إنما أنت مذكر


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونؤمن به ونتوكل عليه، ونثني عليه الخير كله، أشكره ولا أكفره، وأتوب إليه وأستغفره، وأومن به وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الخلق وله الأمر وله الحكم وإليه ترجعون، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، وأمينه على وحيه ومصطفاه من رسله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، جعلنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

أما بعــد:

أيها الإخوة في الله: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أشكر الله عز وجل على ما منَّ به من هذا اللقاء الطيب المبارك في هذا البيت من بيوت الله، وفي هذا الجزء العزيز من بلادنا حفظها الله وصانها، وأدام عليها أمنها ورخاءها، وأعزها بالإسلام، وأعز الإسلام بها، أشكره سبحانه على هذا اللقاء في هذه المحافظة، وفي هذه المدنية ينبع الكريمة والعزيزة.

وإنَّ ما تقدم به الأخ الفاضل المقدم أشكره عليه، وإن كنت أعتب عليه في ذلك عتباً شديداً، فقد أدلى بكلمات ما كان ينبغي أن تكون في مثل هذا المقام، وخاصة ونحن في بيت من بيوت الله، جلسنا نذكر ونتذاكر، ونذكِّر أنفسنا، فما كان ينبغي له أن يأتي بمثل هذه الكلمات، وخاصة ما يتعلق بنوع من الإطراء الذي لا يحبه كل إنسانٍ يحترم هذه الوجوه الطيبة، لكنني أحسن الظن به، وأرجو من الله سبحانه وتعالى أن يعفو عنا وعنه، وأن يسامحنا، وإن كنت أعلم أن ذلك هو حسن ظن منه، كما أنه حسن ظن كثير من الإخوة الذين رتبوا لهذا اللقاء، ولكنني أقول: اللهم اغفر لي ما لا يعلمون، واجعلني خيراً مما يظنون.

أيها الإخوة: عنوان هذا اللقاء كما اختاره الإخوة المنظمون لهذا اللقاء هو حول التذكير والذكرى، والعنوان هو: "إنما أنت مذكر". يقول الله عز وجل لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية:21-22].

سوف يكون وقوفنا -إن شاء الله- أمام هذا الموضوع من عدة جوانب:

الجانب الأول: معنى: فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية:21-22] وأمثالها من الآيات الأخرى؛ لنبين وظيفة الواعظ، ووظيفة الداعية، ووظيفة الموجه، ووظيفة المربي.

الجانب الثاني: من هو المنتفع بالذكرى؟ وحتى نقف حقيقةً مع أنفسنا موقف المحاسبة: من هو المنتفع؟

ولماذا كثيرٌ منا يسمع مواعظ، ويسمع خطباً، ويسمع كلمات، ويقرأ، ومع هذا يحس بنوع من الضعف، ونوع من قلة الاستجابة مما يسمع ومما يذكر به الواعظون؟

الجانب الثالث: ثم محاولة لوقفة تذكيرية حول أنفسنا بطبيعة هذه الحياة، وطبيعة الإنسان، والجدية في المواقف، وصدق المحاسبة.

الجانب الرابع: ثم الإشارة إلى الضعف البشري والنقص العملي؛ مما يستدعي مع المحاسبة: توجه إلى التوبة، وبيان مواقف كبيرة في التوبة، وبخاصة ما يتعلق بالإصرار، وما يتعلق بالمجاهرة، وفيما يتعلق ببعض الابتلاءات والمصائب التي تكون مكفرات؛ لأن هذه كلها من مواقف التذكير والمحاسبة، وقد نأتي عليها كلها، وقد يسارعنا الوقت فلا نأتي عليها كلها، لكن على كل حال هذه هي أطر الموضوع إن شاء الله.

أولاً: قوله سبحانه وتعالى؛ مخاطباً رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم، وهو سيد الدعاة، وسيد المذكرين، وسيد الوعاظ، وسيد الخطباء، وسيد الأئمة، وسيد الأنبياء، وسيد المعلمين، وسيد الموجهين، وسيد المربين، قال له: فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية:21-22].

هذه تبين -يا إخواني- ما ينبغي أن يعرفه المذكر من نفسه، وما يعرفه من طبيعة البشر، وحينما نقول: مذكر؛ يشمل الداعية، والواعظ، والخطيب، والأب مع أولاده حينما يذكرهم ويزجرهم ويعظهم ويربيهم، والمعلم في مدرسته، وكل قنوات التوجيه وكل مصادر التربية، ومصادر التذكير والتنبيه كلها يجب علينا أن نفقه هذا المعنى: فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ [الغاشية:21].

(ذكِّر) أمرٌ بالتذكير، وهذه لا بد منها، والتذكير واجب ومسئولية كل من أعطاه الله علماً وبصيرة، وأحسن شروط الدعوة: هو المدلول عليه بقوله تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ [يوسف:108] وقوله: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النحل:125] فمن جمع بين هذه فإنه مأمور بالتذكير.

لا تنتظر النتائج

عليك ألا تنقطع: فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ [الغاشية:21] وليس عليك القبول.. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية:22].

إذاً: مهمتك أن تذكر، وأن تبين، وأن تجتهد، وأن توضح، وأن تسلك كل مسالك التفكير، وكل مسالك البيان والإيضاح، وتجدد وتطور في أساليبك، وأشياء كثيرة، لكن: إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ [الغاشية:21] وما وراء ذلك ليس إليك.. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية:22] أي: لست مسيطراً على عقولهم.

إذاً: لا شك أن الأمور الأخرى فيما يتعلق بالمنكر، وفيما يتعلق بتوجيه الناس، وفيما يتعلق بما هو من الشرع، كالحدود والتعزيرات.. هذه أشياء أخرى معروفة، لكن لا تتهم نفسك حينما تذكر، ولا تظن أنك أنت مقصر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه يوم القيامة: {يأتي النبي وليس معه أحد } وهو نبي مؤيد بالمعجزات والآيات والنذر، ومع هذا لا يتبع، فكونك لا تتبع، أو لا يستجاب لك، أو تكون الاستجابة ضعيفة؛ ليس اتهاماً لك، ولا أنك مقصر، فمهمتك أن تذكر، ومهمتك -لا شك- أن تراجع نفسك وتحاسبها، مثلاً: بالتذكير، والنظر في الوسائل، والنظر في الأسباب، لكن لا تنتظر الاستجابة، فإن الاستجابة بيد الله عز وجل.

وهنا آيات كثيرة في هذا الباب، يقول الله عز وجل: إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ [فاطر:23] وهنا حصرٌ أيضاً في أن مهمتك النذارة فقط، ويقول: وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ [الأحقاف:9] ويقول: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً [البقرة:119] بشارة ونذارة، لكن: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ [البقرة:119] فليست مسئوليتك أن يهتدي الناس، وليست مسئوليتك أن ترى نتاج عملك، وإن تره فهذا لا يعني على أنك فاشل، لماذا؟ لأن هناك عوامل كثيرة في طبيعة النفس البشرية، وحكمة الله سبحانه وتعالى، وأشياء كثيرة.. صوارف، وموانع، ومعوقات، فالقضية هي أن تعرف وظيفتك.

النبي صلى الله عليه وسلم دعا ثلاثاً وعشرين سنة، بعض الناس استجاب من أول وهلة، كـخديجة رضي الله عنها، وأبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، هؤلاء من أوائل من أسلم، بينما تأخر إسلام بعض الناس إلى أكثر من عشرين عاماً، كـأبي سفيان ، وسهيل بن عمرو ، وخالد بن الوليد ، فالاستجابة ليست لك.

ولهذا الله عز وجل يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56] لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً [الرعد:31] فالأمر ليس إليك، وهذا النبي صلى الله عليه وسلم مأمور أن يصرح به، ولهذا يقول: إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ [الشعراء:115] ويقول: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ [ص:86] ويقول: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يونس:99].

القضية فعلاً ليست خاضعة لموازين بشرية، وإن كانت هناك -كما سوف نرى بعض أشياء تتعلق بالاستجابة- قضية أنه مهمة الواعظ والمذكر والمربي والموجه والمعلم أن يجتهد في نفسه، لأن وظيفتك أن تعمل، وأن تذكر، وأن تجتهد، لكن النتائج هذه زيادتها ونقصها ليست دليلاً على فشلك، أو نجاحك.

اختيار المواقف للتذكير

الجانب الآخر: يقول الله عز وجل: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى [الأعلى:9] ما معنى ذلك؟

معنى ذلك: أن الإنسان ينبغي أن يتخير في التذكير، ليس معنى: إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى [الأعلى:9] إذا لم تنفع فلا تذكر، لا. لأننا قلنا -قبل قليل- أن النفع ليس إليك، لكن تحر الأوقات، والظروف، والأماكن، والأحوال المناسبة التي تدخل فيها على الناس، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم كان يتخول أصحابه بالموعظة، أي: يتلمس، سواء كان بتخول الظروف، أو باستغلال المناسبات، فقد تكون الموعظة حينما تزور مريضاً أكثر تأثيراً حينما يكون مصاباً، أو على القبر، أو على جنازة، أو مفاجأة حادث، أو أشياء أخرى، هذه أيضاً من التخول.

إذاً: هذا جانب من جوانب التذكير، وهو تخول الظروف، ومحاولة استغلال الظروف، فإن هذه يكون لها أثرها، ولهذا قد يكون عند تجدد النعم، أو عند انصراف النقم، أو حتى عند حلول المصائب، وعند أشياء كثيرة، يتخيرها الإنسان، ويحاول أن يستغل الظرف ليذكر، وحتى الاستغلال ينبغي أن يكون بطريقة لبقة، وبطريقة خفيفة الظل، وبطريقة لا تكون ثقيلة.

فإن كثيراً من مواعظ النبي صلى الله عليه وسلم كانت مجرد كلمات يقولها في المناسبات، لكنه في الأصل كان يتخير المناسبات، مثلاً: حينما كان مع مجموعة من أصحابه عليه الصلاة والسلام، فمروا على شاة، أو سخلة ميتة، أو تيس أسك -أي مقطوع الأذنين- قال: {أرأيتم هذا؟ قالوا: نعم. قال: لماذا ألقاها أهلها أو أصحابها؟ قالوا: لأنها لا قيمة لها، قال: إن الدنيا أهون عند الله من هذه عند أهلها } فلأجل هذه المناسبة، قال هذه الكلمة عليه الصلاة والسلام، استغلالاً للموقف، ومحاولة للتذكير في وقت نفعه: إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى [الأعلى:9].

والتذكير ليس محله المنبر فقط، أو المسجد، أو القاعات الكبرى، بل في أي مناسبة -كما قلنا- قد تزور مستشفى، أو تزور مرضى، أو في تشييع الجنازة، قد يكون حتى بمناسبة أفراح، قد يكون هناك إنسان جاءه شيء يفرحه فتستغل هذه المناسبة، والتذكير ليس بأن تأتي بمأساة في وقت الفرح، فإن هذا ليس من اللباقة، وليس من المفيد، بل في الفرح يكون فرحاً، ويكون استغلالاً للابتلاء بالخير، كما تستغل الابتلاء بالشر.. إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى [الأعلى:9].

عليك ألا تنقطع: فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ [الغاشية:21] وليس عليك القبول.. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية:22].

إذاً: مهمتك أن تذكر، وأن تبين، وأن تجتهد، وأن توضح، وأن تسلك كل مسالك التفكير، وكل مسالك البيان والإيضاح، وتجدد وتطور في أساليبك، وأشياء كثيرة، لكن: إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ [الغاشية:21] وما وراء ذلك ليس إليك.. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية:22] أي: لست مسيطراً على عقولهم.

إذاً: لا شك أن الأمور الأخرى فيما يتعلق بالمنكر، وفيما يتعلق بتوجيه الناس، وفيما يتعلق بما هو من الشرع، كالحدود والتعزيرات.. هذه أشياء أخرى معروفة، لكن لا تتهم نفسك حينما تذكر، ولا تظن أنك أنت مقصر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه يوم القيامة: {يأتي النبي وليس معه أحد } وهو نبي مؤيد بالمعجزات والآيات والنذر، ومع هذا لا يتبع، فكونك لا تتبع، أو لا يستجاب لك، أو تكون الاستجابة ضعيفة؛ ليس اتهاماً لك، ولا أنك مقصر، فمهمتك أن تذكر، ومهمتك -لا شك- أن تراجع نفسك وتحاسبها، مثلاً: بالتذكير، والنظر في الوسائل، والنظر في الأسباب، لكن لا تنتظر الاستجابة، فإن الاستجابة بيد الله عز وجل.

وهنا آيات كثيرة في هذا الباب، يقول الله عز وجل: إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ [فاطر:23] وهنا حصرٌ أيضاً في أن مهمتك النذارة فقط، ويقول: وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ [الأحقاف:9] ويقول: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً [البقرة:119] بشارة ونذارة، لكن: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ [البقرة:119] فليست مسئوليتك أن يهتدي الناس، وليست مسئوليتك أن ترى نتاج عملك، وإن تره فهذا لا يعني على أنك فاشل، لماذا؟ لأن هناك عوامل كثيرة في طبيعة النفس البشرية، وحكمة الله سبحانه وتعالى، وأشياء كثيرة.. صوارف، وموانع، ومعوقات، فالقضية هي أن تعرف وظيفتك.

النبي صلى الله عليه وسلم دعا ثلاثاً وعشرين سنة، بعض الناس استجاب من أول وهلة، كـخديجة رضي الله عنها، وأبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، هؤلاء من أوائل من أسلم، بينما تأخر إسلام بعض الناس إلى أكثر من عشرين عاماً، كـأبي سفيان ، وسهيل بن عمرو ، وخالد بن الوليد ، فالاستجابة ليست لك.

ولهذا الله عز وجل يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56] لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً [الرعد:31] فالأمر ليس إليك، وهذا النبي صلى الله عليه وسلم مأمور أن يصرح به، ولهذا يقول: إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ [الشعراء:115] ويقول: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ [ص:86] ويقول: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يونس:99].

القضية فعلاً ليست خاضعة لموازين بشرية، وإن كانت هناك -كما سوف نرى بعض أشياء تتعلق بالاستجابة- قضية أنه مهمة الواعظ والمذكر والمربي والموجه والمعلم أن يجتهد في نفسه، لأن وظيفتك أن تعمل، وأن تذكر، وأن تجتهد، لكن النتائج هذه زيادتها ونقصها ليست دليلاً على فشلك، أو نجاحك.

الجانب الآخر: يقول الله عز وجل: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى [الأعلى:9] ما معنى ذلك؟

معنى ذلك: أن الإنسان ينبغي أن يتخير في التذكير، ليس معنى: إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى [الأعلى:9] إذا لم تنفع فلا تذكر، لا. لأننا قلنا -قبل قليل- أن النفع ليس إليك، لكن تحر الأوقات، والظروف، والأماكن، والأحوال المناسبة التي تدخل فيها على الناس، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم كان يتخول أصحابه بالموعظة، أي: يتلمس، سواء كان بتخول الظروف، أو باستغلال المناسبات، فقد تكون الموعظة حينما تزور مريضاً أكثر تأثيراً حينما يكون مصاباً، أو على القبر، أو على جنازة، أو مفاجأة حادث، أو أشياء أخرى، هذه أيضاً من التخول.

إذاً: هذا جانب من جوانب التذكير، وهو تخول الظروف، ومحاولة استغلال الظروف، فإن هذه يكون لها أثرها، ولهذا قد يكون عند تجدد النعم، أو عند انصراف النقم، أو حتى عند حلول المصائب، وعند أشياء كثيرة، يتخيرها الإنسان، ويحاول أن يستغل الظرف ليذكر، وحتى الاستغلال ينبغي أن يكون بطريقة لبقة، وبطريقة خفيفة الظل، وبطريقة لا تكون ثقيلة.

فإن كثيراً من مواعظ النبي صلى الله عليه وسلم كانت مجرد كلمات يقولها في المناسبات، لكنه في الأصل كان يتخير المناسبات، مثلاً: حينما كان مع مجموعة من أصحابه عليه الصلاة والسلام، فمروا على شاة، أو سخلة ميتة، أو تيس أسك -أي مقطوع الأذنين- قال: {أرأيتم هذا؟ قالوا: نعم. قال: لماذا ألقاها أهلها أو أصحابها؟ قالوا: لأنها لا قيمة لها، قال: إن الدنيا أهون عند الله من هذه عند أهلها } فلأجل هذه المناسبة، قال هذه الكلمة عليه الصلاة والسلام، استغلالاً للموقف، ومحاولة للتذكير في وقت نفعه: إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى [الأعلى:9].

والتذكير ليس محله المنبر فقط، أو المسجد، أو القاعات الكبرى، بل في أي مناسبة -كما قلنا- قد تزور مستشفى، أو تزور مرضى، أو في تشييع الجنازة، قد يكون حتى بمناسبة أفراح، قد يكون هناك إنسان جاءه شيء يفرحه فتستغل هذه المناسبة، والتذكير ليس بأن تأتي بمأساة في وقت الفرح، فإن هذا ليس من اللباقة، وليس من المفيد، بل في الفرح يكون فرحاً، ويكون استغلالاً للابتلاء بالخير، كما تستغل الابتلاء بالشر.. إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى [الأعلى:9].

قضية أخرى في التذكير: وهي أنه إذا كان خطابنا الأول للمذكِّرين والوعاظ، الآن نأتي إلى المخاطَبين المذكِّرين.

الله عز وجل يقول: فَذَكّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى [الأعلى:9] وبعدها: سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى [الأعلى:10].

إذا كنا تحدثنا قبل قليل عن المذكرين، وقلنا: ينبغي أن يفعلوا كذا وكذا وكذا، الآن نخاطب الذين يستمعون: سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى [الأعلى:10] هنا ينبغي -يا أخي- أن تقف مع نفسك وقفة المحاسب، لماذا تسمع الوعاظ، وتسمع المذكرين، وتتلى عليك آيات الله، وعندك وسائل في المسجد، في الشريط، في الإذاعة، تقرأ كتاباً، تقرأ نشرة، ومع هذا لو راجعت نفسك لوجدت شيئاً من القصور، فعليك أن ترجع إلى نفسك، الله عز وجل يقول: سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى [الأعلى:10] ويقول: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات:55] ما تنفع كل واحد.

ويقول: بسم الله الرحمن الرحيم طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى [طه:1-3].

إذاً: قضية الإيمان وقضية الخشية أشياء داخلية، ويقول: لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً [يس:70] سماها حياة، فالقرآن ينذر من كان حياً.. وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ * لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ [يس:69-70].

إذاً: إذا أردت أن تحاسب نفسك بصدق، وأن تقف موقف المراجع لنفسه أمام وعظ الواعظين، وتذكير المذكرين، ونصح الناصحين، ولهذا أكثر ما قال الأنبياء لأقوامهم: وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ [الأعراف:79] إن القضية خطيرة أيها الإخوة.

أسألكم بالله: إذا مر عليكم عضو الهيئة، أو مر عليكم رجل محسن، أو خير، وقال: يا إخواني الصلاة، أو قال لكم: هذا كذا، أو السنة كذا، بالله هل يتعظ قلبك؟ هل تجد تثاقلاً؟ هذا خطير يا أخي! وقال هود لقومه: وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ [الأعراف:79].

فعليك أن تراجع نفسك -خاصة في وقتنا الحاضر- فكم يمر عليك مسائل خير، وبخاصة في إعلامنا -ولله الحمد- ففيه إيجابيات كثيرة جداً؛ إذاعة القرآن الكريم، برامجنا الدينية والتثقيفية الجميلة، في كثير منها كم يمر عليك، وأنت تفتح السيارة هذه آيات الله تتلى، وهذه مواقف من القرآن، وهذه مواقف من السنة، وهذه مواقف من السيرة، بالله ما اجتهدت أن تقف مع نفسك موقف محاسب! إذا لم يكن ذلك فارجع إلى هذه الآية: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى [الأعلى:9-10] إذا كان في قلبك خشية، وفي قلبك حياة.. لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً [يس:70] وكان لك قلب.. إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق:37] السمع هذا سمع خاص -وسوف نشير إليه بعد قليل- وليس مثل كمن يسمع من أذن ويخرج من أذن أخرى، إنه سمع معين نشير إليه -إن شاء الله- بعد قليل.

إذاً: هذا خطاب للذين يستمعون الذكر ويستمعون التذكير، أن ينظروا في قلوبهم، وينظروا مدى استجابتهم، يقول الله عز وجل: إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ [الأنعام:36] ويقول في الآية التي قبلها: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا [الأنعام:34] هذا كله تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ * وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ [الأنعام:34-35] وهذه تتعلق بـ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ [الغاشية:21]، ولا مانع أن نعيد الكلام فيه.

هذا الخطاب من الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم، مما يدلك: على أن القرآن من عند الله، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم بلغه من عند ربه، حتى الأمور التي تتعلق بشخص النبي صلى الله عليه وسلم، وما يدور في صدره بينها القرآن.

والرسول صلى الله عليه وسلم كان يشق عليه ألاَّ يصدقه قومه، وكان يشق عليه أن يعرض قومه، فقال الله له: وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ [الأنعام:35] إن كان شق عليك أنهم أعرضوا.. وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ [الأنعام:35] ماذا تفعل؟

تصعد إلى السماء لتأتي بآيات، أو تفتح أنفاقاً وتأتي بآيات، هذا ليس إليك، إن مهمتك البلاغ.

سبحان الله! الخطاب القرآني والتجسيد القرآني لموقف النبي صلى الله عليه وسلم من قومه، الرسول صلى الله عليه وسلم كان مشفقاً على قومه، بل حريصاً عليهم يريد أن يسلموا، أولاً: لأنه مقتنع بما جاء به، وهو أيضاً يرسم الطريق للدعاة، وكان يتحرق قلبه عليه الصلاة والسلام في سبيل أن يدخل الناس في دين الله أفواجاً.. وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ [الأنعام:35] إن كان شق عليك أن أعرضوا، ليس بيدك شيء: فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ * الكفار وحالهم مع الاستجابة

يقول تعالى: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الأنفال:22-24].

آيات عجيبة في تجسيد كيفية الاستجابة، ومنهم الذين لا يستجيبون.. إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ [الأنفال:22].

وقد جاء إليَّ سؤال لطيف، قال: الله عز وجل في الذين كفروا: الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ [الأنفال:22] ومعلوم أن الأصم والأبكم ليس مكلفاً، فكيف قال هنا: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ [الأنفال:22]؟

الموضوع -فعلاً- يحتاج إلى وقفة: فإن الصم البكم في الآية ليس معنى ذلك أنه متعطل السمع، أو أنه أبكم بمعنى لا يستطيع أن يتكلم، ولكن المعنى أن عنده آلة سمعٍ، فلم يستعملها، ولم يوظفها في الحق، وعنده عقل، ولم يستعمله، ولهذا قال الله عز وجل في الذين كفروا: وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ [المائدة: 103] وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ [البقرة:170] فما معنى أن الكفار لا يعقلون؟

القضية خطيرة ودقيقة ومهمة في الكفار وفي العصاة، وقد يقول قائل -كما قلنا قبل قليل-: الكفار معهم عقول وعبقريات واكتشافات واختراعات، ووصلوا إلى ما وصلوا إليه باكتشافات مدنية، واكتشافات مادية، وهذا حق، ولا ينكر، ولا يُلغى، بل لو كانوا لا يعقلون لما كانوا مكلفين أصلاً؛ لأن المجنون لا يكلف، والإنسان الذي فقد آلة لا يكلف بأن يؤدي شيئاً بهذه الآلة وهو فاقدها، بل حتى الإنسان لو كان مقطوع اليد وأراد أن يتوضأ فلا يلزمه أن يغسل كتفه أو جنبه ما دام أن اليد مقطوعة إلى المرفق، انتهى المفروض عليه، فكذلك إذا كان معطل الحواس، فليس عليه تكليف، لكن الله عز وجل قال في الكفار: لا يَعْقِلُونَ [المائدة:103] أي: أن عندهم آلة العقل، لكن لم يستعملوها في الاستعمال الصحيح.

ولهذا لو أن إنساناً يمشي وداس رِجل شخصٍ ما فسوف يقال له: ألا ترى؟! لأنه لو كان يرى لما داس، إلا إذا كان متعمداً، بل حتى حادث السيارة، والأشياء الأخرى، فالإنسان حينما يخطئ في تعطيل حاسته سوف تتعطل، مع أن هناك تعطيلاً متعمداً، والإنسان محاسب عليه، ولهذا قال الله عز وجل في الكفار: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف:179] ويقول في آية أخرى: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان:43-44].

إذاً: ليست القضية أنه ليس عنده عقل، ولا سمع، القضية فيها أشياء أخرى، قال تعالى: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً [الفرقان:43] وفي مكان آخر تكلم عن الاستجابة، فقال: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ [القصص:50].

الهوى سبب عدم الاستجابة

إن الصارف عن عقلك وقلبك حتى لا يخشع، وحتى لا يسمع، هو الهوى.

والهوى كلمة واسعة في القرآن، وواسعة في اللغة العربية، فالكفار على عقولهم، وعلى عبقرياتهم، لكن الذي يضلهم هو الهوى، ولا مانع أن ندخل مباشرة ونقول: كل مشكلات العالم الآن، وحقوق الإنسان، وما أدراك ما حقوق الإنسان! والكذب في تطبيق القواعد والقضايا الدولية، سببها اتباع الهوى.. مصالح خاصة، ما معناها؟ معناها اتباع هوى في مقابل الحق، والحق بين واضح أبلج، ومع هذا ينصرفون ويلتوون ويلتفون على النصوص، وعلى القواعد التي رسموها، والقوانين الوضعية التي وضعوها، وكذا وكذا... إلخ، ليس لأنهم لا يعقلون، بل هم الذين وضعوا القانون ويتجاوزونه؛ لأنهم لم يقصدوا الحق، إنما قصدوا الهوى.

إذاً: حينما ترى نفسك لم تستجب حين يعظ الواعظ ويذكر المذكر، اعلم أن السبب هو الهوى، حينما يتكلم الواعظ عن الربا، وتعلم أن الربا حرمه الله ورسوله، لكنك غلبتك نفسك، وغلبك هواك، فأنت -فعلاً- بين نارين، نار الآخرة، ونار حبك الرشوة، وخيانة الأمانة.. تستودع أمانة وتضيعها، لماذا؟ لأنك لعبت، الواعظ يعظك والمذكر على المنبر يبين لك، ومع هذا خنت لماذا؟ لأنه لو كان في قلبك حياة وخشية من الله عز وجل، لتغير الحال.

ولنا أن نقف هنا وقفة طويلة، لأنها مهمة في قضية قال تعالى: إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ [الأنعام:36] إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ [الأنفال:22] كما قال: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا [الأعراف:179] وقال الله: أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الأعراف:179] أضل من الأنعام، كيف؟!

الأنعام خلقها الله سبحانه وتعالى وأعطاها نوعاً من الهدى الذي تقوم به حياتها البسيطة والساذجة، قال تعالى: الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه:50] كيف تحنو على صغارها؟ كيف ترفع رجلها من أجل أن يرضع صغيرها؟ كيف تدافع عن نفسها؟ كيف تهرب حينما ترى ما يؤذي؟ كيف تنطح حينما تشعر أن الإقدام ينفعها؟ كيف تنظر في الأكل وتشمه فإذا نفع أقبلت، وكذلك الماء، وكذلك إذا أقبلت على حفرة، فإنها لا تلقي بنفسها، وإذا أقبلت على شاهق، فإنها لا تؤدي بنفسها، وهكذا.. إذاً عندها قدر معيشي هداها الله سبحانه وتعالى إليه بحيث تعيش ما شاء الله أن تعيش.

الإنسان أرقى من هذا بكثير، فالحيوانات لا يمكن أن تصنع إبرة، ولا يمكن أن تصنع طعاماً، تلقي فمها ثم تأكل فقط، أما ابن آدم فإنه يصنع ويعمل وينتج زراعة وصناعة، وأشياء فوق الخيال، والمباني التي يقيم فيها تتكون من عشرات الأدوار، والحيوان إن حفر له جحراً، وإلا كنَّ في أي سقف أو شق من الأرض.

فليس هناك نسبة بين عقل الإنسان وعقل الحيوان كما هو معروف، لكن لاحظوا كيف أن الإنسان إذا ألغى عقله، لا يزال يتدنى ويتدنى حتى يصل إلى درجة البهيمة، ثم يكون أضل من الأنعام.. أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الأعراف:179] وكما قلنا لكم: إن البهائم تدافع عن نفسها، وتعرف النافع والضار في حدود ما هداها الله.

الإنسان عنده عقل وعنده فهم، ويكتب نشرات صحية.. هذا ممنوع، وهذا اكتشف دواؤه، وهذا قد اكتشفت مضراته، وجراح، وعلماء، وأشياء كثيرة لا شك أنها محل فخر، ويطلب من المسلمين أن يصلوا إلى هذه الأمور ويتفوقوا عليها، وليس هناك إشكال، لكن كيف هذا العبقري، وهذا المكتشف، وهذا المحذر، وهذا المنبه قليلاً قليلاً إلا وقد غلبه هواه، فاقتحم ما يضره؟!

أمثلة لاتباع الهوى

نبدأ في قضية التدخين: قبل ثلاثين سنة كان التدخين يمكن أن يظن أنه يضر، أو لا يضر، أو حرام، أو ليس بحرام، أي أن أضرار التدخين لم تكن متبلورة ولا واضحة، أما الآن فقد أجمع الأطباء والعلماء، وأجمع العالم على أنه ضار، ووضعوا الملصقات، بل حتى وسائل المكافحة أنه ضار بالاتفاق، ومع هذا يقدم الإنسان على التدخين!

لو أنك وضعت طعاماً متعفناً أمام بهيمة، هل يمكن أن تأكله؟ لن تأكله سوف تقترب منه ثم تكف مباشرة، أما ابن آدم فيقول: هذا ضار، وهذا ممنوع، ومع هذا يستمر.. في هذه الحالة ألا يكون أضل من بهائم الأنعام؟ بهيمة الأنعام تصل إلى حال أنها تترك الضار، أما الإنسان فمع علمه أنه ضار ولكن يتعاطاه.

هناك قضية أشد: الخمر أضراره والأمراض التي يسببها متفق عليها، سواء في الرئة، أو في الكبد، أو في المعدة...، والأطم والأطم المخدرات! كيف البلاء بالمخدرات؟ حينما ترى صاحبها -نسأل الله السلامة- يقع بشكل مزري، ولو كان هناك تضليل أكثر من الأنعام فإنه يستحقه.. يضيع ماله، ويضيع عقله، بل -يا إخواني- إنه مستعد أن يضيع عرضه -نسأل الله السلامة- فإن من لا يستطيعون أن يحصلوا على المخدر مستعدون أن يبذلوا كل شيء حتى عرض زوجته وعرض ابنته -نسأل الله العافية والسلامة- إلى هذه الدرجة يصل الإنسان!!

إذاً: فعلاً لا يتذكر إلا من له قلب، واستعمل عقله، وما أعطاك الله العقل إلا لتتميز به، وإن لم تتميز به صرت بهيمة، وأشد من البهيمة.

نأتي إلى جانب الكفار.. الكفار -فعلاً- اكتشفوا ما اكتشفوا، وصنعوا ما صنعوا، لكنهم ضلوا حتى ضروا أنفسهم.. نِسب الانتحار عندهم أشد، نِسب الطلاق وتفكك الأسر أشد وأشد، عندهم العيادات النفسية بشكل عجيب، لماذا؟

لأنهم لم يأخذوا إلا بالجانب المادي فقط، بل وأفسدوا الجانب القلبي، والجانب الديني، والضمير؛ لأنه لا تأتي هذه إلا عن طريق التذكير والتعليمات الدينية الصحيحة، فالله عز وجل يقول: لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً [يس:70] ويقول: إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى [طه:3] إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ [الأنعام:36].. إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الأنفال:22-23].. فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [فاطر:8].

نأتي إلى قضية أخرى: إذا كان هذا هو التذكير، ووظيفة المذكر أن يبين للناس ويجتهد، ويتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يبذل ما يبذل، ويشق عليه ضلال قومه، حتى قال الله له: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ [الكهف:6] لكن ينبغي أن يعرف وظيفته: إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية:21-22].. أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يونس:99].

الجانب الثاني: ينبغي على المتذكرين والموعوظين والمنصوحين أن يراجعوا قلوبهم، ويراجعوا أنفسهم، لماذا لا يستفيدون؟

إذاً: القضية فيها وفيها، وأكثر ما فيها -يا إخواني- الهوى، والله لا يصرف الإنسان عن الخير إلا الهوى.. سواء كان هوىً وظيفي، أو هوىً مالي، أو هوىً زوجي، أو هوى الأولاد: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [التغابن:15].. زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [آل عمران:14].

إذاً: هذا هو المذكر، وهؤلاء هم المذكَّرون.


استمع المزيد من الشيخ صالح بن حميد - عنوان الحلقة اسٌتمع
حق الطريق وآداب المرور 3701 استماع
وسائل الإعلام والاتصال بين النقد الهادف والنقد الهادم 3092 استماع
اللغة .. عنوان سيادة الأمة 3073 استماع
الطلاق وآثاره 3020 استماع
لعلكم تتقون 3005 استماع
الماء سر الحياة 2961 استماع
من أسس العمل الصالح 2937 استماع
الزموا سفينة النجاة 2886 استماع
قضية البوسنة والهرسك.. المشكلة والحل 2875 استماع
بين السلام وإباء الضيم 2855 استماع