التعليق على كتاب الفوز الكبير في أصول التفسير [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين.

أما بعد:

فسنقرأ في كتاب الفوز الكبير في أصول التفسير، للإمام ولي الله أحمد بن عبد الرحيم الدهلوي .

ترجمة ولي الله الدهلوي

و ولي الله الدهلوي هذه الشهرة المعروفة عنه رحمه الله تعالى، ولد سنة ألف ومائة وأربع عشرة، وتوفي سنة ألف ومائة وست وسبعين، ونسبه يتصل بالإمام موسى الكاظم ، وكان والده من العلماء، وقد وصف بأنه من علماء الظاهر والباطن، أي من علماء الصوفية، وقد تتلمذ على يد أبيه، وأخذ أيضاً الطرق الصوفية من أبيه خصوصاً الطريقة النقشبندية، وقد كان له مشاركات في جملة من العلوم، ومن أهمها العلم الذي بين أيدينا وهو ما يتعلق بالتفسير وعلوم القرآن، ومن الكتب التي كتبها في هذا فتح الرحمن في ترجمة القرآن، وقد وصف هذا الكتاب بأنه ترجمة على شاكلة النظم العربي في قدر الكلام وخصوص اللفظ وعمومه وغير ذلك، بمعنى أنه اجتهد أن يقترب من اللفظ القرآني في الترجمة، ومعلوم قضية الترجمة وما يئول إلى ذلك وأنه لا يمكن ترجمة الألفاظ؛ لأن أي ترجمة للألفاظ هي في النهاية ترجمة للمعاني، وهذه قاعدة ينبغي التنبه لها، وهي: أن أي ترجمة للألفاظ هي في الحقيقة ترجمة للمعاني، بمعنى أنه لا يمكن أن يوجد ترجمة لفظية كما يقال؛ لأننا حتى لو أردنا أن نفعل هذا في العربية فإنها ستختلف المعاني لو أخذنا بالمرادفات، فإذاً إذا قيل: إن هذه ترجمة لفظية، أو ترجمة حرفية، فنجزم يقيناً أنه لا توجد ترجمة حرفية إطلاقاً، وإنما هي ترجمة معنى، سواءً اتفقنا على هذا المصطلح أو اختلفنا عليه، والقصد من ذلك أن الموضوع في النهاية يرجع إلى بيان معان لكن بلغة أخرى.

فلا يمكن أن يوجد في اللغة الفارسية مثل ما يوجد في اللغة العربية من جهة المعاني الأولية والمعاني الثانوية، وأقصد بالمعاني الأولية أنه يوجد عندهم مثلاً الحمد كما هو موجود عند العرب بمعناه. فهذا لا شك أنه لا يوجد في كل الألفاظ، وكذلك المعاني الثانوية من بلاغة التقديم والتأخير، والحذف، والاختصار وغيره، فهذه أيضاً لا يلزم أن تكون موجودة مثل ما هي موجودة في العربية، وتختلف اللغات بعضها عن بعض في هذه القضايا، لكن المقصد من ذلك أنه لا يكون عندنا نوع من التحرز في هذه القضية إذا كنا نتفق على أنه لا يمكن أن يوجد ترجمة حرفية، وأنه لو وقع أن يترجم القرآن ترجمة حرفية كما يظن بعضهم فنقول: هذه في الحقيقة إنما هي تفسير، وليست ترجمة حرفية؛ لأنه لا يمكن ذلك إطلاقاً، بل هو من باب المحالات؛ لأنه قد اعترض على المؤلف رحمه الله تعالى في هذا العمل، وله كتاب آخر في نفس التخصص الزهراوين في تفسير سورة البقرة وآل عمران، وله كتاب تأويل الأحاديث، وهي تأويل قصص الأنبياء عليهم السلام، وهو ضمن كتاب الفوز الكبير الباب الخامس سماه الفتح الخبير، وقد أشار إلى أن هذا الجزء الذي كتبه وسماه الفتح الخبير أن من أراد أن يضمه للفوز الكبير فيضمه، ومن أراد أن يفرده مستقلاً فليفرده كما سيأتي الكلام عليه رحمه الله تعالى.

وذكر أيضاً قوانين الترجمة، وهي مرتبطة بقواعد ترجمة القرآن وحل مشاكلها، فهذه الكتب التي كتبها فيما يتعلق بهذا العلم الذي علوم القرآن، وله كتب في الحديث، وكتب في أصول الدين، وأسرار الشريعة، وكتب في علم السلوك والتصوف، وكتب في السير والأدب، وأيضاً له شعر رحمه الله تعالى، فهذه ترجمته باختصار شديد، وهناك من كتب عن المؤلف وذكر ما يتعلق بالاعتقاد ما له وما عليه، وقد كان ممن اعتنى بالحديث، وأيضاً ممن كان يعترض ويرد على بعض البدع التي كانت موجودة بين قومه، فرحمه الله سبحانه وتعالى وعفا عنه، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يغفر له بسبب ما قدم من العلم النافع.

قال الإمام الدهلوي في مقدمة كتابه الفوز الكبير: [ آلاء الله على هذا العبد الضعيف لا تعد ولا تحصى، وأجلها التوفيق لفهم القرآن العظيم، ومنن صاحب النبوة والرسالة عليه الصلاة والسلام على أحقر الأمة كثيرة، وأعظمها تبليغ القرآن الكريم.

لقن النبي صلى الله عليه وسلم القرآن القرن الأول، وهم أبلغوه للقرن الثاني.. وهكذا حتى بلغ حظ هذا الفقير كذلك من روايته ودرايته، اللهم صل على هذا النبي الكريم سيدنا ومولانا وشفيعنا أفضل صلواتك وأيمن بركاتك، وعلى آله وأصحابه، وعلماء أمته أجمعين، برحمتك يا أرحم الراحمين ].

قبل أن أبتدئ أنبه إلى أن الكتاب أصلاً كتب بالفارسية، وقد ترجمه محمد منير الدمشقي صاحب المنيرية، ولا أدري هل هو الذي ترجمه أو ترجمه له أحد؟ لكن المعروف أنه خرج بعنايته، وترجمة محمد منير التي هي ترجمة طبعة المنيرية وهي التي نقرأ منها، وقد استدركها سلمان الحسيني الندوي بنسخة أخرى، ترجمها هو ونبه على الخلل الذي في الترجمة هذه، وبناءً على هذا سنقرأ منها، وإن كان هناك تصحيحات لعلنا نصححها من خلال النسخة الأخرى؛ لأن هناك اختلافاً في الترجمة على سبيل المثال قال هنا: [ وأعظمها تبليغه صلى الله عليه وسلم لكتاب ربه عز وجل، لقد تلقى الجيل الأول منه صلى الله عليه وسلم القرآن الكريم، وتلقى الجيل الثاني من الجيل الأول.. وهكذا دواليك حتى وصل إلى العبد الضعيف، فنال حظه من تلاوته وفهمه وتدبره ]. والمتأمل في النسخ يجد نوعاً من الاختلاف في الترجمة.

الملقي: [ أما بعد: فيقول الفقير ولي الله بن عبد الرحيم -عاملهما الله تعالى بلطفه العظيم-: لما فتح الله علي باباً من فهم كتابه المجيد، أردت أن أجمع وأضبط بعض النكات النافعة التي تنفع الأصحاب في رسالة مختصرة، والمرجو من لطف الله الذي لا انتهاء له أن يفتح لطلبة العلم بمجرد فهم هذه القواعد شارعاً واسعاً في فهم معاني كتاب الله، وإن كانوا يصرفون عمرهم في مطالعة التفاسير، ويقرءون على المفسرين، وعلى أقل قليل في هذا الزمان فلم يتحصل لهم بهذا الضبط والربط، وسميتها بالفوز الكبير في أصول التفسير، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وهو حسبي ونعم الوكيل ].

في النسخة الأخرى قال: [ وأنهم ] يعني: هؤلاء الطلاب [ لو قضوا أعمارهم في مطالعة كتب التفسير أو قراءتها على المفسرين على أنهم قليلون في هذا الزمان لا يظفرون بهذه القواعد والأصول بهذا الضبط والتناسق ]. #

‏1-2 القواعد التي تدخل في أصول التفسير والتي لا تدخل :-

فالمؤلف رحمه الله تعالى يشير إلى أن هذه القواعد والضوابط التي أدركها بمنة الله سبحانه وتعالى عليه أراد أن يجمعها في كتاب، وسماها كما هو واضح الفوز الكبير في أصول التفسير، وبالفعل فهذه الجملة التي ذكرها مفيدة للمفسر، وبغض النظر عن كونها تدخل في أصول التفسير أو في علوم القرآن فهذه قضية لا أحب أن أناقشها؛ والضابط في ذلك أن المعلومة التي يكون لها أثر في فهم المعنى مباشرةً هذه تدخل في أصول التفسير، أما إذا كانت معلومة ليس لها أثر مباشر، وهي من علوم الآية أو من علوم السورة فإنها تدخل في علوم القرآن، ولهذا قد تختلط بعض المعلومات بين أن تكون من علوم القرآن أو من علوم أصول التفسير. #

‏1-3 قلة علماء التفسير :-

وهنا فائدة في قوله: [ على أنهم أقل قليل في هذا الزمان ]، يقصد بهم المفسرين، وهذه شكوى تكاد تكون مستمرة في كل العصور في أن المفسرين أو علم التفسير قليل في هذه الأزمان وفي هذه العصور، لكن الملاحظ أن المشاركة في علم التفسير كثيرة، لكن المحررين من المفسرين قد يكونون بالفعل أقل القليل كما قال، وهناك فرق بين المشاركة في علم التفسير، وبين التحرير في هذا العلم، فالمحررون المجتهدون في هذا العلم الذين يضبطون أصوله وقواعده وضوابطه قليل، ولكن المشاركون في علم التفسير فيهم كثرة ولله الحمد والمنة، ولا يخلو منهم زمان، ولهذا لو راجعنا الكتب التي تعنى بالمخطوطات وأسمائها فإننا نجد في كل قرن من القرون مشاركات كثيرة للعلماء في جميع أنواع علوم القرآن ومن أخصها وأهمها علم التفسير، نعم. #

‏1_4 العلوم الخمسة التي اشتمل عليها القرآن :-

قال رحمه الله: [ الفصل الأول: مباحث علوم القرآن الخمسة.

العلوم الخمسة التي بينها القرآن العظيم بطريق التنصيص ليعلم أن معاني القرآن المنصوصة لا تخرج عن خمسة علوم: علم الأحكام من الواجب والمندوب والمباح والمكروه والحرام من قسم العبادات، أو من قسم المعاملات، أو من تدبير المنزل، أو من السياسة المدنية، وتفصيل هذا العلم منوط بذمة الفقيه.

وعلم المخاصمة والرد على الفرق الضالة الأربع من اليهود والنصارى والمشركين والمنافقين، وتبيان هذا العلم منوط بذمة المتكلم.

وعلم التذكير بآلاء الله لبيان خلق السموات والأرضين، وإلهام العباد ما ينبغي لهم، ومن بيان صفات الله سبحانه الكاملة.

وعلم التذكير بأيام الله يعني بيان الوقائع التي أوجدها الله سبحانه وتعالى من جنس تنعيم المطيعين، وتعذيب المجرمين، وعلم التذكير بالموت وما بعده من الحشر والنشر والحساب والميزان والجنة والنار، وحفظ تفاصيل هذه العلوم وإلحاق الأحاديث والآثار المناسبة لها وظيفة المذكر والواعظ، وإنما وقع بيان هذه العلوم على أسلوب تقرير العرب الأول لا على أسلوب تقرير المتأخرين، فلم يلتزم في آيات الأحكام اختصار يختاره أهل المتون، ولا تنقيح القواعد من قيود غير ضرورية كما هو صناعة الأصوليين، واختار سبحانه وتعالى في آيات المخاصمة إلزام الخصم بالمشهورات المسلمة، والخطابيات النافعة، لا تنقيح البراهين على طريق المنطقيين، ولم يراع مناسبةً في الانتقال من مطلب إلى مطلب كما هو قاعدة الأدباء المتأخرين، بل نشر كل ما أهم إلقاؤه على العباد تقدم أو تأخر، وعامة المفسرين يربطون كل آية من آيات المخاصمة ].

المؤلف رحمه الله تعالى في هذا ذكر لنا العلوم الخمسة الأساسية التي يشتمل عليها القرآن وهي: علم الأحكام، وعلم الجدل، وعلم التذكير بآلاء الله، وعلم التذكير بأيام الله، وعلم التذكير بالموت، وما بعد الموت.

هذا النظر من المؤلف رحمه الله تعالى سبق أن ذكر في كتاب الموافقات، أو قسم من كتاب الموافقات للشاطبي وهذا الموضوع وهو موضوع العلوم التي يشتمل عليها القرآن، وموضوعات القرآن التي تطرق إليها من الموضوعات المهمة، ولا زال بحاجة إلى بحث، ولو تأملنا ما ذكره الشاطبي وغيره فإننا نجد أن علوم القرآن ثلاثة: العلم بالله، والعلم بالطريق الموصل إليه، والعلم بمآل السالكين والناكبين عن هذا الطريق.

فالقرآن بجملته إما أن يتكلم عن الله سبحانه وتعالى، وإما أن يتكلم عن الطريق الموصل إلى الله سبحانه وتعالى، وإما أن يتكلم عن حال الناس السالكين لهذا الطريق، أو الناكبين عن هذا الطريق، هذه الأقسام الثلاثة الكلية لو أردنا أن ندخل كلام الإمام الدهلوي فيها، فإن علم الأحكام يدخل في الطريق الموصل، وعلم الجدل الذي هو المحاجة مع الفرق يدخل في حال الناكبين أو السالكين، وعلم التذكير بآلاء الله الذي هو بيان خلق السموات والأرض.. إلى آخره مرتبط بالعلم بالله؛ لأنه مرتبط بتوحيد الربوبية، وعلم التذكير بأيام الله أيضاً يدخل في النوع الثالث؛ لأن بيان تلك الوقائع والحوادث، تدخل في حال السالكين، أو الناكبين، وعلم التذكير بالموت وما بعد الموت أيضاً يدخل في الثالث؛ لأنه مآل هؤلاء السالكين والناكبين.

فالمقصد من هذا أننا حينما نتأمل مثل هذه الموضوعات نجد أن هناك مساحة للاجتهاد في التنويع، والمؤلف رحمه الله تعالى ذكر هذه الأنواع، ونبه على أن كل نوع له مختص به، فالأحكام لها الفقيه، وعلم الجدل له المتكلم، وعلم التذكير بآلاء الله أيضاً يدخل في المتكلم إذا قلنا: الذي يبين الاعتقاد عموماً، وعلم التذكير بأيام الله، والتذكير بالموت وما بعد الموت هذا من عمل الواعظ، وإن كانت هذه التقسيمات غير لازمة لكنها فيها تنبيهات إلى أن هؤلاء الأعيان المتكلم والفقيه والواعظ كل منهم يختص بنوع من العلم لا يختص به الآخر. #

‏1_5 كيفية عرض العلوم الخمسة التي اشتمل عليها القرآن :-

ولما عرض إلى كيفية عرض هذه العلوم في القرآن، نبه المؤلف على أنها على طريقة العرب الأولين، وأنا في نظري أنه لا يلزم أن تكون حتى على طريقة العرب الأولين؛ لأن القرآن له طريقته الخاصة التي لا يلزم أن يكون وافق فيها العرب، وقصد رحمه الله تعالى التنبيه على أسلوب العرب في إلقاء الشعر، يعني فالعرب في إلقاء الشعر ليس لهم أسلوب مرتب منطقي مثل ما هو عند المتأخرين في ترتيب القضايا العلمية، فكأنه يقول: أنهم كانوا يذكرون بيوت الشعر دون أن يكون هناك نوع من الترتيب المقصود لقضايا معينة فلا يذكر ما يتعلق مثلاً بالحبيب وبيته كذا، ثم يذكر ما يتعلق بالخيل، ثم يذكر.. فلا يلزم أن يكون عندهم ترتيب في قضية الشعر، أو قضية النثر.

لكن أيضاً نقول: إن وافق من حيث الجملة هذا الأسلوب العربي إلا أنه له تمييزه الخاص، وتميزه يظهر بقضية المناسبات التي أشار المؤلف إلى خلاف سنذكره بعد قليل، فهو يقول: لم يراع في الانتقال من مقصد إلى آخر، ومن موضوع إلى آخر تلك المناسبات التي يراعيها الأدباء المتأخرون، وهنا نقول: ولكن أيضاً القرآن له مناسباته الخاصة التي يراعيها، بمعنى أنه حينما ينتقل من موضوع إلى موضوع يكون هناك رابط بين هذه الموضوعات وإن خفيت علينا؛ لأن إثبات علم المناسبة من حيث هو علم صحيح معتبر لا إشكال فيه، خلافاً لمن اعترض عليه، ولكن إدراك المناسبة قضية أخرى، فقد تدرك المناسبة وتكون واضحة جلية، وقد تخفى المناسبة حتى يكاد يكون فيها نوع من التكلف في إبرازها، والدليل الكلي على ذلك أن هذا القرآن نزل من لدن حكيم خبير، فمن مقتضى الحكمة أن يكون هناك ترابط وتناسب بين هذه الآيات التي تكون في سورة واحدة، ثم من مقتضى الحكمة على من يرى أن سور القرآن رتبت ترتيباً توقيفياً من النبي صلى الله عليه وسلم عن جبريل، عن ربه، أن يكون أيضاً هذا مبني على الحكمة، فيكون هناك تناسب أيضاً بين السور.

فالمقصد من ذلك أن الدليل الإجمالي فيه أن صدور هذا عن الحكيم يدل على أن للقرآن مناسبات، فإن أدركت فهذه نعمة من الله، وإن لم تدرك فإنه لا يتكلف فيها علم المناسبة، وإن وقع التكلف فإنه لا يعترض على علم المناسبة في ذلك، أما محاولة ربط القرآن بما حصل مؤخراً عند الأدباء والعلماء في ترتيب كتبهم، أو ترتيب فنونهم، فهذه قضية فيها نوع من اختلاف المقايسة، ولهذا لو اعترضنا على شعر العرب بأنه ليس منظماً ولا مرتباً كترتيب علم من العلوم فهذا لا شك أن فيه نوع من الخلل في المقايسة، وأقصد من ذلك أن هذه المقايسة غير لازمة، وإنما نشير إلى أن القرآن له ترتيبه ونضمه الخاص الذي سار عليه. #

‏1_6 حقيقة أسباب النزول :-

قال رحمه الله: [ وعامة المفسرين يربطون كل آية من آيات المخاصمة وآيات الأحكام بقصة، ويظنون أن تلك القصة سبب وجودها، والمحقق أن القصد الأصلي من نزول القرآن تهذيب النفوس البشرية، ودمغ العقائد الباطلة، ونفي الأعمال الفاسدة، فوجود العقائد الباطلة في المكلفين سبب لنزول آيات المخاصمة، ووجود الأعمال الفاسدة وجريان المظالم فيما بينهم سبب لنزول آيات الأحكام، وعدم تيقظهم بما عدا ذكر آلاء الله، وأيام الله، ووقائع الموت وما بعده، سبب لنزول آيات التذكير، وما تكلفوا من خصوصيات القصص الجزئية لا مدخل لها يعتد به إلا في بعض الآيات، حيث وقع التعريض فيها لواقعة من وقائع وجدت في زمنه صلى الله عليه وسلم، أو قبل ذلك، ولا يزول ما يعرض للسامع من الانتظار عند سماع ذلك التعريض إلا ببسط القصة، فلزم أن نشرح هذه العلوم بوجه لا يستلزم مئونة إيراد القصص الجزئية ].

المؤلف رحمه الله تعالى كأنه ربط بين مصطلحين: بين السبب والحكمة، ولو قال: الحكمة، لكانت أسلم قليلاً، والعبارة التي عندي في الكتاب الذي بين يدي، [ وقد ربط عامة المفسرين كل آية من آيات الأحكام وآيات المخاصمة بقصة تروى في سبب نزولها، وظنوا أنها هي سبب النزول، والحق أن نزول القرآن الكريم إنما كان لتهذيب النفوس الإنسانية، وإزالة العقائد الباطلة، والأعمال الفاسدة ].

فقوله: والحق، هذا إشارة إلى أن الأصل من نزول القرآن هو الاهتداء العام مثلما قال الله سبحانه وتعالى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9]، وهذا لا يخالف عليه، لكن هل بالفعل عامة المفسرين ربطوا كل آية من آيات الأحكام، أو آيات المخاصمة ربطوها بقصة؟ وكيف نفهم ما ربطوا به من هذه القصص؟ وكيف نتعامل معها؟ هذا لا بد أن نعالجه، وسيأتي إن شاء الله الإشارة إليه، لكن المقصود من ذلك أنه حين قال: [ فالسبب الحقيقي إذاً في نزول آيات المخاصمة هو وجود العقائد الباطلة ]، الأولى أن يقول: الحكمة من نزول آيات المخاصمة، بمعنى أننا حين نقول: سبب النزول فإن له معنىً خاصاً، وأنه حدث حدث معين، أو وقع سؤال معين، فنزلت الآية بشأنه، أما حين نقول: ما هي الحكمة العامة من نزول هذه؟ فهو مثل ما ذكر المؤلف، فلو فصل بين الأمرين لكان أولى، ثم بعد ذلك يعالج الموضوع الثاني في كونه توجد أسباب جزئية لبعض الآيات، يعني أسباب مباشرة لبعض الآيات، وهذه الأسباب الجزئية أو الأسباب المباشرة لا تخرج عن الحكمة العامة، فليس هناك تعارض بين الحكمة العامة وبين وجود السبب الجزئي؛ على سبيل المثال لو قلنا: فسبب نزول سورة المجادلة سبب نزول خاص مباشر معروف وهو قصة خولة بنت ثعلبة ، فقصة خولة سبب نزول مباشر، لكن كون هذه القصة سبب نزول هذه الآيات لا يخرجها عن الحكمة العامة من نزول آيات التشريع.

فلو كان المؤلف رحمه الله تعالى فرق بين هذين لكان أولى؛ لكي لا يحدث التباس في أن المؤلف لا يرى أسباب النزول، أو يعترض على أسباب النزول، مع أنه سيأتي له تفصيل إن شاء الله لاحقاً بما يتعلق بأسباب النزول، نعم.

و ولي الله الدهلوي هذه الشهرة المعروفة عنه رحمه الله تعالى، ولد سنة ألف ومائة وأربع عشرة، وتوفي سنة ألف ومائة وست وسبعين، ونسبه يتصل بالإمام موسى الكاظم ، وكان والده من العلماء، وقد وصف بأنه من علماء الظاهر والباطن، أي من علماء الصوفية، وقد تتلمذ على يد أبيه، وأخذ أيضاً الطرق الصوفية من أبيه خصوصاً الطريقة النقشبندية، وقد كان له مشاركات في جملة من العلوم، ومن أهمها العلم الذي بين أيدينا وهو ما يتعلق بالتفسير وعلوم القرآن، ومن الكتب التي كتبها في هذا فتح الرحمن في ترجمة القرآن، وقد وصف هذا الكتاب بأنه ترجمة على شاكلة النظم العربي في قدر الكلام وخصوص اللفظ وعمومه وغير ذلك، بمعنى أنه اجتهد أن يقترب من اللفظ القرآني في الترجمة، ومعلوم قضية الترجمة وما يئول إلى ذلك وأنه لا يمكن ترجمة الألفاظ؛ لأن أي ترجمة للألفاظ هي في النهاية ترجمة للمعاني، وهذه قاعدة ينبغي التنبه لها، وهي: أن أي ترجمة للألفاظ هي في الحقيقة ترجمة للمعاني، بمعنى أنه لا يمكن أن يوجد ترجمة لفظية كما يقال؛ لأننا حتى لو أردنا أن نفعل هذا في العربية فإنها ستختلف المعاني لو أخذنا بالمرادفات، فإذاً إذا قيل: إن هذه ترجمة لفظية، أو ترجمة حرفية، فنجزم يقيناً أنه لا توجد ترجمة حرفية إطلاقاً، وإنما هي ترجمة معنى، سواءً اتفقنا على هذا المصطلح أو اختلفنا عليه، والقصد من ذلك أن الموضوع في النهاية يرجع إلى بيان معان لكن بلغة أخرى.

فلا يمكن أن يوجد في اللغة الفارسية مثل ما يوجد في اللغة العربية من جهة المعاني الأولية والمعاني الثانوية، وأقصد بالمعاني الأولية أنه يوجد عندهم مثلاً الحمد كما هو موجود عند العرب بمعناه. فهذا لا شك أنه لا يوجد في كل الألفاظ، وكذلك المعاني الثانوية من بلاغة التقديم والتأخير، والحذف، والاختصار وغيره، فهذه أيضاً لا يلزم أن تكون موجودة مثل ما هي موجودة في العربية، وتختلف اللغات بعضها عن بعض في هذه القضايا، لكن المقصد من ذلك أنه لا يكون عندنا نوع من التحرز في هذه القضية إذا كنا نتفق على أنه لا يمكن أن يوجد ترجمة حرفية، وأنه لو وقع أن يترجم القرآن ترجمة حرفية كما يظن بعضهم فنقول: هذه في الحقيقة إنما هي تفسير، وليست ترجمة حرفية؛ لأنه لا يمكن ذلك إطلاقاً، بل هو من باب المحالات؛ لأنه قد اعترض على المؤلف رحمه الله تعالى في هذا العمل، وله كتاب آخر في نفس التخصص الزهراوين في تفسير سورة البقرة وآل عمران، وله كتاب تأويل الأحاديث، وهي تأويل قصص الأنبياء عليهم السلام، وهو ضمن كتاب الفوز الكبير الباب الخامس سماه الفتح الخبير، وقد أشار إلى أن هذا الجزء الذي كتبه وسماه الفتح الخبير أن من أراد أن يضمه للفوز الكبير فيضمه، ومن أراد أن يفرده مستقلاً فليفرده كما سيأتي الكلام عليه رحمه الله تعالى.

وذكر أيضاً قوانين الترجمة، وهي مرتبطة بقواعد ترجمة القرآن وحل مشاكلها، فهذه الكتب التي كتبها فيما يتعلق بهذا العلم الذي علوم القرآن، وله كتب في الحديث، وكتب في أصول الدين، وأسرار الشريعة، وكتب في علم السلوك والتصوف، وكتب في السير والأدب، وأيضاً له شعر رحمه الله تعالى، فهذه ترجمته باختصار شديد، وهناك من كتب عن المؤلف وذكر ما يتعلق بالاعتقاد ما له وما عليه، وقد كان ممن اعتنى بالحديث، وأيضاً ممن كان يعترض ويرد على بعض البدع التي كانت موجودة بين قومه، فرحمه الله سبحانه وتعالى وعفا عنه، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يغفر له بسبب ما قدم من العلم النافع.

قال الإمام الدهلوي في مقدمة كتابه الفوز الكبير: [ آلاء الله على هذا العبد الضعيف لا تعد ولا تحصى، وأجلها التوفيق لفهم القرآن العظيم، ومنن صاحب النبوة والرسالة عليه الصلاة والسلام على أحقر الأمة كثيرة، وأعظمها تبليغ القرآن الكريم.

لقن النبي صلى الله عليه وسلم القرآن القرن الأول، وهم أبلغوه للقرن الثاني.. وهكذا حتى بلغ حظ هذا الفقير كذلك من روايته ودرايته، اللهم صل على هذا النبي الكريم سيدنا ومولانا وشفيعنا أفضل صلواتك وأيمن بركاتك، وعلى آله وأصحابه، وعلماء أمته أجمعين، برحمتك يا أرحم الراحمين ].

قبل أن أبتدئ أنبه إلى أن الكتاب أصلاً كتب بالفارسية، وقد ترجمه محمد منير الدمشقي صاحب المنيرية، ولا أدري هل هو الذي ترجمه أو ترجمه له أحد؟ لكن المعروف أنه خرج بعنايته، وترجمة محمد منير التي هي ترجمة طبعة المنيرية وهي التي نقرأ منها، وقد استدركها سلمان الحسيني الندوي بنسخة أخرى، ترجمها هو ونبه على الخلل الذي في الترجمة هذه، وبناءً على هذا سنقرأ منها، وإن كان هناك تصحيحات لعلنا نصححها من خلال النسخة الأخرى؛ لأن هناك اختلافاً في الترجمة على سبيل المثال قال هنا: [ وأعظمها تبليغه صلى الله عليه وسلم لكتاب ربه عز وجل، لقد تلقى الجيل الأول منه صلى الله عليه وسلم القرآن الكريم، وتلقى الجيل الثاني من الجيل الأول.. وهكذا دواليك حتى وصل إلى العبد الضعيف، فنال حظه من تلاوته وفهمه وتدبره ]. والمتأمل في النسخ يجد نوعاً من الاختلاف في الترجمة.

الملقي: [ أما بعد: فيقول الفقير ولي الله بن عبد الرحيم -عاملهما الله تعالى بلطفه العظيم-: لما فتح الله علي باباً من فهم كتابه المجيد، أردت أن أجمع وأضبط بعض النكات النافعة التي تنفع الأصحاب في رسالة مختصرة، والمرجو من لطف الله الذي لا انتهاء له أن يفتح لطلبة العلم بمجرد فهم هذه القواعد شارعاً واسعاً في فهم معاني كتاب الله، وإن كانوا يصرفون عمرهم في مطالعة التفاسير، ويقرءون على المفسرين، وعلى أقل قليل في هذا الزمان فلم يتحصل لهم بهذا الضبط والربط، وسميتها بالفوز الكبير في أصول التفسير، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وهو حسبي ونعم الوكيل ].

في النسخة الأخرى قال: [ وأنهم ] يعني: هؤلاء الطلاب [ لو قضوا أعمارهم في مطالعة كتب التفسير أو قراءتها على المفسرين على أنهم قليلون في هذا الزمان لا يظفرون بهذه القواعد والأصول بهذا الضبط والتناسق ]. #

‏1-2 القواعد التي تدخل في أصول التفسير والتي لا تدخل :-

فالمؤلف رحمه الله تعالى يشير إلى أن هذه القواعد والضوابط التي أدركها بمنة الله سبحانه وتعالى عليه أراد أن يجمعها في كتاب، وسماها كما هو واضح الفوز الكبير في أصول التفسير، وبالفعل فهذه الجملة التي ذكرها مفيدة للمفسر، وبغض النظر عن كونها تدخل في أصول التفسير أو في علوم القرآن فهذه قضية لا أحب أن أناقشها؛ والضابط في ذلك أن المعلومة التي يكون لها أثر في فهم المعنى مباشرةً هذه تدخل في أصول التفسير، أما إذا كانت معلومة ليس لها أثر مباشر، وهي من علوم الآية أو من علوم السورة فإنها تدخل في علوم القرآن، ولهذا قد تختلط بعض المعلومات بين أن تكون من علوم القرآن أو من علوم أصول التفسير. #

‏1-3 قلة علماء التفسير :-

وهنا فائدة في قوله: [ على أنهم أقل قليل في هذا الزمان ]، يقصد بهم المفسرين، وهذه شكوى تكاد تكون مستمرة في كل العصور في أن المفسرين أو علم التفسير قليل في هذه الأزمان وفي هذه العصور، لكن الملاحظ أن المشاركة في علم التفسير كثيرة، لكن المحررين من المفسرين قد يكونون بالفعل أقل القليل كما قال، وهناك فرق بين المشاركة في علم التفسير، وبين التحرير في هذا العلم، فالمحررون المجتهدون في هذا العلم الذين يضبطون أصوله وقواعده وضوابطه قليل، ولكن المشاركون في علم التفسير فيهم كثرة ولله الحمد والمنة، ولا يخلو منهم زمان، ولهذا لو راجعنا الكتب التي تعنى بالمخطوطات وأسمائها فإننا نجد في كل قرن من القرون مشاركات كثيرة للعلماء في جميع أنواع علوم القرآن ومن أخصها وأهمها علم التفسير، نعم. #

‏1_4 العلوم الخمسة التي اشتمل عليها القرآن :-

قال رحمه الله: [ الفصل الأول: مباحث علوم القرآن الخمسة.

العلوم الخمسة التي بينها القرآن العظيم بطريق التنصيص ليعلم أن معاني القرآن المنصوصة لا تخرج عن خمسة علوم: علم الأحكام من الواجب والمندوب والمباح والمكروه والحرام من قسم العبادات، أو من قسم المعاملات، أو من تدبير المنزل، أو من السياسة المدنية، وتفصيل هذا العلم منوط بذمة الفقيه.

وعلم المخاصمة والرد على الفرق الضالة الأربع من اليهود والنصارى والمشركين والمنافقين، وتبيان هذا العلم منوط بذمة المتكلم.

وعلم التذكير بآلاء الله لبيان خلق السموات والأرضين، وإلهام العباد ما ينبغي لهم، ومن بيان صفات الله سبحانه الكاملة.

وعلم التذكير بأيام الله يعني بيان الوقائع التي أوجدها الله سبحانه وتعالى من جنس تنعيم المطيعين، وتعذيب المجرمين، وعلم التذكير بالموت وما بعده من الحشر والنشر والحساب والميزان والجنة والنار، وحفظ تفاصيل هذه العلوم وإلحاق الأحاديث والآثار المناسبة لها وظيفة المذكر والواعظ، وإنما وقع بيان هذه العلوم على أسلوب تقرير العرب الأول لا على أسلوب تقرير المتأخرين، فلم يلتزم في آيات الأحكام اختصار يختاره أهل المتون، ولا تنقيح القواعد من قيود غير ضرورية كما هو صناعة الأصوليين، واختار سبحانه وتعالى في آيات المخاصمة إلزام الخصم بالمشهورات المسلمة، والخطابيات النافعة، لا تنقيح البراهين على طريق المنطقيين، ولم يراع مناسبةً في الانتقال من مطلب إلى مطلب كما هو قاعدة الأدباء المتأخرين، بل نشر كل ما أهم إلقاؤه على العباد تقدم أو تأخر، وعامة المفسرين يربطون كل آية من آيات المخاصمة ].

المؤلف رحمه الله تعالى في هذا ذكر لنا العلوم الخمسة الأساسية التي يشتمل عليها القرآن وهي: علم الأحكام، وعلم الجدل، وعلم التذكير بآلاء الله، وعلم التذكير بأيام الله، وعلم التذكير بالموت، وما بعد الموت.

هذا النظر من المؤلف رحمه الله تعالى سبق أن ذكر في كتاب الموافقات، أو قسم من كتاب الموافقات للشاطبي وهذا الموضوع وهو موضوع العلوم التي يشتمل عليها القرآن، وموضوعات القرآن التي تطرق إليها من الموضوعات المهمة، ولا زال بحاجة إلى بحث، ولو تأملنا ما ذكره الشاطبي وغيره فإننا نجد أن علوم القرآن ثلاثة: العلم بالله، والعلم بالطريق الموصل إليه، والعلم بمآل السالكين والناكبين عن هذا الطريق.

فالقرآن بجملته إما أن يتكلم عن الله سبحانه وتعالى، وإما أن يتكلم عن الطريق الموصل إلى الله سبحانه وتعالى، وإما أن يتكلم عن حال الناس السالكين لهذا الطريق، أو الناكبين عن هذا الطريق، هذه الأقسام الثلاثة الكلية لو أردنا أن ندخل كلام الإمام الدهلوي فيها، فإن علم الأحكام يدخل في الطريق الموصل، وعلم الجدل الذي هو المحاجة مع الفرق يدخل في حال الناكبين أو السالكين، وعلم التذكير بآلاء الله الذي هو بيان خلق السموات والأرض.. إلى آخره مرتبط بالعلم بالله؛ لأنه مرتبط بتوحيد الربوبية، وعلم التذكير بأيام الله أيضاً يدخل في النوع الثالث؛ لأن بيان تلك الوقائع والحوادث، تدخل في حال السالكين، أو الناكبين، وعلم التذكير بالموت وما بعد الموت أيضاً يدخل في الثالث؛ لأنه مآل هؤلاء السالكين والناكبين.

فالمقصد من هذا أننا حينما نتأمل مثل هذه الموضوعات نجد أن هناك مساحة للاجتهاد في التنويع، والمؤلف رحمه الله تعالى ذكر هذه الأنواع، ونبه على أن كل نوع له مختص به، فالأحكام لها الفقيه، وعلم الجدل له المتكلم، وعلم التذكير بآلاء الله أيضاً يدخل في المتكلم إذا قلنا: الذي يبين الاعتقاد عموماً، وعلم التذكير بأيام الله، والتذكير بالموت وما بعد الموت هذا من عمل الواعظ، وإن كانت هذه التقسيمات غير لازمة لكنها فيها تنبيهات إلى أن هؤلاء الأعيان المتكلم والفقيه والواعظ كل منهم يختص بنوع من العلم لا يختص به الآخر. #

‏1_5 كيفية عرض العلوم الخمسة التي اشتمل عليها القرآن :-

ولما عرض إلى كيفية عرض هذه العلوم في القرآن، نبه المؤلف على أنها على طريقة العرب الأولين، وأنا في نظري أنه لا يلزم أن تكون حتى على طريقة العرب الأولين؛ لأن القرآن له طريقته الخاصة التي لا يلزم أن يكون وافق فيها العرب، وقصد رحمه الله تعالى التنبيه على أسلوب العرب في إلقاء الشعر، يعني فالعرب في إلقاء الشعر ليس لهم أسلوب مرتب منطقي مثل ما هو عند المتأخرين في ترتيب القضايا العلمية، فكأنه يقول: أنهم كانوا يذكرون بيوت الشعر دون أن يكون هناك نوع من الترتيب المقصود لقضايا معينة فلا يذكر ما يتعلق مثلاً بالحبيب وبيته كذا، ثم يذكر ما يتعلق بالخيل، ثم يذكر.. فلا يلزم أن يكون عندهم ترتيب في قضية الشعر، أو قضية النثر.

لكن أيضاً نقول: إن وافق من حيث الجملة هذا الأسلوب العربي إلا أنه له تمييزه الخاص، وتميزه يظهر بقضية المناسبات التي أشار المؤلف إلى خلاف سنذكره بعد قليل، فهو يقول: لم يراع في الانتقال من مقصد إلى آخر، ومن موضوع إلى آخر تلك المناسبات التي يراعيها الأدباء المتأخرون، وهنا نقول: ولكن أيضاً القرآن له مناسباته الخاصة التي يراعيها، بمعنى أنه حينما ينتقل من موضوع إلى موضوع يكون هناك رابط بين هذه الموضوعات وإن خفيت علينا؛ لأن إثبات علم المناسبة من حيث هو علم صحيح معتبر لا إشكال فيه، خلافاً لمن اعترض عليه، ولكن إدراك المناسبة قضية أخرى، فقد تدرك المناسبة وتكون واضحة جلية، وقد تخفى المناسبة حتى يكاد يكون فيها نوع من التكلف في إبرازها، والدليل الكلي على ذلك أن هذا القرآن نزل من لدن حكيم خبير، فمن مقتضى الحكمة أن يكون هناك ترابط وتناسب بين هذه الآيات التي تكون في سورة واحدة، ثم من مقتضى الحكمة على من يرى أن سور القرآن رتبت ترتيباً توقيفياً من النبي صلى الله عليه وسلم عن جبريل، عن ربه، أن يكون أيضاً هذا مبني على الحكمة، فيكون هناك تناسب أيضاً بين السور.

فالمقصد من ذلك أن الدليل الإجمالي فيه أن صدور هذا عن الحكيم يدل على أن للقرآن مناسبات، فإن أدركت فهذه نعمة من الله، وإن لم تدرك فإنه لا يتكلف فيها علم المناسبة، وإن وقع التكلف فإنه لا يعترض على علم المناسبة في ذلك، أما محاولة ربط القرآن بما حصل مؤخراً عند الأدباء والعلماء في ترتيب كتبهم، أو ترتيب فنونهم، فهذه قضية فيها نوع من اختلاف المقايسة، ولهذا لو اعترضنا على شعر العرب بأنه ليس منظماً ولا مرتباً كترتيب علم من العلوم فهذا لا شك أن فيه نوع من الخلل في المقايسة، وأقصد من ذلك أن هذه المقايسة غير لازمة، وإنما نشير إلى أن القرآن له ترتيبه ونضمه الخاص الذي سار عليه. #

‏1_6 حقيقة أسباب النزول :-

قال رحمه الله: [ وعامة المفسرين يربطون كل آية من آيات المخاصمة وآيات الأحكام بقصة، ويظنون أن تلك القصة سبب وجودها، والمحقق أن القصد الأصلي من نزول القرآن تهذيب النفوس البشرية، ودمغ العقائد الباطلة، ونفي الأعمال الفاسدة، فوجود العقائد الباطلة في المكلفين سبب لنزول آيات المخاصمة، ووجود الأعمال الفاسدة وجريان المظالم فيما بينهم سبب لنزول آيات الأحكام، وعدم تيقظهم بما عدا ذكر آلاء الله، وأيام الله، ووقائع الموت وما بعده، سبب لنزول آيات التذكير، وما تكلفوا من خصوصيات القصص الجزئية لا مدخل لها يعتد به إلا في بعض الآيات، حيث وقع التعريض فيها لواقعة من وقائع وجدت في زمنه صلى الله عليه وسلم، أو قبل ذلك، ولا يزول ما يعرض للسامع من الانتظار عند سماع ذلك التعريض إلا ببسط القصة، فلزم أن نشرح هذه العلوم بوجه لا يستلزم مئونة إيراد القصص الجزئية ].

المؤلف رحمه الله تعالى كأنه ربط بين مصطلحين: بين السبب والحكمة، ولو قال: الحكمة، لكانت أسلم قليلاً، والعبارة التي عندي في الكتاب الذي بين يدي، [ وقد ربط عامة المفسرين كل آية من آيات الأحكام وآيات المخاصمة بقصة تروى في سبب نزولها، وظنوا أنها هي سبب النزول، والحق أن نزول القرآن الكريم إنما كان لتهذيب النفوس الإنسانية، وإزالة العقائد الباطلة، والأعمال الفاسدة ].

فقوله: والحق، هذا إشارة إلى أن الأصل من نزول القرآن هو الاهتداء العام مثلما قال الله سبحانه وتعالى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9]، وهذا لا يخالف عليه، لكن هل بالفعل عامة المفسرين ربطوا كل آية من آيات الأحكام، أو آيات المخاصمة ربطوها بقصة؟ وكيف نفهم ما ربطوا به من هذه القصص؟ وكيف نتعامل معها؟ هذا لا بد أن نعالجه، وسيأتي إن شاء الله الإشارة إليه، لكن المقصود من ذلك أنه حين قال: [ فالسبب الحقيقي إذاً في نزول آيات المخاصمة هو وجود العقائد الباطلة ]، الأولى أن يقول: الحكمة من نزول آيات المخاصمة، بمعنى أننا حين نقول: سبب النزول فإن له معنىً خاصاً، وأنه حدث حدث معين، أو وقع سؤال معين، فنزلت الآية بشأنه، أما حين نقول: ما هي الحكمة العامة من نزول هذه؟ فهو مثل ما ذكر المؤلف، فلو فصل بين الأمرين لكان أولى، ثم بعد ذلك يعالج الموضوع الثاني في كونه توجد أسباب جزئية لبعض الآيات، يعني أسباب مباشرة لبعض الآيات، وهذه الأسباب الجزئية أو الأسباب المباشرة لا تخرج عن الحكمة العامة، فليس هناك تعارض بين الحكمة العامة وبين وجود السبب الجزئي؛ على سبيل المثال لو قلنا: فسبب نزول سورة المجادلة سبب نزول خاص مباشر معروف وهو قصة خولة بنت ثعلبة ، فقصة خولة سبب نزول مباشر، لكن كون هذه القصة سبب نزول هذه الآيات لا يخرجها عن الحكمة العامة من نزول آيات التشريع.

فلو كان المؤلف رحمه الله تعالى فرق بين هذين لكان أولى؛ لكي لا يحدث التباس في أن المؤلف لا يرى أسباب النزول، أو يعترض على أسباب النزول، مع أنه سيأتي له تفصيل إن شاء الله لاحقاً بما يتعلق بأسباب النزول، نعم.

قال رحمه الله: [ الفصل الثاني: معاني آيات المخاصمة.

وقد وقع في القرآن المجيد المخاصمة مع الفرق الأربع الضالة: المشركين والمنافقين واليهود والنصارى، وهذه المخاصمة على قسمين:

الأول: أن تذكر العقيدة الباطلة مع التنصيص على شناعتها، ويذكر إنكارها لا غير والثاني: أن تقرر شبهاتهم، ويذكر حلها بالأدلة البرهانية أو الخطابية، أما المشركون فكانوا يسمون أنفسهم حنفاء، وكانوا يدعون التدين بالملة الإبراهيمية، وإنما يقال: الحنيف لمن تدين بالملة الإبراهيمية، والتزم شعارها، وشعارها حج البيت الحرام، واستقباله في الصلاة، والغسل من الجنابة، والاختتان، وسائر خصال الفطرة، وتحريم الأشهر الحرم، وتعظيم المسجد الحرام، وتحريم المحرمات النسبية والرضاعية، والذبح في الحلق، والنحر في اللبة، والتقرب بالذبح والنحر خصوصاً في أيام الحج، وقد كان في أصل الملة الوضوء والصلاة والصوم من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، والصدقة على اليتامى والمساكين، والإعانة في نوائب الحق، وصلة الأرحام مشروعة، وكان التمدح بهذه الأفعال شائعاً فيما بينهم، ولكن جمهور المشركين كانوا يتركونها حتى صارت هذه الأفعال كأن لم تكن شيئاً، وقد كان تحريم القتل والسرقة والزنا والربا والغصب أيضاً ثابتاً في أصل الملة، وكان إنكار هذه الأشياء جارياً في الجملة، وأما جمهور المشركين فيرتكبونها ويتبعون النفس الأمارة فيها ].

في طبعة سلمان الندوي بدل المخاصمة الجدل، ويسمى بعلم الجدل، ولعل هذه أدق؛ لأنه في الأول قال: علم الجدل، وقع الجدل في القرآن مع الفرق الأربع الباطلة: المشركين واليهود والنصارى والمنافقين.

وهنا يرد سؤال عند بعضهم: هل الفرق الباطلة التي ذكرها الله سبحانه وتعالى هي هذه الفرق المشركون واليهود والنصارى والمنافقون فقط أو هناك أخرى؟

والجواب: أما بالنسبة للصائبة فلم تقع مجادلة معهم، ولكن وقع مع الدهرية، وهو نوع من الإلحاد، لكن الأغلب هو المجادلة مع اليهود والنصارى والمشركين، ثم ذكر أحوال المنافقين لكن من دون أن يكون هناك نوع من الجدل.

ولهذا نحن نحتاج إلى معرفة مفهوم الجدل عند المؤلف، وهل المقصود فقط ذكر هذه العقائد، أو مناقشة آرائهم؟ والأقرب أنه مناقشة الآراء؛ لأنه ذكر طريقة القرآن في الجدل مع هؤلاء.

طريقة الجدل في القرآن

الطريقة الأولى: ذكر العقيدة الباطلة، والنص على شناعتها، وفسادها، واستنكارها، مثل قوله تعالى: وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً [البقرة:116]، ثم قال بعدها: سُبْحَانَهُ [البقرة:116]، فهذا فيه نوع من الاستنكار والاعتراض المباشر.

الطريقة الثانية: أن تقرر الشبهات التي وقعت فيها الفرق، ثم تعرض حلولها وواجباتها بالأدلة البرهانية أو الخطابية، يعني: البرهانية العقلية، أو الخطابية أي: الإنشائية.

ولو أخذنا آيات الجدل التي في القرآن على هذا الأسلوب، ونظرنا فيها على نفس ترتيب المؤلف، فقد يظهر لنا أيضاً طرائق أخرى غير ما ذكره المؤلف، وإنما المؤلف ذكر هذا من باب استقرائه الخاص، وهذا باب واسع، يعني: قضية النظر في طرائق القرآن في مخاصمة أو مجادلة أهل الباطل بعمومهم هذه محل للبحث والاستقصاء.

الجدل مع المشركين

ثم بعد أن ذكر هؤلاء خص الكلام عن المشركين، وذكر أن المشركين كانوا يسمون أنفسهم حنفاء، مع أن هذا غير مشهور، إنما المشهور في الحنيف عندهم هو الذي يرجع إلى دين إبراهيم، وهم يعلمون أن في دينهم أشياء ليست من دين إبراهيم، ولهذا يقولون عنه: تحنث أو تحنف، وكانوا أقواماً مشهورين، يعني أن الذي لا يعبد الأصنام يعتبرونه حنيفاً، أما هم فلأنهم يعبدون الأصنام فما كانوا يسمونهم حنفاء بل كانوا يقولون: إنهم على دين إبراهيم، أما صفة الحنيف فكانت تطلق على قوم ممن هجروا عبادة الأصنام، وعبدوا الله عبادة مطلقة، وعلموا أن ما عليه قومهم باطل، واجتهدوا في التمسك بملة إبراهيم عليه السلام، فذكر بعض الشعائر التي من عملها ينسب إلى إبراهيم، ويعترض عليه فقط في قوله: [ واستقباله في الصلوات ]، أي: استقبال البيت، فإن المشركين لم يكن يعرف عنهم أنهم كانوا يصلون إلى البيت الصلاة المعروفة. أما كونهم يدعون إذا كان المراد بالصلاة الدعاء العام فهذه قضية أخرى، لكن إن كان المراد أن لهم صلاةً مخصوصة فهذا لم يذكر، وإنما كانوا يطوفون بالبيت، ويجلسون فيه من باب التعبد بالبيت، أما الصلاة من حيث هي صلاة فهذا غير مشهور عن المشركين.

وما ذكر من الشعائر الأخرى فصحيح هذه من الشعائر التي بقيت عند العرب على شركهم من دين إبراهيم عليه السلام، وكان من أهمها الختان، وسبب ذلك أنه هو الذي ميز به هرقل خروج النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى الرؤيا أن ملك الختان قد خرج، وكان وقته وقت خروج النبي صلى الله عليه وسلم، وتبين له ذلك لما أرسل له الرسول صلى الله عليه وسلم الرسالة المشهورة.

وأما الشرائع الإبراهيمية التي ذكرها الأخرى فبعضها لم يعمله العرب؛ لأنهم أشركوا بالله، بل أغلبها لم يعملوا به إلا مثل الإعانة على نوائب الحق فعندهم شيء من هذا، وصلة الأرحام كذلك، وأما قضية الوضوء والصلاة والصوم والصدقة على اليتامى والمساكين فكانت قليلة عندهم، ونلاحظ أن الله سبحانه وتعالى قرنها أحياناً بالشرك، فقال: إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ [الحاقة:23-34]، مما يدل على منزلة الإطعام في الإسلام وأهميته وأنه قرن بالإيمان بالله، فنفى عنه الإيمان بالله، ونفى عنه الحض، وليس الإطعام بل الحض على الإطعام، فما دام نفى عنه الحض على الإطعام فمن باب أولى أنه لا يطعم، مما يدل على أن هذه الشعيرة من الشعائر الإبراهيمية قد تركها العرب، بل كانوا يتنادون بتركها؛ لأنهم لا يحث بعضهم بعضاً عليها كما ذكر الله سبحانه وتعالى في غير ما آية.

ثم ذكر أيضاً بعض المناهي التي كانوا أيضاً يلتزمون بها ولكن بطرقهم، مثل الزنا، والقتل، والسرقة، حيث كانت لهم شريعتهم الخاصة بهم فيها، فمثلاً القاتل قد تقتل قبيلة بسبب واحد.. إلى آخره، فهذه من الشرائع الشركية التي صارت عندهم، وليست من شريعة إبراهيم، والزنا كان لهم مفهوم خاص ومحدد في الزنا ليس مثل ما ذكر الإسلام وحدده حيث سن الزواج وحدوده، ثم تحدد بعد ذلك مفهوم الزنا، ولهذا تجد عندهم نوعاً من الزواج يسمونه زواج، وقد كان في أول الإسلام جائزاً ثم نهي عنه وهو ما يسمى بنكاح المتعة، فهذا لما نهى عنه الإسلام دل على أنه زناً؛ لأنه لا يتحقق فيه أركان العقد الصحيح. نعم.

معنى الشرك وبيان بعض عقائده

ثم قال رحمه الله: [ وقد كانت عقيدة إثبات الصانع سبحانه وتعالى، وأنه هو خالق السموات والأرضين، ومدبر الحوادث العظام، وأنه قادر على إرسال الرسل، وجزاء العباد بما يعملون، وأنه مقدر للحوادث قبل وقوعها، وعقيدة أن الملائكة عباده المقربون، المستحقون للتعظيم أيضاً ثابتةً فيما بينهم، ويدل على ذلك أشعارهم، وكان قد وقع لجمهور المشركين في هذه العقائد شبهات كثيرة ناشئةً عن استبعاد هذه الأمور وعدم ألفتها، وكان ضلالهم الشرك، والتشبيه والتحريف، وإنكار المعاني، واستبعاد رسالته صلى الله عليه وسلم، وشيوع الأعمال القبيحة والمظالم فيما بينهم، وابتداع الرسوم الفاسدة، واندراس العبادات.

والشرك أن يثبت لغير الله سبحانه وتعالى شيئاً من صفاته المختصة به كالتصرف في العالم بالإرادة الذي يعبر عنه بكن فيكون، أو العلم الذاتي من غير اكتساب بالحواس، ودليل العقل والمنام والإلهام ونحو ذلك، أو الإيجاد لشفاء المريض، أو اللعن لشخص والسخط عليه، حتى يقدر عليه الرزق، أو يمرض أو يشفي لذلك السخط، أو الرحمة لشخص حتى يبسط له الرزق ويصح بدنه ويسعد، ولم يكن المشركون يشركون أحداً في خلق الجواهر وتدبير الأمور العظام، ولا يثبتون لأحد قدرةً على الممانعة إذا أبرم الله سبحانه وتعالى أمراً، وإنما كان إشراكهم في الأمور الخاصة ببعض العباد، وكانوا يظنون أن الملك على الإطلاق جل مجده شرف بعض العباد بخلعة الألوهية.

ويؤثر رضاهم وسخطهم على سائر العباد، كما أن ملكاً عظيم القدر يرسل عبيده المخصوصين إلى نواحي المملكة، ويجعلهم متصرفين في الأمور الجزئية إلى أن يصدر عن الملك حكم صريح، فلا يتوجه إلى تدبير الأمور الجزئية، ويفوض إليه أمور سائر العباد، ويقبل شفاعتهم في أمور من يخدمهم ويتوسل بهم، فيقولون: بوجوب التقرب بعباد الله سبحانه المخصوصين المذكورين ليتيسر لهم قبول الملك المطلق، وتقبل شفاعتهم للمتقربين بهم في مجال الأمور، وكانوا يجوزون بملاحظة هذه الأمور أن يسجد لهم، ويذبح لهم، ويحلف بهم، ويستعان بهم في الأمور الضرورية بقدرة كن فيكون، وكانوا ينحتون من الحجر والصخر وغير ذلك صوراً يتخذونها قبلة التوجه إلى تلك الأرواح حتى يعتقد الجهال شيئاً فشيئاً تلك الصور معبودةً بذواتها، فيتطرق بذلك خلط عظيم].

معنى التشبيه

[ والتشبيه عبارة عن إثبات الصفات البشرية لله تبارك وتعالى، فكانوا يقولون: إن الملائكة بنات الله، وأنه يقبل شفاعة عباده، وإن لم يرض بها، كما أن الملوك يفعلون مثل ذلك بالنسبة إلى الأمراء الكبار، وكانوا يقيسون علمه تعالى وسمعه وبصره الذي يليق بجلال الألوهية على علمهم وسمعهم وأبصارهم لقصور أذهانهم، فيقعون في القول بالتجسيم والتحيز ].

معنى التحريف

[ وبيان التحريف في أن أولاد إسماعيل عليه الصلاة والسلام كانوا على شريعة جدهم الكريم، حتى جاء عمرو بن لحي فوضع لهم أصناماً، وشرع لهم عبادتهم، واخترع لهم من بحيرة وسائبة وحام واستقسام بأزلام وما أشبه ذلك، وقد وقعت هذه الحادثة قبل بعثته صلى الله عليه وسلم بثلاثمائة سنة تقريباً، وكان الجهلة يتمسكون في هذا الباب بآثار آبائهم، وكانوا يعدون ذلك من الحجج القاطعة، وقد بين الأنبياء السالفون الحشر والنشر، لكن ليس ذلك البيان بشرح وبسط مثلما تضمنه القرآن العظيم، ولذلك ما كان جمهور المشركين مطلعين عليه، وكانوا يستبعدونه هؤلاء الجماعة، وإن اعترفوا بنبوة سيدنا إبراهيم وسيدنا إسماعيل، بل بنبوة سيدنا موسى عليهما السلام أيضاً، لكن كانت الصفات البشرية التي هي حجاب لجمال الأنبياء الكامل تشوشهم تشويشاً، ولم يعرفوا حقيقة تدبير الله عز وجل الذي هو مقتضى بعثة الأنبياء، فكانوا يستبعدون ذلك لما ألفوا المماثلة بين الرسول والمرسل، فكانوا يوردون شبهات واهية بين الرسول والمرسل، فكانوا يوردون شبهات واهية غير مسموعة، كما قالوا فيهم: كيف يحتاجون إلى الشراب والطعام وهم أنبياء؟ وهل يرسل الله سبحانه وتعالى الملائكة؟ ولم لا ينزل الوحي على كل إنسان على حدة، وعلى هذا الأسلوب، وإن كنت متوقفاً في تصوير حال المشركين وعقائدهم وأعمالهم فانظر إلى حال العوام والجهلة من أهل الزمان، خصوصاً من سكن منهم بأطراف دار الإسلام، كيف يظنون الولاية، وماذا يخيل إليهم منها، ومع أنهم يعترفون بولاية الأولياء المتقدمين، يعدون وجود الأولياء في هذا الزمان من قبيل المحال، ويذهبون إلى القبور والآثار، ويرتكبون أنواعاً من الشرك، وكيف تطرق إليهم التشبيه والتحريف، ففي الحديث الصحيح: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو النعل بالنعل)، وما من آفة من هذه الآفات إلا وقوم من أهل هذا الزمان واقعون في ارتكابها، معتقدون مثلها، عافانا الله سبحانه من ذلك.

وبالجملة فإن الله سبحانه وتعالى برحمته بعثه صلى الله عليه وسلم في العرب، وأمره بإقامة الملة الحنيفية، وخاصمهم في القرآن العظيم، وقد وقع التمسك في تلك المخاصمة بمسلماتهم من بقايا الملة الحنيفية؛ ليتحقق الإلزام ].

طريقة الجدل القرآني مع المشركين

[ فواجه الإشراك أولاً: بطلب الدليل، ونقض التمسك بتقليد الآباء.

وثانياً: عدم التساوي بين هؤلاء العباد وبينه تبارك وتعالى، واختصاصه عز وجل باستحقاق أقصى غاية التعظيم بخلاف هؤلاء العباد.

وثالثاً: بيان إجماع الأنبياء على هذه المسألة وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25]، وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ [النحل:43-44].

وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ [الرعد:43].

ورابعاً: ببيان شناعة عبادة الأصنام، وسقوط الأحجار من مراتب الكمالات الإنسانية، فكيف بمرتبة الألوهية؟ وهذا الجواب يوجه لقوم يعتقدون الأصنام معبودين لذاتهم].

الرد على المشبهة المشركين

[ وجواب التشبيه.

أولاً: طلب الدليل، ونقض التمسك بتقليد الآباء.

ثانياً: بيان ضرورة المجانسة بين الوالد والولد وهي مفقودة.

ثالثاً: بيان شناعة إثبات ما هو مكروه ومذموم عند أنفسهم لله تبارك وتعالى أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمْ الْبَنُونَ [الصافات:149]، وهذا الجواب سبق لقوم اعتادوا المقدمات المشهورة، والمتوهمات الشعرية، وأكثرهم على هذه الصفة ].

الرد على تحريف المشركين واستبعادهم ليوم القيامة

[ وجواب التحريف.

أولاً: ببيان عدم نقله عن أئمة الملة، وبيان أن ذلك كله اختراع واختداع غير معصوم، وجواب استبعاد الحشر والنشر.

أولاً: القياس على إحياء الأرض وما أشبه ذلك، وتنقيح المناط الذي هو شمول القدرة، وإمكان الإعادة.

ثانياً: بيان موافقة أهل الكتب الإلهية في الإخبار بذلك ].

الرد على المشركين منكري الرسالة

[ وجواب استبعاد إرسال الرسل.

أولاً: ببيان وجودها في الأمم المتقدمة، وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ [يوسف:109]، وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ [الرعد:43].

ثانياً: دفع الاستبعاد ببيان أن الرسالة ها هنا عبارة عن الوحي، قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ [الكهف:110]، وتفسير الوحي بما لا يكون محالاً، وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ [الشورى:51]، الآية.

ثالثاً: ببيان عدم ظهور المعجزات التي يقترحونها لمصلحة كلية، يقصر علمهم عن إدراكه، وكذلك عدم موافقة الحق لهم في تعيين شخص يفرحون بنبوته، وكذلك لم يجعل الرسول ملكاً، ولم يوح إلى كل واحد منهم، فليس كل شيء من ذلك إلا للمصلحة الكلية، ولما كان أكثر من بعث إليهم مشركين أثبت هذه المضامين في سور كثيرة بأساليب متعددة، وتأكيدات بليغة، ولم يتحاش من إعادتها مرات كثيرة، نعم، هكذا ينبغي أن تكون مخاطبة الحكيم المطلق بالنسبة إلى هؤلاء الجهلة، والكلام في مقابلة هؤلاء السفهاء بهذا التأكيد، ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [الأنعام:96] ].

كل هذا الذي ذكره في كيفية مناقشة ومجادلة الكفار أو مجادلة أهل الشرك، ولا يحتاج إلى تعليق؛ لأنه واضح في أغلبه.

لكن يمكن أن نخترع من هذا موضوعاً قرآنياً مثلاً موضوع شبهات المشركين، والرد عليها من خلال القرآن، أو عقائد المشركين والرد عليها من خلال القرآن، أو أخلاق المجتمع المشرك الكافر وكيف عالجها القرآن، فهذه كلها موضوعات، سواءً كانت موضوعات مقالية، أو بحوث ترقية، أو بحوث ماجستير ودكتوراه على حسب ما يمكن أن يتركب من هذه البحوث، ومن المهم جداً أن نلتفت إلى مثل هذا، وقد وجدت بعض الرسائل التي قامت فيما يتعلق بعادات الكفار، وعادات المجتمع المكي، وما أثبته القرآن منها وما نفاه، وهنا كيف تعرض القرآن لهذا المجتمع المشرك الكافر، فهو موضوع فيه موضوعات متعددة جداً يمكن الاستفادة منها، كما يلاحظ فقد يكون من جانب النبوة والوحي، وقد يكون من جانب الرب سبحانه وتعالى متعلق به من صفات وأفعال، وقد يكون من جانب تعلقهم بإبراهيم عليه السلام، ومخالفتهم لكثير من أصول الملة الإبراهيمية، فهذا الموضوع فيه جملة من الأفكار التي يمكن أن تدرس.

الجدل القرآني مع اليهود

الملقي: [ وكان اليهود قد آمنوا بالتوراة، وكانت ضلالتهم تحريف أحكام التوراة تحريفاً لفظياً أو معنوياً، وكتمان آياتها وإلحاق ما ليس منها بها؛ افتراءً منهم وتساهلاً في إقامة أحكامها، ومبالغةً في التعصب لمذاهبهم، واستبعاد رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم، وسوء الأدب والطعن بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم، بل بالنسبة إلى حضرة الحق تبارك وتعالى أيضاً، وابتلاؤهم بالبخل والحرص وغير ذلك.

التحريف عند اليهود

أما التحريف اللفظي فإنهم كانوا يرتكبونه في ترجمة التوراة وأمثالها لا في أصل التوراة، هذا الحق عند الفقير هو قول ابن عباس ، والتحريف المعنوي تأويل فاسد يحمل الآية على غير معناها بتحكم وانحراف عن الصراط المستقيم، فمن جملة ذلك أنه قد بين الفرق بين المتدين والفاسق والكافر الجاحد في كل ملة، وأثبت العذاب الشديد والخلود للكافر، وجوز خروج الفاسق من النار بشفاعة الأنبياء، وأظهر في تقرير هذا المعنى اسم المتدين في كل ملة بتلك الملة، وأثبت في التوراة هذه المنزلة لليهودي والعبري، وفي الإنجيل للنصراني، وفي القرآن العظيم للمسلمين، ومناط الحكم الإيمان بالله واليوم الآخر، والانقياد لنبي بعث إليهم، والعمل بشرائع الملة، واجتناب المنهيات من تلك الملة، لا خصوص فرقة من الفرق لذاتها، فحسب اليهود أن اليهودية والعبرية يدخلان الجنة البتة، وتنفعه شفاعة الأنبياء، وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً [البقرة:80]، ولو لم يتحقق مناط الحكم ولو كان مؤمناً بالله بوجه غير صحيح، ولو لم يكن له حظ من الإيمان بالآخرة وبرسالة النبي المبعوث إليه، وهذا غلط صرف، وجهل محض، ولما كان القرآن العظيم مهيمناً على الكتب السالفة، ومبيناً لمواضع الإشكال فيها، كشف الغطاء عن هذه الشبهة على وجه أتم، بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:81] ].

الجدل الأول كان مع المشركين؛ لأنه سينتقل من فرقة إلى فرقة، وذكر هنا الجدل مع اليهود وأنهم يؤمنون بالتوراة، وأن ضلالهم كانت تحريف في أحكام التوراة، سواءً كان تحريفاً لفظياً، أو تحريفاً معنوياً، والعلماء مختلفون هل التحريف الذي وصف الله سبحانه وتعالى اليهود به أنهم يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ [النساء:46]، تحريف للتوراة نفسها، أو أنهم حرفوا في التطبيق والعمل والتأويل؟

أما دليل التحريف في التطبيق والعمل والتأويل ففي الحديث المشهور في اليهودي الذي زنى بيهودية، ورآهم الرسول صلى الله عليه وسلم يطوفون به في المدينة، ثم جاء بالتوراة وقرءوا عليه، ونبه عبد الله بن سلام على آية الرجم، فهذا دل في مثل هذا الحكم على أنهم حرفوا في التطبيق، لكن لا يعني هذا أنهم لا يحرفوا في الألفاظ، بل وقع عندهم التحريف في الألفاظ، والتحريف أيضاً في التأويل والتطبيق، وكتبهم اليوم شاهدة بهذا، فهناك كتب معتمدة لما يسمى بالكتاب المقدس؛ فأسفار بني إسرائيل شاهدة بوقوع التحريف في الألفاظ، ووقوع التحريف في التأويل.

الأسباب التي ساعدت اليهود والنصارى على التحريف

وهنا مسألة مهمة جداً لا بأس أن أشير إليها، وهي أن الذي يساعد هؤلاء على التحريف أمران:

الأمر الأول: أن لغة الكتاب الذي نزل على لسان موسى ، أو كذلك على لسان عيسى، أو على لسان رسل جاءوا بعد موسى عليه السلام كداود في الزبور، فهذا اللسان غير مقروء به اليوم، ولا في الأزمنة السابقة التي كتبت فيها هذه الأسفار.

الأمر الثاني: أنهم ترجموا هذه الأسفار إلى اللغات الحية التي كانوا ينطقون بها في تلك العهود القديمة، فهذا أعطاهم فرصة في تحريف الألفاظ؛ ولهذا حرفوا شيئاً من الألفاظ، ومن أهم ما حرفوه البشارة بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا التحريف تحريف ألفاظ، فإن الله سبحانه وتعالى قال: يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ [الأعراف:157]، وكذلك أيضاً في الإنجيل، فأين هو الآن خبر الرسول صلى الله عليه وسلم الواضح الصريح، واسمه الصريح الذي قام عيسى عليه السلام بين قومه ليبشر به.

وسيأتي نقاشه مع النصارى لكنه هو تبع لهم، قال: وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف:6]، فهم سمعوا هذا الاسم منه أن اسم الرسول القادم أحمد، ومع ذلك فلا يوجد في كتب النصارى اليوم، فهذا يدل على أن التحريف وقع عند بني إسرائيل بشقين: اليهود والنصارى ووقع عندهم التحريف في الألفاظ، والتحريف في التأويل والتطبيق، والذي ساعدهم على ذلك هو الترجمة، وهذا الفائدة مهمة فكل نصراني يناقشك في نقل الكتاب الذي عندنا وهو القرآن فقل له: أنا أناقشك إذا جئتني باللسان الذي نزل على عيسى عليه السلام، أو اللسان الذي نزل على موسى عليه السلام، أو اللسان الذي نزل على داود عليه السلام، وهناك أناقشك، أما أنا فأستطيع أن أقول لك: إن اللسان الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم فالقرآن الذي نزل كما تلاه محمد صلى الله عليه وسلم في محرابه وبين أصحابه هو الذي أتلوه أنا اليوم لم يتغير البتة، وهذه فائدة مهمة جداً يجب أن ننتبه لها، يجب أن ننتبه أن القرآن الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم يتلى اليوم كما هو، ولو كان من باب الافتراض كنا نسمع من مات قبل ألف سنة يتلو القرآن كأنه أحد بيننا الآن يتلو القرآن لا يتغير، أما لو افترضنا أن أحد أتباع موسى عليه السلام الذين سمعوا منه التوراة، أو أحد أتباع داود عليه السلام، أو أحد أتباع عيسى عليه السلام يقرأ ما أنزل بتلك اللغة فإنه لا يمكن أن يفهم، فهذه قيمة يجب التنبه لها وهي الفرق بين كتب الله سبحانه وتعالى السابقة وبين القرآن، ولهذا لا يمكن أن يقع التحريف اللفظي في القرآن مهما كان، وإن كان قد يقع فيه التحريف من جهة التأويل، كما تعلمون مثل بعض المنحرفين من المتصوفة، أو الباطنية أو غيرهم، أو ما نراه اليوم من بعض أصحاب القراءة الجديدة، فهذا كله يدخل في باب التحريف من جهة التأويل، أما الألفاظ فلا يمكن لأحد كائناً من كان أن يشك إن كان عاقلاً أن هذا المقروء هو الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم.

الأحكام من حيث النسخ وعدمه وبيان إنكار اليهود النسخ

قال رحمه الله: [ ومن جملة ذلك أنه قد بين في كل ملة أحكاماً تناسب مصالح ذلك العصر، وقد سلك في التشريع مسلك عادات القوم، وأمر بالأخذ بها وإدامة الاعتقاد، والعمل عليها تأكيداً يحصر الحقيقة فيها، والمراد أن الحقيقة محصورة فيها في ذلك العصر وذلك الزمان، والمراد هنالك الإدامة الظاهرية، لا الإدامة الحقيقية، يعني ما لم يأت نبي آخر، ولم يكشف الغطاء عن وجه النبوة، وهم حملوا ذلك على استحالة نسخ اليهودية، ومعنى وصية الأخذ بتلك الملة في الحقيقة وصيته بالإيمان والأعمال الصالحة، ولم تعتبر خصوصية تلك الملة لذاتها، وهؤلاء اعتبروا خصوصية فظنوا أن يعقوب عليه الصلاة والسلام وصى أولاده باليهودية ].

هذه فكرة لطيفة يلمح بها المؤلف، عندنا الآن في هذا فكرتان:

الفكرة الأولى: قضية أن الأحكام الشرعية مرتبطة بزمن معين، ووقت معين، وهذه الأحكام الشرعية يحدث لها نسخ؛ لأنه في وقت النبي الواحد قد يحدث أن يؤمر القوم بأمر ثم ينسخ هذا الأمر، والذي أمر هو الذي نسخ، وهذه راجعة إلى الحكمة والتقدير، وهذه من الأمور أو من المناطات التي تدخل ضمن الحكمة الإلهية التي لا يمكن أن يدركها العقل، وهي تدخل في باب المتشابه الكلي، وإن كنا نعلم من حيث الجملة أنها مرتبطة بالمصلحة من حيث العموم.

وإلا قد يقول القائل في مجال الاعتراض العقلي: أنه كيف تباح المتعة في وقت ثم تنسخ في زمن واحد؟ أو كيف يؤمر بأن أي متكلم مع الرسول صلى الله عليه وسلم يؤمر بأن يتصدق ثم في خلال ساعات ينسخ هذا الحكم؟ فهذا مرتبط بالحكمة، وقد تبين أحياناً ولكن في كثير من الأحيان قد تخفى، وتخصيصات الحكمة تدخل في باب المتشابه الكلي الذي لا يمكن أن يدرك.

المسألة الثانية وهي مهمة جداً: سبب إنكار اليهود النسخ. وهو أشار إليها إشارة لطيفة جداً فيقول: إن الله سبحانه وتعالى لما جعل الأمة اليهودية هي أفضل الأمم، وجعل دين اليهود هو الدين الذي ارتضاه فإنه لم يقع له نسخ لا بنصرانية، ولا بإسلام، وهذا ملمح لطيف ينتبه له في سبب عدم القول بالنسخ عند اليهود.

من باب الاستطراد ومن باب الفائدة أيضاً للمخاصمة والمجادلة خصوصاً مع النصارى؛ لأن دين اليهود دين قومي لا يريدون أحد أن يدخل معهم؛ فلذا لا يدعون إلى دينهم إطلاقاً، لكن الذين يدعون إلى دينهم هم النصارى، فيكثر من النصارى نقاش موضوع النسخ، ومما يدل على سوء فيهم يحصل معهم سوء أدب مع الله سبحانه وتعالى في هذا الأمر، وقد لاحظت هذا في كتابات، وسمعت هذا من أكثر من نصراني وهو يجادل المسلمين في قضية النسخ.

وهنا أذكر قاعدة في الجدل والنقاش وهي: إذا تكلم أي واحد عن مصطلح ما لا بد أن تستفصل عن هذا المصطلح عنده، فيقال: ما مرادك بالنسخ؟ فالنصراني قد يأتي ويأخذ قضايا موجودة عندنا، ثم يبدأ يتكلم على هذه القضايا، ولما تأتي تناقشه في عقيدته أو في كتبه لا يرضى بذلك، فهنا نناقشه عن مفهوم النسخ عنده، فإذا تحرر مفهوم النسخ فبعد ذلك نأتي ونثبت له أنه ما من شريعة من شرائع الله إلا ووقع فيها ما يزعم أنه من الأخطاء الكبرى الفادحة، وأن المسلمين ينسبون لربهم طبعاً فيما يزعمون هم هكذا أنه يتغير عنده الحال، أو الحال أو البداء الذي قاله اليهود أو غير ذلك، لذا أقول: من المهم جداً تحديد هذا المفهوم قبل الدخول في النقاش، فإن قلنا: إن النسخ هو أن يأمر الله بشرع معين، أو أن يعمل بشرع معين، ثم يترك هذا الشرع بأمر من النبي أو من الله سبحانه وتعالى وهذا هو النسخ، فنقول: ما من شريعة إلا ووقع فيها هذا الشيء، وأسفار بني إسرائيل مليئة بهذا، ومن أطرفها الختان، فهو منصوص عليه عندهم في الأناجيل أن عيسى عليه السلام صعد للجبل واختتن على الملة اليهودية، قول فبولس لما جاء نسخ الختان، ونحن نسميه نسخ؛ لأنه ترك شريعة الختان، وعلى هذا فإما أن يكون قول بولس صحيح، وإما أن يكون عمل عيسى صحيح، فهذه صورة من صور النسخ، فإذا جودلوا بمثل هذه الأمثلة فلا شك أنك ستجد عندهم من التأولات الشيء الكثير.

أمثلة من تحريفات اليهود والنصارى

قال رحمه الله: [ ومن جملة ذلك أن الله عز وجل شرف الأنبياء وتابعيهم في كل ملة بلقب المقرب والمحبوب، وذم الذين ينكرون الملة بصفة المبغوض، وقد وقع التكلم في هذا الباب بلفظ شائع في كل قوم، فلا عجب أن يكون قد ذكر لفظ الأبناء مقام المحبوبين فظن اليهود أن ذلك التشريف دائر مع اسم اليهودي والعبري والإسرائيلي، ولم يعلموا أنه دائر على صفة الانقياد والخضوع، وتمشية ما أراد الحق سبحانه ببعثة الأنبياء إلى غيب، وكان ارتكز من هذا القبيل في خاطرهم كثير من التأويلات الفاسدة المأخوذة من آبائهم وأجدادهم، فأزال القرآن هذه الشبهات على وجه أتم.

أما كتمان الآيات فهو أنهم كانوا يخفون بعض الأحكام والآيات؛ ليحافظوا على جاه شريف أو لأجل رياسة يطلبونها، وكانوا يحذرون أن يضمحل اعتقاد الناس فيهم، ويلامون بترك العمل بتلك الآيات، فمن جملة ذلك أن رجم الزاني مذكور في التوراة، وكانوا يتركونه؛ لإجماع أحبارهم على ترك الرجم، وإقامة الجلد، وتسحيم الوجه مقامه، ويكتمون ذلك مخالفة الفضيحة ].

وهذا صورة نسخ.

فهذه الصورة بغض النظر من الذي نسخ، صورة نسخ، وهم الآن في كتبهم بعض الطبعات الموجود عندهم أن الزاني يقتل فمن زنى بامرأة جاره يقتل، هكذا النص عندهم، فعملهم هذا يدل على أنهم قد عملوا على التحريف، ونحن لو أردنا من باب الجدل أن نقول: هذا لا شك أنه نوع من النسخ.

[ ومن جملة ذلك أنهم كانوا يؤولون آيات فيها بشارة هاجر و إسماعيل عليهم الصلاة والسلام ببعثة نبي في أولادهما، وفيه إشارة بوجود ملة يتم ظهورها، وشهرتها في أرض الحجاز، وتمتلئ بها جبال عرفة من التلبية، ويقصدون ذلك الموضع من أطراف الأقاليم، وهي ثابتة في التوراة إلى الآن، وكانوا يؤولونها بأن ذلك إخبار بوجود هذه الملة، وأنه ليس فيه أمر بالأخذ بها، وكانوا يقولون: ملحمة كتبت علينا، ولما كان هذا التأويل ركيكاً فلا يسمعه أحد، ولا يكاد يصح عند أحد كانوا يتواصون بإخفائه، ولا يجوزون إظهاره لكل عام وخاص، أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ [البقرة:76]، ما أجهلهم كيف تحمل منة الله سبحانه وتعالى على هاجر و إسماعيل بهذه المبالغة، وذكر هذه الأمة بهذا التشريف على ألا يكون فيه حث وتحريض وترغيب في الأخذ بالتدين بها، سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ [النور:16] ].

القضية الثانية ما ذكره من البشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومن باب الفائدة فإن مصطلح التوراة، نحن نعرف التوراة أنها نزلت على موسى عليه السلام، والموجود الآن من التوراة المنسوبة إلى موسى عليه السلام، وإلى أسفار الخمسة على خلاف في الأولى بينهم، يعني: بين اليهود، الإشارة فيها قليلة، لكن في أسفار الأنبياء التي جاءت بعدها خصوصاً سفر شعيا ففيه إشارات كثيرة جداً إلى أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم، وإلى أوصاف مهاجره، وإلى أوصاف مكة، وهو من أوسع الأسفار التي يوجد فيها إشارات إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك في سفر ملاخي، وسفر حجي، وكذلك في بعض المزامير، ففيها إشارات واضحة جداً لا يمكن أن تنطبق إلا على محمد صلى الله عليه وسلم، ولو أخذنا بالعقل وجئنا إلى إنسان ليس له دين، وأريناه التاريخ، وقلنا له: انظر هذا التاريخ الآن، هذه نبوءات في رجل لا نعرف من هو، وموسى عليه السلام كان في هذا الزمان، ثم تتالى بعده أنبياء، ثم جاء بعده عيسى عليه السلام، وهذه حال عيسى عليه السلام، وهذه حال داود وحال سليمان عليهم الصلاة والسلام، ثم جاء هذا الذي يدعي أنه نبي وهو محمد صلى الله عليه وسلم، وصار له من الأحوال كذا وكذا، فنريدك أن تكون منصفاً وتعطينا من هو الرجل من هؤلاء كلهم الذي تنطبق عليه هذه الأوصاف، أنا لا أرى أن عاقلاً يمكن أن يقرأ هذه، ولا متحيزاً إلا أن يقول: هذه الأوصاف لا تنطبق إلا على هذا الأخير الذي ذكرته، لأنها لا يمكن أن تنطبق إطلاقاً إلا على محمد صلى الله عليه وسلم، فهي نبوءات واضحة جداً وصريحة، ولعلي أجد فرصة لأذكر هذه النبوءة بالنص، ومدلول هذه النبوءات التي نجزم يقيناً أنها في محمد صلى الله عليه وسلم، وكيف أولوها واجتهدوا في تأويلها تأويلاً متعسفاً، خصوصاً النصارى؛ لأن العمل كله مع النصارى، فالنصارى ما من نبوءة أو إشارة إلى أمر مرتبط برجل متأخر إلا ويجعلونها في عيسى عليه السلام، وتجدهم يتمحلون ويتأولون ويتكلفون تكلفاً شديداً جداً ليقولوا: بأن هذه النبوءة في عيسى عليه السلام، فعلى سبيل المثال يقولون: إن الصلب والفداء له رمز في لكتاب السابق، فرمزه عندهم فداء إسحاق عليه الصلاة والسلام، طبعاً هذا بزعمهم أن المفدى إسحاق، ونحن نقول: المفدى إسحاق من باب المجاراة، لكن نقول لهم: لو أردنا أن نطبق تفدية إسحاق عليه السلام بالكبش لجعلنا عيسى عليه السلام وننزه عن ذلك عليه الصلاة والسلام لأنهم جعلوه في مقام الكبش لأن الذي حصل له القتل الكبش وعيسى هو الذي حصل له القتل بزعمهم فكان من المفترض ألا يصلب عيسى عليه السلام؛ لأن إسحاق قد نجا، ومع ذلك يتمحلون حتى في مثل هذه الأمور، ويجعلونها رمزاً لقضية الصلب والفداء، والأمر في تمحلات النصارى المعاصرين بشكل لا يقبله عقل الذي لا يفهم فضلاً عن الذي يفهم.

[ أما الافتراء فالسبب فيه ذكور التعمق والتشدد على أحبارهم ورهبانهم، والاستحسان يعني استنباط بعض الأحكام لإدراك بعض المصلحة فيه بدون نص الشارع، وترويج الاستنباطات الواهية فألحقوا أتباعه بالأصل، وكانوا يزعمون أن اتفاق سلفهم من الحجج القاطعة، فليس لهم في إنكار نبوة عيسى عليه الصلاة والسلام مستند إلا قول السلف، وكذلك في كثير من الأحكام، وأما التساهل في إقامة أحكامها وارتكاب البخل والحرص فظاهر أنه مقتضى النفس الأمارة، ولا يخفى أنها تغلب الناس إلا ما شاء الله، إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي [يوسف:53]، إلا أن هذه الرذيلة قد تلونت في أهل الكتاب بكيفية أخرى، كانوا يتكلفون تصحيحها بتأويل فاسد، وكانوا يظهرونه في صورة التشريع ].

سبب استبعاد أهل الكتاب نبوة محمد صلى الله عليه وسلم

[ وأما استبعاد رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم فالسبب اختلاف عادة الأنبياء وأحوالهم في إكثار التزود والإقلال وما أشبه ذلك، واختلاف شرائعهم، واختلاف سنة الله في معاملة الأنبياء، وبعثة النبي صلى الله عليه وسلم من ولد إسماعيل ، ولقد كان جمهور الأنبياء من بني إسرائيل وأمثال ذلك ].

استبعادهم لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم هو في الحقيقة ليس استبعاداً وإنما هو إنكار، فهو استبعاد من جهة لكن الأصل فيه هو الإنكار، ولهذا حيي بن أخطب كما أخبرت صفية رضي الله عنها حين رجعوا وقد شاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم هو وأخوه، فقال له أخوه: أهو هو؟ فقال: هو هو. فمن كان من أحبارهم ورأى الرسول صلى الله عليه وسلم رؤية عين، يجزم يقيناً أن هذا هو الذي وصف لهم في التوراة وصفاً كاملاً، فالأمر ليس استبعاداً وإنما هو من باب الإنكار والحسد، ولهذا قدموا السيف على الإيمان، ومما يدلك على أن الحسد قد يوصل صاحبه والعياذ بالله إلى النار، وإلا فكيف يرضون بالسيف ويتركون الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم، وقد وصف لهم وصفاً كاملاً، ويعلمون أنه نبي المرحمة، كما أنه أيضاً صلى الله عليه وسلم نبي الملحمة؛ لأن من لم يأت إلى رحمته واعترض طريقه فإنه يجاهد ويقاتل حتى يبعده عن طريق من خلفه ليؤمن به، ولا أريد أن نستطرد فيما ينسب إلى نبينا صلى الله عليه وسلم وإلى دين الإسلام من قضية الإرهاب، أو قضية التطرف أو غيره، لكن من باب الفائدة أذكر أن في الإنجيل نصاً لا يمكن لأي نصراني أن يقرأه عالياً أمام قومه، يقولون في الإنجيل عن عيسى عليه السلام قال: ما جئت إليكم بالرحمة، وإنما جئت لكم بالسيف، جئت لأفرق بين الابن وأبيه، وبين الزوجة وحماتها إلى آخره، وهو نص كامل ينص على أنه جاء بالسيف، فهؤلاء هم الذين يزعمون أنهم هم دعاة السلام، وأن دين النصرانية دين الرحمة، وأن عيسى عليه السلام قال: من ضربك من خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر، فهو يقول هذا الكلام كما يذكرونه، وإنما جاء بالسيف.

وهناك نص آخر في الإنجيل قال: جئتكم بالقتل، وهو نفس النص، لكن نسخة بالسيف، ونسخة بالقتل.

والقصد من هذا أن ننتبه إلى مثل هذه الأمور أن استبعادهم لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم قد تكون لأول وهلة استبعاد؛ لأنهم كانوا يتشوقون ويتشوفون، لكن بعد هذا الاستبعاد لما تيقنوا منه صار إنكاراً وجحوداً وحسداً، وإنكارهم لـعيسى عليه السلام الحقيقة هذا مما يحتاج إلى بحث؛ لأن النصوص الموجودة في الأناجيل الأربعة في المجادلات التي تنسب إلى عيسى عليه السلام، وإلى اليهود تدل على أنه كان عندهم شيء من الشك، ليس في كونه المسيح، وإنما لأنهم كانوا يترقبون نبي آخر الزمان، فكانوا يسألونه في بعض النصوص: أأنت هو؟ ولا يقصدون المسيح، وإنما يقصدون هل أنت النبي الخاتم أو لا؟ فكانت إشكاليتهم في هذا، ثم بعد ذلك أنكروه عليه الصلاة والسلام كما أخبر الله سبحانه وتعالى، وادعوا قتله في قضية تطول، لكن نريد أن نشير إلى هذه المسألة بأن اليهود حتى في عهد عيسى عليه السلام كانوا يترقبون خروج النبي صلى الله عليه وسلم، فلما خرج من بني إسرائيل كانوا يتساءلون هل هو النبي المبعوث الخاتم أو لا؟ فنفى أن يكون هو النبي المبعوث، وبين لهم أنه إنما أرسل إلى خراف بني إسرائيل الضالة، هكذا النص إنما أرسلت إلى خراف بني إسرائيل الضالة، وهو مكتوب في بعض الأناجيل عندهم.

سبب اختلاف شرائع الرسل

قال رحمه الله: [ والأصل في هذه المسألة أن النبوة بمنزلة إصلاح نفوس العالم، وتسوية عاداتهم وعباداتهم، لا إيجاد أصول بر وإثم، ولكل قوم عادة في العبادات، وتدبير المنزل، والسياسة المدنية، فإذا حدثت النبوة في أولئك القوم فلا تفنى تلك العادة بالمرة، ولا تستأنف إيجاد عادة أخرى، بل يميز النبي من العادات ما كان على القاعدة الموافقة لما يرضي الله سبحانه وتعالى، فيبقيه وما كان منها بخلاف ذلك فيغيره بقدر الضرورة.

والتذكير بآلاء وبأيام الله أيضاً يكون على هذا الأسلوب، كما يكون شائعاً فيما بينهم فيألفونها، فاختلفت شرائع الأنبياء بهذه النكتة، ومثل هذا الاختلاف كاختلاف الطبيب إذا دبر أمر المريضين، فيصف لأحدهما دواء بارداً، وغذاء بارداً، ويأمر الآخر بدواء حار وغذاء حار، وغرض الطبيب في الموضعين واحد، وهو إصلاح الطبع وإزالة المفسد لا غير، وقد يصف في كل إقليم دواءً وغذاءً على حدة، بحسب عادة الإقليم، ويختار في كل فصل تدبيراً موافقاً بحسب طبع الفصل، وهكذا الحكيم الحقيقي جل مجده لما أراد أن يعالج من ابتلى بالمرض النفساني، ويقوي الطبع والقوة الملكية ويزيل المفسد اختلفت المعالجة بحسب اختلاف أقوام كل عصر، واختلاف عاداتهم ومشهوراتهم ومسلماتهم، وبالجملة فإن شئت أن ترى أنموذج اليهود فانظر إلى علماء السوء من الذين يقومون الدنيا، وقد يعتادون تقليد السلف، وأعرضوا عن نصوص الكتاب والسنة، وتمسكوا بتعمق عالم وتشدده، واستحسانه، فأعرضوا عن كلام الشارع المعصوم، وتمسكوا بأحاديث موضوعة، وتأويلات فاسدة كانت سبب هلاكهم ].

هذه من اللطائف التي ذكرها المؤلف في قضية المقايسة بين اختلاف شرائع الأنبياء واختلاف وصفات الطبيب، مع أنه قد يأتي أحياناً المرض الواحد فيعالج هذا بدواء ويعالج هذا بدواء؛ لأنه ظهر من خلال التشخيص أن هذا الدواء أنسب لفلان، وهذا الدواء أنسب للآخر، وهذا معروف في حال الطب، فهذه مقايسة لطيفة في التنبيه إلى سبب اختلاف شرائع الأنبياء، كذلك أيضاً في تزكية النفوس، فالمتأمل في سنة النبي صلى الله عليه وسلم في تزكية النفوس وأوامره صلى الله عليه وسلم لأصحابه يجد أنه يعطي كل واحد من أصحابه ما يتناسب مع أخلاقه، فحين جاء واحد إليه وقال: أوصني قال له: لا تغضب، فكرر عليه وكان يقول له: لا تغضب، وآخر لما قال: (إن شرائع الإسلام قد كثرت علي، فدلني على عمل أتشبث به، فقال له: لا يزال لسانك رطباً بذكر الله)، وهناك الأمثلة كثيرة مما يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان عنده من الخبرة بأصحابه ما يتناسب معهم.

ومن الفقه في هذا أن ينتبه المسلم إلى نفسه، وأن ينظر العبادة التي تتناسب معه فيكون مكثراً منها، ولا يعني ذلك أن العبادات الأخرى لا يأتيها، ولكن على الأقل يكون متمسكاً بعبادة معينة، ولهذا

الطريقة الأولى: ذكر العقيدة الباطلة، والنص على شناعتها، وفسادها، واستنكارها، مثل قوله تعالى: وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً [البقرة:116]، ثم قال بعدها: سُبْحَانَهُ [البقرة:116]، فهذا فيه نوع من الاستنكار والاعتراض المباشر.

الطريقة الثانية: أن تقرر الشبهات التي وقعت فيها الفرق، ثم تعرض حلولها وواجباتها بالأدلة البرهانية أو الخطابية، يعني: البرهانية العقلية، أو الخطابية أي: الإنشائية.

ولو أخذنا آيات الجدل التي في القرآن على هذا الأسلوب، ونظرنا فيها على نفس ترتيب المؤلف، فقد يظهر لنا أيضاً طرائق أخرى غير ما ذكره المؤلف، وإنما المؤلف ذكر هذا من باب استقرائه الخاص، وهذا باب واسع، يعني: قضية النظر في طرائق القرآن في مخاصمة أو مجادلة أهل الباطل بعمومهم هذه محل للبحث والاستقصاء.