الاستعمار وخراب التعليم - عبد الله القحطاني
مدة
قراءة المادة :
13 دقائق
.
خلف المستعمرون خراباً من كل الأنواع، فلقد حطمت السياسات اللغوية الاستعمارية الإرث الثقافي والحضاري للأمم المستعمرة، بما في ذلك النظم التعليمية الفعالة. وبعد رحيل المستعمر وما خلفه من خراب وسلب للموارد وتمزيق للمجتمعات المستعمرة، أطلق عليها مسمى «العالم الثالث»، الذي لا ثاني له!
ومع انتشار الجهل وارتفاع مستويات الأمية وتزايد نسب الفقر أصبح الحصول على تعليم جيد غاية في الصعوبة في ظل تسلط النخبة الحاكمة التي زرعها المستعمر قبل مغادرته، ناهيك عن فرض لغة المستعمر وتدهور النظم التعليمية المستوطنة.
لقد كانت الشعوب الإسلامية المستعمرة من أشد الأمم تأثراً بالوطأة العدوانية للمستعمر، ما جعل الشعوب تبدي تمنعاً ومقاومة شديدة، خوفاً من ضياع هويتها وذوبان حضارتها في زخم المؤامرات.
ومع ارتفاع حدة عدوان الاستعمار لقي النظام التعليمي عند الشعوب المسلمة المستعمَرة هجوماً جائراً لاسيما ما يؤصل منه للوحدة الإسلامية والرابطة اللغوية بين الشعوب المسلمة في أنحاء العالم، فقد كانت المؤسسات التعليمية حاجزاً أمام مسخ هوية الأمة ودينها ولغاتها كي لا تصبح طوعاً للقوى الاستعمارية وتابعة لها.
لقد كان للمدارس القرآنية عظيم الدور في مقاومة ذلك المد الاستعماري الجائر، والحفاظ على هوية الشعوب الإسلامية في شتى أصقاع الأرض، بل كانت تمثل تحدياً كبيراً للممانعة ضد الاستعمار الثقافي والديني واللغوي.
وبعد هجوم المستعمرين وادعاءاتهم بأنهم أتوا من أجل رسالة تحضير المجتمعات البدائية المستعمرة والارتقاء بها! أصبحت مستويات الأمية أعلى منها بعد مغادرة المستعمر، بعد أن بذل جهداً كبيراً سبيل في تجهيلها وتفتيت مجتمعاتها.
يقول الباحث الإفريقي السنغالي «ملفي درامي» في دراسة حول سياسات فرنسا لفرض اللغة الفرنسية: «كانت مستويات التعليم في الدول التي استعمرتها فرنسا عالية قبل الاستعمار، ومع مغادرته لم تكن نسبة التعليم تزيد عن 10%، وذلك بعد قرابة قرن من الاستعمار المشؤوم».
وكذلك الحال مع كل الدول المقسمة قسراً، التي تركها الاستعمار ضحية الفقر والجهل والمرض والاقتتال الداخلي بعد أن مارس سياسة «فرق تسد»، ولقد أجاد «دانيال واقنر» الوصف لنظرة المستعمرين حول الشعوب المستعمرة وتاريخها وثقافتها وتراثها حيث قال: «من تلك اللحظة التي جاء فيها المستكشفون الأوربيون بما زعموا أنه الرسالة الحضارية لنشر الثقافة والتعليم الإمبريالي بين الشعوب التي كانوا ينظرون إليها على أنها فقيرة، متخلفة، جاهلة، أمية. لقد كان للتعليم لديهم مفاهيم ذات أبعاد سياسية وثقافية وأخلاقية وصناعية واسعة. لقد كانت هذه الشعوب من منظورهم شعوباً متوحشة وغير متحضرة. ولقد عادت تلك النظرة العنصرية مرة أخرى عندما بدأ التعليم العام ينتشر في أوربا، ولكنها هذه المرة تجاه الطبقات الفقيرة والمسحوقة اقتصادياً، وجاء بحسب زعمهم دور الطبقة الحاكمة لتحضير الطبقات الفقيرة والجاهلة».
وأشار باحث غربي آخر، «أنسر»، إلى أثر تلك النظرة الاستعمارية النمطية الدونية للشعوب المستعمرة وثقافتها ولغاتها قائلاً: «تمتلك الإمبريالية اللغوية قدرة محكمة تحجب العقول والتوجهات والتطلعات لأكثر طبقات المجتمع نبلاً من استشعار كامل الإمكانات للغات المحلية»، وهذا يتفق مع ما ذكرته المفوضة السامية لليونسكو «باربرا هارل بوند»، مما أدى إلى اتساع الفجوة بين النخبة القليلة العدد وغالبية الشعوب الذين كرهوا سياسات المستعمر والنخبة التي صنعها الاستعمار، وكان لا بد للمستعمر أن يضع تلك الأقلية للحفاظ على مصالحة واستمرارية هيمنته بعد مغادرته.
وكان المستعمر يعلم بتجذر التعليم في عمق المجتمع المسلم تحت كل الظروف، يشير إلى ذلك مسؤول الإشراف على المدارس القرآنية في غرب إفريقيا في تقرير رفعه للإدارة الاستعمارية الفرنسية، يقول: «من طرف غرب إفريقيا الفرنسية إلى طرفها، من دجيني إلى كان كان، ومن كياس إلى تمبو.. ما يلفت نظر المشاهد السطحي هو ذلك التشابه الكامل بين هذه المدارس القرآنية.. فنجد السكان الأصليين السود الذين لا يجيدون العربية العامية يدفعون بأبنائهم لدراسة اللغة العربية الفصحى - لغة القرآن - فنجد المسلم يقرأ ويكتب باللغة العربية الفصحى، ويستطيع أن يستمر في تعليمه حتى يصبح عالماً بالعربية وثقافتها».
ويواصل تقريره بكل ذهول، قائلاً: «تستطيع أن تتحدث بكل تأكيد أن كل منطقة بل كل قرية تحوي مدرسة قرآنية، ولقد رأيت المدارس القرآنية في كل مكان ذهبت إليه».
لقد أذهل هذا الانتشار للمدارس القرآنية واللغة العربية الباحثين المهتمين في كل أنحاء العالم، فهذا البروفيسور «روس» من معهد الدراسات الشرقية والإفريقية المرموق في لندن يؤكد أن الهجائية العربية قد لعبت دوراً عظيماً في نشر التعليم بين عوام الناس في الهند، في زمن كان التعليم محتكراً من قبل الطبقة العليا في الهند«البراهما».
وبرغم الهجوم الجائر على المدارس القرآنية في كثير من دول العالم الإسلامي، يستمر هذه النوع من التعليم في المجاهدة لتقديم مقومات التعلم الأساسية لملايين البشر في أنحاء العالم، وفي مواقع ترتفع فيها معدلات الأمية بشكل مخيف، بينما يتم ذلك اللغط في دول كان من الأحرى أن تتبنى هذا النوع المستوطن من التعليم وتطوره وترتقي به، بينما نجد أن المؤسسات التعليمية العالمية تتنادى بإحيائه وإنزاله على أرض الواقع، وذلك لإنقاذ عشرات الملايين من البشر من خط الأمية الجارفة، ومثال لذلك منظمة أنظمة التعليم العالمية وهي واحدة من مؤسسات تطوير التعليم، حيث نشرت في تقريرها: «تقدم المدارس القرآنية الأرضية الخصبة من أجل التعليم للجميع، وهذا التقرير المتأخر للدور النفيس الذي تضطلع به المدارس القرآنية في نشر التعليم للجميع حدا بالمؤسسات العالمية المانحة مثل اليونسكو، يو إس إيد، واليونيسيف، للنظر إلى المدارس القرآنية كمصدر مهم لتعليم الأطفال ومحاربة الأمية».
اليونسكو وغيرها من المنظمات الإنسانية لم تلقِ بالاً لهذه المدارس ودورها في محاربة الأمية ونشر التعليم إلا مؤخراً، وذلك عندما تفاقمت المشكلة وارتفعت معدلات الأمية إلى مستويات مخيفة، كان من أعظم أسبابها السياسات الاستعمارية المتحيزة، والتعليم الانتقائي، وتهميش اللغات المحلية وفرض لغة المستعمر والطبقة الحاكمة صنيعة الاستعمار.
لقد كان هناك دور كبير للمدارس القرآنية في نشر التعليم في شتى أقطار العالم الإسلامي عبر التاريخ، وفي الوقت الحالي ما زال دورها كبيراً في تعليم التلاميذ قبل سن الدراسة (التمهيدي) وبعد دخولهم المدرسة، كما أنها تقوم بدور كبير لتعليم الأعداد الكبيرة من التلاميذ الذين لا يستطيعون دخول المدارس الحكومية لأسباب عديدة، كما أنها تقوم بدور التعليم الموازي في كثير من الدول الإسلامية، أي بالإضافة إلى التحاق التلاميذ بالمدارس الحكومية، فهم أيضاً يدرسون في هذه المدارس القرآنية، كما أنها تمثل خياراً إستراتيجياً لمحو الأمية المنتشرة بشكل مخيف في العالم، وذلك لتكاليفها المالية الزهيدة وبساطة تعاملها مع مناهجها وطرق تدريسها وقدرتها على تخطي عقبات شح المدرسين وقلة الموارد. وفي هذا السياق يعطي الباحث إلياس سعد في دراسته عن التاريخ الاجتماعي لتمبكتو، التي نشرتها جامعة كامبرج، مثالاً واحداً يبين أهمية هذه المدارس ودورها الحضاري فيذكر أن مدينة تمبكتو التي كانت مركزاً علمياً وتجارياً خلال القرن السادس عشر الميلادي، قد حوت ما يقارب 150 مدرسة قرآنية، تمثل أهم المؤسسات التعليمية والتثقيفية في تلك المدينة التي كان يبلغ سكانها حوالي 50 ألف نسمة.
كما أن «واقنر» في دراسة سابقة نشرت عام 1989م، قد أشار إلى أن المدارس القرآنية ظاهرة تعليمية عالمية لم تحظَ بنصيب وافر من الدراسة والبحث، بل إنها من أقل المؤسسات التعليمية التي تمت دراستها في عالمنا اليوم، هذا مع العلم بأن عشرات الملايين من الأطفال في عشرات الدول يلتحقون بهذه المدارس، إما لجزء من التعليم أو لتعليمهم كاملاً، ففي إندونيسيا وحدها يلتحق بهذه المدارس ما يقارب عشرين مليوناً من الأطفال سنوياً. وقد أشار واقنر إلى التباين الكبير بين هذه المدارس من خلال دراسة مقارنة قام بها في إندونيسيا، واليمن، والسنغال، والمغرب، ومصر. وبرغم من فقر موارد هذه المدارس المالية ومحدودية منهجها إلا أنها تقدم مهارات لغوية وعقلية واجتماعية غاية في الأهمية لسد حاجة تلك المجتمعات. ومع ذلك التباين الجغرافي والثقافي الكبير بين دول العالم الإسلامي في القارات المختلفة، فإن المدارس القرآنية تتطابق مع معظم مثيلاتها الأخرى في أنحاء العالم، وذلك من حيث المهارات والآداب التي تقدمها للطلاب بالإضافة إلى تعلم القرآن، ومن أهمها:
مهارة التعليم في أجواء دراسية منظمة.
احترام المعلم.
تعلم اللغة العربية.
تعلم الكتابة الهجائية.
تخريج طلاب على قدر عال من الأخلاق والمواطنة الصالحة.
بعض مهارات أخرى في الحساب والكتابة.
ويواصل واقنر وصفه للسياق الاجتماعي لتلك المدارس حيث يتجلى الحافز القوي لدى التلاميذ ووالديهم لتعلم القرآن من خلال الأثر الكبير في بعث الهمة والرغبة في التعلم، الأمر الذي لا يمكن مقارنته بالمدارس العلمانية . كما يظهر واقنر ميزة أخرى غاية في الأهمية وهي أنه بمقارنة اللغة العربية التي يتقبلها المسلمون بأريحية في بيئات تعدد اللغات باللغات الأروبية، التي فرضت خلال الاستعمار أو بعده، يظهر البون الشاسع لرغبة المسلمين في تعلم اللغة العربية وعدم استشعارهم أنها لغة أجنبية مفروضة عليهم كما هو الحال في اللغات الأخرى.
وقد أشار واقنر إلى أن اختيار كثير من الدول المستعمَرة في السابق للغة معينة للتعليم أو كلغة وطنية خضع لقرار سياسي في المقام الأول خلال فترة ما بعد الاستعمار، قام به من يسميهم فيلسون «النخبة التي أنشأها الاستعمار»، وذلك باختيار لغة المستعمر في الغالب لتكون لغة البلاد الرسمية، ما أنتج عينة تتجاهل نظام التعليم القائم باللغات المحلية واللغة العربية، خصوصاً أن أبجديات اللغات الإسلامية كانت مكتوبة بأحرف عربية، وما تبع ذلك من ارتفاع كبير في نسبة الأمية.
ويلخص واقنر الدور المهم الذي تقوم به المدارس القرآنية الإسلامية في شتى أنحاء العالم وميزاتها في ما يلي:
وفقاً للأدلة المتوفرة من خلال دراسة المدارس القرآنية في أنحاء مختلفة من العالم فإنها تعطي أقوى مثال للتعليم الذي ينشأ من المجتمع بوسائله وإمكاناته الذاتيه دون الاعتماد على مقومات خارجية. وقد أظهرت الدراسات قدرة المدارس القرآنية على التطور وفقاً للمتغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي تطرأ على مجتمعاتها.
نتائج الدراسة قد أظهرت الأهمية الكبيرة لهذه المدارس في المرحلة التمهيدية، وكتعليم أساسي أو موازٍ، ولا يوجد أي دلائل علمية ميدانية توحي بأن لهذا النوع من التعليم آثاراً سلبية على الإطلاق.
مع أن نظم التعليم النابعة من المجتمعات ذاتها تتفاوت في طبيعة إدارتها وتمويلها إلا أن المدارس القرآنية تنشأ من حاجة المجتمعات المسلمة لتعليم أبنائها وربطهم بدينهم وعقيدتهم ولغة دينهم. فهي تحظى بالدعم المالي والمعنوي لإدارة شؤونها من المجتمعات المحلية نفسها. فهي تحقق بذلك اكتفاءً ذاتياً لأداء مهمتها على عكس المدارس الحكومية ذات التكلفة الباهظة التي تعجز كثير من الدول عن توفيرها.
مرونة نظم التعليم النابعة من المجتمعات المسلمة، فالمدارس القرآنية تتمتع بمرونة التعامل مع التطورات الاجتماعية. ووسائل تطوير هذه المدارس من السهولة بمكان، ومثال على ذلك دعم منظمة اليونيسف لبعض المدارس في القرى وإجراء بعض الأبحاث على نتائجها التي كان لها أثر طيب.
وملخص دراسة واقنر يركز على الخيرية العالمية للمدارس الإسلامية التي تعد بعشرات الآلاف في العالم الإسلامي لمواجهة الأمية، وخاصة في ضوء فشل نظام تعليم ابتدائي عالمي، بحسب قوله، يستوعب كل أطفال العالم، وفي وقت تنتشر فيه الأمية بصورة مخيفة، فإن من الفشل المستمر تغافل المؤسسة العالمية لتطوير ونشر التعليم ومكافحة الأمية مثل هذا النظام الفعال النابع من المجتمعات ذاتها، ومع أن هذا النظام قد أثبت فاعليته ونجاحه لقرون عديدة فإن مخططي التعليم المعاصر ما زالوا يتغافلون عن مثل هذه التجارب الناجحة ولأسباب غير علمية ودون تبريرات منطقية.
وبعد هذا العرض المختصر للدور الكبير والمهم لما قامت وتقوم به المدارس القرآنية لمحاربة الجهل والأمية فإن السياسات التعليمية الاستعمارية لم تتوانَ عن مهاجمة ومحاولة تحطيم الأنظمة التعليمية القائمة وعلى رأسها المدارس القرآنية في كافة مناطق العالم الإسلامي، عربية كانت أو غير عربية، ولكنها في الوقت نفسه وقفت عاجزة عن تقديم نظام تعليمي بديل، يقدم التعليم الأساسي لكافة الشعوب المستعمرة، وكان كل ما قدم هو برنامج تعليمي غربي عنصري يستهدف شريحة صغيرة جداً من تلك المجتمعات، يهدف تعليمها تعليماً غربياً، والاهتمام بها لتكون طبقة من النخبة الموالية للمستعمر. وذلك لتحقيق أهداف المستعمر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وكثير من الجوانب الدينية. وللأسف إن مرحلة ما بعد الاستعمار لم تختلف كثيراً عن سابقتها، بل أطرت تلك السياسات في ثوب جديد وشرعت لها تحت مظلات وطنية مصطنعة.