فقه الأسرة [2]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فقد كان الحديث فيما سبق عن بدايات العلاقة الأسرية في بناء الأسرة المسلمة، والحديث في هذا الدرس موصول بما سبق؛ فأقول: إن الله سبحانه وتعالى عندما جعل هذه العلاقة سبباً للاتصال وصلات الأرحام وربط الوشائج قواها بكثير من الأحكام.

حالة وجوب النكاح

أول ما يبحث فيه من الأحكام حكم هذا العقد أصلاً، أي: حكم الإقدام على عقد النكاح، وحكمه مختلف باختلاف الأشخاص والأحوال فتعتريه أحكام الشرع الخمسة؛ فقد يكون واجباً، وذلك في حق من يخاف على نفسه العنت، أي: يخاف الزنا على نفسه، فيجب على من خشي العنت على نفسه، أي: خشي على نفسه الوقوع في الزنا أو الوقوع فيما يقرب منه من المحرمات والكبائر، فيجب عليه النكاح إذا استطاع إليه سبيلاً، واستطاعة السبيل إنما هو بوجود الطاقة البدنية وحصول المال المجزئ الكافي، فيشمل ذلك المال المدفوع في الصداق والمال المدفوع في النفقة والسكنى؛ لأنهما من لوازمه.

وإذا كان الإنسان يجد عوناً دون أن يكون له مال للصداق فهل يكفي مجرد القدرة على الاكتساب حتى يجب عليه ذلك؟ محل خلاف بين أهل العلم، فالذين يرون أن الصداق لا بد أن يكون مالاً متمولاً، يرون أنه لا بد من حصوله للوجوب، والذين لا يرون ذلك -وهم الشافعية والحنابلة- يرون أن مجرد الطاقة للإنتاج بأن يكون الإنسان قادراً على الكسب كافياً، واستدل الشافعية والحنابلة بما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( أن امرأة أتته فأهدت إليه نفسها، فصعد فيها النظر وخفضه حتى عرف جلساؤه أنه لا يريدها فقال رجل: يا رسول الله! أنكحنيها، فسأله عن ماله؟ فذكر أنه سيصدقها إزاره فقال: إذاً جلست بلا إزار! فقال: التمس غيره، فذهب فالتمس فلم يجد فقال: لم أجد شيئاً، فقال: التمس ولو خاتماً من حديد فذهب فالتمس فلم يجد شيئاً، فقال: أمعك شيء من كتاب الله؟ )، أي: أتحفظ شيئاً من كتاب الله؟ ( قال: نعم، لسور جعل يعددها.. )، وفي رواية التصريح بسورة البقرة وسورة النساء، ( فقال: أنكحتكها بما معك من القرآن )، وفي رواية التصريح بأن يعلمها السورتين، أي: سورة البقرة وسورة النساء.

وهذه قدرة على الكسب لأنه يستطيع أن يستأجر على تعليم القرآن، وبالأخص إذا قدمه لزوجته فهو نفع والنفع بتحفيظ هاتين السورتين له مقابل معتبر شرعاً؛ لأنه يحل أخذ الأجرة عليه على الراجح، ويرجع البحث هنا إلى أخذ الأجرة على أعمال القرب؛ كتحفيظ القرآن ونحو ذلك.

فمذهب جمهور أهل العلم جواز أخذ الأجرة على ذلك؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله )، وذهب الشافعي رحمه الله إلى منع ذلك؛ لحديث عبادة بن الصامت : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يعلم أهل الصفة القرآن، فأهدى إليه أحدهم عصاً، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له وعيداً شديداً في أخذها في مقابل تعليمه )، والجمهور يرون أن حديث عبادة إنما هو في حق من تعين عليه تعليمه؛ فمن تعين عليه تعليم القرآن كـعبادة -الذي كلفه به النبي صلى الله عليه وسلم ووظفه- فيه فهو متعين عليه لا يجوز له أخذ الأجرة عليه، وأما من لم يتعين عليه فيجوز له أخذ الأجرة عليه، والمتعين عليه هو من يسكن في بلدة ليس فيها من يصلح لتعليمه سواه فيجب عليه أن يعلم القرآن بدون أجر حينئذ، والذي يجد من يعلم سواه في البلد الذي هو فيه يجوز له أخذ الأجرة عليه؛ لأنه غير متعين عليه، ومثل هذا الإمامة والقضاء وأعمال القرب كلها؛ فالارتزاق عليها هو محل هذا البحث.

وأخذ أبي بكر رضي الله عنه من بيت المال في مقابل قيامه بالخلافة وإجماع الصحابة على ذلك هو أقوى أدلة الجمهور؛ لأن إجماع الصحابة حاصل على الأخذ، وقد فعله أبو بكر رضي الله عنه ثم عمر من بعده، فلم ينكر ذلك أحد من الصحابة فكان إجماعاً، وبالأخص أن أهل الحل والعقد من المسلمين تداولوا في الأمر حتى اتفقوا على رزق لـأبي بكر رضي الله عنه يتقاضاه من بيت المال.

وأيضاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في غزواته: ( من قتل قتيلاً فله سلبه )، وهذا أجر في مقابل قربة وهي قتال العدو وجهادهم وهو واجب، فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم أجراً مادياً مقابل هذا العمل الذي هو قربة يبتغى بها وجه الله.

وفصل بعض أهل العلم فقال: إذا كان الارتزاق من بيت المال العام فهو جائز، كما فعل أبو بكر وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من قتل قتيلاً فله سلبه )، وإذا كان الارتزاق من مال الأشخاص الذين يعلمهم الإنسان القرآن أو يعلمهم العلم أو يقضي بينهم أو يؤمهم فلا يجوز، وذهب المالكية إلى تفصيل آخر وهو التفريق بين أنواع القرب؛ فما كان منها مرتبطاً بالصلاة فيكره أخذ الأجرة عليه وحده، فيكره للإمام الذي لا يخطب ولا يؤذن أن يأخذ أجرة على مجرد الإمامة، وقد أطلقوا ذلك فيشمل ما كان من بيت المال وما لم يكن منه، وكذلك أخذ الأجرة على نحو الصلاة كقراءة القرآن، وختم القرآن مثلاً، كالذين يقرءون القرآن ليقتدي بهم الناس في طريقة أدائه؛ فيكره أخذ الأجرة على ذلك على انفراده.

وأما أخذ الأجرة على الأذان أو على الإمامة والخطابة معاً فهو غير مكروه لديهم، ولذلك قال خليل رحمه الله في عد جائزات الأذان، قال: (وأجرة عليه أو مع صلاة وكره عليها).

وأجرة عليه أي: يجوز أخذ أجرة عليه، أي: على الأذان، (أو مع صلاة) أن يكون إماماً مؤذناً، (وكره عليها) أي: على الصلاة وحدها، والواقع أن الإمامة فيها جهد لا يجب على الإنسان؛ وهو رفع صوته بالتكبير حتى يسمع ذلك الناس، وأيضاً انضباطه في الوقت؛ فإنه غير واجب عليه في الأصل، وهذا الفعل غير الواجب يجوز له أخذ الأجرة عليه؛ كحال المؤذن، وأما حديث مالك بن الحويرث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: ( واتخذوا مؤذناً لا يأخذ على ذلك أجراً )، فهذا وصف للأفضل وليس وصفاً للشرط، ليس شرطاً في الأداء، وإنما هو شرط في الكمال فقط.

وقد حصل لأحد القضاة أن معلم القرآن شهد عنده فرد شهادته، فقال: علام ترد شهادتي أيها القاضي؟ قال: لأنك تأخذ أجراً على كتاب الله، فقال: وأنت أيها القاضي تأخذ أجراً على كتاب الله، فقال: أنا مكره، فقال: أكرهوك على القضاء فهل أكرهوك على أخذ الدراهم؟ فقال: هات شهادتك، فقبل شهادته.

ولذلك فإن تعليم المرأة القرآن أو العلم يمكن أن يعد صداقاً لها إذا كان ثمنه يصل إلى ربع دينار لأن أقل الصداق على الراجح هو ربع دينار، ولم يرد في ذلك نص صريح في أقل الصداق، إلا أن البضع عوض وإفساده نظير قطع اليد في السرقة، والنصاب الذي تقطع فيه اليد هو سرقة ربع دينار فلا أقل من ثلاثة دراهم؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( فإذا بلغ ثمن المجن )، وثمن المجن إذ ذاك ثلاثة دراهم كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ، فقطع اليد في السرقة نصابه الذي نص عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو ربع دينار وهو ثلاثة دراهم، فيقاس إفساد البضع على إفساد العضو، أي: قطع اليد في السرقة؛ فعلى ذلك أقل الصداق هو ربع دينار.

لا حد لأعلى الصداق؛ لأن الله تعالى يقول: وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [النساء:20]، والقنطار مائة رطل من الذهب -وهو مبلغ كبير- فعلم أنه يجوز دفعه في الصداق، لكن مع ذلك بشرط عدم الإسراف وتجاوز الحد؛ فلا يجوز ذلك إلا لمن كان غنياً، ولا يؤثر ذلك على ثروته، وأيضاً ألا يكسر نفوس الناس عندما يكون تعجيزاً لهم إذا قاسوا أمرهم عليه، والتبذير في الصداق ليس من المروءة ولا هو من الكمال فيما يتعلق بالعقد؛ ففي حديث ابن عباس : ( أن أفضل هذه الأمة كان أقلها صداقاً )، والمقصود بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فصداق أزواجه وصداق بناته قليل، وهذا يدل على أن الفضل ليس في التغالي في المهور والزيادة فيها.

فإذا وجد الإنسان الطول الذي يمكنه من نكاح الحرة وجب عليه ذلك، وإن عجز عنه فلم يجده جاز له ما دون ذلك وهو نكاح الرقيقة؛ لقول الله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنكِحَ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ المُؤْمِنَاتِ [النساء:25]، وقد شرط الله إذن أهلهن بقوله: فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ [النساء:25].

حالات يحرم فيها النكاح

يحرم النكاح في حق المريض المشرف، الذي هو في مرض موته غالباً، أي: في المرض الذي يؤدي إلى الموت غالباً لما فيه من إدخال الضرر على الورثة، وهذا مراعاة لحقوق الأحياء؛ لأنهم أكثر منه، أما إذا كان ورثته أقل؛ كأن كان له وارث واحد كولد واحد واحتاج هو إلى النكاح فيراعى حقه هو، ويقدم على حق وارثه عند طائفة من أهل العلم، وذلك من فقه الموازنات حيث يوازن بين الحقوق، فاعتبار حقوق الأكثر هو الموافق للقاعدة الشرعية، فإذا استوى أصحاب الحقوق فكان الوارث واحداً -والمتوفى طبعاً واحد- فيراعى حقهما معاً، ويقدم حق المريض في ماله؛ لأنه هو الذي اكتسبه فهو مقدم على الوارث فيه.

وكذلك يحرم نكاح المرأة إذا كانت محرماً أو خامسة، والمحارم هن المحرمات على التأبيد بسبب شرعي، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى تحريم خمس عشرة امرأة في كتابه، فقال تعالى: وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا * حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:22-24]، وقوله: وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:24]، أي: المتزوجات، فكل امرأة متزوجة فلا يحل نكاحها حتى تطلق أو حتى تقع الفرقة ثم تنتهي عدتها؛ ولذلك استثنى الله من هذا فقال: إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:24]، أي: بالسبي، فالمتزوجة من نساء الكفار من أهل الكتاب إذا سبيت، فإن السبي يهدم النكاح فينهدم نكاحها السابق بالسبي؛ فحينئذ يجوز نكاحها بعد الاستبراء، وكذلك يجوز وطؤها بملك اليمين بعد الاستبراء؛ فلذلك قال: وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:24]، أي: المتزوجات، إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:24]، أي: بالسبي، كِتَابَ اللهِ عَلَيْكُمْ [النساء:24]؛ فهذه خمس عشرة امرأة هن المحرمات على التأبيد، وزاد عليهن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجمع أن تنكح المرأة على عمتها أو خالتها لما في ذلك من السعي لقطيعة الأرحام، وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم قال: ( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب )، وذلك زيادة في العدد؛ فجميع ذلك هو المحرمات من النساء على وجه التأبيد.

وقولنا: (على وجه التأبيد) هذا عند جمهور أهل العلم، وزاد المالكية: المنكوحة في العدة، فرأوا أنها أيضاً محرمة على وجه التأبيد، ولكن لم يرد على ذلك دليل صريح من كتاب ولا من سنة وليس محل إجماع، والتأبيد حكم مفسر، والحكم المفسر هو الذي لا يقبل النسخ ولا التغيير ولا التأويل؛ ولذلك فإن الراجح أن التأبيد مقصور على ما جاء به النص من كتاب وسنة، وما سوى ذلك إنما هو اجتهاد، فتقع البينونة والفرقة بالنكاح في حال العدة لكن لا ينبغي أن يقع التأبيد إلا بنص، فيحتاج فيه إلى نص.

حالات ندب وكراهة النكاح

ويكون النكاح سنة إذا كان الإنسان لا يخاف على نفسه الزنا، ويجد الطول وليس مريضاً مرضاً مخوفاً ويرجو النسل؛ لما في ذلك من رجاء زيادة أمة محمد صلى الله عليه وسلم وقد سبق حضه صلى الله عليه وسلم على زيادة أعداد هذه الأمة. ويكون مندوباً كما إذا كان الإنسان لا يرجو النسل ولكنه قادر على القيام بحقوق النكاح، ويستطيعه بدنياً ومادياً؛ فهذا يندب له أن يفعله إذا كان لا يخاف العنت على نفسه، وليس مريضاً مرضاً مخوفاً.. إلى آخر الموانع السابقة. ويكون مكروهاً في حق من لا يوقن الوفاء بالحقوق، وخاصة ما يتعلق بالحقوق البدنية، أما الحقوق المادية فالنكاح سبب من أسباب الغنى؛ لأن الله تعالى يقول: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:32]؛ فهو من أوجه التسبب للمال والكسب، فإن كان الإنسان لا يوقن القدرة على الحقوق فإنه يكره له الإقدام عليه إلا إن كان يخاف العنت على نفسه.

وهذه الأحكام اعتراؤها يختلف من شخص إلى آخر، ومن حال إلى حال، ولكن الأصل الذي يذكره الفقهاء في حكم النكاح الندب مطلقاً، وإنما يقصدون به الحال الذي بيناه، فعندما يطلقون الندب في النكاح لا يقصدون بذلك على كل أحد ولا في كل حال، بل هو مقيد بما ذكرناه من الضوابط.

الزيادة على الواحدة في النكاح عند القدرة على ذلك

كذلك فإن الإنسان إذا نكح فلم تسد حاجته بل احتاج في إعفاف نفسه إلى الزيادة على واحدة؛ فإن كان له طول لذلك، وكان يستطيعه بدنياً ومادياً فيرجع الحكم كما كان في عقد الأولى؛ فقد يجب وقد يندب وقد يسن وقد يكره وقد يحرم، وهكذا في الثالثة والرابعة ولا يزيد على الرابعة؛ فذلك الحد الأقصى للقدرة من الرجال؛ فقد قال الله تعالى: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:3]، والمقصود بقوله: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا [النساء:3]، أي: إن أيقنتم ألا تعدلوا؛ وكان العدل بين النساء متعذراً كما قال الله تعالى: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ المَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالمُعَلَّقَةِ [النساء:129]، فالمحرم هو كل الميل، فإذا كان الإنسان يخاف على نفسه كل الميل فهذا هو المأمور بقوله: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً [النساء:3]، أما إذا كان لا يخاف على نفسه كل الميل حتى تكون كالمعلقة ومع ذلك يعلم أنه سيجد ميلاً إلى إحداهن فلا حرج في الإقدام على ذلك، وقد كانت عائشة رضي الله عنها أحضا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عنده، فذلك النوع من الميل لا حرج فيه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تكلفني ما لا أملك )، والنبي صلى الله عليه وسلم أيضاً لا يجب عليه قسمة، وفي حديث عائشة أنه لم يتوفه الله حتى أحل له كل شيء كان حرمه عليه، وتقصد بذلك ما يتعلق بالنكاح؛ فإن الله تعالى أنزل عليه عندما دخل على ميمونة بنت الحارث في عمرة القضاء في العام السابع من الهجرة: لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ [الأحزاب:52]، ثم أخبرت عائشة أنه حل الزيادة، لكن يفعل؛ فهي آخر امرأة تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة من العام السابع من الهجرة.

أول ما يبحث فيه من الأحكام حكم هذا العقد أصلاً، أي: حكم الإقدام على عقد النكاح، وحكمه مختلف باختلاف الأشخاص والأحوال فتعتريه أحكام الشرع الخمسة؛ فقد يكون واجباً، وذلك في حق من يخاف على نفسه العنت، أي: يخاف الزنا على نفسه، فيجب على من خشي العنت على نفسه، أي: خشي على نفسه الوقوع في الزنا أو الوقوع فيما يقرب منه من المحرمات والكبائر، فيجب عليه النكاح إذا استطاع إليه سبيلاً، واستطاعة السبيل إنما هو بوجود الطاقة البدنية وحصول المال المجزئ الكافي، فيشمل ذلك المال المدفوع في الصداق والمال المدفوع في النفقة والسكنى؛ لأنهما من لوازمه.

وإذا كان الإنسان يجد عوناً دون أن يكون له مال للصداق فهل يكفي مجرد القدرة على الاكتساب حتى يجب عليه ذلك؟ محل خلاف بين أهل العلم، فالذين يرون أن الصداق لا بد أن يكون مالاً متمولاً، يرون أنه لا بد من حصوله للوجوب، والذين لا يرون ذلك -وهم الشافعية والحنابلة- يرون أن مجرد الطاقة للإنتاج بأن يكون الإنسان قادراً على الكسب كافياً، واستدل الشافعية والحنابلة بما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( أن امرأة أتته فأهدت إليه نفسها، فصعد فيها النظر وخفضه حتى عرف جلساؤه أنه لا يريدها فقال رجل: يا رسول الله! أنكحنيها، فسأله عن ماله؟ فذكر أنه سيصدقها إزاره فقال: إذاً جلست بلا إزار! فقال: التمس غيره، فذهب فالتمس فلم يجد فقال: لم أجد شيئاً، فقال: التمس ولو خاتماً من حديد فذهب فالتمس فلم يجد شيئاً، فقال: أمعك شيء من كتاب الله؟ )، أي: أتحفظ شيئاً من كتاب الله؟ ( قال: نعم، لسور جعل يعددها.. )، وفي رواية التصريح بسورة البقرة وسورة النساء، ( فقال: أنكحتكها بما معك من القرآن )، وفي رواية التصريح بأن يعلمها السورتين، أي: سورة البقرة وسورة النساء.

وهذه قدرة على الكسب لأنه يستطيع أن يستأجر على تعليم القرآن، وبالأخص إذا قدمه لزوجته فهو نفع والنفع بتحفيظ هاتين السورتين له مقابل معتبر شرعاً؛ لأنه يحل أخذ الأجرة عليه على الراجح، ويرجع البحث هنا إلى أخذ الأجرة على أعمال القرب؛ كتحفيظ القرآن ونحو ذلك.

فمذهب جمهور أهل العلم جواز أخذ الأجرة على ذلك؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله )، وذهب الشافعي رحمه الله إلى منع ذلك؛ لحديث عبادة بن الصامت : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يعلم أهل الصفة القرآن، فأهدى إليه أحدهم عصاً، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له وعيداً شديداً في أخذها في مقابل تعليمه )، والجمهور يرون أن حديث عبادة إنما هو في حق من تعين عليه تعليمه؛ فمن تعين عليه تعليم القرآن كـعبادة -الذي كلفه به النبي صلى الله عليه وسلم ووظفه- فيه فهو متعين عليه لا يجوز له أخذ الأجرة عليه، وأما من لم يتعين عليه فيجوز له أخذ الأجرة عليه، والمتعين عليه هو من يسكن في بلدة ليس فيها من يصلح لتعليمه سواه فيجب عليه أن يعلم القرآن بدون أجر حينئذ، والذي يجد من يعلم سواه في البلد الذي هو فيه يجوز له أخذ الأجرة عليه؛ لأنه غير متعين عليه، ومثل هذا الإمامة والقضاء وأعمال القرب كلها؛ فالارتزاق عليها هو محل هذا البحث.

وأخذ أبي بكر رضي الله عنه من بيت المال في مقابل قيامه بالخلافة وإجماع الصحابة على ذلك هو أقوى أدلة الجمهور؛ لأن إجماع الصحابة حاصل على الأخذ، وقد فعله أبو بكر رضي الله عنه ثم عمر من بعده، فلم ينكر ذلك أحد من الصحابة فكان إجماعاً، وبالأخص أن أهل الحل والعقد من المسلمين تداولوا في الأمر حتى اتفقوا على رزق لـأبي بكر رضي الله عنه يتقاضاه من بيت المال.

وأيضاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في غزواته: ( من قتل قتيلاً فله سلبه )، وهذا أجر في مقابل قربة وهي قتال العدو وجهادهم وهو واجب، فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم أجراً مادياً مقابل هذا العمل الذي هو قربة يبتغى بها وجه الله.

وفصل بعض أهل العلم فقال: إذا كان الارتزاق من بيت المال العام فهو جائز، كما فعل أبو بكر وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من قتل قتيلاً فله سلبه )، وإذا كان الارتزاق من مال الأشخاص الذين يعلمهم الإنسان القرآن أو يعلمهم العلم أو يقضي بينهم أو يؤمهم فلا يجوز، وذهب المالكية إلى تفصيل آخر وهو التفريق بين أنواع القرب؛ فما كان منها مرتبطاً بالصلاة فيكره أخذ الأجرة عليه وحده، فيكره للإمام الذي لا يخطب ولا يؤذن أن يأخذ أجرة على مجرد الإمامة، وقد أطلقوا ذلك فيشمل ما كان من بيت المال وما لم يكن منه، وكذلك أخذ الأجرة على نحو الصلاة كقراءة القرآن، وختم القرآن مثلاً، كالذين يقرءون القرآن ليقتدي بهم الناس في طريقة أدائه؛ فيكره أخذ الأجرة على ذلك على انفراده.

وأما أخذ الأجرة على الأذان أو على الإمامة والخطابة معاً فهو غير مكروه لديهم، ولذلك قال خليل رحمه الله في عد جائزات الأذان، قال: (وأجرة عليه أو مع صلاة وكره عليها).

وأجرة عليه أي: يجوز أخذ أجرة عليه، أي: على الأذان، (أو مع صلاة) أن يكون إماماً مؤذناً، (وكره عليها) أي: على الصلاة وحدها، والواقع أن الإمامة فيها جهد لا يجب على الإنسان؛ وهو رفع صوته بالتكبير حتى يسمع ذلك الناس، وأيضاً انضباطه في الوقت؛ فإنه غير واجب عليه في الأصل، وهذا الفعل غير الواجب يجوز له أخذ الأجرة عليه؛ كحال المؤذن، وأما حديث مالك بن الحويرث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: ( واتخذوا مؤذناً لا يأخذ على ذلك أجراً )، فهذا وصف للأفضل وليس وصفاً للشرط، ليس شرطاً في الأداء، وإنما هو شرط في الكمال فقط.

وقد حصل لأحد القضاة أن معلم القرآن شهد عنده فرد شهادته، فقال: علام ترد شهادتي أيها القاضي؟ قال: لأنك تأخذ أجراً على كتاب الله، فقال: وأنت أيها القاضي تأخذ أجراً على كتاب الله، فقال: أنا مكره، فقال: أكرهوك على القضاء فهل أكرهوك على أخذ الدراهم؟ فقال: هات شهادتك، فقبل شهادته.

ولذلك فإن تعليم المرأة القرآن أو العلم يمكن أن يعد صداقاً لها إذا كان ثمنه يصل إلى ربع دينار لأن أقل الصداق على الراجح هو ربع دينار، ولم يرد في ذلك نص صريح في أقل الصداق، إلا أن البضع عوض وإفساده نظير قطع اليد في السرقة، والنصاب الذي تقطع فيه اليد هو سرقة ربع دينار فلا أقل من ثلاثة دراهم؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( فإذا بلغ ثمن المجن )، وثمن المجن إذ ذاك ثلاثة دراهم كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ، فقطع اليد في السرقة نصابه الذي نص عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو ربع دينار وهو ثلاثة دراهم، فيقاس إفساد البضع على إفساد العضو، أي: قطع اليد في السرقة؛ فعلى ذلك أقل الصداق هو ربع دينار.

لا حد لأعلى الصداق؛ لأن الله تعالى يقول: وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [النساء:20]، والقنطار مائة رطل من الذهب -وهو مبلغ كبير- فعلم أنه يجوز دفعه في الصداق، لكن مع ذلك بشرط عدم الإسراف وتجاوز الحد؛ فلا يجوز ذلك إلا لمن كان غنياً، ولا يؤثر ذلك على ثروته، وأيضاً ألا يكسر نفوس الناس عندما يكون تعجيزاً لهم إذا قاسوا أمرهم عليه، والتبذير في الصداق ليس من المروءة ولا هو من الكمال فيما يتعلق بالعقد؛ ففي حديث ابن عباس : ( أن أفضل هذه الأمة كان أقلها صداقاً )، والمقصود بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فصداق أزواجه وصداق بناته قليل، وهذا يدل على أن الفضل ليس في التغالي في المهور والزيادة فيها.

فإذا وجد الإنسان الطول الذي يمكنه من نكاح الحرة وجب عليه ذلك، وإن عجز عنه فلم يجده جاز له ما دون ذلك وهو نكاح الرقيقة؛ لقول الله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنكِحَ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ المُؤْمِنَاتِ [النساء:25]، وقد شرط الله إذن أهلهن بقوله: فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ [النساء:25].

يحرم النكاح في حق المريض المشرف، الذي هو في مرض موته غالباً، أي: في المرض الذي يؤدي إلى الموت غالباً لما فيه من إدخال الضرر على الورثة، وهذا مراعاة لحقوق الأحياء؛ لأنهم أكثر منه، أما إذا كان ورثته أقل؛ كأن كان له وارث واحد كولد واحد واحتاج هو إلى النكاح فيراعى حقه هو، ويقدم على حق وارثه عند طائفة من أهل العلم، وذلك من فقه الموازنات حيث يوازن بين الحقوق، فاعتبار حقوق الأكثر هو الموافق للقاعدة الشرعية، فإذا استوى أصحاب الحقوق فكان الوارث واحداً -والمتوفى طبعاً واحد- فيراعى حقهما معاً، ويقدم حق المريض في ماله؛ لأنه هو الذي اكتسبه فهو مقدم على الوارث فيه.

وكذلك يحرم نكاح المرأة إذا كانت محرماً أو خامسة، والمحارم هن المحرمات على التأبيد بسبب شرعي، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى تحريم خمس عشرة امرأة في كتابه، فقال تعالى: وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا * حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:22-24]، وقوله: وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:24]، أي: المتزوجات، فكل امرأة متزوجة فلا يحل نكاحها حتى تطلق أو حتى تقع الفرقة ثم تنتهي عدتها؛ ولذلك استثنى الله من هذا فقال: إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:24]، أي: بالسبي، فالمتزوجة من نساء الكفار من أهل الكتاب إذا سبيت، فإن السبي يهدم النكاح فينهدم نكاحها السابق بالسبي؛ فحينئذ يجوز نكاحها بعد الاستبراء، وكذلك يجوز وطؤها بملك اليمين بعد الاستبراء؛ فلذلك قال: وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:24]، أي: المتزوجات، إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:24]، أي: بالسبي، كِتَابَ اللهِ عَلَيْكُمْ [النساء:24]؛ فهذه خمس عشرة امرأة هن المحرمات على التأبيد، وزاد عليهن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجمع أن تنكح المرأة على عمتها أو خالتها لما في ذلك من السعي لقطيعة الأرحام، وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم قال: ( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب )، وذلك زيادة في العدد؛ فجميع ذلك هو المحرمات من النساء على وجه التأبيد.

وقولنا: (على وجه التأبيد) هذا عند جمهور أهل العلم، وزاد المالكية: المنكوحة في العدة، فرأوا أنها أيضاً محرمة على وجه التأبيد، ولكن لم يرد على ذلك دليل صريح من كتاب ولا من سنة وليس محل إجماع، والتأبيد حكم مفسر، والحكم المفسر هو الذي لا يقبل النسخ ولا التغيير ولا التأويل؛ ولذلك فإن الراجح أن التأبيد مقصور على ما جاء به النص من كتاب وسنة، وما سوى ذلك إنما هو اجتهاد، فتقع البينونة والفرقة بالنكاح في حال العدة لكن لا ينبغي أن يقع التأبيد إلا بنص، فيحتاج فيه إلى نص.

ويكون النكاح سنة إذا كان الإنسان لا يخاف على نفسه الزنا، ويجد الطول وليس مريضاً مرضاً مخوفاً ويرجو النسل؛ لما في ذلك من رجاء زيادة أمة محمد صلى الله عليه وسلم وقد سبق حضه صلى الله عليه وسلم على زيادة أعداد هذه الأمة. ويكون مندوباً كما إذا كان الإنسان لا يرجو النسل ولكنه قادر على القيام بحقوق النكاح، ويستطيعه بدنياً ومادياً؛ فهذا يندب له أن يفعله إذا كان لا يخاف العنت على نفسه، وليس مريضاً مرضاً مخوفاً.. إلى آخر الموانع السابقة. ويكون مكروهاً في حق من لا يوقن الوفاء بالحقوق، وخاصة ما يتعلق بالحقوق البدنية، أما الحقوق المادية فالنكاح سبب من أسباب الغنى؛ لأن الله تعالى يقول: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:32]؛ فهو من أوجه التسبب للمال والكسب، فإن كان الإنسان لا يوقن القدرة على الحقوق فإنه يكره له الإقدام عليه إلا إن كان يخاف العنت على نفسه.

وهذه الأحكام اعتراؤها يختلف من شخص إلى آخر، ومن حال إلى حال، ولكن الأصل الذي يذكره الفقهاء في حكم النكاح الندب مطلقاً، وإنما يقصدون به الحال الذي بيناه، فعندما يطلقون الندب في النكاح لا يقصدون بذلك على كل أحد ولا في كل حال، بل هو مقيد بما ذكرناه من الضوابط.


استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
فقه الأسرة [1] 3813 استماع
فقه الأسرة [7] 2929 استماع
فقه الأسرة [4] 2564 استماع
فقه الأسرة [3] 2044 استماع
فقه الأسرة [5] 1954 استماع
فقه الأسرة [6] 1642 استماع