التعليق على كتاب الفوز الكبير في أصول التفسير [4]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا ونبينا محمد خاتم النبيين وإمام المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

شروط المفسر في باب أسباب النزول

قال الشيخ ولي الله الدهلوي في كتابه الفوز الكبير في الفصل الثالث عن أسباب النزول: [ وبالجملة فشرط المفسر لا يزيد على نوعين من هذه الأنواع:

الأول: قصص الغزوات وغيرها مما وقع في الآيات الإيماء إلى خصوصياتها، وما لم تعلم تلك القصص لا يتأتى فهم حقيقتها.

والثاني: فوائد بعض القيود، وسبب التشدد في بعض المواضع مما يتوقف على معرفة حال النزول ].

فن التوجيه

قال رحمه الله: [ وهذا المبحث الأخير في الحقيقة فن من فنون التوجيه، ومعنى التوجيه بيان وجه الكلام، وحاصل هذه الكلمة أنه قد يكون في آية من الآيات شبهة ظاهرة من استبعاد سورة هي مدلول الآية، أو تناقض بين الآيتين، أو إشكال تصور مصداق الآية على ذهن المبتدئ، أو خفاء فائدة قيد من القيود عليه، فإذا حل المفسر هذا الإشكال سمي ذلك الحل توجيهاً كما في آية يَا أُخْتَ هَارُونَ [مريم:28]، فإنهم سألوا عما استشكلوه من أنه كان بين موسى وعيسى عليهما السلام مدة كثيرة فكيف يكون هارون أخاً لـمريم ؟ كأن السائل أضمر في خاطره أن هارون هذا هو هارون أخو موسى، فأجاب عنه صلى الله عليه وسلم: ( بأن بني إسرائيل كانوا يسمون بأسماء الصالحين من السلف ) وكما سألوا: ( كيف يمشي الإنسان يوم الحشر على وجهه؟ فقال: إن الذي أمشاه في الدنيا على رجليه لقادر أن يمشيه على وجهه ).

وكما سألوا ابن عباس عن وجه التطبيق بين قوله تعالى: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ [المؤمنون:101]، وبين آية أخرى وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ [الصافات:27]؟ فقال رضي الله عنه: عدم التساؤل يوم الحشر والتساؤل بعد دخول الجنة.

وسألوا عائشة رضي الله عنها، فقالوا: إن كان السعي بين الصفا والمروة واجباً فما وجه (لا جناح)؟ فأجابت رضي الله عنها: بأن قوماً كانوا يتجنبونه. ولهذا السبب قال عز وجل: (لا جناح).

وعمر رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن قيد (إن خفتم) ما معناه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: صدقة تصدق الله بها، يعني لا يكون عند الكرماء في الصدقة مضايقة، فلم يذكر الله سبحانه وتعالى هذا القيد للمضايقة، بل اتفاقي، وأمثلة التوجيه كثيرة، والمقصود التنبيه على المعنى ].

ذكر المؤلف في آخر مبحث أسباب النزول موضوعاً عاماً وسماه فن التوجيه، وهو توجيه متعدد، وقد ذكر من أمثلته توجيه التناقض الذي قد يقع عند القارئ، أو توجيه ما يصعب فهم مدلول الآية منه في ذهن المبتدئ، أو ما لا يتمكن من ذهنه فائدة قيد من القيود، كأن يكون هناك قيد من القيود، فلا ينتبه إلى أن هذا من باب القيد، وليس المراد به حقيقة القيد ذاته، مثل ما أورد في قوله: (إن خفتم) فإنها نزلت لأمر كان موجوداً، وليس المراد أنه لا تقصر الصلاة إلا في وقت الخوف، فهذه الأمثلة التي ذكرها وسماها علم التوجيه يدخل فيها كثير جداً من توجيه الأسئلة التي ترد على المفسر، مثلما ذكر في قوله: يَا أُخْتَ هَارُونَ [مريم:28]، وكيف نسبوها إلى هارون عليه السلام، و هارون أخو موسى، وبين عيسى وموسى فترة طويلة، فالنبي صلى الله عليه وسلم نبه على أن هارون هذا هو أخ لـمريم، وأنهم كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم، وليس المراد أنه هارون أخو موسى.

أيضاً الأمثلة الأخرى التي ذكرها لبعض الأشياء التي يكون فيها غرابة، فيقع السؤال عنها من السائل، فيجيب العالم، فيسمي إجابته هذه من باب التوجيه.

فالتوجيه إذاً لو تأملناه لا حصر له؛ لأنه يرتبط بالاستشكال الذي يقع للسائل، وبإجابة العالم له، فأي إجابة فهي تدخل في علم التوجيه بناءً على ما ذكره المؤلف، وإن كان قد ذكر في الغالب قضايا يكون فيها نوع من غرابة، أو نوع من الإشكال على السائل، فيجيبه العالم بحل هذا الإشكال.

توجيه أسباب النزول من تفسير البخاري والترمذي والحاكم

قال رحمه الله: [ ومما يناسب عندي أن أذكر ما نقل البخاري و الترمذي و الحاكم في تفاسيرهم من أسباب النزول، وتوجيه المشكل بسند جيد إلى الصحابة، أو إلى حضرته صلى الله عليه وسلم بطريق التنقيح والاختصار لفائدتين:

الأولى: أن حفظ هذا القدر من الآثار لا بد منه للمفسر، كما لا بد مما ذكرناه من شرح غريب القرآن.

والأخرى: أن يعلم أن أكثر أسباب النزول لا مدخل لها في فهم معاني الآيات، اللهم إلا شيئاً قليلاً من القصص يذكر في هذه التفاسير الثلاثة التي هي أصح التفاسير عند المحدثين، وأما إفراط محمد بن إسحاق و الواقدي و الكلبي ، وما ذكروا تحت كل آية من قصة فأكثره غير صحيح عند المحدثين، وفي إسناده نظر، ومن الخطأ البين أن يعد ذلك من شروط التفسير والاعتقاد بأن تدبر كتاب الله يتوقف على الإحاطة بها، والاستحضارات تفويت لحظ النفس من كتاب الله، وحرمان من إدراك روحه وجوهره ].

هنا ذكر كما قال: (ويحلو لي أن أنقل في الباب الخامس)، الباب الخامس الذي هو فتح الخبير، والذي سبق أن ذكرناه فيما لا بد من حفظه في علم التفسير، سيذكر مع غريب القرآن شيئاً من أسباب النزول وتوجيه المشكل، مما روي بأسانيده إما عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإما عن الصحابة رضي الله عنهم.

وذكر أن في هذا الاختصار فائدتين:

الفائدة الأولى: أن استحضار هذا القدر من الآثار والروايات لا بد منه لكل مفسر، كأنه يرى أنه من شروط المفسر: استحضار هذا القدر من الآثار والروايات، ومعنى ذلك عنده أن من لم يعرف هذا فإنه قد يقع عنده الخطأ في فهم معاني القرآن، أو في تفسير القرآن، إما في حال تعلمه، أو في حال تعليمه.

الثانية: قال: (أن يعلم أنه لا دخل لأكثر ما يروى من أسباب النزول..)، وهذه سبق أن حررناها وناقشناها، وأنه إذا كان المراد أسباب النزول الصريحة فقلنا: إنها على قسمين: قسم لا بد منه، وقسم قد يدرك معنى الآية وإن لم يعرف السبب.

ولكن الأصل الأصيل هو أن معرفة السبب لا بد منها في فهم معنى الآية، لكن قد ترد بعض الآيات الواردة على سبب وتفهم دون أن يعرف السبب.

وما ذكر من هذه التفاسير الثلاثة هي في الحقيقة كتب محدثين أدخلوا فيها كتاب التفسير، فكتاب التفسير من صحيح البخاري ، وكتاب التفسير من سنن الترمذي ، وكتاب التفسير من مستدرك الحاكم ، وبقي أيضاً كتاب التفسير من سنن البيهقي الكبرى، ولا زلت أقول: إن دراسة منهج المحدثين في كتاب التفسير تحتاج إلى تجلية.

ومن باب الفائدة فإن المفسرين كانوا أسبق في التأليف والتدوين في علم التفسير من المحدثين، خلافاً لمن زعم أن التفسير كان مرحلةً من مراحل كتابة الحديث، بل الصحيح أن التفسير كان علماً مستقلاً مستقراً قبل أن ينشأ علم الحديث، والعناية به.

فـسعيد بن جبير و مجاهد بن جبر هما من أوائل من كتب التفسير.

فـمجاهد بن جبر سأل ابن عباس عن التفسير، وعرض عليه القرآن، وكتب التفسير في عهد ابن عباس ، و ابن عباس توفي سنة ثماني وستين، و سعيد بن جبير طلب منه عبد الملك بن مروان أن يكتب له قطعةً من التفسير فكتب له، و عبد الملك بن مروان وفاته مقاربة لوفاة ابن عباس أيضاً، وأول تفسير كامل لجميع الآيات وهو مطبوع بين أيدينا اليوم تفسير مقاتل بن سليمان ، و مقاتل بن سليمان توفي سنة مائة وخمسين، وهو قبل مرحلة البخاري الذي توفي سنة مائتين وست وخمسين، يعني قبله بكثير، والمقصد من ذلك أن ننتبه إلى أن الحديث الموجود الآن في بعض كتب القرآن عن تاريخ التفسير فيه أشياء تعتبر من الخطأ المحض، وهي مخالفة لتاريخ التفسير.

فإذاً: المحدثون الذين كتبوا في التفسير جاءوا بعد هذه الأجيال التي كان فيها علم التفسير علماً مستقلاً.

فـزيد بن أسلم وهو من التابعين، و الضحاك بن مزاحم وهو من طبقة التابعين، و مجاهد بن جبر ، و سعيد بن جبير ، و عطية ، و أربدة التميمي من تلاميذ ابن عباس ، وغيرهم كتبوا التفسير، وكانوا معتنين بعلم التفسير من حيث هو علم تفسير.

فالخلاصة: أن علم التفسير كان واضحاً مستقراً منذ عهد الصحابة، ولذا كان الطلاب يأتون إلى ابن عباس ويعقد لهم حلقة خاصة بالتفسير، ويأتي بعدهم أناس ويعقد لهم حلقة خاصة بالشعر.. وهكذا، فالتفسير كان علماً قائماً معروفاً، وهؤلاء العلماء من المحدثين الذين ذكرهم المؤلف نعتبرهم ممن شارك في علم التفسير، وقد تكون لهم كتابات مستقلة في التفسير مثل كتاب التفسير الذي ينسب للبخاري ، وقد يكون ضمن كتاب الحديث الذي صنفوه مثل ما فعل البخاري و الترمذي و النسائي و الحاكم ، ودراسة منهج المحدثين في كتابة التفسير من خلال هذه الكتب من البحوث التي لم تبحث حتى الآن حسب علمي.

وما ذكر من إفراط محمد بن إسحاق و الكلبي وكذلك الواقدي فهذا فيه إشكال من جهة أن محمد بن عمر الواقدي ليس له مما يتعلق بعلم التفسير نصيب إلا ما يتعلق بالمغازي فقط، وفي كتب التفسير قل أن يذكر إلا إذا كان موضوعاً مرتبطاً بعلم المغازي.

و محمد بن إسحاق قريب منه وإن كان أيضاً له تفسيرات مرتبطة باللغة، ولكن أغلب تفسيراته إما أن تكون مرتبطة بالسيرة النبوية ومغازي النبي صلى الله عليه وسلم، وإما أن ترتبط بقصص السابقين؛ لأنه كان له عناية بهذا.

والكلبي قريب من ابن إسحاق في هذا، وكثيراً ما يروى عنه أشياء فيما يتعلق بقصص السابقين، لكن مع كل هذا نقول: إن هؤلاء إن حكوا شيئاً مما يتعلق بأسباب النزول فإن روايتهم لا تطرح بالكلية، وإنما قد يستفاد منها على حسب الرواية الواردة عنهم، إلا أن تكون مثل رواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس ، فأنها لا شك رواية ساقطة لا يعتمد عليها.

وكونه أشار إلى أن الإحاطة بجميع أسباب النزول ليست من شروط المفسر، نقول: هذا ليس على إطلاقه، ولكن المسألة تحتاج إلى تفصيل مثلما سبق أن ذكرنا قبل ذلك، ولهذا قل من يذكر شروط المفسر إلا ويذكر أسباب النزول من العلوم التي يحتاجها المفسر.

والملاحظ أن المؤلف ذكر الفصل الأول في غريب القرآن، والفصل الثاني في الناسخ والمنسوخ، والفصل الثالث في أسباب النزول، وهذه العلوم الثلاثة من حيث الجملة علوم يحتاجها المفسر.

قال الشيخ ولي الله الدهلوي في كتابه الفوز الكبير في الفصل الثالث عن أسباب النزول: [ وبالجملة فشرط المفسر لا يزيد على نوعين من هذه الأنواع:

الأول: قصص الغزوات وغيرها مما وقع في الآيات الإيماء إلى خصوصياتها، وما لم تعلم تلك القصص لا يتأتى فهم حقيقتها.

والثاني: فوائد بعض القيود، وسبب التشدد في بعض المواضع مما يتوقف على معرفة حال النزول ].

قال رحمه الله: [ وهذا المبحث الأخير في الحقيقة فن من فنون التوجيه، ومعنى التوجيه بيان وجه الكلام، وحاصل هذه الكلمة أنه قد يكون في آية من الآيات شبهة ظاهرة من استبعاد سورة هي مدلول الآية، أو تناقض بين الآيتين، أو إشكال تصور مصداق الآية على ذهن المبتدئ، أو خفاء فائدة قيد من القيود عليه، فإذا حل المفسر هذا الإشكال سمي ذلك الحل توجيهاً كما في آية يَا أُخْتَ هَارُونَ [مريم:28]، فإنهم سألوا عما استشكلوه من أنه كان بين موسى وعيسى عليهما السلام مدة كثيرة فكيف يكون هارون أخاً لـمريم ؟ كأن السائل أضمر في خاطره أن هارون هذا هو هارون أخو موسى، فأجاب عنه صلى الله عليه وسلم: ( بأن بني إسرائيل كانوا يسمون بأسماء الصالحين من السلف ) وكما سألوا: ( كيف يمشي الإنسان يوم الحشر على وجهه؟ فقال: إن الذي أمشاه في الدنيا على رجليه لقادر أن يمشيه على وجهه ).

وكما سألوا ابن عباس عن وجه التطبيق بين قوله تعالى: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ [المؤمنون:101]، وبين آية أخرى وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ [الصافات:27]؟ فقال رضي الله عنه: عدم التساؤل يوم الحشر والتساؤل بعد دخول الجنة.

وسألوا عائشة رضي الله عنها، فقالوا: إن كان السعي بين الصفا والمروة واجباً فما وجه (لا جناح)؟ فأجابت رضي الله عنها: بأن قوماً كانوا يتجنبونه. ولهذا السبب قال عز وجل: (لا جناح).

وعمر رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن قيد (إن خفتم) ما معناه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: صدقة تصدق الله بها، يعني لا يكون عند الكرماء في الصدقة مضايقة، فلم يذكر الله سبحانه وتعالى هذا القيد للمضايقة، بل اتفاقي، وأمثلة التوجيه كثيرة، والمقصود التنبيه على المعنى ].

ذكر المؤلف في آخر مبحث أسباب النزول موضوعاً عاماً وسماه فن التوجيه، وهو توجيه متعدد، وقد ذكر من أمثلته توجيه التناقض الذي قد يقع عند القارئ، أو توجيه ما يصعب فهم مدلول الآية منه في ذهن المبتدئ، أو ما لا يتمكن من ذهنه فائدة قيد من القيود، كأن يكون هناك قيد من القيود، فلا ينتبه إلى أن هذا من باب القيد، وليس المراد به حقيقة القيد ذاته، مثل ما أورد في قوله: (إن خفتم) فإنها نزلت لأمر كان موجوداً، وليس المراد أنه لا تقصر الصلاة إلا في وقت الخوف، فهذه الأمثلة التي ذكرها وسماها علم التوجيه يدخل فيها كثير جداً من توجيه الأسئلة التي ترد على المفسر، مثلما ذكر في قوله: يَا أُخْتَ هَارُونَ [مريم:28]، وكيف نسبوها إلى هارون عليه السلام، و هارون أخو موسى، وبين عيسى وموسى فترة طويلة، فالنبي صلى الله عليه وسلم نبه على أن هارون هذا هو أخ لـمريم، وأنهم كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم، وليس المراد أنه هارون أخو موسى.

أيضاً الأمثلة الأخرى التي ذكرها لبعض الأشياء التي يكون فيها غرابة، فيقع السؤال عنها من السائل، فيجيب العالم، فيسمي إجابته هذه من باب التوجيه.

فالتوجيه إذاً لو تأملناه لا حصر له؛ لأنه يرتبط بالاستشكال الذي يقع للسائل، وبإجابة العالم له، فأي إجابة فهي تدخل في علم التوجيه بناءً على ما ذكره المؤلف، وإن كان قد ذكر في الغالب قضايا يكون فيها نوع من غرابة، أو نوع من الإشكال على السائل، فيجيبه العالم بحل هذا الإشكال.

قال رحمه الله: [ ومما يناسب عندي أن أذكر ما نقل البخاري و الترمذي و الحاكم في تفاسيرهم من أسباب النزول، وتوجيه المشكل بسند جيد إلى الصحابة، أو إلى حضرته صلى الله عليه وسلم بطريق التنقيح والاختصار لفائدتين:

الأولى: أن حفظ هذا القدر من الآثار لا بد منه للمفسر، كما لا بد مما ذكرناه من شرح غريب القرآن.

والأخرى: أن يعلم أن أكثر أسباب النزول لا مدخل لها في فهم معاني الآيات، اللهم إلا شيئاً قليلاً من القصص يذكر في هذه التفاسير الثلاثة التي هي أصح التفاسير عند المحدثين، وأما إفراط محمد بن إسحاق و الواقدي و الكلبي ، وما ذكروا تحت كل آية من قصة فأكثره غير صحيح عند المحدثين، وفي إسناده نظر، ومن الخطأ البين أن يعد ذلك من شروط التفسير والاعتقاد بأن تدبر كتاب الله يتوقف على الإحاطة بها، والاستحضارات تفويت لحظ النفس من كتاب الله، وحرمان من إدراك روحه وجوهره ].

هنا ذكر كما قال: (ويحلو لي أن أنقل في الباب الخامس)، الباب الخامس الذي هو فتح الخبير، والذي سبق أن ذكرناه فيما لا بد من حفظه في علم التفسير، سيذكر مع غريب القرآن شيئاً من أسباب النزول وتوجيه المشكل، مما روي بأسانيده إما عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإما عن الصحابة رضي الله عنهم.

وذكر أن في هذا الاختصار فائدتين:

الفائدة الأولى: أن استحضار هذا القدر من الآثار والروايات لا بد منه لكل مفسر، كأنه يرى أنه من شروط المفسر: استحضار هذا القدر من الآثار والروايات، ومعنى ذلك عنده أن من لم يعرف هذا فإنه قد يقع عنده الخطأ في فهم معاني القرآن، أو في تفسير القرآن، إما في حال تعلمه، أو في حال تعليمه.

الثانية: قال: (أن يعلم أنه لا دخل لأكثر ما يروى من أسباب النزول..)، وهذه سبق أن حررناها وناقشناها، وأنه إذا كان المراد أسباب النزول الصريحة فقلنا: إنها على قسمين: قسم لا بد منه، وقسم قد يدرك معنى الآية وإن لم يعرف السبب.

ولكن الأصل الأصيل هو أن معرفة السبب لا بد منها في فهم معنى الآية، لكن قد ترد بعض الآيات الواردة على سبب وتفهم دون أن يعرف السبب.

وما ذكر من هذه التفاسير الثلاثة هي في الحقيقة كتب محدثين أدخلوا فيها كتاب التفسير، فكتاب التفسير من صحيح البخاري ، وكتاب التفسير من سنن الترمذي ، وكتاب التفسير من مستدرك الحاكم ، وبقي أيضاً كتاب التفسير من سنن البيهقي الكبرى، ولا زلت أقول: إن دراسة منهج المحدثين في كتاب التفسير تحتاج إلى تجلية.

ومن باب الفائدة فإن المفسرين كانوا أسبق في التأليف والتدوين في علم التفسير من المحدثين، خلافاً لمن زعم أن التفسير كان مرحلةً من مراحل كتابة الحديث، بل الصحيح أن التفسير كان علماً مستقلاً مستقراً قبل أن ينشأ علم الحديث، والعناية به.

فـسعيد بن جبير و مجاهد بن جبر هما من أوائل من كتب التفسير.

فـمجاهد بن جبر سأل ابن عباس عن التفسير، وعرض عليه القرآن، وكتب التفسير في عهد ابن عباس ، و ابن عباس توفي سنة ثماني وستين، و سعيد بن جبير طلب منه عبد الملك بن مروان أن يكتب له قطعةً من التفسير فكتب له، و عبد الملك بن مروان وفاته مقاربة لوفاة ابن عباس أيضاً، وأول تفسير كامل لجميع الآيات وهو مطبوع بين أيدينا اليوم تفسير مقاتل بن سليمان ، و مقاتل بن سليمان توفي سنة مائة وخمسين، وهو قبل مرحلة البخاري الذي توفي سنة مائتين وست وخمسين، يعني قبله بكثير، والمقصد من ذلك أن ننتبه إلى أن الحديث الموجود الآن في بعض كتب القرآن عن تاريخ التفسير فيه أشياء تعتبر من الخطأ المحض، وهي مخالفة لتاريخ التفسير.

فإذاً: المحدثون الذين كتبوا في التفسير جاءوا بعد هذه الأجيال التي كان فيها علم التفسير علماً مستقلاً.

فـزيد بن أسلم وهو من التابعين، و الضحاك بن مزاحم وهو من طبقة التابعين، و مجاهد بن جبر ، و سعيد بن جبير ، و عطية ، و أربدة التميمي من تلاميذ ابن عباس ، وغيرهم كتبوا التفسير، وكانوا معتنين بعلم التفسير من حيث هو علم تفسير.

فالخلاصة: أن علم التفسير كان واضحاً مستقراً منذ عهد الصحابة، ولذا كان الطلاب يأتون إلى ابن عباس ويعقد لهم حلقة خاصة بالتفسير، ويأتي بعدهم أناس ويعقد لهم حلقة خاصة بالشعر.. وهكذا، فالتفسير كان علماً قائماً معروفاً، وهؤلاء العلماء من المحدثين الذين ذكرهم المؤلف نعتبرهم ممن شارك في علم التفسير، وقد تكون لهم كتابات مستقلة في التفسير مثل كتاب التفسير الذي ينسب للبخاري ، وقد يكون ضمن كتاب الحديث الذي صنفوه مثل ما فعل البخاري و الترمذي و النسائي و الحاكم ، ودراسة منهج المحدثين في كتابة التفسير من خلال هذه الكتب من البحوث التي لم تبحث حتى الآن حسب علمي.

وما ذكر من إفراط محمد بن إسحاق و الكلبي وكذلك الواقدي فهذا فيه إشكال من جهة أن محمد بن عمر الواقدي ليس له مما يتعلق بعلم التفسير نصيب إلا ما يتعلق بالمغازي فقط، وفي كتب التفسير قل أن يذكر إلا إذا كان موضوعاً مرتبطاً بعلم المغازي.

و محمد بن إسحاق قريب منه وإن كان أيضاً له تفسيرات مرتبطة باللغة، ولكن أغلب تفسيراته إما أن تكون مرتبطة بالسيرة النبوية ومغازي النبي صلى الله عليه وسلم، وإما أن ترتبط بقصص السابقين؛ لأنه كان له عناية بهذا.

والكلبي قريب من ابن إسحاق في هذا، وكثيراً ما يروى عنه أشياء فيما يتعلق بقصص السابقين، لكن مع كل هذا نقول: إن هؤلاء إن حكوا شيئاً مما يتعلق بأسباب النزول فإن روايتهم لا تطرح بالكلية، وإنما قد يستفاد منها على حسب الرواية الواردة عنهم، إلا أن تكون مثل رواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس ، فأنها لا شك رواية ساقطة لا يعتمد عليها.

وكونه أشار إلى أن الإحاطة بجميع أسباب النزول ليست من شروط المفسر، نقول: هذا ليس على إطلاقه، ولكن المسألة تحتاج إلى تفصيل مثلما سبق أن ذكرنا قبل ذلك، ولهذا قل من يذكر شروط المفسر إلا ويذكر أسباب النزول من العلوم التي يحتاجها المفسر.

والملاحظ أن المؤلف ذكر الفصل الأول في غريب القرآن، والفصل الثاني في الناسخ والمنسوخ، والفصل الثالث في أسباب النزول، وهذه العلوم الثلاثة من حيث الجملة علوم يحتاجها المفسر.

[ الفصل الرابع: أمثلة من الحذف والتبديل.

قال رحمه الله: [ حذف بعض الأجزاء أو أدوات الكلام مما يوجب الخفاء، وكذلك إبدال شيء بشيء، وتقديم ما حقه التأخير، وتأخير ما حقه التقديم، واستعمال المتشابهات والتعريضات والكنايات، خصوصاً تصوير المعنى المراد بصورة محسوسة لذلك المعنى في العادة، والاستعارة المكنية، والمجاز العقلي، فلنذكر شيئاً من هذه الأمثلة بطريق الاختصار لتكون على بصيرة ].

هذه الأشياء التي ذكرها لو أردنا أن نجعل للباب عنواناً فإن أغلبها ينسب إلى علم البلاغة.

أقسام الحذف

قال رحمه الله: [ أما الحذف فعلى أقسام: حذف المضاف والموصوف والمتعلق وغيرها كقوله تعالى: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ [البقرة:177] أي: بر من آمن. وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً [الإسراء:59]، أي: آيةً مبصرة، لا أنها مبصرة غير عمياء.

وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ [البقرة:93]، أي: حب العجل.

أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ [الكهف:74]، أي: بغير قتل نفس ].

الأول: حذف المضاف.

والثاني: حذف الموصوف.

[ أَوْ فَسَادٍ [المائدة:32] أي: بغير فساد.

مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الأنبياء:19] أي: من في السموات ومن في الأرض، لا أن شيئاً واحداً هو في السموات والأرض.

ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ [الإسراء:75] أي: ضعف عذاب الحياة، وضعف عذاب الممات.

وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ [يوسف:82] أي: أهل القرية.

بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً [إبراهيم:28] أي: فعلوا مكان شكر نعمة الله كفراً.

يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9] أي: للخصلة التي هي أقوم.

بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [فصلت:34] أي: بالخصلة التي هي أحسن.

سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى [الأنبياء:101] أي: الكلمة الحسنى والعدة الحسنى عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ [البقرة:102] أي: على عهد ملك سليمان .

وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ [آل عمران:194] أي: على ألسنة رسلك.

إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر:1] أي: أنزلنا القرآن وإن لم يسبق له ذكر.

حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ [ص:32] أي: توارت الشمس.

وَمَا يُلَقَّاهَا [فصلت:35] أي: خصلة الصبر.

وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ [المائدة:60] من قرأ بالنصب أي: جعل منهم من عبد الطاغوت.

فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً [الفرقان:54] أي: جعل له نسباً وصهراً.

وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ [الأعراف:155] أي: من قومه.

أَلا إِنَّ عَاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ [هود:60] أي: كفروا نعمة ربهم، بنزع الخافض.

تَفْتَأُ [يوسف:85] أي: لا تفتأ ومعناه: لا تزال.

وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3] أي: يقولون: ما نعبدهم، إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ [الأعراف:152]، أي: اتخذوا العجل إلهاً.

تَأْتُونَنَا عَنْ الْيَمِينِ [الصافات:28]، أي: وعن الشمال.

فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ [الواقعة:65-66]، أي: يقولون: إنا لمغرمون.

وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً [الزخرف:60] أي: بدلاً منكم.

كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ [الأنفال:5] أي: امض ].

قبل أن نكمل موضوع المحذوفات، هنا مسألة مهمة جداً، وهي هل بالفعل هذه التي ذكرها من المحذوفات له فيها وجه صحيح معتبر أو لا؟

سنقرأ كلام من يرى المجاز ومن ينفي المجاز في قوله: (واسأل القرية)، وهل هي من باب الحذف أو أن المراد بالقرية أهل القرية بدون أن يكون هناك حذف؟ لا أريد أن نتخذ في هذا الموضوع أشخاصاً أو أعلاماً نحتكم إليهم، بل ندرس المسألة دراسة علمية فندرس باب الحذف أو غيره من أبواب البلاغة؛ لأن أبواب البلاغة بعض المتكلمين أو بعض المخالفين لمنهج الصحابة والتابعين وأتباع التابعين يمكن أن يدخل فيه على سعة العربية، ويثبت بعض القضايا التي تنصر مذهبه، فقد نقبلها في مثال ونردها في مثال.

وفي مثل هذه الأبواب يمكن أن نرتب أولاً القاعدة الكلية: أن كل أسلوب في القرآن فهو عربي، ولا يلزم أن كل أسلوب عربي موجود في القرآن، فإذا كان كل ما في القرآن أسلوب عربي فيحتاج أن ننظر إلى تحرير هذا الأسلوب العربي، فخلافنا ليس في كون الأسلوب عربياً أو ليس بأسلوب عربي، بل الخلاف في كون القرآن استعمل هذا الأسلوب خلافنا الآن في الأمثلة، هل هذا المثال من باب الحذف أو ليس من باب الحذف؟ فإذا جاء أحد المحرفين من أصحاب التحريف وقال لك: هنا محذوف مثل ما يفعل غلاة الرافضة، فغلاة الرافضة يستخدمون أسلوب الحذف لتثبيت مذهبهم، فلابد أن يكون عندنا ضوابط في باب الحذف، وهكذا قل في غيره من أبواب البلاغة، لابد أن تكون هناك ضوابط متفق عليها وأنها إذا وجدت فإنها تدل على الحذف وتقويه، وإن لم توجد فإنها تدل على عدم وجود الحذف.

ومن أهم الضوابط عندنا السياق؛ لأن السياق هو الذي يحدد هل هناك حذف أو لا، فعلى سبيل المثال من المحذوفات التي قد لا يقع فيها خلاف قوله تعالى: فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ [الواقعة:65-66]، فقوله: (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ) ليس تفسيراً لـ (تفكهون).

لأن (تفكهون) فعل بمعنى التعجب، و(إنا لمغرمون) هذا كلام، فإذاً هناك بين الفعل وبين الكلام محذوف، كأنه قال: (فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) تقولون: (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ)، فمثل هذا الحذف ليس فيه أثر علمي على الصحيح، ولا عقدي ولا غيره، فليس فيه إشكال.

لكن قوله: وَجَاءَ رَبُّكَ [الفجر:22] فمن يرى التأويل يقول: إنه من باب حذف المضاف، يعني جاء أمر ربك، وذلك لسبب مشكل عنده، أما من يرى أن الكلام على ظاهره فيقول: جاء ربك مجيئاً يليق بجلاله، ففي مثل هذا المثال يرد عندنا إشكال، فلا بد أن يكون عندنا ضوابط لنعرف أن هذا يدخل في باب المحذوف أو لا يدخل بل يبقى على ظاهره، وهذا محل بحث مهم جداً فيما يتعلق بعلم البلاغة؛ لأننا وإن اتفقنا على أصل الأسلوب إلا أننا اختلفنا في تطبيقه في هذا المثال، بل أحياناً قد نتفق على الأسلوب نفسه في آية، وتأتي آية شبيهة له فنقول: ليست منها، لأن هذه تحمل على الحقيقة، وهذه تحمل على غير ذلك، والقصد من هذا أن البحث العلمي لازم في مثل هذا الموضوع.

مواضع الحذف المطردة في القرآن

قال رحمه الله: [ وليعلم أن حذف خبر إن، أو جزاء الشرط، أو مفعول الفعل، أو مبتدأ الجملة وما أشبه ذلك مطرد في القرآن، إذا كان فيما بعده دلالة على حذفه، كقوله تعالى: فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ [الأنعام:149]، أي: لو شاء هدايتكم لهداكم.

وقوله: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ [يونس:94]، أي: هذا الحق من ربك.

وقوله: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا [الحديد:10]، أي: لا يستوي من أنفق من قبل الفتح، ومن أنفق من بعد الفتح، فحذف الثاني لدلالة قوله: أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ [الحديد:10].

وقوله: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ [يس:45-46]، أي: إذا قيل لهم: اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم أعرضوا ].

تأثير الحذف على المعنى

في قضية الحذف في قوله: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا [الحديد:10]، لا يمكن أن تفهم الآية على غير هذا الوجه فمعنى قوله: (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ)، أي: مع من أنفق بعد الفتح وقاتل؟

وهناك مواضع للحذف قد يفهم أكثر من معنى فعلى سبيل المثال قوله سبحانه وتعالى: وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى [الأعلى:3]، نقل الفراء عن بعضهم أنه قال: فهدى وأضل، قال: حذف المقابل وهو وأضل، فيختلف المعنى هنا؛ لأننا لو جعلناها مطلقة فكأننا نقول: قدر الأقدار، وهدى كلاً إلى قدره، أما إذا قلنا: قدر فهدى وأضل، جعلنا الأمر مرتبطاً بالتقدير؛ لأنه مرتبط بالهداية والضلال فقط، فإذاً اختلف المعنى.

والأمثلة كثيرة لكن هذا أحد الأمثلة التي تدلنا على أن القول بالحذف أو عدمه قد يؤثر في المعنى، وفي بعض الأمثلة وجوده وعدمه سواء، مثل فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ [الواقعة:65-66].

وفي بعض الأمثلة يكون وجود الحذف داخلاً في المعاني الثانوية من باب الاختصار في تقوية الكلام فقط.

والخلاصة: أنه قد يكون الحذف وعدمه سواء.

وقد يكون القول بالحذف أو عدمه مؤثراً في المعنى.

وقد يكون القول بالحذف من باب بلاغة الكلام، وكل مثل من هذه الأمثلة نحتاج إلى أن ننظر فيه، ونعرف من أي هذه الأنواع هو؛ لأن بعضها قد لا يؤثر في المعنى، مثل قوله: فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً [الفرقان:54]، أي: جعل له نسباً وصهراً، فكونه يجعله هو نسباً وصهراً من لوازمه أن يكون له نسب وصهر، فهذا الحذف المذكور يدل عليه الخطاب بدلالة الإشارة وليس فيه إشكال، أو وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ [الأعراف:155]، أي: من قومه، فحذفت (من)، وهنا لا شك أن الحذف أبلغ من الذكر، وهذا الذي يأتي فيه توجيه البلغاء في مثل هذه المحذوفات، فهذا من باب تقوية الكلام من جهة البلاغة، وليس من باب ربط الكلام بالمعاني.

أما وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى [الأعلى:3]، فإذا قلنا: وأضل فهذا يتأثر به المعنى.

قال رحمه الله: [ وليعلم أيضاً أن الأصل في مثل وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ [البقرة:30]، (وإذ قال موسى)، أن يكون (إذ) ظرفاً لفعل من الأفعال، ولكنه نقل ها هنا لمعنى التهويل و التخويف، فمثل ذلك مثل من يذكر المواضع الهائلة، أو الوقائع الهائلة على سبيل التعداد من غير تركيب جملة، ومن غير وقوعها في حيز الإعراب، بل المقصود من ذكرها أن ترتسم صورتها في ذهن المخاطب، ويستولي الخوف منها واستهوالها على قلبه وضميره التحقيق.

فالتحقيق أنه لا يلزم في مثل هذه المواضع تفتيش العامل، والله أعلم ].

لو رجعنا إلى جملة المعربين فأغلبهم إذا جاء إلى مثل قوله: (وإذ قال ربك) يجعل (إذ) ظرفاً عامله اذكر، والتقدير: اذكر إذ قال ربك، وهو هنا يقول: لا تجعلها مرتبطة بفعل؛ لأن الغرض المطلوب هو استحضارها وذكرها حتى ترتسم صورتها البارزة في ذهن المخاطب، ويستولي الخوف منها، يعني من هذ الحادثة، واستهوالها على قلبه وضميره، يعني يستولي على قلبه وضميره الخوف من هذه الحادثة التي ذكرت، أو تعظيم هذه الحادثة، وليس المراد أن يربطها بفعل، ولهذا بعض المتأخرين من النحاة يعيب على المعربين أن يربطوا (وإذ) هذه التي في القرآن بفعل واحد وهو اذكر.

والمقصد من ذلك أن المؤلف يريد أن يشير إلى أننا لا نلتزم بالرابط الإعرابي الذي يذكره النحاة، وأن ننتبه إلى أن المراد هو رسم تلك الصورة في الذهن إما من التهويل، وإما من التعظيم، يعني من باب التخويف في الحادثة التي تذكر، أو من باب تعظيم هذه الحادثة التي تذكر دون ربطها بفعل مقدر.

قال رحمه الله: [ وليعلم أيضاً أن حذف الجار من أن المصدرية مطرد في كلام العرب، والمعنى: لأن أو بأن أو وقت أن.

وليعلم أيضاً أن الأصل في مثل وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ [الأنعام:93]، وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ [البقرة:165]، أن يحذف جواب الشرط، وليس هذا التركيب منقولاً لمعنى التعجيب، فلا حاجة إلى تفتيش المحذوف، والله أعلم ].

هنا يعترض أيضاً على أنه لا حاجة للتفتيش عن المحذوف، ويرى أنهم نقلوا تركيب العبارة إلى معنى التعجب، فقوله: وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ [الأنعام:93]، كأنه يقول: اعجبوا من هذه الحالة فقط، طبعاً بعض المفسرين يقدر لرأيت أمراً عظيماً، أو وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ [البقرة:165]، أي: لرأوا أمراً مهولاً عظيماً، والمؤلف يقول: لا نحتاج إلى مثل هذه التقديرات؛ لأن هذا الأسلوب هو أحد الأساليب التي يتعجب منها من الشيء الغريب والشيء العظيم، فإذاً: التقدير عمل نحوي، والذي يريده المؤلف هو عمل معنوي، ولا تعارض بين هذا وذاك.

قال رحمه الله: [ أما الحذف فعلى أقسام: حذف المضاف والموصوف والمتعلق وغيرها كقوله تعالى: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ [البقرة:177] أي: بر من آمن. وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً [الإسراء:59]، أي: آيةً مبصرة، لا أنها مبصرة غير عمياء.

وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ [البقرة:93]، أي: حب العجل.

أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ [الكهف:74]، أي: بغير قتل نفس ].

الأول: حذف المضاف.

والثاني: حذف الموصوف.

[ أَوْ فَسَادٍ [المائدة:32] أي: بغير فساد.

مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الأنبياء:19] أي: من في السموات ومن في الأرض، لا أن شيئاً واحداً هو في السموات والأرض.

ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ [الإسراء:75] أي: ضعف عذاب الحياة، وضعف عذاب الممات.

وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ [يوسف:82] أي: أهل القرية.

بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً [إبراهيم:28] أي: فعلوا مكان شكر نعمة الله كفراً.

يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9] أي: للخصلة التي هي أقوم.

بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [فصلت:34] أي: بالخصلة التي هي أحسن.

سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى [الأنبياء:101] أي: الكلمة الحسنى والعدة الحسنى عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ [البقرة:102] أي: على عهد ملك سليمان .

وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ [آل عمران:194] أي: على ألسنة رسلك.

إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر:1] أي: أنزلنا القرآن وإن لم يسبق له ذكر.

حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ [ص:32] أي: توارت الشمس.

وَمَا يُلَقَّاهَا [فصلت:35] أي: خصلة الصبر.

وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ [المائدة:60] من قرأ بالنصب أي: جعل منهم من عبد الطاغوت.

فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً [الفرقان:54] أي: جعل له نسباً وصهراً.

وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ [الأعراف:155] أي: من قومه.

أَلا إِنَّ عَاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ [هود:60] أي: كفروا نعمة ربهم، بنزع الخافض.

تَفْتَأُ [يوسف:85] أي: لا تفتأ ومعناه: لا تزال.

وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3] أي: يقولون: ما نعبدهم، إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ [الأعراف:152]، أي: اتخذوا العجل إلهاً.

تَأْتُونَنَا عَنْ الْيَمِينِ [الصافات:28]، أي: وعن الشمال.

فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ [الواقعة:65-66]، أي: يقولون: إنا لمغرمون.

وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً [الزخرف:60] أي: بدلاً منكم.

كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ [الأنفال:5] أي: امض ].

قبل أن نكمل موضوع المحذوفات، هنا مسألة مهمة جداً، وهي هل بالفعل هذه التي ذكرها من المحذوفات له فيها وجه صحيح معتبر أو لا؟

سنقرأ كلام من يرى المجاز ومن ينفي المجاز في قوله: (واسأل القرية)، وهل هي من باب الحذف أو أن المراد بالقرية أهل القرية بدون أن يكون هناك حذف؟ لا أريد أن نتخذ في هذا الموضوع أشخاصاً أو أعلاماً نحتكم إليهم، بل ندرس المسألة دراسة علمية فندرس باب الحذف أو غيره من أبواب البلاغة؛ لأن أبواب البلاغة بعض المتكلمين أو بعض المخالفين لمنهج الصحابة والتابعين وأتباع التابعين يمكن أن يدخل فيه على سعة العربية، ويثبت بعض القضايا التي تنصر مذهبه، فقد نقبلها في مثال ونردها في مثال.

وفي مثل هذه الأبواب يمكن أن نرتب أولاً القاعدة الكلية: أن كل أسلوب في القرآن فهو عربي، ولا يلزم أن كل أسلوب عربي موجود في القرآن، فإذا كان كل ما في القرآن أسلوب عربي فيحتاج أن ننظر إلى تحرير هذا الأسلوب العربي، فخلافنا ليس في كون الأسلوب عربياً أو ليس بأسلوب عربي، بل الخلاف في كون القرآن استعمل هذا الأسلوب خلافنا الآن في الأمثلة، هل هذا المثال من باب الحذف أو ليس من باب الحذف؟ فإذا جاء أحد المحرفين من أصحاب التحريف وقال لك: هنا محذوف مثل ما يفعل غلاة الرافضة، فغلاة الرافضة يستخدمون أسلوب الحذف لتثبيت مذهبهم، فلابد أن يكون عندنا ضوابط في باب الحذف، وهكذا قل في غيره من أبواب البلاغة، لابد أن تكون هناك ضوابط متفق عليها وأنها إذا وجدت فإنها تدل على الحذف وتقويه، وإن لم توجد فإنها تدل على عدم وجود الحذف.

ومن أهم الضوابط عندنا السياق؛ لأن السياق هو الذي يحدد هل هناك حذف أو لا، فعلى سبيل المثال من المحذوفات التي قد لا يقع فيها خلاف قوله تعالى: فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ [الواقعة:65-66]، فقوله: (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ) ليس تفسيراً لـ (تفكهون).

لأن (تفكهون) فعل بمعنى التعجب، و(إنا لمغرمون) هذا كلام، فإذاً هناك بين الفعل وبين الكلام محذوف، كأنه قال: (فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) تقولون: (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ)، فمثل هذا الحذف ليس فيه أثر علمي على الصحيح، ولا عقدي ولا غيره، فليس فيه إشكال.

لكن قوله: وَجَاءَ رَبُّكَ [الفجر:22] فمن يرى التأويل يقول: إنه من باب حذف المضاف، يعني جاء أمر ربك، وذلك لسبب مشكل عنده، أما من يرى أن الكلام على ظاهره فيقول: جاء ربك مجيئاً يليق بجلاله، ففي مثل هذا المثال يرد عندنا إشكال، فلا بد أن يكون عندنا ضوابط لنعرف أن هذا يدخل في باب المحذوف أو لا يدخل بل يبقى على ظاهره، وهذا محل بحث مهم جداً فيما يتعلق بعلم البلاغة؛ لأننا وإن اتفقنا على أصل الأسلوب إلا أننا اختلفنا في تطبيقه في هذا المثال، بل أحياناً قد نتفق على الأسلوب نفسه في آية، وتأتي آية شبيهة له فنقول: ليست منها، لأن هذه تحمل على الحقيقة، وهذه تحمل على غير ذلك، والقصد من هذا أن البحث العلمي لازم في مثل هذا الموضوع.

قال رحمه الله: [ وليعلم أن حذف خبر إن، أو جزاء الشرط، أو مفعول الفعل، أو مبتدأ الجملة وما أشبه ذلك مطرد في القرآن، إذا كان فيما بعده دلالة على حذفه، كقوله تعالى: فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ [الأنعام:149]، أي: لو شاء هدايتكم لهداكم.

وقوله: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ [يونس:94]، أي: هذا الحق من ربك.

وقوله: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا [الحديد:10]، أي: لا يستوي من أنفق من قبل الفتح، ومن أنفق من بعد الفتح، فحذف الثاني لدلالة قوله: أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ [الحديد:10].

وقوله: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ [يس:45-46]، أي: إذا قيل لهم: اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم أعرضوا ].

في قضية الحذف في قوله: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا [الحديد:10]، لا يمكن أن تفهم الآية على غير هذا الوجه فمعنى قوله: (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ)، أي: مع من أنفق بعد الفتح وقاتل؟

وهناك مواضع للحذف قد يفهم أكثر من معنى فعلى سبيل المثال قوله سبحانه وتعالى: وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى [الأعلى:3]، نقل الفراء عن بعضهم أنه قال: فهدى وأضل، قال: حذف المقابل وهو وأضل، فيختلف المعنى هنا؛ لأننا لو جعلناها مطلقة فكأننا نقول: قدر الأقدار، وهدى كلاً إلى قدره، أما إذا قلنا: قدر فهدى وأضل، جعلنا الأمر مرتبطاً بالتقدير؛ لأنه مرتبط بالهداية والضلال فقط، فإذاً اختلف المعنى.

والأمثلة كثيرة لكن هذا أحد الأمثلة التي تدلنا على أن القول بالحذف أو عدمه قد يؤثر في المعنى، وفي بعض الأمثلة وجوده وعدمه سواء، مثل فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ [الواقعة:65-66].

وفي بعض الأمثلة يكون وجود الحذف داخلاً في المعاني الثانوية من باب الاختصار في تقوية الكلام فقط.

والخلاصة: أنه قد يكون الحذف وعدمه سواء.

وقد يكون القول بالحذف أو عدمه مؤثراً في المعنى.

وقد يكون القول بالحذف من باب بلاغة الكلام، وكل مثل من هذه الأمثلة نحتاج إلى أن ننظر فيه، ونعرف من أي هذه الأنواع هو؛ لأن بعضها قد لا يؤثر في المعنى، مثل قوله: فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً [الفرقان:54]، أي: جعل له نسباً وصهراً، فكونه يجعله هو نسباً وصهراً من لوازمه أن يكون له نسب وصهر، فهذا الحذف المذكور يدل عليه الخطاب بدلالة الإشارة وليس فيه إشكال، أو وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ [الأعراف:155]، أي: من قومه، فحذفت (من)، وهنا لا شك أن الحذف أبلغ من الذكر، وهذا الذي يأتي فيه توجيه البلغاء في مثل هذه المحذوفات، فهذا من باب تقوية الكلام من جهة البلاغة، وليس من باب ربط الكلام بالمعاني.

أما وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى [الأعلى:3]، فإذا قلنا: وأضل فهذا يتأثر به المعنى.

قال رحمه الله: [ وليعلم أيضاً أن الأصل في مثل وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ [البقرة:30]، (وإذ قال موسى)، أن يكون (إذ) ظرفاً لفعل من الأفعال، ولكنه نقل ها هنا لمعنى التهويل و التخويف، فمثل ذلك مثل من يذكر المواضع الهائلة، أو الوقائع الهائلة على سبيل التعداد من غير تركيب جملة، ومن غير وقوعها في حيز الإعراب، بل المقصود من ذكرها أن ترتسم صورتها في ذهن المخاطب، ويستولي الخوف منها واستهوالها على قلبه وضميره التحقيق.

فالتحقيق أنه لا يلزم في مثل هذه المواضع تفتيش العامل، والله أعلم ].

لو رجعنا إلى جملة المعربين فأغلبهم إذا جاء إلى مثل قوله: (وإذ قال ربك) يجعل (إذ) ظرفاً عامله اذكر، والتقدير: اذكر إذ قال ربك، وهو هنا يقول: لا تجعلها مرتبطة بفعل؛ لأن الغرض المطلوب هو استحضارها وذكرها حتى ترتسم صورتها البارزة في ذهن المخاطب، ويستولي الخوف منها، يعني من هذ الحادثة، واستهوالها على قلبه وضميره، يعني يستولي على قلبه وضميره الخوف من هذه الحادثة التي ذكرت، أو تعظيم هذه الحادثة، وليس المراد أن يربطها بفعل، ولهذا بعض المتأخرين من النحاة يعيب على المعربين أن يربطوا (وإذ) هذه التي في القرآن بفعل واحد وهو اذكر.

والمقصد من ذلك أن المؤلف يريد أن يشير إلى أننا لا نلتزم بالرابط الإعرابي الذي يذكره النحاة، وأن ننتبه إلى أن المراد هو رسم تلك الصورة في الذهن إما من التهويل، وإما من التعظيم، يعني من باب التخويف في الحادثة التي تذكر، أو من باب تعظيم هذه الحادثة التي تذكر دون ربطها بفعل مقدر.

قال رحمه الله: [ وليعلم أيضاً أن حذف الجار من أن المصدرية مطرد في كلام العرب، والمعنى: لأن أو بأن أو وقت أن.

وليعلم أيضاً أن الأصل في مثل وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ [الأنعام:93]، وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ [البقرة:165]، أن يحذف جواب الشرط، وليس هذا التركيب منقولاً لمعنى التعجيب، فلا حاجة إلى تفتيش المحذوف، والله أعلم ].

هنا يعترض أيضاً على أنه لا حاجة للتفتيش عن المحذوف، ويرى أنهم نقلوا تركيب العبارة إلى معنى التعجب، فقوله: وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ [الأنعام:93]، كأنه يقول: اعجبوا من هذه الحالة فقط، طبعاً بعض المفسرين يقدر لرأيت أمراً عظيماً، أو وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ [البقرة:165]، أي: لرأوا أمراً مهولاً عظيماً، والمؤلف يقول: لا نحتاج إلى مثل هذه التقديرات؛ لأن هذا الأسلوب هو أحد الأساليب التي يتعجب منها من الشيء الغريب والشيء العظيم، فإذاً: التقدير عمل نحوي، والذي يريده المؤلف هو عمل معنوي، ولا تعارض بين هذا وذاك.