عنها، وهي أنها قد تذكر في القرآن العظيم قصة في موضع بالإجمال، وفي موضع بالتفصيل مثلما قال تعالى: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:30]، ثم قال: إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ [البقرة:33]، فهذه المقولة هي المقولة المتقدمة ذكرت بنوع من التفصيل، فيمكن أن يعلم من التفصيل تفسير الإجمال، وينتقل من الإجمال إلى التفصيل، مثلاً ذكر في سورة مريم قصة سيدنا عيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام إجمالاً وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً [مريم:21]، وفي سورة آل عمران تفصيلاً وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [آل عمران:49] إلى آخره، ففي هذه المقولة بشارة تفصيلية، وتلك المقولة بشارة إجمالية، فمن ثم استنبط العبد الضعيف أن معنى الآية: رسولاً إلى بني إسرائيل مخبراً بأني قد جئتكم، وهذا كله داخل في خبر البشارة، ليس بمتعلق بمحذوف، كما أشار إليه السيوطي حيث قال: فلما بعثه الله قال: إني رسول الله إليكم بأني قد جئتكم. والله أعلم.

ومن جملة ذلك شرح الغريب وبناؤه على تتبع لغة العرب، أو التفطن لسياق الآية وسباقها، والعلم بمناسبة اللفظ بأجزاء جملة وقع هو فيها، فها هنا أيضاً مدخل للعقل، وسعة للاختلاف؛ لأن الكلمة الواحدة.. ].

ما ذكره المؤلف هنا قد أشار إليه سابقاً، لكن ها هنا أيضاً من التفصيل فيما يتعلق بأسباب النزول ما ليس هناك، وقد سبق أن ذكرت ما يتعلق بالتفصيل بأسباب النزول في دروس سابقة، وكذلك بعض القضايا التي مرت سبق أن شرحتها، فاقتصرت بالإجمال في الشرح، ومن أراد العودة إليها فيمكن الرجوع إليها.

الروايات التي في أسباب النزول ذكر المؤلف أنها تنقسم إلى قسمين: أن يقع حادث فينزل بشأنه قرآن، وذكر مثال ما يقع للمؤمنين أو يقع للمنافقين في غزوة أحد والأحزاب.

والثاني: أن يكون معنى الآية مستقلاً تاماً بعموم صيغتها، وفي هذه الحالة لا يحتاج إلى سبب النزول، وقد سبق تقرير هذا متى نحتاج إلى سبب النزول، ومتى لا نحتاج إلى سبب النزول.

والقاعدة في هذا: أن الآية إذا لم تفهم إلا بسبب النزول فيكون سبب النزول من مهمات المفسر، ومما يشترط فيه معرفة المفسر، وإذا كانت الآية تفهم بعمومها، وإن كان لها سبب نزول ولا يحتاج إليه فإنه لا يعد في هذه الحال من شروط المفسر، وسبق أن ذكرت مثالاً بداية سورة الممتحنة يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ [الممتحنة:1]، حيث نزلت في شأن حاطب ، فإن لم تعرف قصة حاطب فلا تؤثر ذلك في فهم معنى الآية، ولكن معرفة القصة لا شك أنه يقوي هذا الفهم.

أما الأمثلة على النوع الأول فهي كثيرة جداً، وذكرنا مثال قصة الإفك.

أيضاً ذكر فائدة مهمة جداً، وهذه لمن اطلع على كتب التفسير ولم يدرك هذا، فإنه يقع عنده إشكال في أن الصحابة والتابعين وأتباع التابعين قد يذكرون قصص وحوادث لا على أنها أسباب النزول، ولكنهم يريدون أنها تدخل في معنى الآية، ولهذا قد تكون هذه القصص سابقة أو لاحقة للآية، وليست مباشرة لها، فلا يفهم منها أنها سبب النزول، حتى لو جاءت فيها عبارة نزلت هذه الآية في كذا، وسبق أيضاً أن ذكرت مثالاً في ذلك.

وأما ما يتعلق بقضية الاجتهاد في النوع الثاني فهذا ظاهر يعني أنه هناك مدخل للاجتهاد في التعبير بنزلت هذه الآية في كذا، ولهذا لو قيل اليوم: نزل قوله تعالى: إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ [الكوثر:3] في الدينمارك وما قاموا به من الرسوم المسيئة للنبي صلى الله عليه وسلم، فيصح هذا القول؛ لأنه ليس المراد أنهم هم سبب النزول، وإنما المراد أن فعلهم هذا يدخل في قوله سبحانه وتعالى: إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ [الكوثر:3]، والتعبير بالنزول ليس مشكلاً على هذا الفهم الذي ذكره المؤلف، وهو الصحيح، ولهذا قاعدة: أن التعبير بالنزول فيه سعة عند السلف، وليس مرادهم بهذه الصيغة دائماً سبب النزول المباشر، فإذا فهمت هذا المعنى يزول عنك الإشكال في آثار كثيرة ورد فيها التعبير بالنزول.

القضية الثانية: فيما يتعلق بالإسرائليات، وهذه أشار إليها إشارةً سريعة، وذكر أنها أيضاً لها علاقة أو مدخل بما يتعلق بأسباب النزول؛ لأنها في الحقيقة قصص، وذكر أو أشار أيضاً إلى مبنى الاجتهاد في هذا، وهنا قاعدة أيضاً نقولها: كل تفسير محمول على قصة إسرائيلية فهو من باب الاجتهاد. بمعنى أن المفسر يجتهد في ربط القصة الإسرائيلية بهذه الآية، مثال ذلك فيما ذكره لاحقاً فيما يتعلق بقصة سليمان وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ [ص:34]، هل المراد بالجسد الشيطان، أو المراد بالجسد ما حصل مما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أن نبي الله سليمان عليه السلام قال: ( لأطوفن على مائة امرأة، تلد كل واحدة منهن غلاماً يجاهد في سبيل الله، فقال له الملك: قل: إن شاء الله، لكن سليمان لم يستثن، يعني: لم يقل: إن شاء الله، فولدت له امرأة واحدة نصف غلام )، يعني غلام بشق فقط، فبعض المفسرين حمل هذه الآية على هذا المعنى، وعلى العموم سواء من حملها على حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، أو من حملها على الإسرائيلية فالمقام هنا مقام اجتهاد، ولهذا نقول: إن ربط الإسرائيليات بالتفسير من باب الرأي والاجتهاد، وإذا كان من باب الرأي والاجتهاد فلا إشكال في الاعتراض على أن تفسر الآية بهذا الخبر الإسرائيلي، ولكن الاعتراض والاستدراك لا يلحق المفسر الذي قال بهذا، بل يجب أن ننتبه إلى الفرق بين الأمرين، بمعنى حينما تأتينا إسرائيلية واردة بالأسانيد الصحيحة عن الصحابة والتابعين، لو أن المستدرك يعني استدرك عليها، فهذا الاستدراك يكون منصباً على الرواية الإسرائيلية، وليس على القائل بها؛ لأن الذي قال بها قالها من باب الاجتهاد، فإذا ورد اعتراض صحيح على هذا فإنه يمكن قبوله، ولكنه لا يتعدى الطعن فيمن قال به من الصحابة أو التابعين أو أتباع التابعين، وهذه قاعدة لا بد أن تستصحبها؛ لأن بعض المعاصرين يخلط بين الأمرين، فيرى الطعن في الإسرائيليات وفي ناقل الإسرائيليات، ولهذا نراهم يعدون أن نقل الإسرائيليات نقصاً، فيتنقصون من ينقلها، وهذا ليس بصحيح على إطلاقه، بل المسلك الصحيح للتعامل مع الإسرائيليات هو أنك إذا اعترضت أو استدركت على حمل الآية على إسرائيلية ما فإن هذا لا يلحق القائل بها؛ لأن القائلين بها علماء فضلاء وأجلاء، بل أحياناً قد يكونون من الصحابة، فلا يصح الاعتراض عليهم هم، وإنما يكون الاعتراض على ارتباط الإسرائيلية بهذه الآية، كما أنه قد يكون نظرك قصراً في معرفة ارتباط الآية بهذه القصة الإسرائيلية، واحتمال الآية لهذه القصة الإسرائيلية، فيكون إذاً وجهة النظر اختلفت، فقد تكون القصة الإسرائيلية لا إشكال فيها من حيث العموم، فحمل الآية عليها غير مشكل لا من جهة المعنى، ولا من جهة أيضاً السند المنسوب إلى أحد الصحابة والتابعين وأتباع التابعين، لكن لأنه قد تقرر عندك إشكال في الإسرائيليات فتراك ترفض هذا، ويكون قصور النظر عندك أنت وليس عند من قال بها، وهذه مسألة تطول، ولهذا النظر الأولي في القصص الإسرائيلية يتجه إلى المعاني التي تحملها هذه القصص، ثم أيضاً يتجه إلى المعنى الجملي أو الكلي الذي تحمله هذه القصة، فإذا كان المعنى الجملي أو الكلي الذي تحمله هذه القصة معنىً غير مخالف، فإنه يقبل ما فيها من المعنى الجملي والكلي، وإذا كانت الآية تدل عليه ويندرج هذا المعنى فيها فإنه يقبل من هذه الجهة، أما تفاصيل ما يرد في هذه القصة الإسرائلية، فهذا لا يقبل إلا بخبر المعصوم.

لو جعلت هذه القاعدة هي قاعدة التعامل مع الإسرائيليات لما وقع إشكال في كثير منها، إذاً القاعدة في النظر في الإسرائيليات هو النظر في المعنى الجملي الذي تحكيه القصة، فإن كان هذا المعنى الجملي ليس فيه ما يخالف، ويمكن قبوله واحتماله فإننا نقبل هذا المعنى الجملي، أما التفصيلات الواردة في الخبر في القصة فإننا لا نقبلها لاحتياجها لخبر المعصوم، فإذا كنا نقبل الأول وهو مندرج تحت الآية فلا إشكال، وعلى هذا أمثلة كثيرة، نذكر مثالاً من أخطر الأمثلة في هذا ليكون ميزاناً يقاس عليه، هذه القصة التي ذكرها عن سليمان ، قال فيها: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ [ص:34]، قال في نسخة أخرى (فكيف يصح أن نذكر قصة صخر المارد من الروايات الإسرائيلية؟) هذا الاعتراض من المؤلف رحمه الله تعالى يمكن أن يستدرك عليه كالآتي، نقول أولاً: إن قصة الجسد التي في الخبر النبوي الصريح لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر الآية بما قاله صلى الله عليه وسلم، فدل على أن ربط الحديث بالآية من اجتهاد المفسر، كما أن ربط الإسرائيلية بالآية من اجتهاد المفسر، فإذاً الأمر في الحالين قائم على الاجتهاد، وقصة المارد أشبه بالسياق من قصة الجسد، لأننا إذا تأملنا قصة سليمان عليه السلام في الفتنة التي ذكرها الله سبحانه وتعالى عنه فإنه حصل له أمران:

الأمر الأول: أنه فتن بالشيطان.

والأمر الثاني: أنه فتن بالجياد، فأبدله الله سبحانه وتعالى بفتنة الشيطان أن سخر له الشياطين، وأبدله بفتنة الجياد أن سخر له الريح السريعة، فهنا في تناسب واضح جداً بين الأمرين، وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ [ص:34]، هذا في القصة الأولى، والجسد هو الذي وقع فيه خلاف: هل هو ما ذكر في الحديث النبوي، أو ما ذكر في الرواية الإسرائيلية من قصة الشيطان، المارد هذا الذي استولى على ملك سليمان فترة من الزمن.

والثانية: إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ * فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ [ص:31-33].

والصحيح أنه قتل هذا الخيل، وأيضاً ليس هناك أي إشكال في كونه قتل هذا الخيل، واعتراضات بعض المفسرين عليها اعتراضات عقلية فقط، وليست اعتراضات مرتبطة بالنقل؛ لأن شرائع الأنبياء متعددة، فاحتمال أن يكون في شرع سليمان ما لم يكن في شرع نبينا صلى الله عليه وسلم من جواز إتلاف الخيل، فأبدله الله سبحانه وتعالى لما تخلى عما يحب وهي الخيل بسبب تأخره عن الصلاة بسببها أبدله الله عنها بالريح غدوها شهر ورواحها شهر، وأبدله بفتنة الشيطان كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ [ص:37] من الشياطين، فهذا تناسق وتناسب بين الآيات.

قد يشكل علينا قضية كيف يسلط الشيطان على النبي فنقول: يوجد في الشريعة إشارة إلى جواز تسليط الشيطان على النبي، يوجد ذلك في نفس السورة قال أيوب: (ربي إني مسني الشيطان بنصب وعذاب)، والرسول صلى الله عليه وسلم سحر، والسحر من عمل الشيطان، فسلط أيضاً على النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه الابتلاءات في الأنبياء هي كمالات؛ لأن الأنبياء بشر، فيلحقهم ما يلحق البشر، فهذا التسليط الذي قدره الله سبحانه وتعالى، وهذا ليس من اختراعنا؛ بل هو ظاهر كلام الله سبحانه وتعالى، وهذا التسليط إنما كان في الجانب البشري في الأنبياء، وليس له أي أثر في الجانب النبوي، وهذا قيد مهم، وكذلك أن تسليط الشيطان على الأنبياء الذي وقع له أثر مثل ما وقع في أيوب عليه السلام وهو صريح، وكذلك ما وقع في نبينا، وهذا التسليط كان في وقت معين ثم زال وارتفع، فإذا كنا نتفق على هذا الأصل، إذا رجعنا إلى قصة سليمان عليه السلام والشيطان المارد هذا، فلا يمنع العقل بناءً على ذلك من أن يكون هذا الشيطان سلط على ملك سليمان فترة الله أعلم بها؛ لأننا لا نستطيع أن نحدد زمن هذه الفترة، ثم أعاد له ملكه، لكن التفاصيل الواردة في القصة: هل كان سليمان يملك هؤلاء الجن بالخاتم؟ وكم فترة تسليط الشيطان على ملك سليمان؟ وهل وقع ما وقع مما تذكره بعض الروايات أن الشيطان جامع نساء سليمان؟ فهذه بعضها ننكرها إنكاراً تاماً، وهي الخبر الأخير هذا بأن الشيطان سلط على نساء سليمان ، فهذا لا شك أنه لم يحصل إطلاقاً، ولا يمكن، أما الأولى فاحتمالات أن تقع في الاحتمال العقلي ولكن أيضاً لا نثبتها، لكن نثبت إجمالي القصة وهو تسليط الشيطان على ملك سليمان من باب الإجمال فقط، أما من باب تفصيلات القصة فإننا لا نقبلها إلا بقول معصوم، وما ورد منها من منكر فإنه مردود، فهذا باختصار إشارة إلى كيفية التعامل في مثل هذه القضية، وذكرت أيضاً مثالاً بأنه من أصعب الأمثلة في التعامل مع الإسرائيليات، فلم نأخذ منه إلا ما دل الشرع عليه على وقوعه وحصوله، وأما باقي القصة من تفاصيل فإننا لا نثبت منها إلا ما دل أو ما جاء خبراً عن المعصوم، وما لا يوجد خبر عن المعصوم فنتوقف فيه ونرده، وما ورد فيها من أخبار منكرة فإنه أيضاً يرد مثل ما ورد من أن الشيطان سلط على نساء سليمان، هذا باختصار ما يتعلق بالإسرائيليات وكيف نتعامل معها من حيث الإجمال ومعنى (ثم أناب). أي أنه لما سلب ملكه وعلم أنه قد فتن رجع إلى الله سبحانه وتعالى.