أهمية إدراك الغاية من الدعوة إلى الله
مدة
قراءة المادة :
16 دقائق
.
من الأمور المهمة التي يجب أن يعيها الدعاةإدراك الغاية من الدعوة إلى الله
فقد بعث الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم للعالمين على فترة من الرسل، وقد بلغت البشرية جاهلية منحطة في شتى شئونها الدينية والاجتماعية والأخلاقية، فالشرك بالله هو دين عرب الجزيرة، والابتداع والتحريف هو دين أهل الكتاب، ويعيش الجميع في زيغ وضلال، وتعظيم وتقديس لتراث الآباء والأجداد، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكيه عن ربه تعالى في وصف تلك الحال: ((وإني خلقت عبادي حنفاء[1] كلهم، وأنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم[2] عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا، وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم[3]، عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب[4]، وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك[5]، وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء[6]، تقرؤه نائماً ويقظاناً، وإن الله أمرني أن أحرِّق قريشا...
قال: استخرجهم كما استخرجوك، وأغزهم نُغزك[7]، وأنفق فسننفق عليك، وابعث جيشاً نبعث خمسة مثله، وقاتل بمن أطاعك من عصاك))[8].
فالنبي صلى الله عليه وسلم جاء بالحجة الواضحة، ليرسخ معنى العبودية لله، وليفرده بالربوبية والتوحيد دون شريك، وهذه هي القاعدة الأساسية للإسلام وجوهره.
وغاية الدعوة الإسلامية هي: ترسيخ هذه القاعدة في قلوب الناس لتصبح يقينا وعقيدة وواقعا في الحياة، فيصدر عنها الالتزام بالعبادات والأحكام والآداب التي جاء بها الإسلام، وقد قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [9].
قال ابن القيم رحمه الله:
(وكل حي فله إرادة وعمل بحسبه، وكل متحرك فله غاية يتحرك إليها، ولا صلاح له إلا أن تكون غاية حركته، ونهاية مطلبه: هو الله وحده، كما لا وجود له إلا أن يكون الله وحده هو ربه وخالقه)[10].
فغاية كل مسلم هي الظفر برضوان الله تعالى، المتمثل في سعادة الدنيا ونجاة الآخرة، وتحقيق ذلك يكون بحسن الصلة به تعالى، فهذه هي وجهة المسلم ومنتهى أمله وسعيه[11]، كما قال تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾[12].
وقد أشار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى الغاية من الدعوة إلى الله بأنها:
(تحقيق الألوهية لله وتوحيده، وامتناع الشرك...
وأن القلوب لا تصلح إلا بأن تعبد الله وحده، ولا كمال لها ولا صلاح ولا لذة ولا سرور...
بدون ذلك، وتحقيق الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وغير ذلك مما يتعلق بهذا الموضع، الذي في تحقيقه تحقيق مقصود الدعوة النبوية والرسالة الإلهية، وهو لب القرآن وزبدته...
فإن هذا بيان لأصل الدعوة إلى الله وحقيقتها ومقصودها)[13]، هذه هي الغاية التي يجب أن يتشبث بها الداعية المسلم، وأن يضعها نصب عينيه.
وهناك في الإسلام غايات وأهداف[14] أخرى إنسانية واجتماعية، لكن عند التأمل نجد أن هذه الأهداف في الحقيقة خادمة للهدف الأكبر، وهو مرضاة الله تعالى وحسن مثوبته، للفوز بنعيم الآخرة والنجاة من العذاب، فهذا هو هدف الأهداف وغاية الغايات[15].
ومن لوازم وضوح الغاية من الدعوة إلى الله تعالى:
[1] أن الغاية التي يرجوها المسلم من وراء أفعاله، هي المعيار الذي يقوّم به عمله، فالأعمال تصبح ذات قيمة، أو تفقد قيمتها، باعتبار الغاية التي يرمي إليها العامل من عمله، فالذي يدعو إلى الله ابتغاء مرضاة الله، عمله أفضل الأعمال، والذي يدعو لينال الشرف والمكانة عند الناس، عمله شر الأعمال، وكذلك الذي يهاجر استجابة لأمر الله، ونصرة لدينه، عمله في المرتبة العليا، والذي يهاجر طلباً لنفع دنيوي، فعمله باطل مضمحل[16].
[2] أن وضوح الغاية من الدعوة يؤدي إلى وضوح الغاية من الجهاد في سبيل الله، والغاية من الإعداد له، (فالجهاد مقصوده أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يكون الدين كله لله، فمقصوده إقامة دين الله، لا استيفاء الرجل حظه)[17]، ولا الانتقام وانتهاك الحرمات، أو حيازة المغانم وبسط النفوذ على الأرض.
والإعداد والتسلح وامتلاك القوة المادية والبشرية، لا يهدف إلى إثبات الوجود واجتذاب الناس، بل الغاية من امتلاك هذه القوة، تحقيق التغيير الإسلامي، بإقامة أمر الله وتطبيق شرعه[18]، لقوله تعالى ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ﴾[19]، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي، وبما جئت به، فإن فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله))[20].
فإذا ركزت هذه الغاية في نفس الداعية، فإن الأصل في الدعوة والجهاد في سبيل الله، هو نشر دين الله بين الناس، فيكون القتال والصراع أمرا طارئا مؤقتا، يتوقف بزوال أو بتحقق الدافع له، فنفس الداعية ممتلئة بحب الخير للناس وهدايتهم، لا بالحقد عليهم أو الرغبة في إيقاع الأذى والانتقام منهم.
وقد كان ذلك شعور النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعفو عن قريش، ويحقن دماءهم، فالجهاد وسيلة لنيل رضوان الله بنشر دينه في العالمين، فإذا تحققت هذه الغاية المنشودة فلا قتال ولا قهر، بل عفو كريم، فلا تكون الوسيلة شاغلة عن الغاية الأساس.
[3] إن تحديد مفهوم الغاية يضع حدودا فاصلة، ويمنع وقوع الخلط بين الغاية والثمرة من هذه الغاية، فقد كان فتح مكة تمكينا للمسلمين، وتمهيدا لحكمهم واستخلافهم في الأرض، لكن هذا الحكم والاستخلاف ليس غاية في حد ذاته، إنما هو ثمرة لقيامهم بالدعوة إلى الله، إيمانا به وتصديقا بنبيه صلى الله عليه وسلم، ومثوبة وعدهم الله تعالى بها في قوله تعالى ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ ﴾ [21].
ومن الممكن اعتبار ذلك هدفا ساميا يعمل الدعاة لتحقيقه، فإذا قام الدعاة بدعوة الناس لإقامة شرع الله في الأرض، والحكم بين الناس بما أنزل الله، ونبذ القوانين الوضعية، فهذه كلها جوانب مهمة، وأهداف من الواجب تحقيقها، لكن تحققها لا يمنع استمرارية الدعوة إلى الله، كما أن التركيز عليها وإغفال الجانب الأهم، ألا وهو الدعوة إلى العقيدة الصحيحة، وتحقيق عبودية الناس لله بشكل كامل، فيه مخالفة لمنهج الرسول صلى الله عليه وسلم في الدعوة[22].
إضافة إلى ذلك فإن وضوح الغاية وتميزها عن الأهداف القريبة أو الثمار المرجوة عند الدعاة، لا يدع مجالا للنكوص والارتداد عندما يكون هناك فشل أو إخفاق في تحقيق هذا الهدف، أو هذه الثمرة، ولا تضيع الغاية المنشودة[23]، لأن المطلوب من الدعاة بذل الوسع، وما عليهم إلا البلاغ، وهذه الغاية ترافقهم، وهي نصب أعينهم في أي مرحلة من مراحل الدعوة.
[4] أن فقه الدعاة لهذه الغاية يترك أثرا عجيبا في نفوسهم، فتسلم أنفسهم من التمزق والصراع الداخلي، أو التوزع والانقسام بين مختلف الغايات وشتى الاتجاهات، فتحصيل الدنيا ومتعتها وزهرتها، لم يكن يوما من الأيام غاية وهدفا لدعاة الإسلام الأوائل، بل إن أداء الرسالة لا يرتبط بهذه المتع الدنيوية[24]، ومن هذا المنطلق، خشي الأنصار رضي الله عنهم مفارقة الرسول صلى الله عليه وسلم لهم، وانتقاله إلى مكة، وما ذلك إلا ضنا منهم بالله ورسوله، وحبا في الخير والهدى والنور الذي يشيع بينهم حال مرافقته لهم.
كما أن توحد هذه الغاية في نفوس الدعاة، يزيل عنصر الأثرة والعصبية الجماعية، ويحرر الداعية من شهوات نفسه والخضوع لمطالبه ورغباته الشخصية، وهذه أمور من شأنها تفريق كلمة الدعاة، وبذر بذور الشقاق والنفرة والحسد والمزاحمة بينهم.
وعلى العكس من ذلك، فإن هذه الغاية تولي وجهة المسلم إلى ذات الله تعالى، التي لها علاقة سواسية بالنوع البشري، ولا تمايز إلا بالتقوى، فإذا اتجهت مقاصد الدعاة إلى غاية نيل رضوان الله، حدث فيها اشتراك واتحاد يكفل إنشاء عواطف التعاون والتكافل، ويزيل عواطف الشحناء والتزاحم من بينها[25]، فتسير الجماعات التي تعمل للدعوة الإسلامية- باختلاف وسائلها وأساليبها ومناهجها- لتحقيق غاية واحدة، ما دامت لا تخالف منهج النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله، لأن الساحة تسع كل مخلص لله، متبع لكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
[5] أن تحديد الغاية للدعاة يوضح لهم الوجهة التي يسلكون، فيعرف أحدهم من أين يبدأ، وكيف، وما هو الطريق الموصل إلى غايته، فالإنسان العاقل إذا ابتغى لنفسه النجاح فعلا، عليه أولا أن يحدد غاية سلوكه، ثم يجمع كل نياته وأعماله ومساعيه للوصول إليها، وإن كان هناك عدة طرق للوصول إليها، فعليه أن يختار الطريق الأنسب بعناية، ولا يلتفت أدنى التفات إلى عشرات الطرق المتخللة في سبيله[26].
وتحديد الغاية من الدعوة يساعد على تحديد الأهداف المطلوبة من العملية الدعوية، وكلما وضحت هذه الأهداف وحددت، كلما ابتعدت الجهود عن الارتجالية والفوضوية التي قد تؤدي في النهاية إلى القعود عن الدعوة والفتور والملل.
والداعية إذا اطلع على المنهج النبوي في الدعوة، ثم أخطأ في اختيار الأساليب أو الوسائل المناسبة، فحينئذ لا يشفع له في خطأه أثناء سلوكه ذلك الطريق، إرادته لتلك الغاية، ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك للدعاة منهجا متكاملا، إذا ساروا عليه تحقق لهم النصر ولو بعد حين.
ولتحقيق غاية ما لا بد من أمور:
1) تحديد تلك الغاية واستيعابها.
2) تعيين الطرق والمناهج والوسائل الموصلة إلى تحقيقها.
3) القيام بتنفيذ ذلك، واستفراغ الجهد مع التوكل على الله.
4) متابعة التنفيذ مع التقويم المستمر[27].
[1] أي مسلمين وقيل: طاهرين من المعاصي، وقيل: مستقيمين منيبين لقبول الهداية.
صحيح مسلم بشرح النووي 17/197.
[2] أي استخفوهم فذهبوا بهم وأزالوهم عما كانوا عليه، وجالوا معهم في الباطل.
المرجع السابق.
[3] المقت أشد البغض، والمراد بهذا المقت والنظر: ما قبل بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
المرجع السابق.
[4] وهم الباقون على التمسك بدينهم الحق من غبر تبديل.
المرجع السابق.
[5] معناه: لأمتحنك بما يظهر منك من قيامك بما أمرتك به من تبليغ الرسالة والجهاد في سبيل الله والصبر في الله تعالى وغير ذلك، وأبتلي بك من أرسلتك إليهم فمنهم من يظهر إيمانه ويخلص في طاعته، ومن يتخلف ويتأبد بالعداوة والكفر ومن ينافق.
المرجع السابق ص 198.
[6] أي محفوظ في الصدور لا يتطرق إليه الذهاب، بل يبقى على ممر الأزمان.
المرجع السابق.
[7] أي نعينك.
المرجع السابق.
[8] جزء من حديث طويل رواه الإمام مسلم في صحيحه كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار 4/2197 ح 2865.
[9] سورة الأنعام الآيتين 162-163.
انظر دور المنهج الرباني في الدعوة الإسلامية ص 119.
[10] إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان 2/136، تحقيق محمد حامد الفقي، دار المعرفة للطباعة والنشر بيروت، ط:2 1395هـ 1975م.
[11] بتصرف، منهج أهل السنة والجماعة في قضية التغيير بجانبيه التربوي والدعوي: د.
السيد محمد نوح ص 92، دار الوفاء للطباعة والنشر المنصورة مصر ط:1، 1411هـ 1991م.
وانظر الخصائص العامة للإسلام د.
يوسف القرضاوي ص 7.
[12] سورة الذاريات آية 56.
[13] باختصار، الفتاوى: ابن تيمية 15/163.
[14] هناك فرق بين الهدف والغاية: فالهدف هو المقصد القريب، أو الغرض القريب من الفعل، والغاية هي المقصد البعيد أو الغرض البعيد، وقد يعبر عن الغاية بأنها الهدف البعيد.
ولوضوح الاصطلاح يعبر عن الهدف البعيد بالغاية، وعن المقصد القريب بالهدف.
بتصرف، أهداف التربية الإسلامية وغايتها: د.
مقداد يالجن ص 22، مطابع القصيم الرياض، ط:1، 1406هـ 1986م.
وانظر الأسلوب التربوي للدعوة إلى الله في العصر الحاضر: خالد عبدالكريم الخياط ص 32، دار المجتمع للنشر والتوزيع جدة، ط:1، 1412هـ 1991م.
[15] بتصرف، الخصائص العامة للإسلام ص 7.
[16] بتصرف، مقاصد المكلفين فيما يتعبد به لرب العالمين (النيات في العبادات): د.
عمر سليمان الأشقر ص 348- 349، مكتبة الفلاح الكويت، ط:1، 1401هـ 1981م.
[17] الفتاوى: ابن تيمية 15/170.
[18] بتصرف، المتساقطون على طريق الدعوة، كيف ولماذا: فتحي يكن ص 103، مؤسسة الرسالة بيروت ط:6، 1405هـ 1985م.
[19] سورة البقرة جزء من آية 193.
[20]صحيح مسلم كتاب الإيمان باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمدا رسول الله..
الخ 1/51 ح 21.
[21] سورة النور جزء من آية 55.
[22] بتصرف، الوصايا في الكتاب والسنة: د.
علي بن محمد ناصر الفقيهي ص 79-80، المجموعة الخامسة مطبعة الجامعة الإسلامية مركز شئون الدعوة ط:1.
[23] بتصرف، منهج أهل السنة والجماعة في قضية التغيير ص 92.
[24] بتصرف، الخصائص العامة للإسلام ص 14، وانظر السبيل إلى دعوة الحق والقائم بأمرها ص 106.
[25] بتصرف، الحضارة الإسلامية أسسها ومبادئها ص 72.
[26] بتصرف، المرجع السابق ص 80.
[27] أطلت في عرض هذا المفهوم، لما قد يظن أن فتح مكة كان غاية النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لمكانتها الدينية، ولمناصبة أهلها العداء له، إضافة إلى أنها موطن نشأته ومهد رسالته، ولما قد يسببه عدم وضوح هذا المفهوم في أذهان الدعاة من اضطراب في التصور، واختلاط بين الأهداف والوسائل، أو التركيز على قضايا ومصالح جزئية، مع إهمال الغاية السامية والأهداف الكبرى عند تحققها، وذلك ينتج تقصيرا في الدعوة وقعودا عنها، وإضاعة للجهود والطاقات بلا طائل.