نحو توظيف أكاديمي للإعجاز القرآني في العلوم الصرفة
مدة
قراءة المادة :
6 دقائق
.
نحو توظيف أكاديمي للإعجاز القرآني في العلوم الصرفةمن الملاحظ أن القرآن الكريم قد أرسى قاعدةً قويمةً لتعامل الإنسان مع حقائق الحياة، والظواهر الكونيَّة، وما وراءها من حقائق خارج مُدرَكاته، فحقَّق بهذا المنهج السديد جوًّا من الرُّشد القويم، الذي يُحقِّق للإنسان المتساوق معه الحياة الأفضل على قاعدة: ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ﴾ [الإسراء: 9].
ومع أن من يتلو القرآن الكريم بشيء من التدبر، يُلاحظ أن لفظة (العِلم) وردت فيه أكثر من مرة؛ للدَّلالة على النُّسك التعبدية، والمعاني الدينية، التي نزلت على النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - من السماء، باعتباره دين هداية للناس بالدرجة الأولى، إلا أنه سيُلاحِظ في نفس الوقت دَلالتها على القوانين المركزية التي تحكم الظواهر الكونيَّة، حيث يتعايش (العلم) و(الدين) معًا في لغة الخطاب القرآني، بأُلفة مُتجانِسة، لا تقبل التناقض، كما قد يتوهَّم البعض من النُّخب المهووسة بقدرات العقل المجرَّد، والعِلم المحض.
ولا جرم أن هذا التوافق الإيقاعي بين القرآن الكريم والعِلم الذي بات حقيقة يقينيَّة اليوم، هو ناموس رباني مُحكَم، يراعي حاجة الإنسان المُلحَّة للتوازن بين الرُّوح والمادة، ويكبح جماح النزق المهووس؛ لترجيح عنصر المادة، تحت وطأة ضغوط قصور عقل الإنسان، وعجزه عن تلمُّس واستيعاب ما وراء المحسوس بالوسائل العلميَّة المُتيسِّرة له في لحظة معيَّنة، بما يفسح المجال للعِلم والعقل، بتجاوز حدود طاقتهما، فيقعان في خطأ الحكم على كل التصورات وَفْقًا لضوابط العِلم التجريبي، وقياساته وحسب، خلافًا لقاعدة: ﴿ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [الإسراء: 85]، فيقع الإنسان عند ذاك في إشكالية خللِ التناقض بقياس: ﴿ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾ [الحج: 46].
وإذا كان النَّهج القرآني الرشيد قد استجاب بتوازن تام، إلى متطلبات سعادة الإنسان ببُعديها المادي العِلمي المحض، والمعنوي العَقَدي الديني الصرف، على حد سواء في كل ما يواجِهه في حياته العملية، فإن المطلوب أن تُعتمَد آلية معاصِرة لدمج القرآن في مفاصل الحياة العلمية الصرفة في الدراسات الجامعية: الأولية منها، والعليا، وذلك من خلال اعتماد مقرَّر دراسي إضافي، يعتمِد جانبَ الإعجاز العلمي في القرآن، الذي تضمَّنته الكثير من نصوصه الصريحة، والأحاديث النبويَّة الصحيحة، التي أشارت إلى حقائق علميَّة، لم تكن معروفة للناس وقت نزول القرآن، بسبب عدم تطوُّر الأدوات العلميَّة يومذاك، وكشفت العلوم الحديثة - ومن خلال تطوُّر التقنيات، وأدوات البحث العلمي، وتراكُم الخِبرة، والمعرفة الإنسانية، بالصورة التي هي عليها اليوم - صحَّتَها، وأثبتت تطابُقَها مع حقائق القرآن، من خلال النتائج العلمية الحديثة التي توصَّلت إليها، خاصة أن ذلك التوافق الدقيق يَفرِض نفسه على أنه مراد مقصود قطعًا في نصوص القرآن، وليس محض صدفة، ويأتي مصداقًا لقول الله تعالى: ﴿وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ [سبأ: 6]، في سياق تراتبية جدليَّة صارمة لا انفصام لها، تجعل العِلم وسيلة مضافة للهداية إلى صراط الله العزيز الحميد، باعتبار أن القرآن عندما أحاط بالكليات الغيبية، قد ألمح إلى الحقائق العلمية بإشارات معجِزة، تاركًا للعقل الإنساني حريَّة التفكير في الكون، وما خلق الله - تعالى - فيه من عوالم؛ ليتأمَّلها بعناية، ويتفحَّصها بدقة، ويبحث فيها بعمق، ويكتشِف تلك الحقائق، وَفْقًا لمستوى تمكُّنه العلمي في كل مرحلة من مراحل التطور الحضاري على الأرض، ومن ثَمَّ العمل على تسخيرها لاستخداماته الحياتيَّة، وَفقًا للناموس المركزي الإلهي: ﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ ﴾ [الجاثية: 13]؛ إذ لا شك أن ما تُضيفه الاستكشافات العلمية، من أدوات محسوسة للتيقن، تَصُب في مجرى تعميق الإيمان بحقيقة توافُق إشارات القرآن الكونية مع العقل الإنساني الرشيد المتوسل بالعِلم الموضوعي الهادف إلى استكناه ما غاب عنه من حقائق الوجود الإنساني، وما حُجِب عنه من آفاق الكون، على قاعدة: ﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ﴾ [فصلت: 53]، ومن هنا نلاحظ أن القرآن قد فضَّل المتعلِّمين على غير المتعلمين في سياق أعمال النظر والبحث في الظواهر الكونيَّة؛ ﴿ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الزمر: 9]، في إشارة واضحة لتحقيق هذا الغرض السامي، من تَوافُق العلم مع نهج القرآن، وهو ما أثبتته الاكتشافات العلمية المعاصرة بشكل قاطع.
وحيث إنه ليس ثمة تناقُض بين العلم والقرآن فيما تَمَّ التوصل إليه من إنجازات علمية على طول الخط حتى الآن، فلا شك أن هذه الحقيقة المذهِلة، إنما تدفع للتسليم بيقين مُطلَق، بحقيقة إلهية مصدر القرآن الكريم، وتُرسّخ الإيمان بالغيب، وتُحصِّنه في نفْس الوقت من سلبيات التوهم بقدرة العِلم بمفرده على الإحاطة الشاملة بكل حقائق الوجود.