خطب ومحاضرات
فقه الأسرة [6]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد الله رب العالمين, وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنة إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن من نعم الله سبحانه وتعالى على عباده ما يهبه لهم من الأولاد، وهي نعمة لا يستطيع الإنسان الحصول عليها إلا بقدر الله سبحانه وتعالى ومشيئة، ولذلك عد هذه الخصائص الإلوهية فقال: يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ [الشورى:49-50], وهذا التقسيم حاصر، فإن أقسام الناس في الذرية محصورة في هذه الأربعة يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا [الشورى:49], من وهب له الإناث ولم يوهب له الذكور هذا القسم الأول.
وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ [الشورى:49], من وهب له الذكور دون الإناث وهذا القسم الثاني.
أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا [الشورى:50], من وهب له الثنتان معاً وهذا القسم الثالث.
وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا [الشورى:50], وهذا القسم الرابع.
فالتقسيم إذاً حاصر لا يكون من الخلائق إلا من هو من أحد هذه الأصناف الأربعة.
وهنا بين الله تعالى أن ذلك لا يكون إلا بقدره، وما يوهب من الذرية إنما هو هبة من الله سبحانه وتعالى، لا يمكن أن يطلب بالأسباب, فطلب الذرية ما هو إلا بمثابة استزراع الزرع، فالإنسان يحرث الأرض ويجعل فيها الحب، ولكنه لا يدري ما يخرج منها، إلا ما أراد الله إخراجه, ولذلك قال الله تعالى: اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ * عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ [الرعد:8-9], وقد قال الزمخشري رحمه الله:
إنما الأرحام أرضون لنا محترزات فعلينا الزرع فيها وعلى الله النبات
فالله سبحانه وتعالى هو المنبت، ولذلك قال في سورة الواقعة: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ [الواقعة:63-64], فلا يمكن أن ينبت شيء منه إلا بقدر الله سبحانه وتعالى وتدبيره.
مسئولية الرعاية والعناية
لكن هذه النعمة تترتب عليها مسئولية عظيمة جسيمة، وهي مسئولية الرعاية والعناية، فالإنسان يخلق من ضعف ثم يصل إلى القوة، ثم يرجع أدراجه إلى الضعف والشيبة، ويخرج من بطن أمه جاهلاً لا يعلم شيئا، ولكنه مؤهل للعلم، فله ثلاثة أنواع من أنواع الإدراك تابعة لأصل خلقته.
فالإنسان خلق من ثلاثة عناصر وهي: العقل الذي شرف به على الحيوان, والروح التي هي نفخة غيبية من أمر الله, والبدن الذي هو من تراب.
وكل واحد من هذه العناصر الثلاثة له إدراك يدرك به, فالروح إدراكها إنما يقع بالوجدان والإحساس فيحس الإنسان باللذة والألم، وما يعتريه من الرضا والغضب وغير ذلك، وهي أمور لا تدرك بالحواس فليس للبدن بها صلة، ولا تدرك أيضاً بمقتضيات العقول وترتيب الأدلة، فلا هي مما يدرك بذلك ولا يستطيع أحد أن يقنع أحداً أنه راضٍ أو أنه غضبان أو أنه سعيد أو أنه متألم، فهذه الأمور وجدانية يجدها الإنسان في خاصة نفسه.
وما يظهر عليها من الشوائب التي تدل عليها في بدن الإنسان هي عوارض تتفاوت بين الناس، فقد يجد الإنسان سبباً عظيماً للألم فلا يتألم، وقد يجد سبب عظيماً للذة فلا يلتذ, وقد يجد سبباً عظيماً للرضا فلا يرضى, وقد يجد سبباً عظيماً للغضب فلا يغضب، فكل ذلك يرجع إلى الأمر النفسي.
ثم بعد هذا إدراك العقل، وهو بترتيب الأدلة وتركيب الجزئيات على الكليات، ويستطيع الإنسان توصيله إلى غيره، فمدركات العقول متعدية، كل أمر اقتنعت به في عقلك تستطيع أن تقنع به الغير، بخلاف الأمر الذي اقتنعت به في روحك وميزانك فلا تستطيع أن تقنع به الغير.
ومن هنا فإن ما يراه الإنسان في المنام هي من مدركات الأرواح، وليست من مدركات الأبدان ولا من مدركات العقول، فلا يستطيع الإنسان أن يقنع بها الغير, فما تراه في المنام لا تستطيع أن تريه شخصاً آخر، ولا أن تسمعه إياه، فهو من مدركات الأرواح ولا يتعدى العقول ولا إلى الأبدان.
وأما مدركات الأبدان فهي ما يدرك بالحواس الخمس، عن طريق السمع، والبصر، والشم، والذوق، واللمس، فلها إدراكها, ولذلك امتن الله تعالى بها فقال: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ [النحل:78], فهذه جامعة لما ذكر، فالسمع والأبصار هما أكبر الحواس فائدة وأكثرها توصيلاً للعلم فيما يتعلق بالبدن، والأفئدة تشمل إدراك الأرواح وإدراك العقول، فهي شاملة للجانبين السابقين, لكن لا بد في نشأة الإنسان وبداية ضعفه من أن يخضع لرعاية وعناية هي التي تسمى بالتربية.
مسئولية التربية السليمة وأطوارها
وهذه التربية مسئولية عظيمة جسيمة، يحتاج فيها الإنسان إلى إدراك عظم تحملها، وأن يقوم بها على وجهها الصحيح, ولذلك لم يكل الله سبحانه وتعالى إلى الإنسان في خاصة نفسه، بل عهد به إلى والديه وكلفهما بتربيته والعناية به، ثم بعد ذلك عهد بمتابعة التربية إلى المجتمع, فالتربية عملية معقدة تمر ثلاثة أطوار:
الطور الأول: يكون فيه الإنسان غير مشارك في تربية نفسه لا تخطيطاً ولا تنفيذاً, فلا هو يخطط لنفسه ولا هو ينفذ ما خطط له, وهذا الطور لا يمكن أن يوكل فيه الإنسان إلا إلى أقرب إنسان إليه وذلك والداه اللذان أنجباه، فعهد الله به إلى والديه في هذا الطور؛ لأنه هو غير مشارك في العملية لا تنفيذاً ولا تخطيطاً.
الطور الثاني: الإنسان فيه مشارك في التنفيذ، وغير مشارك في التخطيط، كالطالب في المدرسة، فالبرامج معدة مسبقاً سلفاً، وهو مشارك في التنفيذ؛ لأنه محور العملية التعليمية, فهذه يقوم به المجتمع بمؤسساته.
الطور الثالث: ما يكون الإنسان فيه مشاركاً في الأمرين معاً، في التخطيط والتنفيذ، وذلك بما يدركه من التجارب ويختزنه في ذاكرة دماغه من القضايا التي يأخذ به التجارب المستقبلية.
فالقسم الأول هو أخطر هذه الأقسام، ولا يمكن أن يعهد به إلى بعيد؛ لأن البعيد غير مؤتمن في كثير من الأحوال وبعده سبب للحسد والبغضاء، وسبب كذلك لعدم الرحمة، فاحتيج إلى أن يكون المشرف على هذا الوقت في حال الاستضعاف والمذلة من هو أبلغ رحمة, ولذلك لم توكل هذه التربية إلى الآباء فقط، وإن كانت لديهم الشفقة ولديهم العقول ومهاراتهم أقوى وأكبر، ولكن الرحمة ناقصة لديهم، فالرحمة لدى الأمهات أبلغ، فلذلك كان الحق مشتركاً بين الأبوين ما داما زوجين، فإذا افترقا كانت الأم أولى بالحضانة, فإذا تزوجت بغير أبيه سقط حظها بالحضانة، فتنتقل الحضانة إلى أمها إن كانت متصفة بالشروط الشرعية، فإن هي فقدت تلك الشروط انتقلت الحضانة إلى الخالة أيضاً إذا اتصفت الشروط الشرعية؛ لأن الخالة بمثابة الأم، فإن هي فقدت أو اتصفت بمانع أو بطل فيها شرط من الشروط رجعت الحضانة إلى الوالد، ثم إلى بناته وهن أخوات الصغير، وهكذا على ترتيب أولياء الإنسان في الحضانة.
وهذه الحضانة هي جزء فقط من العملية التربوية وليست كلها, فلذلك يحتاج الإنسان إلى العناية بها ومعرفة جزئياتها, فأول ذلك: ما يحصل للإنسان عند مولده، فالإنسان ما دام جنيناً في بطن أمه لم يدخل بعد هذه الحياة فحياته تابعة لحياة أمه، تنفسه مما تدخله هي من الأكسجين، وتغذيته مما تتغذى به، والحبل السري الذي يخرج من سرته يدخل إليه ما يحتاج إليه من الطعام والأكسجين، وينقل عنه أيضاً فضلاته وما زاد من التعفنات التي يخرجها في دمه، فكل ذلك يذهب على الإنسان عن طريق هذا الحبل، فالحبل فيه سالب وموجب، فالسالب هو الذي يذهب بفضلات الإنسان، والموجب هو الذي يدخل إليه ما يحتاج إليه، مثل السلك الكهربائي الذي فيه القسمان معاً.
فلذلك يحتاج فقط في هذه المرحلة إلى عناية بأمه، فالحامل لا بد من العناية بها ومراعاة ظروفها؛ لأنها لا تعيش حياة عادية، فكل شيء من حياتها هي مشاركة فيه حتى الهواء الذي تتنفس به في رئتها هي مشروكة فيه, ودمها الذي يجري في عروقها هي مشروكة فيه, وغذاؤها الذي تتغذى به هي مشروكة فيه، فلذلك تحتاج إلى رحمة وعناية خاصة.
لكن هذه النعمة تترتب عليها مسئولية عظيمة جسيمة، وهي مسئولية الرعاية والعناية، فالإنسان يخلق من ضعف ثم يصل إلى القوة، ثم يرجع أدراجه إلى الضعف والشيبة، ويخرج من بطن أمه جاهلاً لا يعلم شيئا، ولكنه مؤهل للعلم، فله ثلاثة أنواع من أنواع الإدراك تابعة لأصل خلقته.
فالإنسان خلق من ثلاثة عناصر وهي: العقل الذي شرف به على الحيوان, والروح التي هي نفخة غيبية من أمر الله, والبدن الذي هو من تراب.
وكل واحد من هذه العناصر الثلاثة له إدراك يدرك به, فالروح إدراكها إنما يقع بالوجدان والإحساس فيحس الإنسان باللذة والألم، وما يعتريه من الرضا والغضب وغير ذلك، وهي أمور لا تدرك بالحواس فليس للبدن بها صلة، ولا تدرك أيضاً بمقتضيات العقول وترتيب الأدلة، فلا هي مما يدرك بذلك ولا يستطيع أحد أن يقنع أحداً أنه راضٍ أو أنه غضبان أو أنه سعيد أو أنه متألم، فهذه الأمور وجدانية يجدها الإنسان في خاصة نفسه.
وما يظهر عليها من الشوائب التي تدل عليها في بدن الإنسان هي عوارض تتفاوت بين الناس، فقد يجد الإنسان سبباً عظيماً للألم فلا يتألم، وقد يجد سبب عظيماً للذة فلا يلتذ, وقد يجد سبباً عظيماً للرضا فلا يرضى, وقد يجد سبباً عظيماً للغضب فلا يغضب، فكل ذلك يرجع إلى الأمر النفسي.
ثم بعد هذا إدراك العقل، وهو بترتيب الأدلة وتركيب الجزئيات على الكليات، ويستطيع الإنسان توصيله إلى غيره، فمدركات العقول متعدية، كل أمر اقتنعت به في عقلك تستطيع أن تقنع به الغير، بخلاف الأمر الذي اقتنعت به في روحك وميزانك فلا تستطيع أن تقنع به الغير.
ومن هنا فإن ما يراه الإنسان في المنام هي من مدركات الأرواح، وليست من مدركات الأبدان ولا من مدركات العقول، فلا يستطيع الإنسان أن يقنع بها الغير, فما تراه في المنام لا تستطيع أن تريه شخصاً آخر، ولا أن تسمعه إياه، فهو من مدركات الأرواح ولا يتعدى العقول ولا إلى الأبدان.
وأما مدركات الأبدان فهي ما يدرك بالحواس الخمس، عن طريق السمع، والبصر، والشم، والذوق، واللمس، فلها إدراكها, ولذلك امتن الله تعالى بها فقال: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ [النحل:78], فهذه جامعة لما ذكر، فالسمع والأبصار هما أكبر الحواس فائدة وأكثرها توصيلاً للعلم فيما يتعلق بالبدن، والأفئدة تشمل إدراك الأرواح وإدراك العقول، فهي شاملة للجانبين السابقين, لكن لا بد في نشأة الإنسان وبداية ضعفه من أن يخضع لرعاية وعناية هي التي تسمى بالتربية.
وهذه التربية مسئولية عظيمة جسيمة، يحتاج فيها الإنسان إلى إدراك عظم تحملها، وأن يقوم بها على وجهها الصحيح, ولذلك لم يكل الله سبحانه وتعالى إلى الإنسان في خاصة نفسه، بل عهد به إلى والديه وكلفهما بتربيته والعناية به، ثم بعد ذلك عهد بمتابعة التربية إلى المجتمع, فالتربية عملية معقدة تمر ثلاثة أطوار:
الطور الأول: يكون فيه الإنسان غير مشارك في تربية نفسه لا تخطيطاً ولا تنفيذاً, فلا هو يخطط لنفسه ولا هو ينفذ ما خطط له, وهذا الطور لا يمكن أن يوكل فيه الإنسان إلا إلى أقرب إنسان إليه وذلك والداه اللذان أنجباه، فعهد الله به إلى والديه في هذا الطور؛ لأنه هو غير مشارك في العملية لا تنفيذاً ولا تخطيطاً.
الطور الثاني: الإنسان فيه مشارك في التنفيذ، وغير مشارك في التخطيط، كالطالب في المدرسة، فالبرامج معدة مسبقاً سلفاً، وهو مشارك في التنفيذ؛ لأنه محور العملية التعليمية, فهذه يقوم به المجتمع بمؤسساته.
الطور الثالث: ما يكون الإنسان فيه مشاركاً في الأمرين معاً، في التخطيط والتنفيذ، وذلك بما يدركه من التجارب ويختزنه في ذاكرة دماغه من القضايا التي يأخذ به التجارب المستقبلية.
فالقسم الأول هو أخطر هذه الأقسام، ولا يمكن أن يعهد به إلى بعيد؛ لأن البعيد غير مؤتمن في كثير من الأحوال وبعده سبب للحسد والبغضاء، وسبب كذلك لعدم الرحمة، فاحتيج إلى أن يكون المشرف على هذا الوقت في حال الاستضعاف والمذلة من هو أبلغ رحمة, ولذلك لم توكل هذه التربية إلى الآباء فقط، وإن كانت لديهم الشفقة ولديهم العقول ومهاراتهم أقوى وأكبر، ولكن الرحمة ناقصة لديهم، فالرحمة لدى الأمهات أبلغ، فلذلك كان الحق مشتركاً بين الأبوين ما داما زوجين، فإذا افترقا كانت الأم أولى بالحضانة, فإذا تزوجت بغير أبيه سقط حظها بالحضانة، فتنتقل الحضانة إلى أمها إن كانت متصفة بالشروط الشرعية، فإن هي فقدت تلك الشروط انتقلت الحضانة إلى الخالة أيضاً إذا اتصفت الشروط الشرعية؛ لأن الخالة بمثابة الأم، فإن هي فقدت أو اتصفت بمانع أو بطل فيها شرط من الشروط رجعت الحضانة إلى الوالد، ثم إلى بناته وهن أخوات الصغير، وهكذا على ترتيب أولياء الإنسان في الحضانة.
وهذه الحضانة هي جزء فقط من العملية التربوية وليست كلها, فلذلك يحتاج الإنسان إلى العناية بها ومعرفة جزئياتها, فأول ذلك: ما يحصل للإنسان عند مولده، فالإنسان ما دام جنيناً في بطن أمه لم يدخل بعد هذه الحياة فحياته تابعة لحياة أمه، تنفسه مما تدخله هي من الأكسجين، وتغذيته مما تتغذى به، والحبل السري الذي يخرج من سرته يدخل إليه ما يحتاج إليه من الطعام والأكسجين، وينقل عنه أيضاً فضلاته وما زاد من التعفنات التي يخرجها في دمه، فكل ذلك يذهب على الإنسان عن طريق هذا الحبل، فالحبل فيه سالب وموجب، فالسالب هو الذي يذهب بفضلات الإنسان، والموجب هو الذي يدخل إليه ما يحتاج إليه، مثل السلك الكهربائي الذي فيه القسمان معاً.
فلذلك يحتاج فقط في هذه المرحلة إلى عناية بأمه، فالحامل لا بد من العناية بها ومراعاة ظروفها؛ لأنها لا تعيش حياة عادية، فكل شيء من حياتها هي مشاركة فيه حتى الهواء الذي تتنفس به في رئتها هي مشروكة فيه, ودمها الذي يجري في عروقها هي مشروكة فيه, وغذاؤها الذي تتغذى به هي مشروكة فيه، فلذلك تحتاج إلى رحمة وعناية خاصة.
ولهذا اعتنى الشارع بالحوامل، وبين ما لهن من الحقوق حتى لو كانت مطلقةً مبتوتة، فلا بد من رعايتها، ونفقتها وسكناها والقيام بمصالحها، وهذه الرعاية منها رعاية نفسية، فإن الأم إذا توترت في فترة الحمل أثر ذلك على الجنين فيخرج شديد الانفعال شديد الغضب والاكتئاب.
وإذا كانت في فترة الحمل تشكو أمراضاً وآلاماً فإن ذلك يعود على بدن الجنين بالضعف، والشارع راعى هذه الأمور حتى في اختيار الأم من قبل هذا، وقد جاء عن عمر رضي الله عنه أنه قال: (أغربوا لا تضووا)، ومعنى ذلك: أنه ينصح الرجال بعدم تزوج القرائب الشديدة القرابة لما في ذلك من إضعاف الأولاد، وعندما رأى بعض أولاد المهاجرين قد ضعفوا أمرهم أن يتزوجوا من الأعراب، فتزوجوا من الأعراب فكان أولاد الأعرابيات ذوي قوة, وقديماً قال الشاعر الجاهلي:
فتىً لم تلده بنت عم قريبة فيضوى وقد يضوى وليد القرائبِ
وهذا ثابت علمياً بالتجارب اليوم، فإن الإنسان في أصله مكون من نوعين من أنواع الأنسجة في دمه:
النسيج الأول: قد يكون فيه نقص وهو النسيج الراجع إلى الذكور.
النسيج الثاني: هو راجع للأنوثة، فقد يكون فيه نقص في أحدهما، ولكن ذلك النقص لا تظهره الخلقة إلا إذا ازدادت نسبته, فالنقص مثلاً إذا كان نقص واحد بالمائة أو ثلث واحد بالمائة أو ربع واحد بالمائة سيكون تأثيره معدوماً إذا لم يزدد, فإذا ازداد ذلك النقص بأن كان الزوجان من أسرة واحدة، وحصل النقص فيهما معاً فستكون النسبة مضاعفة إذا كان النقص في والده بنسبة خمسة على واحد في المائة مثلاً، والنقص في أمه بنسبة خمسة على واحد في المائة، سوف يكون النقص فيهما بنسبة واحد في المائة فتزداد النسبة.
فلذلك يحتاج إلى مثل هذا النوع ومراعاته، وقد يكون النقص في جهة الذكور فقط، فتكون الأسرة التي هي منحدرة من أصل واحدٍ نقصها في أولادها الذكور، وقد يكون في الإناث فقط، وقد يكون فيهما معاً, ثم إن الحوامل أيضاً يعتريهن من الأمور الأخرى ما لا بد من مراعاته، فإن الله سبحانه وتعالى في أصل خلقة المرأة زادها في خلقتها سعةً في الحوض؛ لتتحمل الجنين على اتساع الرحم له، فالرحم في الأصل منكمش صغير، ولكنه يتسع مع طول الوقت, ولذلك له عنقان في الخاصرتين، وكل واحد من العنقين ينتج في كل شهر بويضة، فينتج هذا بويضة في الشهر، وفي الشهر الذي يليه ينتج الآخر, فإذا نزلت فهي قابلة للتلقيح، فإذا لقحت حصل الحول بإذن الله, وإذا لم تلقح كانت حيضاً، فهذا الذي يحصل منه تحصل منه الحيضة في الدورة.
ثم إن أحواض النساء قد تتسع لجنين على قدر قامتها هي مثلاً! إذا كان الزوجان قامتهما متقاربة، فالعادة أن أولادهما يكونان على ذلك المقاس تقريباً، فيكون حوض المرأة متسعاً لجنين دائماً، فكمل مدة الحمل تسعة أشهر، وإذا زادت أسبوعاً أو نقصت أسبوعاً لا حرج، فالحوض متسع له, لكن إذا تباينت قامة الزوجين، فكانت المرأة طويلة مثلاً أو الرجل طويلاً وحصل التبيان بينهما في القامة فهذا يؤدي إلى اختلاف الحال، فسيكون الجنين مثلاً أكبر من الحوض، وحينئذٍ يحتاج إلى العملية القيصرية أو إلى الميلاد قبل أجله بالوسائل الأخرى، وهكذا فيحتاج إلى مراعاة هذا النوع كذلك.
نفقة الحامل وتغذيتها وأثره على الجنين
ثم إن نفقة المرأة في أمد الحمل مؤثرة كذلك على الجنين؛ لأنه يتغذى بها، فيحتاج إلى أن تكون من حلال؛ لأن اللحم إذا نبت من حرام فالنار أولى به كما في الحديث: ( كل لحم نبت من حرام فالنار أولى به ), فلذلك لا بد من مراعاة الحلال حتى في مرحلة الحمل، أن تكون تغذية الجنين من حلال، وهو جنين في بطن أمه, وكذلك العناية بالأخلاق في هذه المرحلة، فالإنسان دائماً يتأثر بأخلاق من يخاله ومن يجالسه.
ومن هنا شرعت أحكام الطريق التي هي في حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إياكم والجلوس في الطرقات، قالوا: يا رسول الله! ما لنا من مجالسنا بد نتحدث فيها, فقال: فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه, قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر ), فالطرق التي يمر بها الإنسان يتأثر بها؛ لأنه إذا سمع كلاماً فسيسهل عليه النطق به، وإذا كان ذلك الكلام غير مناسب فهذا خلق قد صار إليه بالعدوى وانتقل إليه, ولذلك فكثير من الذنوب ليست مقتصرة على صاحبها الذي فعلها؛ لأنه يصدرها للناس عندما يفعلها عياناً بياناً أمام الناس، فكأنه يدعوهم إليها ويصدرها إليهم, والذنوب غير المعهودة التي لا يراها الناس كثيراً يقشعرون منها إذا رأوها, والذنوب المعهودة الدارسة في الطرق إذا رآها الإنسان لا يقشعر منها عادة ولا ينكرها, ولذلك يقول العرب: كثرة المساس تمت الإحساس.
ولهذا لا تسمعون الآن من ينكر الغيبة ولا الكذب، لكن إذا سرقت مائة أوقيه على تفاهتها من أحد الناس فسيقوم الناس على السارق جميعاً ويضربونه من اليمين إلى الشمال, لكن إذا نطق بالكفر أو أكل الميتة أو كذب فإنه لا أحد يضربه ولا يتهمه ولا يعيبه.
والسبب أن هذا الذنب ليس أكبر من الآخر، فالكفر بالله أكبر الذنوب، لكن هذا الذنب أصبح معهود لدى الناس، هل سمعتم الآن من ينكر على أحد مرابٍ مثلاً! فيجلده بين الناس ويعيبه أو يضربه على رباه؟ لكنكم تشاهدون من سرق والناس يضربونه ويعيبونه.
وأكل الربا أعظم من السرقة، وكلاهما من الكبائر المحرمة، لكن هذه الذنوب المدعومة هي مثل المواد المدعومة في الاقتصاد التي تدفع الدولة جزء من سعرها وتكلفتها، فتكون أرخص من غيرها، كذلك بعض الذنوب تكون مدعومة لدى المجتمع أو حتى لدى الدول والأنظمة، فتدعمها فيسهلها ذلك على الناس وتكون في متناول أيديهم، فيكثر الوقوع فيها، نسأل الله السلامة والعافية.
أثر ما تشاهده الحامل وتسمعه على جنينها
ومن هنا كان لا بد من رعاية الحامل لعدم تأثر جنينها بما تشاهده وما تسمعه من شؤم الذنوب في فترة الحمل، ومع ذلك فلا بد من خروجها، فالجنين يحتاج إلى نصيب من أشعة الشمس في بطن أمه، وهو من تمام نفقته، فإذا جلست أمه في البيت طيلة أمد الحمل فسيخرج ضعيف العظام معرضاً للكساح، ولغيره من الأمراض, لكن إذا نالته أشعة الشمس وهو في بطن أمه، فذلك مما يقوي عظامه وهو من نفقته وحقوقه.
لكن لا بد أن يكون خروجها للشمس ومشيها بمنأىً عن الذنوب ومشاهدة المناكر، لما في ذلك من الضرر المعنوي أيضا.
ثم بعد هذا إذا ولد فلا بد من العناية بالتوليد، وهو وظيفة من الوظائف الإسلامية، عدها ابن خلدون من وظائف الدولة الإسلامية، وعد أصبح التوليد من العلوم التي تستحق الدراسة، ومن المؤسف أن هذه العملية يقوم بها في زماننا في كثير من الأحيان الرجال، فالمتخصصون في الأمراض النسائية وفيما يتعلق بالتوليد أغلبهم من الرجال, وهذا ضرر وخطر، فيحتاج إلى إيجاد بدائل من النساء، يتعلمن ما يحتاج إليه في هذا الجانب، وهو فرض كفاية، ويجب على النساء أن يكون منهن من تتولى هذا الفرض، فتتهيأ لدراسته لتسد خلة هذه الأمة في هذا الجانب.
وكشف الأطباء الذكور على النساء محل ضرورة فلا يتعدى فيها محلها، ولا ضرورة للخلوة، فلا يحل خلوة الحامل أو المرأة مطلقاً للطبيب، بل لا بد أن يكون معها زوجها أو من يرعاها, ولا تحل خلوة الطبيب بها وحدهما.
وكذلك الكشف أيضاً يقتصر فيه على محل الضرورة فلا تتجاوز، فإذا استغنى عن بثها بالأجهزة لم يحل له مس شيء من بدنها، وإذا اضطر إلى المس أو الجس بحائل كأن يفعل يده في الكيس البلاستيكي، وجب عليه ذلك ولم يحل له بدون الحائل، فهذه الأمور كلها محل ضرورة، والضرورة لا تتعدى محلها، فلا يتجاوز بها الإنسان محلها.
مراعاة ما تتناوله الحامل من علاج وأثره على الجنين
ثم بعد هذا ما تتناوله من الأدوية لا بد أن يراعى فيه ما يتعلق بجنينها، فـأنتم تعلمون أن الأدوية يكتب عليها المنع -في كثير من الأحيان- من تناول الحوامل لها؛ لأن كثيراً من الأدوية لم تجرب على جميع الشرائح، وإن جربت فليس شيء منها مضمون النتائج، أي دواء من الأدوية المشتهرة في العالم لا تتجاوز نسبة نجاحه 75%, وكذلك في أصل تكوينه؛ إذ كل دواء مؤلف من عدد من العناصر، ففيه المادة الفعالة التي هي العلاج، ويضاف إليها عدد كبير من المواد، منها مواد حافظة، وهذه في العادة مضرة، ومواد للتلوين، ومواد للطعوم، ومواد للإساغة داخل المصنع؛ لأن المصنع الذي ينفذ الدواء للتعليم يحتاج المسحوق ليسير فيه في دورته إلى كثير من السخونة والليونة، ولا يمكن أن يتم ذلك إلا بإضافة مواد مسيغة للدواء، فتكون نسبة المادة الفعالة في كل دواء لا تتجاوز 25%، والبقية كلها مواد إضافية، وهذه المواد الإضافية فيها خطورة، ولذلك إذا استطاعت الحامل أن تستغني عن استعمال الدواء مطلقاً فهذا أولى.
واستعمالها للمواد غير المركبة كالأدوية الناشئة على الأعشاب والأغذية المباشرة فذلك أولى، وبالأخص في زماننا هذا الذي كثر فيه مرض الحوامل بارتفاع السكر وارتفاع الضغط، وزيادة نسبة الكلسترول في الدم، فهذه الأمور لا بد من مراعاتها باجتناب الإكثار من الأملاح، والأملاح توجد في كثير من المواد التي نستعملها، فمادة الصوديوم في الماء إذا ارتفعت فإنها تكفي لاستعمال الإنسان من الأملاح، وهكذا المواد السكرية فهي موجودة في النشويات التي نستعملها كالأرز والذرة والقمح وغير ذلك، كلها فيها نسبة كبيرة من السكريات.
وكذلك الكلسترول فإنه يوجد في اللحوم البهائم وبالأخص بهيمة الأنعام، فهو في الطيور أقل، وهو في الإبل أيضاً أقل منه في البقر والغنم، فلحوم الإبل بهذا الاعتبار أحسن للحوامل، وأليق من لحوم الغنم ومن لحوم البقر، وأولى منها اللحوم البيضاء كالأسماك ولحوم الدجاج طبعاً غير المستورد من بلاد الكفر, فهذا من العناية التي لا بد منها.
استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
فقه الأسرة [1] | 3815 استماع |
فقه الأسرة [2] | 2936 استماع |
فقه الأسرة [7] | 2932 استماع |
فقه الأسرة [4] | 2567 استماع |
فقه الأسرة [3] | 2049 استماع |
فقه الأسرة [5] | 1957 استماع |