انتفاضة للقلوب وعودة لعلام الغيوب
مدة
قراءة المادة :
13 دقائق
.
انتفاضة للقلوب وعودة لعلَّام الغيوبيعرف الإمام ابن القيم رحمه الله التوحيدَ بقوله: "ليس التوحيد مجرد إقرار العبد بأنه: لا خالق إلا الله، وأن الله رب كل شيء ومليكه، كما كان عُبَّاد الأصنام مقرِّين بذلك وهم مشركون، بل التوحيد يتضمن محبة الله، والخضوع له، والتذلل على بابه، وكمال الانقياد لطاعته، وإخلاص العبادة له، وإرادة وجهه الأعلى بجميع الأقوال والأعمال، والمنع والعطاء، والحب والبغض، مما يَحُول بين صاحبه وبين الأسباب الداعية إلى المعاصي والإصرار عليها".
فتوحيد القلب يتضمن المعرفة الحقيقية لمعنى التوحيد بما فيه من النفي والإثبات؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يُعبَد من دون الله، حرُم ماله ودمه، وحسابه على الله)).
يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 21، 22]، وعليه فالتوحيد هو أمر شامل يشمل كل مناحي الحياة، فيشمل توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات.
فإن كنت موحِّدًا، فإنه يجب أن تكون موقنًا بأن الله واحد لا شريك له، بيده الملك والحكم، وهو على كل شيء قدير، وإن أمره سبحانه بين الكاف والنون، فإذا قضى أمرًا، فإنما يقول له كن فيكون.
إن كنت موحِّدًا لا تخشى إلا الله، إن كنت موحِّدًا حقيقةً؛ إذا قرأت قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 173 - 175]، عندها يجب ألَّا ترى مع الله أحدًا، أن ترى الله معك في كل مكان وزمان، أن ترى أن يد الله فوق أيديهم، أن ترى أن يد الله تعمل في الخفاء، أن ترى وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى، ولا بد أن تعتقد أن كل شيء وقع فما وقع إلا بإرادة الله، الذي إذا قال للشيء كن سيكون.
ولقد جاءت سورة العصر؛ لتوضِّح هذا الأمر بشكل واضح، حدَّدت فيه معالم الدين وما ينبغي على المسلم عمله ليكون من المؤمنين؛ يقول تعالى: ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ [العصر: 1 - 3]، بالنظر إلى آيات هذه السورة نجدها أنها - وإن كانت قليلة الآيات، قصيرة المقاطع - سورة عظيمة في معانيها، بليغة في مبانيها، قد حددت الأركان الرئيسية الواجب توافرها لدى المسلم لينال رضوان الله، ولا يكون من الخاسرين في الدنيا والآخرة.
فقد افتتحت السورة بقسم الله بالعصر؛ وهو الزمان الذي ينتهي إليه عمر الإنسان، المشتمل على العجائب والعِبَرِ الدالة على قدرة الله وحكمته على أن جنس الإنسان في خسارة ونقصان إلا من اتصف بالأوصاف الأربعة؛ وهي: الإيمان، والعمل الصالح، والتواصي مع الآخرين بالحق، والتواصي بالصبر؛ يقول ابن القيم رحمه الله: "فإنه سبحانه قسم نوع الإنسان فيها قسمين: خاسرًا ورابحًا؛ فالرابح من نصح نفسه بالإيمان والعمل الصالح، ونصح الخلق بالوصية بالحق، المتضمنة لتعليمه وإرشاده، والوصية بالصبر المتضمنة لصبره هو أيضًا، فتضمنت السورة النصيحتين، والتكميلين، وغاية كمال القوتين، بأخْصَرِ لفظٍ وأوجزه وأهذبه، وأحسنه ديباجةً، وألطفه موقعًا".
ولا بد أيضًا أن ترى أن الله ما كان ليذر المؤمنين على هم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب، هذا هو الأساس الذي يجب أن تقوم عليه حياة المسلم، وأن يلزم التوحيد في سائر أمور حياته، وأن يسعى جاهدًا؛ لكي يحقق التوحيد في نفسه وفيمن حوله.
كما أن المسلم لا يكون مسلمًا بدخوله المسجد، وإنما يظهر أثرُ إسلامه في تعاملاته، وشؤون حياته، فلو دققت في حياة كثير من المسلمين في وقتنا الحالي، وجدتهم عمليًّا لا يؤمنون بالآخرة؛ حيث تدل أعمالهم على عدم خوفهم من السؤال في الآخرة، فهم إما يغفلون أو يتغافلون عن ذلك، فتراهم يأكل بعضهم أموال بعض، ويعتدي بعضهم على أعراض بعض، ويأخذون ما ليس لهم، ويتجاوزون حدودهم، ما هذا التداخل؟ ما هذه الضبابية؟ ما هذا التقييم المائع؟
إذًا فالسؤال الأهم: كيف نحقق التوحيد لله عز وجل؟
أولًا: أن نحقق مقصود التوحيد:
ومقصود التوحيد أن تحيا بالله ولله، وألَّا يشغلك عنه شاغل، وأن تراه معك في كل أمور حياتك، وأنك إنما تسير في حياتك وفق علمه بك وبما يناسبك، فقُمْ وجدِّد إيمانك بالله، وإياك أن ترى أن مع الله أحدًا، فليس مع الله قويٌّ، إنما القوي هو الله، وليس مع الله ذكي، فالله عز وجل إذا أراد بقوم سوءًا فلا مردَّ له على ما عندهم من حرص، ومن احتياطات تفوق حد الخيال، وقديمًا قالوا: (يُؤتَى الحذِر من مأمنه، ولا ينفع حَذَرٌ من قَدَر)؛ يقول تعالى: ﴿فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ﴾ [الحشر: 2]، فيجب أن نحقق التوحيد في سائر أمور حياتنا، وأن نعقِل آيات التوحيد.
يجب أن نرى أن يد الله فوق أيديهم؛ لأن هذا الإله العظيم لا يُعقَل أن يقول لك: اعبدني، وأمرك بيد غيري، فليس أمرك بيد قوي لا يرحمك، ولا بيد حاقد لا يحبك، ولا بيد جهة تحب أن تسحقك، بل أمرك بيد اللطيف الحكيم الخبير، ﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾ [هود: 123]، وهو سبحانه وتعالى ما أمرك أن تعبده إلا بعد أن طمأنك أن الأمر كله بيده، فله مقاليد السماوات والأرض.
إياك أن تخاف مما سوى الله، إياك أن تعتقد أن الله خَلَقَ الخَلْقَ، وترك ضعيفهم لقويِّهم، وفقيرهم لغنيِّهم، ينبغي أن تعلم أن الله في السماء إله، وفي الأرض إله، إليه يرجع الأمر كله، لو أن ورقةً سقطت، فإنه يعلمها: ﴿وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [الأنعام: 59]، فالله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
نحن الآن في أمسِّ الحاجة إلى التوحيد؛ يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((إن أخْوَفَ ما أتخوف على أُمَّتي الإشراك بالله، أما إني لست أقول: يعبدون شمسًا ولا قمرًا ولا وَثَنًا، ولكن أعمالًا لغير الله، وشهوةً خفِيَّة))، وأعمال الشرك أخفى من دبيب النملة السمراء، على الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء، وأدناه أن تحب عدوًّا، وأن تعظِّم كافرًا، فمن أحب الكَفَرَةَ حُشِرَ معهم، ولا ينفعه عمله شيئًا، وإن انحرف سلوكك وجاء من ينصحك على انفراد، وقال لك: اتَّقِ الله يا رجل، فإذا أخذتك العزة بالإثم، فهذا نوع من الشرك.
نحن في أمسِّ الحاجة إلى التوحيد، وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد؛ فالتوحيد قمة العلم: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: 25].
ثانيًا: التوبة والعمل الصالح:
لا بد من التوبة والاستغفار والتسبيح؛ وقد قيل: (ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رُفِعَ إلا بتوبة)، وأنت إذا عددت هذا الذي يحدث لك أو يحصل للمسلمين من حولك ابتلاء، فما نزل هذا الابتلاء إلا بذنب ولا يُرفَع إلا بالتوبة، فيجب أن نتوب إلى الله عز وجل من كل ذنب، وأن نستغفر وأن نراجع حساباتنا، فيجب على المسلم أن يقيم ما هو عليه في بيته، في عمله، في كسب ماله، في إنفاق ماله، في تعاملاته مع من حوله...
إلى غير ذلك من الأمور التي تحصل في حياتك، ثم يحمَد الله على ما فيها من خير وصلاح، ويتوب إلى الله مما فيها من أعمال بعيدة عن الدين، ولا بد له أن يعزِمَ على عدم العودة إلى هذا مرة أخرى.
ثم ينطلق في عباداته وطاعاته على أساس سليم من القرب من الله، والإحساس بمعيته؛ فنحن في زمن كثرت فيه الفتن، في زمن المال الحرام، والنساء الكاسيات العاريات، في زمن يؤمَّن الخائن، ويخوَّن الأمين، في زمن يصدَّق الكاذب، ويكذَّب الصادق، في زمن يُوسَّد الأمر إلى غير أهله، في زمن يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعَرَضٍ من الدنيا قليل، ولا شك في أن أفضل سُبُلِ التعامل مع هذه الأحداث هو العودة إلى الله عز وجل، والانتفاض من رُكام الخطايا والسيئات التي أصبحنا غارقين فيها لِما فوق رؤوسنا.
عبادة متقَنة بنية صادقة، صلاة متقنة فيها إقبال على الله، صيام متقن وصبر على الشهوات، غض للبصر، وضبط للسان، وترك للملهيات بمراقبة كاملة لله عز وجل، أن نكون مع القرآن، ومن أهل القرآن، ومن أحباب النبي العدنان، يملأ ذلك ساحة الشعور بمشاعر السموالروحاني التي تأتيك من معرفة الله.
ثالثًا: الأُخُوَّة بين المؤمنين:
يجب علينا أن نستشعر مبادئ الأخوة بين المؤمنين: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الحجرات: 10]، فالأُخُوَّة بين المؤمنين ليست محصورةً في مكان أو زمان، إنما المؤمنون إخوة في شتى بقاع الأرض، ويترتب على ذلك أن يكون ولاؤك للمؤمنين، فلا تعين كافرًا عليهم، وألَّا تتملق كافرًا وتتخلى عن المؤمنين، فإن لم تجِدْ في سلوك إخوانك المؤمنين المستضعفين في أي مكان ما يؤكد كمال إيمانهم، فاطلب من الله لهم نصرًا تفضُّليًّا، إن لم يستحقوا نصرًا استحقاقيًّا؛ قال تعالى: ﴿غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [الروم: 2 - 4].
يجب أن تكون معهم بقلبك ومشاعرك ودعائك، ويجب أن تسعى لنجدة إخوانك المسلمين في كل مكان، وتقديم العون لهم؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ((من جهَّز غازيًا فقد غزا، ومن خلَّف غازيًا في أهله بخير، فقد غُزِيَ))، كما يجب أن نتعاطف معهم، وأن نواليهم، وأن تتمنى لهم النصر، وأن ندعو الله لهم.
ويجب أيضًا أن نسعى جاهدين لحل مشكلاتهم ما أمكن، وينبغي ألَّا نقع في فخٍّ ينصِبه لنا أعداء المسلمين، الذين تكمُن مصلحتهم في تفريقنا، وإشاعة الخلافات بيننا؛ ولذا يجب أن ننسى كل خلاف لنكون صفًّا واحدًا؛ لأن الله يقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ﴾ [الصف: 4].
إننا نحتاج إلى انتفاضة دينية، نراجع فيها حساباتنا، نحتاج إلى إقامة الإسلام في بيوتنا جميعًا، أنت مسلم، وبيتك يجب أن يكون إسلاميًّا يُتلى فيه القرآن، نحتاج إلى أن تكون الصبغة العامة لحياتنا وتعاملاتنا، مبنية على أساس الإيمان واليقين والتوحيد، وأن نراقب الله دائمًا في جميع أقوالنا وأفعالنا.
إن فعلنا ذلك، سيصدُق علينا قول الله تعالى: ﴿وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا﴾ [الجن: 16]، وقوله: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [الأعراف: 96].
يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "حاسِبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا، وزِنُوا أعمالكم قبل أن تُوزَن عليكم، وتزيَّنوا للعرض الأكبر؛ ﴿يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ﴾ [الحاقة: 18]، وإنما يخِفُّ الحساب يوم القيامة على من حاسب نفسه في الدنيا"، فلنحاسب أنفسنا قبل أن نحاسَب، ولنعلم أن ملك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، والكَيْسُ من دان نفسه، وعمِل لما بعد الموت، والعاجز من أتْبَعَ نفسه هواها، وتمنى على الله الأمانيَّ.
راجع حساباتك؛ فهذا الذي يحدث في العالم من حولك ينبغي أن تستفيد منه إلى أقصى درجة، لا أن تسمح للطرف الآخر من عدو داخلي أو خارجي أو شيطان، أن يستفيد منه، ويُفسِدَ عليك دنياك وآخرتك.
المراجع:
شرح أسماء الله الحسنى: دكتور محمد راتب النابلسي، بتصرف في معنى الأخوة.