فقه الأسرة [5]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فالموضوع هو ما يتعلق بفرق النكاح, والفرق جمع (فرقة) وهي ما يقع به التفريق بين الزوجين، وما يقع به التفريق بين الزوجين ثلاثة أقسام:

القسم الأول: ما كان ناشئاً عن تصرف الزوج، وهذا يشمل الطلاق، وما يتعلق به.

القسم الثاني: ما كان ناشئاً عن تصرف الزوجة، وهذا يشمل الأخذ بالخيار والخلع، والأخذ بالشرط أيضاً عند القائلين به.

القسم الثالث: ما كان ناشئاً عن تصرف القاضي، أي: بتفريق القاضي بين الزوجين.

أما القسم الأول، وهو ما يتعلق بتصرف الزوج؛ فإن الله سبحانه وتعالى جعل الطلاق بيد الزوج، وقد صرح بذلك النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ( إنما الطلاق في يد من يرفع الساق )، وذلك أن الطلاق يهدم هذا البيت الذي سبق ما ورد من النصوص الشرعية في الحفاظ عليه والحفاظ على بنائه، وجعل هذا العقد ميثاقاً غليظاً، وقد سبق الإكثار من النصوص في هذا الباب واعتناء الشريعة الإسلامية به؛ ولذلك لا يمكن أن يوضع مصير هذا البيت وهذه الأسرة بيد من يتأثر بالعواطف، وبيد من لا يقدر الأمور ولا يتعقل في عواقبها ونتائجها ونهاياتها؛ لأجل كل ذلك لم يجعل الله الطلاق بيد النساء وإنما جعله بيد الأزواج.

وحدد له كثيراً من الحدود والضوابط فلم يبحه إلا في الأوقات التي تستدعي استمرار النكاح، فقد حرم الشارع الطلاق في وقت الحيض والنفاس؛ لأنه وقت لا يرغب فيه الزوج في معاشرة أهله، وهي محرمة عليه في ذلك الوقت، وحرمه كذلك في الطهر الذي مسها فيه؛ لأنه في ذلك الطهر قد قضى أربه، فإذاً: لا بد أن يكون الطلاق واحدة في طهر لم يمس فيه فهذا هو الطلاق السني، وما سواه معصية لله سبحانه وتعالى وهو الطلاق البدعي.

فالأوقات التي فيها استدعاء للتقزز أو الملل لم يبح الشارع الطلاق فيها، كالطهر الذي مس فيه، وكالحيض والنفاس، وإنما أباحه في حالين كلاهما يدعو الإنسان إلى الاستمرار:

الحال الأول: ما إذا كانت حاملاً فيجوز له أن يطلقها، وهذا الحال فيه ما يدعو إلى عدم الفراق؛ لأن الإنسان مجبول على الرحمة والرفق وبالأخص فيما يتعلق بأولاده؛ فلذلك الحمل وقتاً مباحاً للفرقة؛ لأنها لا تقع إلا عندما تشتد دواعيها فيه، وكذلك الطهر الذي لم يمسها فيه فهو أيضاً داع إلى عدم الفرقة فلذلك أحل له الفراق فيه عندما تشتد دواعيه.

صيغ الطلاق

الطلاق كغيره يحتاج إلى صيغة، وصيغته تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

إلى صرائح وكنايات وألفاظ تصرف إليه بالنيات.

فالقسم الأول: صريح الطلاق، وهو أن يقول لها: طلقتك أو فارقتك، أو نحو ذلك مما يدل على فصال العصمة.

القسم الثاني: كنايات الطلاق كما إذا قال لها: الحقي بأهلك، أو قال لها: اعتدي أو نحو ذلك.

والقسم الثالث: ما ينصرف إلى الطلاق بالنية، إذا نوى به الطلاق حصل، وهذا توسع فيه بعض الفقهاء فرأوا أنه إذا نواه بأي لفظ حصل الطلاق، وهذا مذهب المالكية فقد نصوا على أنه إذا نوى الطلاق بأن تسقيه الماء حصل الطلاق، ولو نواه بما لا يدل؛ كلغة لا يعرفها أو ككلام ليس مستعمل في أية لغة، كما إذا حاكى صوت نهيق الحمار أو غير ذلك من الأصوات ونوى به الطلاق فقد اختلف هل يلزم به أم لا؟ لأن النية وحدها لا يلزم بها الطلاق، فلا بد أن يدل شيء على التصرف لأن الطلاق إيقاع، والإيقاع لا بد أن يظهر على بوقه فيما يدل عليه، ومجرد النية لا يحصل بها الطلاق، وهذا قطعاً للوساوس والظنون التي تصير لدى الإنسان؛ فكثير من الناس موسوس فإذا فكر في الأمر ظن أنه قد أوقعه فلم يعتبر الشارع من ذلك إلا ما صرح به وأعلنه.

وقد ندب الشارع إلى الإشهاد على الطلاق فقال الله تعالى: وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ [الطلاق:2].

وصريح الطلاق ينصرف في الأصل إلى العدد المحدد فيه كما إذا قال في تصريحه: طلقتك واحدة مثلاً أو اثنتين أو ثلاثاً فإنه ينصرف إلى العدد الذي حدده، وقالت طائفة من أهل العلم: بل ينصرف إلى الواحدة إذا كان دفعة وبلفظ واحد، أما إذا كان في مجالس فبالإجماع أنه يقع، إلا إذا كان بصيغة تدل على التنكير، كما إذا طلقها في مجلس، ثم أخبر أنه طلقها في مجلس آخر فهذا يحمل على الخبر والتأكيد لا على التأسيس والإنشاء.

حكم الطلاق

يكره للإنسان أن يطلق على غير أساس؛ فالإنسان لا يطلق لمجرد انتهاء أربه وانتهاء غرضه فهذا من المكروهات؛ لأنه يدل على أنه لم يتزوج أصلاً ابتغاء النيات السابقة، فلا يطلق الإنسان إلا على أساساً معقولاً، وسبباً موضوعياً للطلاق، كما إذا حصل نقص في الدين أو في الخلق، أو حصل إيذاء لا يستطيع تحمله والاستمرار عليه، أو أيقن أن البيت لا يمكن أن يستمر بناءه؛ فهذا الذي يبيح الطلاق؛ ولذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في سنن أبي داود وغيره أنه قال: ( أبغض الحلال إلى الله الطلاق )، وحمل أهل العلم ذلك على ما ليس له سبب؛ لأن ما كان ذا سبباً من الطلاق فإن الله شرعه وجعله حلاً للمشكلات فهو غير بغيض إليه حين أذن فيه، وما لم يكن له سبب فهو وإن كان من حيز المباح لأنه من تصرفات الإنسان، والإنسان لا يكره على شئونه الخاصة ووجدانياته، لكن مع ذلك هو أبغض الحلال إلى الله عز وجل.

وصيغة (أفعل) هنا وهي: (أبغض) بما أنها أضيفت إلى الحلال لا تدل على التحريم، فصيغة (أفعل) تدل على التكثير والزيادة؛ لأنها صيغة مبالغة وتفضيل، لكن يتصل ذلك بما أضيفت إليه وبما يأتي بعد (من) فإذا قيل: فلان أعدل الناس، فالمقصود بذلك بحسب الإمكان، بحسب ما يطلع عليه، وإذا قيل: أطول الناس فبحسب ما يطلع عليه أيضاً أو بحسب الإمكان، وإذا قيل: أبغض كل مبغوض فيدل هذا على تحريمه؛ لأنه داخل في المبغوض وهو منه وهو أشده بغضاً، لكن إذا أضيف ذلك إلى الحلال فقيل: أبغض الحلال؛ دل هذا على أنه لا يقصد به التحريم، ولكنه أدنى الحلال إلى الحرام فهو أقربه إليه؛ ولذلك حمله بعض العلم على الكراهة. وعموماً ذكر عدد من أهل العلم أن الطلاق بغير سبب شبهة، والشبهات نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الحلال بين وإن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمىً، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب ).

وقد اختلف العلماء في معنى (الشبهات) على ستة أقوال:

القول الأول: أن الشبهة هي: ما التبس فيه الحلال بالحرام، أي: ما اختلط فيه الحلال بالحرام كالمال الذي بعض أصله حلال وبعض أصله حرام فهذا شبهة.

القول الثاني: أن الشبهة هي: ما تعارضت فيه الأدلة، أي: ما جاء من الأدلة في الشرع ما يبيحه وجاء من الأدلة في الشرع ما يحرمه، فيكون محل تردد عند تعارض الأدلة.

القول الثالث: أن الشبهة هي: ما اختلف فيه أهل العلم، أي: ما اختلف أهل العلم في حكمه، فكل مسألة خلاف بين الإباحة والتحريم هي محل شبهة يأخذ فيها الإنسان بالاحتياط، والاحتياط هو الأخذ بالأشد، أي: بأشد ما قيل.

القول الرابع: أن الشبهة هي: المكروهات؛ لأنها بين الحلال والحرام، فلا هي حلال مطلقاً، ولا هي حرام كذلك يعاقب فاعله، بل هي منهي عنها نهياً غير جازم.

القول الخامس: أن الشبهة هي: ما لم يرد فيه نص، أي: ما سكت عنه، وهذا القول ضعيف عند كثير من أهل العلم؛ لأن ما سكت عنه ورد فيه حديث أنه مما أذن فيه، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( وما سكت عنه فهو مما عفا عنه )، لكن هذا الحديث في إسناده ضعف، وعليه فلا يكون فاصلاً في محل الخلاف، ولو صح هذا الحديث لفصل في محل الخلاف، لكنه لم يصح، ومع ذلك فلهذا الحديث شاهد آخر، لكن الشاهد إنما يشهد لإثبات السكوت لله تعالى ولا يثبت أنه من العفو، و ذلك الشاهد هو قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان؛ فلا تبحثوا عنها )، فهذا الشاهد صحيح لكنه يثبت صفة السكوت لله تعالى، ويدل على أن من الأحكام ما هو مسكوت عنه، لكنه لا يقتضي أن ما سكت عنه دائماً من المباح.

القول السادس: أن الشبهة هي: ما جهل الإنسان حكمه؛ فكل أمر لم يعلم الإنسان حكمه بعد وتردد في نفسه فهو شبهة بالنسبة إليه، ومحل هذا إن كان الإنسان من أهل العلم وطلبه، فإن كان جاهلاً به لم يكن لجهله وتردده أي تأثير؛ ولذلك فإن رد النبي صلى الله عليه وسلم لسؤال وابصة بن معبد رضي الله عنه وغيره عندما سألوه عن البر والإثم؟ فأحال فيه إلى النفس، وهذه الإحالة إنما تختص بأهل الفقه والورع؛ فمن كان من أهل الفقه والورع، وهو الذي يكره أن يطلع الناس على تصرف منه غير مرضي، فهو الذي يستفتي قلبه، أما من كان من أهل الفسق ولم يكن من أهل العلم فكيف يستفتي قلبه؟! ولو استفتى قلبه لأحب له كل شيء! فلذلك المرجع في استفتاء القلب إلى من كان من أهل الورع ومن أهل العلم.

الطلاق كغيره يحتاج إلى صيغة، وصيغته تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

إلى صرائح وكنايات وألفاظ تصرف إليه بالنيات.

فالقسم الأول: صريح الطلاق، وهو أن يقول لها: طلقتك أو فارقتك، أو نحو ذلك مما يدل على فصال العصمة.

القسم الثاني: كنايات الطلاق كما إذا قال لها: الحقي بأهلك، أو قال لها: اعتدي أو نحو ذلك.

والقسم الثالث: ما ينصرف إلى الطلاق بالنية، إذا نوى به الطلاق حصل، وهذا توسع فيه بعض الفقهاء فرأوا أنه إذا نواه بأي لفظ حصل الطلاق، وهذا مذهب المالكية فقد نصوا على أنه إذا نوى الطلاق بأن تسقيه الماء حصل الطلاق، ولو نواه بما لا يدل؛ كلغة لا يعرفها أو ككلام ليس مستعمل في أية لغة، كما إذا حاكى صوت نهيق الحمار أو غير ذلك من الأصوات ونوى به الطلاق فقد اختلف هل يلزم به أم لا؟ لأن النية وحدها لا يلزم بها الطلاق، فلا بد أن يدل شيء على التصرف لأن الطلاق إيقاع، والإيقاع لا بد أن يظهر على بوقه فيما يدل عليه، ومجرد النية لا يحصل بها الطلاق، وهذا قطعاً للوساوس والظنون التي تصير لدى الإنسان؛ فكثير من الناس موسوس فإذا فكر في الأمر ظن أنه قد أوقعه فلم يعتبر الشارع من ذلك إلا ما صرح به وأعلنه.

وقد ندب الشارع إلى الإشهاد على الطلاق فقال الله تعالى: وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ [الطلاق:2].

وصريح الطلاق ينصرف في الأصل إلى العدد المحدد فيه كما إذا قال في تصريحه: طلقتك واحدة مثلاً أو اثنتين أو ثلاثاً فإنه ينصرف إلى العدد الذي حدده، وقالت طائفة من أهل العلم: بل ينصرف إلى الواحدة إذا كان دفعة وبلفظ واحد، أما إذا كان في مجالس فبالإجماع أنه يقع، إلا إذا كان بصيغة تدل على التنكير، كما إذا طلقها في مجلس، ثم أخبر أنه طلقها في مجلس آخر فهذا يحمل على الخبر والتأكيد لا على التأسيس والإنشاء.

يكره للإنسان أن يطلق على غير أساس؛ فالإنسان لا يطلق لمجرد انتهاء أربه وانتهاء غرضه فهذا من المكروهات؛ لأنه يدل على أنه لم يتزوج أصلاً ابتغاء النيات السابقة، فلا يطلق الإنسان إلا على أساساً معقولاً، وسبباً موضوعياً للطلاق، كما إذا حصل نقص في الدين أو في الخلق، أو حصل إيذاء لا يستطيع تحمله والاستمرار عليه، أو أيقن أن البيت لا يمكن أن يستمر بناءه؛ فهذا الذي يبيح الطلاق؛ ولذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في سنن أبي داود وغيره أنه قال: ( أبغض الحلال إلى الله الطلاق )، وحمل أهل العلم ذلك على ما ليس له سبب؛ لأن ما كان ذا سبباً من الطلاق فإن الله شرعه وجعله حلاً للمشكلات فهو غير بغيض إليه حين أذن فيه، وما لم يكن له سبب فهو وإن كان من حيز المباح لأنه من تصرفات الإنسان، والإنسان لا يكره على شئونه الخاصة ووجدانياته، لكن مع ذلك هو أبغض الحلال إلى الله عز وجل.

وصيغة (أفعل) هنا وهي: (أبغض) بما أنها أضيفت إلى الحلال لا تدل على التحريم، فصيغة (أفعل) تدل على التكثير والزيادة؛ لأنها صيغة مبالغة وتفضيل، لكن يتصل ذلك بما أضيفت إليه وبما يأتي بعد (من) فإذا قيل: فلان أعدل الناس، فالمقصود بذلك بحسب الإمكان، بحسب ما يطلع عليه، وإذا قيل: أطول الناس فبحسب ما يطلع عليه أيضاً أو بحسب الإمكان، وإذا قيل: أبغض كل مبغوض فيدل هذا على تحريمه؛ لأنه داخل في المبغوض وهو منه وهو أشده بغضاً، لكن إذا أضيف ذلك إلى الحلال فقيل: أبغض الحلال؛ دل هذا على أنه لا يقصد به التحريم، ولكنه أدنى الحلال إلى الحرام فهو أقربه إليه؛ ولذلك حمله بعض العلم على الكراهة. وعموماً ذكر عدد من أهل العلم أن الطلاق بغير سبب شبهة، والشبهات نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الحلال بين وإن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمىً، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب ).

وقد اختلف العلماء في معنى (الشبهات) على ستة أقوال:

القول الأول: أن الشبهة هي: ما التبس فيه الحلال بالحرام، أي: ما اختلط فيه الحلال بالحرام كالمال الذي بعض أصله حلال وبعض أصله حرام فهذا شبهة.

القول الثاني: أن الشبهة هي: ما تعارضت فيه الأدلة، أي: ما جاء من الأدلة في الشرع ما يبيحه وجاء من الأدلة في الشرع ما يحرمه، فيكون محل تردد عند تعارض الأدلة.

القول الثالث: أن الشبهة هي: ما اختلف فيه أهل العلم، أي: ما اختلف أهل العلم في حكمه، فكل مسألة خلاف بين الإباحة والتحريم هي محل شبهة يأخذ فيها الإنسان بالاحتياط، والاحتياط هو الأخذ بالأشد، أي: بأشد ما قيل.

القول الرابع: أن الشبهة هي: المكروهات؛ لأنها بين الحلال والحرام، فلا هي حلال مطلقاً، ولا هي حرام كذلك يعاقب فاعله، بل هي منهي عنها نهياً غير جازم.

القول الخامس: أن الشبهة هي: ما لم يرد فيه نص، أي: ما سكت عنه، وهذا القول ضعيف عند كثير من أهل العلم؛ لأن ما سكت عنه ورد فيه حديث أنه مما أذن فيه، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( وما سكت عنه فهو مما عفا عنه )، لكن هذا الحديث في إسناده ضعف، وعليه فلا يكون فاصلاً في محل الخلاف، ولو صح هذا الحديث لفصل في محل الخلاف، لكنه لم يصح، ومع ذلك فلهذا الحديث شاهد آخر، لكن الشاهد إنما يشهد لإثبات السكوت لله تعالى ولا يثبت أنه من العفو، و ذلك الشاهد هو قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان؛ فلا تبحثوا عنها )، فهذا الشاهد صحيح لكنه يثبت صفة السكوت لله تعالى، ويدل على أن من الأحكام ما هو مسكوت عنه، لكنه لا يقتضي أن ما سكت عنه دائماً من المباح.

القول السادس: أن الشبهة هي: ما جهل الإنسان حكمه؛ فكل أمر لم يعلم الإنسان حكمه بعد وتردد في نفسه فهو شبهة بالنسبة إليه، ومحل هذا إن كان الإنسان من أهل العلم وطلبه، فإن كان جاهلاً به لم يكن لجهله وتردده أي تأثير؛ ولذلك فإن رد النبي صلى الله عليه وسلم لسؤال وابصة بن معبد رضي الله عنه وغيره عندما سألوه عن البر والإثم؟ فأحال فيه إلى النفس، وهذه الإحالة إنما تختص بأهل الفقه والورع؛ فمن كان من أهل الفقه والورع، وهو الذي يكره أن يطلع الناس على تصرف منه غير مرضي، فهو الذي يستفتي قلبه، أما من كان من أهل الفسق ولم يكن من أهل العلم فكيف يستفتي قلبه؟! ولو استفتى قلبه لأحب له كل شيء! فلذلك المرجع في استفتاء القلب إلى من كان من أهل الورع ومن أهل العلم.

ثم إن هذا الطلاق وهذا الفصل الذي يقع من الزوج أيضاً قد يكون لسبب من أسباب الخيار، وأسباب الخيار هي ما يمنع استمرار النكاح لعيب قديم أو مرض عارض، فالعيب القديم منه ما يمنع التمتع أو كمال اللذة، وذلك منصوص في عيوب الخيار كالعدد والرتق والأعضاء، ومنه أمراض طارئة متجددة كالبرص والجنون والهيام؛ فهي سبب كذلك للخيار، وهذا الخيار فائدته أنه إذا اختار الفراق بسبب هذا العذر الحاصل فإنه يستحق حينئذ الفصل بين اللواحق ولوازم، وإذا طلق فإنه تلزمه النفقة والسكنى إلى خروجها من العدة.

أما القسم الثاني وهو ما كان بيد المرأة فمنه الخلع، والخلع هو: الطلاق بعوض عند المالكية وطائفة من أهل العلم، وقال جمهور أهل العلم: الخلع فسخ وليس طلاقاً؛ لأن الله تعالى عده مستقلاً عن أنواع الطلاق، فالله تعالى لما عد أنواع الطلاق في سورة البقرة قال: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228]، فهذا الطلاق الأول، ثم قال بعدها: الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [البقرة:229]، ثم ذكر الخلع بعد الطلاق مرتين فقال: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ [البقرة:229]، ثم ذكر بعد ذلك الطلاق الثالث فقال: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة:230]، فتدل هذه الآيات بسياقها على أن الخلع غير داخل في الطلقات الثلاث، وقد حصل الإجماع على أن الطلاق أقصاه ثلاث؛ فإذاً: تدل هذه الآيات على أن الخلع غير طلاق وإنما هو فسخ مستقل. وهذا الخلاف يترتب عليه مسائل:

منها: أنه إذا كان فسخاً فلا تلزم به العدة الكاملة، بل تعتد منه بطهر واحد، أي: بحيضة واحدة، فإن طهرت منها فقد انتهت عدتها؛ لأنه استبراء فقط كالفسخ.

وكذلك يترتب عليه أنه لا يعد في الطلقات الثلاث، فلو طلقها مرتين ثم خالعته، ثم بعد ذلك تزوجها بعقد جديد فقد بقيت له طلقة وتحل له دون زوج، والذين يرون أنه طلاق يرون ذلك جميعاً غير صحيح فلا يرون له مراجعتها إلا بعد أن تنكح زوجاً ويدخل بها ويطلقها، ويرون أنه لا بد فيه من عدة كاملة كعدة الطلاق.

والخلع طبقة النبي صلى الله عليه وسلم على ثابت بن قيس بن شماس وزوجته جميلة بنت عبد الله بن أبي بن سلول الأنصاري رضي الله عنهما وقد شكت الرسول صلى الله عليه وسلم فقالت: ( يا رسول الله! إني لا أنقم على ثابت في دين ولا مروءة، ولكني أكره العودة إلى الكفر بعد أن أنقذني الله منه )، وهي هنا تشكو إليه حال هذا الرجل فلا تنقم عليه في دين ولا خلق، ولكنها تكره كراهة شديدة ككراهة الكفر، ( فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألها عن صداقها فأخبرت أنه أصدقها حديقة من النخل، فقال: ردي عليه الحديقة وطلقها تطليقة )، وهذا الحديث هو أقوى أدلة المالكية على أن الخلع طلاقاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يطلقها تطليقه واحدة فقال: (ردي عليه الحديقة، وطلقها تطليقة)، فدل هذا على أن الخلع طلاق.

مقدار ما يحصل به الخلع

أيضاً اختلف أهل العلم فيما يحصل به الخلع، فذهبت طائفة منهم: إلى أنه لا يحل بأكثر مما أصدقها؛ لما في ذلك من نقص المروءة؛ لأن الرجل إذا كان يتزوج فيدفع في صداقه شيئاً يسيراً، ثم يزعج امرأته حتى تخالعه بأكثر مما دفع إليها فكأنه يتكسب من ذلك، وهذا نقص في المروءة وعيب في الخلق، فقالوا: لا يحل له أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ردي عليه الحديقة وطلقها تطليقه ).

وقالت طائفة أخرى: بل الخلع كالصداق، فيجوز إلى غير نهاية، فما اتفقا عليه فهو الخلع؛ لأن المرجع هنا إلى رضاه هو، ولا يحل التفريق بينهما إلا برضاه، ورضاه إنما يحصل إلا بما يخرجه من هذا الأمر، ولا يخرجه منه إلا ما رضي به وقبله؛ فلذلك لا بد من الرضا، وأقله هو المتمول، فلو أعطته ما لا نفع فيه لقلته كحبة واحدة من الرز مثلاً، فقالت: طلقني على هذا، فإن رآه وقبله كان طلاقاً ولم يكن خلعاً، وإن لم يره كأن قالت: طلقني على ما في يدي هذه، وكان في يدها حبة واحدة من الأرز فلا يقع الخلع ولا الطلاق؛ لأن ما في يدها غير متمول لقلته، وكذلك ما إذا ما كان في يدها لا نفع فيه أصلاً كالذبابة مثلاً، فإذا أمسكت ذبابة في يدها وقالت: طلقني على ما في يدي؛ فقال: طلقتك، فإذا هو ذبابة فلا يلزم الطلاق ولا الخلع؛ لأن ما في يدها غير متمول ولا مملوك، لكن إذا رأى ما في يدها فرضي به وقال: (طلقتك) كان ذلك طلاقاً لا خلعاً كما سبق.

والفرق بين الطلاق والخلع أن الخلع دائماً طلاق بائن، وأما الطلاق إذا قال لها: (طلقتك) ففي هذه الحالة؛ فهو طلاق رجعي له أن يرتجع ما دامت في عدتها، بخلاف الخلع فليس له ذلك فيه.

والخلع هو الذي سماه الله (فداءً) في القرآن فقال: فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ [البقرة:229]، وهذه الآية ليس فيها تحديد بالقدر الذي يفتدى به، ليس فيها تحديد للأدنى ولا للأعلى؛ لأنه قال: فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ [البقرة:229]، و (ما) من ألفاظ العموم، وهي مبهمة فتدل على أن الخلع يحصل بكل ما يرضى هو بالفداء به قل أو كثر.

والذين يرون أن للخلع فسخ - كما سبق - يرون أنها إذا خالعته فقبل الخلع على شيء مجهول فإن الخلع يقع، ولكن يلزمها هي خلع مثلها، وإذا خالعته على شيء فاستحق فإن الخلع لازم، ولكن يلزمها هي قيمة المستحق كما إذا خالعته على جمل أو سيارة فخوصم فيها فظهر أن الجمل أو السيارة ليس لها، فحينئذ يلزم عليها أن تعطيه ما خالعته عليه، وكذلك إذا خالعته على عصير فتبين خمراً مسكراً فيلزمها قيمته، أي: قيمته ولو كان عصيراً؛ لأنه تبين أنه ليس متمول، وكذلك إذا خالعته على كبش فظهر خنزيراً مثلاً فإنه تلزمها قيمة الكبش.

أيضاً اختلف أهل العلم فيما يحصل به الخلع، فذهبت طائفة منهم: إلى أنه لا يحل بأكثر مما أصدقها؛ لما في ذلك من نقص المروءة؛ لأن الرجل إذا كان يتزوج فيدفع في صداقه شيئاً يسيراً، ثم يزعج امرأته حتى تخالعه بأكثر مما دفع إليها فكأنه يتكسب من ذلك، وهذا نقص في المروءة وعيب في الخلق، فقالوا: لا يحل له أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ردي عليه الحديقة وطلقها تطليقه ).

وقالت طائفة أخرى: بل الخلع كالصداق، فيجوز إلى غير نهاية، فما اتفقا عليه فهو الخلع؛ لأن المرجع هنا إلى رضاه هو، ولا يحل التفريق بينهما إلا برضاه، ورضاه إنما يحصل إلا بما يخرجه من هذا الأمر، ولا يخرجه منه إلا ما رضي به وقبله؛ فلذلك لا بد من الرضا، وأقله هو المتمول، فلو أعطته ما لا نفع فيه لقلته كحبة واحدة من الرز مثلاً، فقالت: طلقني على هذا، فإن رآه وقبله كان طلاقاً ولم يكن خلعاً، وإن لم يره كأن قالت: طلقني على ما في يدي هذه، وكان في يدها حبة واحدة من الأرز فلا يقع الخلع ولا الطلاق؛ لأن ما في يدها غير متمول لقلته، وكذلك ما إذا ما كان في يدها لا نفع فيه أصلاً كالذبابة مثلاً، فإذا أمسكت ذبابة في يدها وقالت: طلقني على ما في يدي؛ فقال: طلقتك، فإذا هو ذبابة فلا يلزم الطلاق ولا الخلع؛ لأن ما في يدها غير متمول ولا مملوك، لكن إذا رأى ما في يدها فرضي به وقال: (طلقتك) كان ذلك طلاقاً لا خلعاً كما سبق.

والفرق بين الطلاق والخلع أن الخلع دائماً طلاق بائن، وأما الطلاق إذا قال لها: (طلقتك) ففي هذه الحالة؛ فهو طلاق رجعي له أن يرتجع ما دامت في عدتها، بخلاف الخلع فليس له ذلك فيه.

والخلع هو الذي سماه الله (فداءً) في القرآن فقال: فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ [البقرة:229]، وهذه الآية ليس فيها تحديد بالقدر الذي يفتدى به، ليس فيها تحديد للأدنى ولا للأعلى؛ لأنه قال: فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ [البقرة:229]، و (ما) من ألفاظ العموم، وهي مبهمة فتدل على أن الخلع يحصل بكل ما يرضى هو بالفداء به قل أو كثر.

والذين يرون أن للخلع فسخ - كما سبق - يرون أنها إذا خالعته فقبل الخلع على شيء مجهول فإن الخلع يقع، ولكن يلزمها هي خلع مثلها، وإذا خالعته على شيء فاستحق فإن الخلع لازم، ولكن يلزمها هي قيمة المستحق كما إذا خالعته على جمل أو سيارة فخوصم فيها فظهر أن الجمل أو السيارة ليس لها، فحينئذ يلزم عليها أن تعطيه ما خالعته عليه، وكذلك إذا خالعته على عصير فتبين خمراً مسكراً فيلزمها قيمته، أي: قيمته ولو كان عصيراً؛ لأنه تبين أنه ليس متمول، وكذلك إذا خالعته على كبش فظهر خنزيراً مثلاً فإنه تلزمها قيمة الكبش.

كذلك من الفرق التي تكون في تصرف المرأة ما يتعلق أيضاً بأخذها بالخيار، فإذا ظهر في الزوج عيب من العيوب كما إذا ظهر عنيناً فحيل بينه وبينها، فرفعت ذلك إلى القاضي فلها الخيار حينئذ؛ لأن هذا المرض سابق على النكاح فإن عرض له من جديد فإنه يودي المعترض سنة للعلاج، وهذه السنة تكون شمسية حتى تمر فيها الفصول الأربعة، وهذان الموضعين في الفقه تعتبر فيهما السنة الأعجمية، أي: السنة الشمسية، هما: خروج الساعي وتأجيل المعترض، فقط هذا الذي تعتبر فيه السنة شمسية، وما سوى ذلك كله الاعتبار فيه بالسنة القمرية.

وكذلك إذا ظهر به مرض من الأمراض السابقة كالبرص والجنون والجذام، فذلك سبب لخيارها، فإن علمت بذلك فلم تختر ولم ترفع أمرها فقد بطل خيارها، ولم يكن لها التراجع.

كذلك إذا خيرها هو في الطلاق فاختارت الفرقة واختارت الطلاق فقد اختلف في ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أقوال:

القول الأول: أن مجرد التخيير طلقة واحدة رجعية، وإن اختارت الفراق كان ذلك طلقة أخرى.

القول الثاني: أن مجرد التخيير لا يلزم به شيء، فإن اختارت الفراق كان طلقة واحدة رجعية.

القول الثالث: إنه إن خيرها فاختارت الفراق كان ثلاثاً بائنة.

القول الرابع: أنه إن خيرها فاختارت الطلاق كان طلقة واحدة بائنة، لا تحل له إلا إذا عقد عليها من جديد.

ولعل أرجح هذه الأقوال ما ذهب إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه إذا خيرها فاختارت الفراق فقد فصلت عصمتها بثلاث، وإن خيرها فلم تختر شيئاً أو اختارت واحدة أو اثنتين بطل خيارها وبقيت كما كانت لم ينفصل شيء من عصمتها.

وللزوج التخيير في كل الأحوال، وقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بتخيير نسائه فقال: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب:28-29]، وقد بدأ النبي صلى الله عليه وسلم بـعائشة رضي الله عنها فقال: ( إني مخبرك بأمر فلا تستعجليه حتى تستأمري أبويك، فلما عرض عليها الأمر قالت: أفي هذا أستأمر أبوي؟! أختار الله ورسوله )، ثم عرض على بقية نسائه ذلك فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة.

كذلك للزوج التمليك، وهو أن يملكها عصمتها، واختلف أهل العلم هل التمليك كالتخيير سواء بسواء؟ وهذا مذهب أهل الظاهر، أو الفرق بينهما أن التمليك يكون تمليكاً لما يملكه هو من فصل الملكة، فإن اختارت واحدة.. أي: إن طلقت واحدة رجعية كانت رجعية، وإن اختارت ثلاثاً كان الطلاق ثلاثاً، فقد ملكت من الطلاق ما يملكه هو، بخلاف التخيير فقد خيرها بين البقاء والانفصال المطلق.

كذلك للزوج التوكيل على الطلاق؛ أن يوكل غيره بالقيام بهذه الفرقة، وإذا وكله فهذه الوكالة لا يشترط فيها البلوغ، ولا تمام التصرف، فيجوز أن يوكل سفيهاً أو صبياً؛ لأنه بمثابة رسول يرسله، وإذا وكله على الطلاق فالوكالة إن طالت قصرت وإن قصرت طالت، فإن قال له: وكلتك على أن تطلق زوجتي واحدة لم يجز له تعدي ذلك، ولم يجز ارتجاعها بعد، وإن قال: وكلتك على طلاق أهلي فقصرت الوكالة، فقد شملت كل أنواع الطلاق، وكان له من الحق ما للزوج في ذلك، وهذا حال الوكالة دائماً إذا قصرت طالت وإذا طالت قصرت، فإذا طالت صيغتها لم تشمل إلا ما ذكر فيها، وإذا قصرت بأن جاءت مطلقة تناولت كل شيء.

أما القسم الثالث وهو ما كان الفراق فيه ناشئاً عن تصرف القاضي، وهو أنواع كذلك؛ فمنه ما يكون بسبب ردة أحد الزوجين والعياذ بالله، فإذا ارتد أحدهما عن الإسلام فإن ذلك مبطل للطلاق بالكلية، وهذا لا يحتاج إلى حكم بل يحصل بمجرد الردة، ودليل هذا قول الله تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65]، وقوله تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ [المائدة:5]، وقد ذهب الشافعية إلى أنه إنما يحصل ذلك - أي: الفراق - بالاستمرار على الردة، فإن تاب الإنسان مبادراً ورجع إلى الإسلام ولم يمت على الكفر لم يبطل عمله بل يعود إليه فعلى هذا لا تكون الردة فاصلة للعصمة بالكلية، واستدل الشافعية بالتقييد في قول الله تعالى في سورة البقرة: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [البقرة:217]، فإن الله قيد إبطال العمل بالردة بقيد هو أن يموت على الكفر، والشافعية يرون أن المطلق يحمل على المقيد، فالآيات التي جاء فيها الإطلاق -وهي ثلاث-، تحمل على الآية التي جاء فيها التقييد وهي آية البقرة، وجمهور أهل العلم يرون: أن المطلق يبقى على إطلاقه وأن المقيد لا يتجاوز محله وهذا يشمل سائر الأعمال.

واختلف في الإحصان هل هو من العمل أم لا؟ فإن المرأة إذا دخل بها زوجها فقد صارت محصنة، والمحصنة إذا زنت يقام عليها الحد بالرجم، وإذا ارتدت عن الإسلام بعد دخول الزوج بها، ثم رجعت إلى الإسلام فزنت فهل يقام عليها حد المحصن أو حد البكر؟ محل خلاف بين أهل العلم، فالذين يرون أن الإحصان من العمل يرون أنه قد بطل بالردة؛ لأن الردة تبطل العمل كما سبق، والذين يرون أن الإحصان ليس من العمل، ويرون أنه صفة من الصفات فلا تبطله الردة؛ ولذلك إذا كانت كافرة فأسلمت وهي محصنة في كفرها من قبل تعتبر محصنة ولو لم يدخل بها زوجها بعد في الإسلام، فإذا كانت أماً لأولاد في الجاهلية فأسلمت على أولاد فهي محصنة بما كانت فيه من نكاح سابق على إسلامها، وعلى هذه فالإحصان ليس من العمل، والذين يرون أن الإحصان من العمل يستدلون بقول الله تعالى: فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ [النساء:25]، فإن الله تعالى قال: (فإذا أحصن) فمعناه: فعل بهن ذلك، وهذا يدل على أن الإحصان من العمل.

وعموماً: فإن ردة أحد الزوجين تكون بمثابة الطلقة الواحدة عن القائلين بإبطال العصمة بها، وهم جمهور أهل العلم، وحينئذ هي بائنة لا بد من عقد جديد.


استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
فقه الأسرة [1] 3814 استماع
فقه الأسرة [2] 2935 استماع
فقه الأسرة [7] 2931 استماع
فقه الأسرة [4] 2567 استماع
فقه الأسرة [3] 2048 استماع
فقه الأسرة [6] 1644 استماع