فقه الأسرة [1]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فقد خلق الله عز وجل آدم عليه السلام وجعله خليفته في الأرض، وكرمه على الملائكة وفضله عليهم بما علمه من أسماء الأشياء كلها: وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى المَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ [البقرة:31].

فحكم الله تعالى لصالح آدم في تلك المسابقة العلمية، وبذلك شرف هذا الجنس البشري بالعلم على غيره من سائر الأجناس، وقد كرم الله ذرية آدم بعده بأنواع التكريم فقال: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا [الإسراء:70].

وهذا التكريم الذي كرم الله به هذا الجنس البشري يقتضي أنه نكتة هذا العالم، ومن أجله خلقت الأرض وما فيها، ومن أجله شرعت الأحكام لتحقيق مصالح هذا الجنس البشري؛ فقد شرع الله تعالى الأحكام لمصلحة البشر، وهو غني عنهم وعما يعملون، فإذا أحل أو حرم فإنما ذلك لصالح البشر, ولقد كلف الله الإنسان بهذا الاستخلاف، وأصله الإصلاح والقيام بمصالح أهل الأرض، ويبدأ ذلك بإصلاح الإنسان نفسه أولاً, فالإنسان ما لم يكن لبنة صالحة في بناء المجتمع، وما لم يؤدِّ المهمة التي من أجلها ابتعث إلى الأرض ومن أجل ما سبق -فإنه لا يمكن أن يكون طرفاً في إصلاح؛ لأن البسيط مقدم عن المركب، فالإنسان الصالح في نفسه يمكن أن يكون جزءاً من مركب صالح، والإنسان الفاسد إذا كان في مركب لا بد أن يأتي إليه الفساد من قبل ذلك الجزء الفاسد فيه.

فاحتيج أولاً إلى إصلاح الإنسان لنفسه، وإصلاحه لنفسه لا يتم إلا بأربعة أمور هي:

أولاً: تعلم ما أمر الله به، ثم العمل بما تعلمه من أمر الله، ثم الدعوة إلى ما تعلمه وعمل به، ثم الصبر على طريق الحق حتى يلقى الله, فهذه الأربع هي التي تضمنتها سورة العصر التي قال فيها الشافعي رحمه الله: (لو لم ينزل من القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا سورة العصر لكفت حجة على الناس), يقول الله تعالى بسم الله الرحمن الرحيم: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا[العصر:1-3]، وهذا تعلم ما أمر الله به؛ لأن الإيمان لا يمكن أن يتحقق إلا بتعلم الإنسان لما أمر الله بتعلمه من أمور الإيمان. وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [العصر:3]، وهذا العمل، (( وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ )), وهذه دعوة، وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:3]، وهذا الصبر على الطريق، وهو أيضاً وصية لقمان لابنه كما قال الله تعالى: وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، وهذا تعليم ثم قال بعد هذا التعليم: (( يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ )), وهذا العمل، ثم قال: وَأْمُرْ بِالمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنكَرِ [لقمان:17]، وهذه الدعوة، ثم قال: وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [لقمان:17] وهذا الصبر على طريق الحق.

إذا حقق الإنسان هذه الأمور الأربعة في نفس الاتجاه أصبح إنسانا يستحق أن ينضم إليه غيره, وحينئذٍ فإن المرحلة اللاحقة من مراحل الاستخلاف في الأرض تقتضي أن له بناء أسرة, وبناء الأسرة مقصد شرعي، يقصد به بقاء هذا الجنس البشري واستمراره، ويقصد به تحقيق الاستخلاف في الأرض بالقيام ببعض الوظائف الشرعية التي ما وجهها الشارع للأفراد, فالأحكام الشرعية التي ترونها في القرآن وفي السنة وفي كتب الفقه بعضها موجهة للفرد كأحكام طهارته وصلاته وصيامه, وبعضها موجه إلى الأسرة كأحكام الأنكحة والنفقات والرضاع وغير ذلك، وبعضها موجه إلى المجتمع كأحكام العقود والبيوع والشراء ونحو ذلك, وبعضها موجه إلى الدولة كأحكام القضاء والجهاد وإقامة الحدود ونحو ذلك.

فإذاً هذه الأحكام ليست موجهة إلى الفرد كلها، بل بعضها موجه الى الفرد، وبعضها موجه إلى الأسرة وبعضها موجه إلى المجتمع وبعضها موجه إلى الدولة.

ومراحل الاستخلاف لا تتم إلا هكذا: أن يصلح الإنسان نفسه ثم يشارك في بناء أسرة صالحة، ثم يشارك في بناء مجتمع صالح، ثم في بناء دولة صالحة، وحينئذٍ يتكامل البنيان الذي به يتم الاستخلاف في الأرض، فلا نجد حينئذ حكماً معطلاً؛ لأن الحكم ما لم يحصل حصلت وسائله، ومن يوجه إليه لا يمكن أن يقالّ, فالأحكام الموجهة إلى الأسرة ما لم تحصل أسرة لا يستطيع الإنسان القيام بها، وليس معنى ذلك أنه سيعطل جزءاً من القرآن لا يعنيه، فمثلاً في سورة النساء: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا * وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا * وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:1-3]، وهذا لا يعني أبداً أن هذا القسم من القرآن لا يعنيه إن كان سيتركه، بل هذا يتعلق بمرحلة بعد إصلاحه لنفسه وهي إصلاحه لأسرته، وحينئذٍ يكون هذا الخطاب موجهاً إليه مع شريكه الثاني في الأسرة، وكذلك الأحكام الأخرى الموجهة إلى المجتمع, وهو قوله تعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللهَ [المائدة:2], ومثل قوله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:103-105], فهذه الأحكام أيضاً لا بد أن تكون موجهة إلى من يقوم بها وليست موجهة إلى فرد وحده، بل هي موجهة إلى المجتمع؛ ومنه يلزم أن يقام المجتمع المسلم الصالح الذي يقيم هذه الأحكام ويعرف أنها خطاب الله وأنها موجهة إليه، فيؤديها كما أدى الفرد الأحكام الموجهة إليه، وكما أدت الأسرة الأحكام الموجهة إليها.

ثم بعد هذا تأتي الأحكام الموجهة إلى الدولة، فهذه أيضاً لا بد أن تقوم بها دولة مسلمة ترعى حدود الله وتقيمها، فعندما يأتي الخطاب: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ [النور:2], وقوله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللهِ [المائدة:38], هذه الأحكام من عند الله سبحانه وتعالى وليست موجهة إلى الأفراد ولا إلى الأسرة ولا إلى المجتمع، بل هي موجهة إلى الدولة, وما لم تقم دولة ترعى هذه الأحكام وتطبقها ستبقى هذه الأحكام معطلة، فلذلك لا بد من إقامة حكم إسلامي صحيح يقيم أحكام الله الموجهة إلى الدولة ويرعاها ويؤديها.

وما سأتحدث عنه هنا هو بناء الأسرة، وهي المرحلة الثانية بعد بناء الإنسان لنفسه وشخصيته, فبناء الأسرة يبدأ كغيره من الأعمال بالنية، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى), فالإنسان ليس مثل الحيوان البهيمي، الذي يأتي شهوته ويأتي حاجته ثم ينطلق كأن شيئاً ما حصل ولا يترتب على ذلك أحكام ولا نفقات ولا التزامات ولا واجبات, بل الإنسان كائن مشرف وكل تصرفاته مبنية على سوابق تتراكم حتى تحصل شخصيته المتكاملة.

وبالتالي لا بد أن تكون له التزامات ولا بد أن تكون له أدبيات وأخلاق، ولا بد أن تترتب على تصرفاته أفعال أخرى، وأحكام تتعلق بتلك الأفعال، ومن هنا فليس للإنسان أن يتزوج لمجرد الزواج، أو أن يفعل ذلك تقليداً كما يفعله كثير من عوام الناس حيث يتزوجون من أجل التقليد, بأن رأوا الناس إذا بلغوا سناً معينة تزوجوا فيتزوجون من أجل التقليد، كما أنهم يرونهم يصلون فيصلون تقليداً، بل قد قال الإمام عبد الحق الإشبيلي : لكنهم كفروا بالله تقليداً نعوذ بالله.

فهذا النوع من التقليد لا يليق بالمسلم، بل لا بد أن يكون عارفاً لماذا يعمل؟

ثم إن كثيراً من الناس أيضاً إذا أراد بناء أسرة فإنما ينوي أن يأتي شهوته فقط, أو ينوي أن يكون له أولاد فقط، وهذه النية لا يحصل للإنسان من مشروعه الذي يقدم عليه إلا هي, كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته أو ما هاجر إليه ).

نية امتثال أمر الله في الأمر بالنكاح

لكن لا بد أن يعرف المسلم النيات التي تلزم عند إرادته بناء الأسرة، وهذه النية مشتركة يلزم أن يعرفها الرجل ويلزم أن تعرفها المرأة, وهذه النيات أرجعها العلماء إلى ست:

النية الأولى: أن يمتثل أمر الله تعالى في قوله: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:3]، فهذا أمر من الله سبحانه وتعالى ويلزمه الإيفاء به وتطبيقه، ومن فعل ذلك تقرباً لله سبحانه وتعالى أثابه عليه، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم للسائل حين قال له: ( أرأيت إذا أديت المكتوبات، واجتنبت الحرام، وأحللت الحلال، ثم لم أزد على ذلك شيئاً، أأدخل الجنة؟ قال: نعم ).

والمقصود باستحلال الحلال: إتيانه معتقداً حليته، فذلك يثاب عليه الإنسان؛ لأنه العلامة بأنه رضي بحكم الله واقتنع به وانقاد له, فإذاً هذا هو الأمر الأول، ولا اعتراض على هذا الأمر من جهة أن النكاح قد لا يجب على بعض الناس كالبقية؛ لأنه تعتريه أحكام الشرع، فقد يكون واجباً، وقد يكون حراماً، وقد يكون سنة، وقد يكون مندوباً، وقد يكون مكروهاً كما يأتي، لكن هذا الخطاب موجه من البداية لعباده، فلا بد من امتثاله حتى لو كان على الإباحة, فاستحلال الحلال لتحقيق العبادة لله وتحقيق العبودية له والقيام لأمره أمر مطلوب.

نية امتثال أمر النبي في الأمر بالنكاح

النية الثانية: الامتثال لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، وإلا فعليه بالصوم فإنه له وجاء).

وكذلك الامتثال لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( تزوجوا الولود الودود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة )، وفي رواية لـأبي داود في السنن: ( فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة ).

فالنبي صلى الله عليه وسلم يكاثر الأنبياء بأمته، وقد صح عنه في ذلك عدد كثير من الأحاديث الصحيحة، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: ( عرضت علي الأمم فرأيت النبي ومعه الرجل، والنبي ومعه الرجلان والنبي وليس معه أحد والنبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرهيط، حتى ظهر لي سواد عظيم فقلت: هؤلاء أمتي؟ فقيل: لا, هذا موسى وأمته ولكن انظر إلى الأفق، فنظرت إلى سواد عظيم قد سد الأفق، فقيل: هؤلاء أمتك ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة من غير حساب ولا عذاب).

فالنبي صلى الله عليه وسلم يكاثر الأمم ويكاثر الأنبياء بأتباعه، ويزداد ثوابه كلما ازدادت أمته فرداً واحداً, فكلما ازداد المصلون مصلٍ واحداً يزداد أجر النبي صلى الله عليه وسلم، وكلما ازداد الذاكرون بذاكر واحد يزداد أجر النبي صلى الله عليه وسلم، وكلما ازدادت دعاته إلى الله بواحد يزداد أجر النبي صلى الله عليه وسلم ويزداد عمره.

وبذلك أقول في بعض الأحيان لبعض الإخوة الذين أراهم يخرجون في سبيل الله، ويدعون الناس إلى طريق الحق: إنكم في طريقكم هذه تهدون جزءاً من أعمالكم للنبي صلى الله عليه وسلم ليزداد به عمره، فالإنسان حريص جداً على عمر النبي صلى الله عليه وسلم وأنتم تعرفون أنكم يجب عليكم فداؤه بأنفسكم وأموالكم، وليس ذلك شيئاً في مقابل ما له من الحق.

فالنبي صلى الله عليه وسلم يستحق أن يفدى بأمته بكاملها، ولذلك أنت إذا قمت بالدعوة إلى الله فإنما تزيد عمر النبي صلى الله عليه وسلم بساعة أو ثنتين أو ثلاث من عمرك أنت، أهديتها للنبي صلى الله عليه وسلم لتزيد بها عمره، ولذلك فتلك الساعة التي تنفقها في الدعوة سواء كنت مشاركاً أو مباشراً أو حاضراً أو مستمعاً هي خير ساعاتك، فهي أفضل سائر عمرك؛ لأنها معدودة في عمر النبي صلى الله عليه وسلم، وليست معدودة فقط في عمرك أنت, فعمرك أنت هو ما تقضيه في بيتك وفي أهلك، أما العمر الذي تقضيه في الدعوة إلى الله فهو من عمر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه المكلف بتبليغ هذه الرسالة، وقد أداها على أحسن الوجوه، وتبليغها إنما هو قيام بمهمته وأداء لوظيفته.

ولهذا أخرج البخاري في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما من نبي بعثه الله قبلي إلا أوتي ما مثله آمن عليه الرسل، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة )، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة، وهذا الرجاء مرتب على قوله: ( وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي).

وهذا القرآن كل من تحمل منه آية واحدة، فقد ازداد بها أتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا داخل في: ( فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة ).

ولذلك فالحجة القائمة به تختلف عن الحجة القائمة بمعجزات الرسل السابقين، فمعجزات الرسل السابقين الذين كانت رسالتهم مؤقتة بمدة في علم الله يصلح لها تطبيق ما جاءوا به، وإذا انتهت تلك المدة لم تعد رسالتهم صالحة للتطبيق، ولم يعد ما جاءوا به صالحاً للتطبيق، بل ينسخ ويغير برسالة أخرى, أولئك الرسل كانت معجزاتهم من جنس ما هو سائد لدى البشر في ذلك الوقت، كناقة صالح، والإبل تعرفون مكانتها عند العرب، وكعصا موسى وتعرفون اشتغال أهل مصر إذ ذاك بالسحر، وكشفاء عيسى للأكمه والأبرص وإحيائه للموتى، وميلاده من غير أب، وهي أمور توقف لها الطب والعلم، وتعرفون شغف أهل ذلك الوقت بالعلم والطب، وهكذا فكل رسالة تأتي معجزتها من جنس ما هو أرقى ما اشتغل به الناس في ذلك الوقت، ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم لبقائها واستمرارها لم تكن معجزتها معجزة مادية؛ لأن المعجزة المادية إنما تقوم بها الحجة على من رآها أو من نقلت إليه تواتراً ثم تنتهي بعد ذلك.

فكون عيسى يحيي الموتى بإذن الله ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله، لو لم يأتِ ذلك في القرآن لما صدق به هذا الرجل قطعاً، لكنه إنما صدق به لأنه جاء في القرآن، فلذلك لو كانت معجزة محمد صلى الله عليه وسلم مادية محضة لقامت بها الحجة على الذين شاهدوها والذين نقلت إليهم تواتراً ثم تنتهي الرسالة، ومن المعلوم أن رسالته مستمرة لكل من بعده: لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام:19]، إلى قيام الساعة، فلا بد أن تكون معجزته معجزة للجميع، تقوم بها الحجة على أهل كل عصر وأهل كل مصر وأهل كل لسان، وهي هذا القرآن الذي يتلى وقد تحدى الله به الثقلين (الإنس والجن) أن يأتوا بسورة من مثله، والتحدي به باق خالد ما دامت هذه الدعوة قائمة حتى يرث الله الأرض ومن عليها وحتى يرفع القرآن إليه: ( منه بدأ وإليه يعود ).

فلذلك زيادة أفراد أتباع محمد صلى الله عليه وسلم مقصد شرعي، ونية من نيات بناء الأسرة، فلا بد أن يلي الإنسان تحقيقها ويلي امتثال أمر النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ( تزوجوا الولود الودود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة ).

نية طلب النسل الصالح من النكاح

النية الثالثة: هي طلب النسل الصالح، الذي يكون امتداداً في عمر الإنسان، فالعمر فائدته ترجيح كفة الحسنات، أي: زيادة الحسنات، وكلما ذهب من العمر في غير ذلك فهي باطل ويندم عليه صاحبه، ولذلك قال الشيخ سيدي محمد بن الشيخ أحمد رحمة الله عليهم:

والعمر مدته كمثل دراهم بيد الفتى يقضي بها حاجاته

خسر لذي عقل لبيب مؤمن وقت يمر ولم يزد حسناته

فالوقت فائدته زيادة الحسنات، وأي وقت يمر ولم تزدد فيه حسنات الإنسان يكون ترة عليه بين يدي الله، والإنسان عمره محدود وبقاؤه في هذه الحياة الدنيا قصير، وفي عمله تقصير، والناقد بصير، وسيحتاج إذاً إلى الاستمرار والدوام، وهذا الدوام من الميئوس منه أن يكون في حياته الشخصية، فلذلك يحتاج فيه إلى رافد خارجي وهي الذرية التي بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أنها بقاء للإنسان وازدياد في عمره وعمله، فقد أخرج مسلم في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية ).

والولد عمله الصالح في كفة حسنات آبائه، وعمله السيئ عليه هو فقط، فلا يصل إلى والديه منه شيء، وعمله الصالح يصله إلى والديه إذا نويا طلب الذرية، فالولد الصالح يزيد حسناتهما.

فإذاً هذه النية على الراجح أيضاً هي شرط لاستمرار العمر في الذرية، وشرط لحصول أجر عمل الأولاد، بأن ينوي الإنسان وجودهم ليكون ذلك زيادة في عمله وعمره، والحمد لله هذه النية بالإمكان أن تلحق العمل؛ لأن تربية الإنسان لأولاده وقيامه عليهم مثل إنتاجهم من جديد، فكل يوم من الأيام هو عمر جديد يتجدد في حياة الأولاد، فبالإمكان أن يجدد الإنسان هذه النية إذا فات من عمره ما تسبب فيه من ذرية، فإذا لم يستحضر هذه النية فبالإمكان أن يجددها في كل وقت في تعامله مع أولاده، وإحسانه إليهم، وتربيته لهم، وقيامه عليهم.

نية إعفاف النفس والزوجة بالنكاح

ثم بعد هذا النية الرابعة: هي إعفاف نفسه، فلبدن الإنسان عليه حق أكده النبي صلى الله عليه وسلم وبينه، ويجب عليه أن يصون جوارحه عن المعصية، ولا يكون ذلك إلا بإعفاف نفسه، فإذاً يجب عليه السعي لإعفاف نفسه.

والنية الخامسة: هي السعي لإعفاف الطرف الآخر، أعني الشريك الثاني في الأسرة أيضاً، وإعفافه من المعاونة على البر والتقوى، وقد قال الله تعالى: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور:32-33].

فلذلك يساعد الإنسان على إعفاف الطرف الآخر وبالتالي سيشارك في نقص الجرائم المتعلقة بالجنس، كجريمة الزنا وجريمة اللواط وغير ذلك من الجرائم المحرمة، فعندما يسعى الإنسان لإقامة أسرة مسلمة، فإنه يشارك في قطع هذه الجرائم وتقليلها ونقصها، وأنتم تعرفون أن الجرائم إنما تكون ظاهرة بكثرة تكررها وانتشارها، وأنها لا يقضى عليها بقرار سياسي ولا بمحاكمة ولا بقانون، إنما يقضى عليها بالتدريب بإصلاح المجتمع، فهذا الذي يقضي على الجرائم، ومن هنا فهذه النية ذات أهمية كبيرة عندما يكون الإنسان مستعداً لأن يعف غيره حتى يقطع هذه الجريمة ويمنعها، وحتى يقوم بالحق الذي عليه تجاه الآخرين.

نية إقامة البيت المسلم عند النكاح

ثم النية السادسة: هي إقامة البيت المسلم الذي تقام فيه أوامر الله سبحانه وتعالى التي تتعلق بالبيت، وهذه مرحلة من مراحل الاستخلاف لا بد من تحقيقها، فلا بد من نية إقامة البيوت المسلمة، التي تقوم على أساس من البر والتقوى، ويحترم أهلها أحكام الشرع، ويعلمون أنهم مخاطبون بين يدي الله، ومعروضون عليه، وكل إنسان منهم عليه من الحق مثل الذي له، كما قال الله تعالى: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالمَعْرُوفِ [البقرة:228] أي: للنساء من الحق مثل الذي عليهن بالمعروف، فالحق مشترك بين الطرفين، وكل طرف له من الحق مثل الذي عليه، فعليه أن يؤدي كل الحق الذي عليه، وعليه أن يسامح ما استطاع في الحق الذي له، وإذا حصل هذا فسيقع الإنصاف الذي يمنع الخلاف.

استشعار المسئولية عند النكاح

هذه النيات يستحضرها الإنسان عند إرادته لإحداث الأسرة، ثم بعد هذا هدف الإنسان للإقامة في هذه الأسرة لا بد أن يكون حاضراً في ذهنه، وأن يعلم ما يترتب عليه من مسئوليات، فالإنسان إذا أقام أسرة فمعناه أنه أصبح مسئولاً وصاحب قرار في محضن من محاضن التربية ومستوى من مستويات المجتمع, كالذي يعين في وظيفة لا بد أن تحدث لديه مسئولية عندما يقوم بهذا العمل، ولذلك فقد قال الله تعالى: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ [النساء:34].

فيجب عليه أن يحرص على قيامه بمهمته حق القيام، وأن يكون راعياً أميناً, فالنبي صلى الله عليه وسلم حض على القيام بهذه المسئولية فقال: ( كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته ), وسيأتي يوم القيامة مسئولاً عما استرعاه الله تعالى من الناس وسيخاطبونه بين يدي الله، فالله يسأل عن صحبة ساعة، وأول من يخاصم الإنسان بين يدي الله أهل بيته فيقولون: يا رب! وليت علينا عبدك هذا فرآنا على المنكر فلم يغيره، ورآنا نقصر بالمعروف فلم يأمرنا به، فلذلك يفر منهم إذا رآهم يوم القيامة: يَوْمَ يَفِرُّ المَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:34-37].

كل من عرف الإنسان وجهه في هذه الحياة الدنيا يفر منه يوم القيامة ويخاف أن يطالبه بحق بين يدي الحكم العدل الذي لا يظلم عنده أحد, ولذلك لا بد من تحمل هذه المسئولية، وأن يستحضر الإنسان قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].

فأولاد الإنسان يشق عليه جداً أن يمرضوا أي مرض، وأن يشاكوا بأية شوكة، وإذا بات أحدهم ساهراً من أجل شوكة أو ألم في ضرسه أو مرضٍ أياً كان فسيسعى للتخفيف عنه بما يستطيع، وسينفق ماله وجاهه من أجل تخفيف معاناته بما استطاع, ولو اعتقل أحدهم لدى شرطة هذه الدنيا الضعيفة المسكينة، التي لا تملك لنفسها ولا لغيرها نفعاً ولا ضراً ولا حياةً ولا موتاً ولا نشوراً: وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطْلُوبُ [الحج:73]، فإنه حينئذٍ ستضيق عليه الأرض بما رحبت وسيسعى لإنقاذه بما يستطيع، فكيف لا يسعى لإنقاذه من عذاب الله، ومن تعذيب الملائكة الأقوياء الأشداء الذين وصفهم الله بهذا الوصف العظيم، فقال: عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].

ما يترتب على استشعار المسئولية عند النكاح

إن قيام الإنسان بهذه المسئولية يقتضي منه أن يكون منتبهاً، وأن يكون صاحب صدق، وأن يتقي الله في تصرفاته، فالإنسان قبل أن يشارك في بناء أسرة فذنوبه عليه فقط، فإذا كذب فهذا ذنب عليه فيما بينه وبين الله ويمكن أن يتجاوز الله عنه، ويمكن أن يتوب فيتوب الله عليه، لكن إذا كان صاحب أسرة فكذب بين يدي أولاده وأهله، فهذا الكذب ليس كالكذب الأول؛ لأنه تعليم للكذب، فهو الآن بمثابة أستاذ أمام السبورة يعلم الناس الكذب والفجور.

وكذلك تصرفه في أي تصرف من التصرفات، قبل أن تكون له أسرة كان على حسابه الشخصي، أما بعد إقامة الأسرة فقد أصبح أستاذاً معلماً، وقد قال زياد بن أبيه : إن كذبة الأمير على المنبر بلقاء، فمسئوليات الأمير مثلاً أو القائد أو المسئول تختلف تمام الاختلاف عن الأفراد، فلذلك كلما ترقت درجة الإنسان في المسئولية كلما ازداد خطابه.

وهذا الذي نذكره في شأن رب الأسرة الواحدة، أعظم منه من كان ذا مكانة اجتماعية كقائد لمجموعة أياً كانت (قبيلة أو غيرها)، وأعظم من ذلك من كان على قمة الهرم كرئيس دولة أو ملك أو قائد، فكل رعيته يخاطبونه بين يدي الله، وكل إنسان منهم يريد حقه، ولا يظن بهم حينئذٍ العفو في ذلك المقام؛ لأنهم قد أبصروا الحق وعرفوه وهم محتاجون إلى حقوقهم، فلا يرجى منهم المسامحة في ذلك الوقت، فلهذا لا بد أن يكون المقدم على إقامة أسرة يعرف هذه التبعات ويستعد لها؛ ليستعين بالله عليها للقيام بها على الوجه الصحيح.

لكن لا بد أن يعرف المسلم النيات التي تلزم عند إرادته بناء الأسرة، وهذه النية مشتركة يلزم أن يعرفها الرجل ويلزم أن تعرفها المرأة, وهذه النيات أرجعها العلماء إلى ست:

النية الأولى: أن يمتثل أمر الله تعالى في قوله: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:3]، فهذا أمر من الله سبحانه وتعالى ويلزمه الإيفاء به وتطبيقه، ومن فعل ذلك تقرباً لله سبحانه وتعالى أثابه عليه، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم للسائل حين قال له: ( أرأيت إذا أديت المكتوبات، واجتنبت الحرام، وأحللت الحلال، ثم لم أزد على ذلك شيئاً، أأدخل الجنة؟ قال: نعم ).

والمقصود باستحلال الحلال: إتيانه معتقداً حليته، فذلك يثاب عليه الإنسان؛ لأنه العلامة بأنه رضي بحكم الله واقتنع به وانقاد له, فإذاً هذا هو الأمر الأول، ولا اعتراض على هذا الأمر من جهة أن النكاح قد لا يجب على بعض الناس كالبقية؛ لأنه تعتريه أحكام الشرع، فقد يكون واجباً، وقد يكون حراماً، وقد يكون سنة، وقد يكون مندوباً، وقد يكون مكروهاً كما يأتي، لكن هذا الخطاب موجه من البداية لعباده، فلا بد من امتثاله حتى لو كان على الإباحة, فاستحلال الحلال لتحقيق العبادة لله وتحقيق العبودية له والقيام لأمره أمر مطلوب.

النية الثانية: الامتثال لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، وإلا فعليه بالصوم فإنه له وجاء).

وكذلك الامتثال لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( تزوجوا الولود الودود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة )، وفي رواية لـأبي داود في السنن: ( فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة ).

فالنبي صلى الله عليه وسلم يكاثر الأنبياء بأمته، وقد صح عنه في ذلك عدد كثير من الأحاديث الصحيحة، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: ( عرضت علي الأمم فرأيت النبي ومعه الرجل، والنبي ومعه الرجلان والنبي وليس معه أحد والنبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرهيط، حتى ظهر لي سواد عظيم فقلت: هؤلاء أمتي؟ فقيل: لا, هذا موسى وأمته ولكن انظر إلى الأفق، فنظرت إلى سواد عظيم قد سد الأفق، فقيل: هؤلاء أمتك ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة من غير حساب ولا عذاب).

فالنبي صلى الله عليه وسلم يكاثر الأمم ويكاثر الأنبياء بأتباعه، ويزداد ثوابه كلما ازدادت أمته فرداً واحداً, فكلما ازداد المصلون مصلٍ واحداً يزداد أجر النبي صلى الله عليه وسلم، وكلما ازداد الذاكرون بذاكر واحد يزداد أجر النبي صلى الله عليه وسلم، وكلما ازدادت دعاته إلى الله بواحد يزداد أجر النبي صلى الله عليه وسلم ويزداد عمره.

وبذلك أقول في بعض الأحيان لبعض الإخوة الذين أراهم يخرجون في سبيل الله، ويدعون الناس إلى طريق الحق: إنكم في طريقكم هذه تهدون جزءاً من أعمالكم للنبي صلى الله عليه وسلم ليزداد به عمره، فالإنسان حريص جداً على عمر النبي صلى الله عليه وسلم وأنتم تعرفون أنكم يجب عليكم فداؤه بأنفسكم وأموالكم، وليس ذلك شيئاً في مقابل ما له من الحق.

فالنبي صلى الله عليه وسلم يستحق أن يفدى بأمته بكاملها، ولذلك أنت إذا قمت بالدعوة إلى الله فإنما تزيد عمر النبي صلى الله عليه وسلم بساعة أو ثنتين أو ثلاث من عمرك أنت، أهديتها للنبي صلى الله عليه وسلم لتزيد بها عمره، ولذلك فتلك الساعة التي تنفقها في الدعوة سواء كنت مشاركاً أو مباشراً أو حاضراً أو مستمعاً هي خير ساعاتك، فهي أفضل سائر عمرك؛ لأنها معدودة في عمر النبي صلى الله عليه وسلم، وليست معدودة فقط في عمرك أنت, فعمرك أنت هو ما تقضيه في بيتك وفي أهلك، أما العمر الذي تقضيه في الدعوة إلى الله فهو من عمر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه المكلف بتبليغ هذه الرسالة، وقد أداها على أحسن الوجوه، وتبليغها إنما هو قيام بمهمته وأداء لوظيفته.

ولهذا أخرج البخاري في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما من نبي بعثه الله قبلي إلا أوتي ما مثله آمن عليه الرسل، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة )، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة، وهذا الرجاء مرتب على قوله: ( وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي).

وهذا القرآن كل من تحمل منه آية واحدة، فقد ازداد بها أتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا داخل في: ( فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة ).

ولذلك فالحجة القائمة به تختلف عن الحجة القائمة بمعجزات الرسل السابقين، فمعجزات الرسل السابقين الذين كانت رسالتهم مؤقتة بمدة في علم الله يصلح لها تطبيق ما جاءوا به، وإذا انتهت تلك المدة لم تعد رسالتهم صالحة للتطبيق، ولم يعد ما جاءوا به صالحاً للتطبيق، بل ينسخ ويغير برسالة أخرى, أولئك الرسل كانت معجزاتهم من جنس ما هو سائد لدى البشر في ذلك الوقت، كناقة صالح، والإبل تعرفون مكانتها عند العرب، وكعصا موسى وتعرفون اشتغال أهل مصر إذ ذاك بالسحر، وكشفاء عيسى للأكمه والأبرص وإحيائه للموتى، وميلاده من غير أب، وهي أمور توقف لها الطب والعلم، وتعرفون شغف أهل ذلك الوقت بالعلم والطب، وهكذا فكل رسالة تأتي معجزتها من جنس ما هو أرقى ما اشتغل به الناس في ذلك الوقت، ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم لبقائها واستمرارها لم تكن معجزتها معجزة مادية؛ لأن المعجزة المادية إنما تقوم بها الحجة على من رآها أو من نقلت إليه تواتراً ثم تنتهي بعد ذلك.

فكون عيسى يحيي الموتى بإذن الله ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله، لو لم يأتِ ذلك في القرآن لما صدق به هذا الرجل قطعاً، لكنه إنما صدق به لأنه جاء في القرآن، فلذلك لو كانت معجزة محمد صلى الله عليه وسلم مادية محضة لقامت بها الحجة على الذين شاهدوها والذين نقلت إليهم تواتراً ثم تنتهي الرسالة، ومن المعلوم أن رسالته مستمرة لكل من بعده: لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام:19]، إلى قيام الساعة، فلا بد أن تكون معجزته معجزة للجميع، تقوم بها الحجة على أهل كل عصر وأهل كل مصر وأهل كل لسان، وهي هذا القرآن الذي يتلى وقد تحدى الله به الثقلين (الإنس والجن) أن يأتوا بسورة من مثله، والتحدي به باق خالد ما دامت هذه الدعوة قائمة حتى يرث الله الأرض ومن عليها وحتى يرفع القرآن إليه: ( منه بدأ وإليه يعود ).

فلذلك زيادة أفراد أتباع محمد صلى الله عليه وسلم مقصد شرعي، ونية من نيات بناء الأسرة، فلا بد أن يلي الإنسان تحقيقها ويلي امتثال أمر النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ( تزوجوا الولود الودود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة ).


استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
فقه الأسرة [2] 2933 استماع
فقه الأسرة [7] 2929 استماع
فقه الأسرة [4] 2564 استماع
فقه الأسرة [3] 2044 استماع
فقه الأسرة [5] 1954 استماع
فقه الأسرة [6] 1642 استماع