سلسلة الأسماء والصفات [7]


الحلقة مفرغة

يقول الشيخ حفظه الله:

[يخفض يرفع يعز ويـذل يكره يمقت ويهدي ويضل]

ما زلنا في ذكر بعض الصفات التي جاءت بالإثبات التفصيلي في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فمنها:

إثبات صفة الخفض والرفع لله عز وجل

(الخفض والرفع): فالله سبحانه وتعالى يخفض خفضاً حسياً وخفضاً معنوياً, فالخفض الحسي مثل خفض المنافقين في النار, حيث جعلهم تحت الكافرين فيها، ومثل خفضه لبعض المخلوقات عن بعض, فهذا هو الخفض الحسي، ومنه الخسف وغيره.

وأما الخفض المعنوي: فهو مثل خفضه لمنزلة الكافرين في الدنيا وفي الآخرة، كخفضه في الدنيا لمنزلة أكثر الكافرين على أتباع عيسى بن مريم، فقد جعل أتباعه فوق الكافرين إلى يوم القيامة, فخفض الكافرين تحت رئاسة أتباع عيسى إلى يوم القيامة, كما تعهد بذلك لعيسى في قوله: وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ[آل عمران:55] .

وكذلك فإن من صفاته الرفع, وهو كذلك رفع حسي ورفع معنوي, فالرفع الحسي: مثل رفعه للأعمال الصالحة, كما قال تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ[فاطر:10] .

ومثل رفعه لبعض عباده رفعاً حسياً كرفعه لإدريس عليه السلام، فقد قال الله تعالى: وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً[مريم:57] , وذلك في السماء الرابعة، حيث لقيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج فيها.

ومثل ذلك رفع الأرواح التي تعرج إليه فإنه يرفعها.

وأما الرفع المعنوي: فهو رفع بعض الناس درجات فوق بعض, وقد تعهد الله بذلك للمؤمنين ولأهل العلم في قوله تعالى: يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ[المجادلة:11] , وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من تواضع لله رفعه), فالتواضع مدعاة للرفعة يرفع الله به الدرجات, وكذلك ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها سبعين خريفاً في قعر جهنم، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجات، أو درجات في الجنة), فهذا رفع حسي بالنسبة لرفع الدرجات في الجنة.

ومثل هذا رفعه سبحانه وتعالى لكتابة أعمال المتقين، فإنه يرفعها فيجعلها في عليين, واختلف في تفسير عليين فقيل: هو اسم لأعلى الجنة, وقيل: هو الكتاب الذي تكتب فيه أعمال الصالحين, وهو مشتق من العلو؛ لارتفاع منزلته ومكانته, فقيل: هو جمع علِّيٍّ، والعلي: المرتفع، ومن ذلك قول الشاعر:

كأن حوطاً جزاه الله صـالحةً وجنةً ذات عليٍّ وأشـراع

لم يقطع الخرق تمسي الجن ساكنه برسلة سهلة المرفوع هلواع

والآية محتملة للأمرين؛ لأنه جاء ذكر عليين في الآية مرتين, فقال تعالى: كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ[المطففين:18] , وإذا أخذنا بهذا الجزء من هذه الآية ترجح المعنى الأول: أن عليين معناه أعلى الجنة، لكن قال بعدها: وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ[المطففين:8-9] ففسر عليين بالكتاب, وحينئذٍ إذا أردنا الجمع بين القولين في الآية، فإما أن نقول في الآية الأولى: كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ[المطففين:18] , أي: في أعلى الجنة وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ[المطففين:19] كِتَابٌ مَرْقُومٌ[المطففين:9] محل كتاب مرقوم، فيكون على حذف مضاف.

وإذا أردنا الجمع على القول الثاني فنقول: (كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ) معناه: كلا إن كتابة عمل الأبرار لفي عليين، أي: في الكتاب وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ[المطففين:8-9] , فيكون الكتاب بمعنى الكتابة, وكون الكتاب بمعنى الكتابة وارد في القرآن وفي السنة, فمن القرآن قول الله تعالى في ثنائه على عيسى عليه السلام: وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ[آل عمران:48] , فالكتاب الذي يعلمه عيسى إنما هو الكتابة؛ لأنه لو كان الكتاب معناه الكتب المنزلة لأغنى عن ذلك قوله: وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ[آل عمران:48] , فالكتاب المنزل الذي تعلمه عيسى هو التوراة والإنجيل, فلما عطف التوراة والإنجيل على الكتاب علم التغاير؛ لأن العطف يقتضي المغايرة, فلهذا كان المقصود أن يعلمه الكتابة, وكان عيسى من كتاب العالمين المشاهير، ومن أحسن الناس كتابة.

وهذا الخفض والرفع من هاتين الصفتين ورد في السنة أيضاً في حديث قبض الأرواح: أن الملائكة يرتفعون بها إلى السماء, فإن كانت روحاً مطمئنة استأذنوا ففتحت لها أبواب السماء, وإن كانت نفساً خبيثةً لم تفتح لها أبواب السماء، وقيل: ارجعي من حيث جئت لا مرحباً بالنفس الخبيثة.

وكذلك فيما يتعلق بالرفع الحسي في الحديث: رفع جبريل قرى قوم لوط حتى سمع أهل السماء نباح كلابهم، ثم ردها على الأرض, وهذا بإذن الله سبحانه وتعالى وأمره.

ومن هاتين الصفتين اشتق اسمان من أسماء الله تعالى وهما: الخافض والرافع, وقد رتبهما الشيخ على هذا الترتيب، على ترتيب الاسمين في السنة في حديث أبي هريرة في ترتيب الأسماء، فقد جاء فيه الخافض قبل الرافع, ومما يدل على ذلك من النصوص أيضاً قول الله تعالى: قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[آل عمران:26] , فهذا وإن كان بغير اللفظ إلا أن معناه هو معنى الرفع والخفض المعنوي لا الحسي.

وكذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث حذيفة الذي أخرجه أحمد في المسند والحاكم في المستدرك وغيرهما: (تكون فيكم النبوة ما شاء الله لها أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافةً على منهاج النبوة ما شاء الله لها أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً ما شاء الله لها أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرياً ما شاء الله لها أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافةً على منهاج النبوة، وسكت).

وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري وغيره أنه قال: (كان حقاً على الله أن لا يرفع شيئاً من الدنيا إلا وضعه)، وذلك في قصة القصواء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي لم يكن يقوى لها شيء، ولا تسابقها راحلة إلا سبقتها، حتى جاء أعرابي على قعود له أحمر فسبقها، وقد جاء في هذا الحديث الوضع مقابل الرفع، فهو صفة أخرى تقابل هذه، والجميع من الصفات الفعلية: الخفض والرفع والوضع.

إثبات صفة الإعزاز والإذلال لله عز وجل

قال: (يعز ويذل) وهذا أيضاً إثبات لصفتين متقابلتين كالسابقتين، فالله سبحانه وتعالى هو المعز المذل، وهذان الاسمان مشتقان من هاتين الصفتين.

والمعز: من العزة التي هي المكانة والقدر.

والمذل: من الذلة التي هي المسكنة وانحطاط المنزلة.

وقد قال الله تعالى: تُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ[آل عمران:26] ومنهما اشتق له هذان الاسمان: المعز المذل، اللذان جاءا في حديث أبي هريرة .

والعز: صفة الله سبحانه وتعالى، ومنه اشتق العزيز، وهذه الصفة غير صفة المعز، فالمعز معناه: الذي يعز من شاء من عباده، والعزيز معناه: العزيز بنفسه، فالعزيز من صفات الذات، والمعز من صفات الأفعال.

ومعنى العزيز مختلف فيه، فقيل: معناه الذي لا نظير له، من العزة التي هي القلة، وهذا من معاني الوحدانية، إذ العزيز عند المحدثين الذي انفرد به راويان في طبقة من طبقات الإسناد أو أكثر، فسمي عزيزاً لقلة رواته أو لندرة وجوده، ويمثلون له بما رواه أبو هريرة و أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده), فهذا انفرد بروايته أبو هريرة و أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانفرد بروايته عن كل واحد منهما اثنان.

والمعنى الثاني للعزيز: أنه من العزة التي هي القهر والقوة, فهو سبحانه وتعالى القوي وهو الجبار ذو القوة المتين, فهذا معنى العزة أيضاً، والعرب يقولون: (من عز بز) أي: من غلب سلب غيره عزته, وفي ذلك تقول الخنساء رضي الله عنها:

تعرقني الدهر نفساً وحزا وأوجعني الدهر ضرباً وغمزا

وأفنى رجالي فبادوا وبادوا وأصبح قلبي بـهم مستـفزا

كأن لم يكونوا حمى يتقى إذا الناس إذ ذاك من عز بزا

تريد هذا المثل.

إثبات صفة الكره والمقت لله عز وجل

(يكره): كذلك من صفات الأفعال صفة الكره, فالله سبحانه وتعالى يكره بعض الذوات وبعض الأفعال, فهذه الصفة تتعلق ببعض الذوات وبعض الأفعال, فبعض الذوات مكروهة لدى الله سبحانه وتعالى كأهل النار، فإنه كرههم ومقتهم, وكذلك بعض الأفعال مكروهة عند الله تعالى كما قال الله تعالى: كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً[الإسراء:38] , وفي القراءة السبعية الأخرى: (كل ذلك كان سيئةً عند ربك مكروها), فهذا الذي يكرهه الله عز وجل من الأعمال هو ما لا يرتضيه لعباده، وهذا يشمل المحرمات التي حرمها عليهم، والمكروهات التي نهاهم عنها نهياً دون تحريم, ولذلك صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن ربكم حرم عليكم وأد البنات، وعقوق الأمهات، ومنعاً وهات، وكره لكم: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال) فالمحرم والمكروه كلاهما مكروه بهذا المعنى، وكلاهما متعلق بهذه الصفة التي هي صفة الكراهة.

(يمقت): وهذه صفة فعلية أخرى موافقة في متعلقها للصفة السابقة, فالمقت -نسأل الله السلامة والعافية- أشد من الكره, والله سبحانه وتعالى يمقت بعض الذوات ويمقت بعض الأفعال, فبعض الأفعال مقيتة عنده -أي: مكروهة عنده- وبعض الذوات كذلك مقيتة عنده, ولذلك صح في صحيح مسلم من حديث عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه في الحديث الطويل الذي رواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم غير بقايا من أهل الكتاب، وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك), أي: مقت أهل الأرض جميعاً إلا بقايا من أهل الكتاب حافظوا على ديانتهم، وبقوا في الأديرة والمتعبدات منقطعين عن الناس.

ومقت الله عز وجل له أمارات تظهر على العبد, فإذا مقته الله كرهه الناس، كما ثبت في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أحب الله عبداً نادى جبريل: إني أحب فلاناً فأحبه فيحبه جبريل, ثم ينادي به في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض), قال سفيان بن عيينة -أحد رواة هذا الحديث- ولا أراه إلا قال في البغض مثل ذلك، ومعناه: إذا مقت الله عبداً نادى جبريل، وقد جاء التصريح بذلك في رواية أخرى غير رواية سفيان بن عيينة : (إذا مقت الله عبداً نادى جبريل إني أكره فلاناً, فيبغضه جبريل، ثم ينادي به في أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه فيبغضه أهل السماء, ثم يوضع له المقت في الأرض) -نعوذ بالله- فيكون ممقوتاً لدى أهل الأرض.

فالمقصود من مقت أهل الأرض: مقت أهل الإيمان منهم, لا مقت عوامهم وجمهورهم, فأكثرهم لا يؤمنون, فأهل الإيمان منهم يجدون أن نفوسهم المؤمنة لا تطمئن إلى هؤلاء الأشخاص، وتكرههم بسبب أعمالهم, وليس معنى ذلك: أن كل أهل الأرض سيبغضونهم، بل سيجتمع عليهم أولياؤهم الذين يزيدونهم غواية فيما هم فيه.

ونلاحظ أن الصفتين السابقتين وهما (يكره ويمقت) ليستا من الصفات المتقابلة كما ذكرنا, فبينهما توافق لا تقابل, بخلاف: يخفض يرفع، يعز ويذل, فهذا فيه تقابل.

إثبات صفة الهداية والإضلال لله عز وجل

ومن الصفات المتقابلة قوله: (يهدي ويضل), وهذا فيه إثبات لصفتين متقابلتين وهما الهداية والضلالة.

فالله سبحانه وتعالى يهدي من يشاء ويضل من يشاء, فمن هداه فبفضله ومن أضله فبعدله: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ[الأنبياء:23] , وهداية الله سبحانه وتعالى صفة من صفات الأفعال, لكنها تنقسم إلى قسمين: هداية إرشاد وهداية توفيق:

فهداية الإرشاد هي إرساله للرسل وإقامته للحجة بالدليل العقلي والعلمي, فيهدي عبده بأن يريه الطريق, وهذه الهداية لا تقتضي نجاته, بل قد يعمل الإنسان بمقتضاها فينجو، وقد يخالفها فلا ينجو؛ ولذلك قال الله تعالى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى[فصلت:17]، وهداية الإرشاد هذه كثيراً ما يقابلها العمى في القرآن.

وقد أثبتها الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في قوله: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ[الشورى:52] .

وأما الهداية الثانية: فهي هداية التوفيق، وهي من صفات الله المختصة به فلا يتصف بها من سواه، ولذلك نفاها عن رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ[القصص:56] , ولذلك ينبغي لمن يقرأ الفاتحة أن ينوي في قوله: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ[الفاتحة:6] , هداية التوفيق لا هداية الإرشاد؛ لأن هداية الإرشاد قد حصلت، ويبقى أن يسأل الله هداية التوفيق, وهي الاستقامة بعد أن عرف المنهج، فهداية الإرشاد معناها مجرد أن تقوم عليك الحجة, وقد قامت عليك بهذا الكتاب الذي تقرؤه وبالرسول الذي جاء به، وهداية التوفيق هي التي تسألها الله، فتسأله أن يوفقك لما يرضيه ولسلوك طريق الذين ارتضاهم.

وهذه الهداية يقابلها الإضلال، والهداية والإضلال يترتبان على المحبة والكره, فمن أحبه الله هداه، وكل من تعلقت به صفة المحبة لابد أن يهديه الله, وكل من تعلق به المقت والبغض لابد أن يضله الله.

ولهذا فإن الناس ينقسمون في الآخرة إلى سعداء وأشقياء فقط: فالسعداء هم الذين هداهم الله حين أحبهم، والأشقياء هم الذين أضلهم الله حين مقتهم.

وفي الدنيا ينقسم الناس إلى ثلاثة أقسام: إلى مؤمن ومنافق وكافر، لكن في الآخرة هم قسمان فقط, فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ[هود:105] , فالشقي: يشمل الكافر والمنافق، والسعيد: هو المؤمن الذي مات على الإيمان.

وهذا الإضلال يشمل إضلالين:

إضلالاً عاماً: وهو من بداية عمر الإنسان إلى أن يموت على ضلالته.

وإضلالاًً خاصاً: وهو الإضلال في الخواتيم, وهو أن يختم الله له بالضلالة، نسأل الله السلامة والعافية.

ولا اعتراض على الله سبحانه وتعالى في اختياره: يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ[القصص:68] ، وقال تعالى: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً[الكهف:51] , فيختار من شاء للهداية على أساس حكمته وعلمه الذي لا إخلاف فيه ولا تناقض، ويختار من شاء -نسأل الله السلامة والعافية- للضلالة, فيضله ويحول بينه وبين الهداية, حتى لو قامت عليه كل الحجج وجاءته الهداية -هداية الإرشاد- فإنه لا ينتفع بها كما قال تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمْ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمْ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ[الأنعام:109-111] , فهذا يدلنا على أن هداية التوفيق منحة ربانية, فليست راجعة إلى عقل ولا إلى علم, وإنما هي منحة ربانية يهبها لمن يشاء؛ ولذلك قال الله تعالى: اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ[الشورى:13] , فهذا اختيار رباني.

وقد جاء في حديث المهدي أنه يصلحه الله في ليلة, فهو لم يكن مهتدياً ولكن الله يهديه ويصلحه في ليلة واحدة.

إثبات صفة الإقبال والإعراض لله عز وجل

[ يقبل يعرض يتوب يرحم يأخذ منا الصدقات يُطعم

وليس يُطعم............ ....................... ]

(يقبل ويعرض) هاتان الصفتان من صفات الأفعال المتقابلة, ولا يشتق منهما اسمان لله بخلاف السابقتين الهداية والضلالة فإنه يشتق منهما اسمان لله, فهو الهادي المضل، الهادي لمن يشاء، المضل لمن شاء، لكن (يقبل): صفة من صفات الأفعال التي لم يرد اشتقاق اسم منها, وكذلك (يعرض): هي صفة من صفات الأفعال التي لم يرد اشتقاق اسم منها.

وإقبال الله سبحانه وتعالى على عبده هو غاية التشريف؛ لأنه هو الذي يلي منزلة الرؤية, فالله سبحانه وتعالى إذا أقبل على عبده, فتمام رؤية العبد له ما يقع يوم القيامة حين يكشف عنه الحجاب فيراه رأي العين، وهي الزيادة التي قال الله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ[يونس:26] , وأما في الدنيا فقد حجب المخلوق عن الرؤية, لكنه عوض أهل الإيمان بالإقبال فيقبل الله عليهم، ويكون هذا تعويضاً عن الرؤية.

وإقبال الله سبحانه وتعالى على عبده إنما يكون بحسب اقتراب العبد منه, ولذلك قال: (فإن أتاني يمشي أتيته هرولة) هذا هو الإقبال، ويكون أيضاً بحسب إتقانه لعمله الصالح الذي يعمله، كما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يزال الله مقبلاً على العبد وهو في صلاته ما لم يلتفت، فإذا التفت أعرض عنه، وقال: يا ابن آدم! إلى من تلتفت وأنا خير مما التفت إليه), فالإقبال هنا يقابله الإعراض, وإقباله مقتض لرحمته وعنايته وحفظه ورعايته، وإعراضه مقتض لتعرض الإنسان لسخطه ومقته، ولذلك فإن نظره هو من جنس إقباله, فنظره بعين الرحمة يحصل به كل مقتضيات الرحمة, والله سبحانه وتعالى أخبر أن من لا يرتضيهم لا ينظر إليهم, وقد أخبر عن كثير من الناس يوم القيامة أنه لا ينظر إليهم ولا يزكيهم كما في قوله: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ[آل عمران:77] .

والمقصود هنا: لا ينظر إليهم بهذه النظرة، أي: نظرة الإقبال التي تقتضي الرحمة.

أما النظر الذي يقصد به العلم والإحاطة والبصر, فالله سبحانه وتعالى مبصر لكل الكائنات، لا تخفي منه سماء سماءً، ولا أرض أرضاً, ولا يمكن أن يحتجب عنه أي شي، فهو يرى كل شي، لكن النظر بعين رحمته هو الذي يختص به أهل الإيمان والمحبة, والنظر بعين السخط -نسأل الله السلامة والعافية- هو لأهل الكفر والشقاوة.

إثبات صفة التوبة لله عز وجل

(يتوب يرحم): هذه صفة من صفات الأفعال, ولم يذكر لها مقابل، وقد اشتق منها اسم الله سبحانه وتعالى: التواب)، وتوبة الله سبحانه وتعالى على عباده قسمان:

توبة سابقة لتوبة العبد, وتوبة لاحقة لتوبة العبد, فالتوبة السابقة لتوبة العبد هي التي تقتضي توفيقه لأن يتوب, والتوبة اللاحقة هي التي تقتضي قبول توبته فلا يمكن أن يتوب أحد حتى يتوب الله عليه، فأولاً يوجه قلبه للتوبة, ثم بعد ذلك إن شاء تاب عليه توبة ثانيه وهي قبول توبته، وإن شاء لم يتب عليه.

ولهذا فإن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ[التوبة:117] , هذه هي التوبة الأولى عليهم بمعنى توفيقهم للتوبة, أي: توفيقهم لأن يتوبوا, ثم قال: ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ[التوبة:117] , وهذه توبة غير الأولى، ولذلك عطفها بثم، والعطف يقتضي المغايرة: (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ).

قال: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنْ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا[التوبة:118] , (ثم تاب عليهم): هذه التوبة الأولى (ليتوبوا) أي: التوبة الثانية وهي التي بدأهم بها في قوله: (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) معناه: وقد تاب على الثلاثة الذين خلفوا.

فإذاً: الثلاثة الذين خلفوا لما كانوا يعانونه من الضيق ذكر الله في هذه الآية توبتهم الآخرة قبل توبتهم الأولى, أما النبي والمهاجرون والأنصار؛ فلأنهم ليسوا من أهل هذه المعاناة؛ وقد قفلوا ولم يجدوا كيداً، فإنه جعل التوبة الأولى في الوقوع هي الأولى في الذكر، ثم ذكر التوبة الثانية بعدها على الترتيب.

ونظير هذا فيما يتعلق بالتوبة الشفاعة، فالشفاعة أيضاًَ لا يمكن أن يشفع أحد لدى الله إلا بعد الإذن له بالشفاعة, فيأذن الله له بالشفاعة ثم بعد ذلك يشفع, فالشفاعة تسبق فعل الشافع وتعقبه, تسبقه بالتوفيق له والإذن فيه, وتعقبه بقبوله، كما قال تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ[البقرة:255] , وكما قال تعالى في الملائكة: وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ[الأنبياء:28] .

إثبات صفة الرحمة لله عز وجل

(يرحم): هذه صفة من صفات الله سبحانه وتعالى وهي صفة الرحمة, وهي صفة عظيمة كتبها الله على نفسه, لكن اسم الرحمة يطلق على صفة من صفات الله وعلى لازم تلك الصفة، وهو فعل من فعل الله, وتجدونهما معاً في النصوص, فالله سبحانه وتعالى وصف نفسه بالرحمة في قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ[الفاتحة:2-3], ومع ذلك ذكر الرحمة التي هي فعله في قوله: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ[الأنعام:54] , وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين أنه قال: (إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، فادخر عنده تسعاً وتسعين رحمة لعبادة المؤمنين في الجنة, وأنزل رحمة واحدة في الدنيا فبها يتراحم الخلائق فيما بينهم حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها), فهذه الرحمة المخلوقة ليست هي الصفة, وإنما هي متعلق الصفة وأثرها؛ لأنه قال: (إن الله خلق الرحمة يوم خلقها).

أما الرحمة غير المخلوقة فهي صفة الله، وهي المذكورة في قوله: (إن رحمتي سبقت غضبي), وفي رواية: (تغلب غضبي), والمقصود بذلك: تزاحم الصفتين في المتعلق.

ورحمة الله سبحانه وتعالى هي من أكثر صفاته أثراً, وصفات الله لها آثار في خلقه, فما يتعلق منها بالخلق له آثار, لكن رحمته هي أوسعها أثراً، ولهذا قال الله فيها: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ[الأعراف:156] , ولذلك عدّ الله من آثارها شيئاً عظيماً فقال تعالى: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ[القصص:73] , فالليل والنهار وما سكن فيهما كل ذلك من رحمة الله, ولهذا قال في المطر: فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[الروم:50] , فكل هذا من آثار رحمة الله؛ ولهذا إذا نظرنا إلى ما فيه أهل الأرض من المعايش والخيرات والبركات التي جعلها الله في هذه الأرض، ومن أعظمها هذا الأكسجين الذي يتنفسون به، والماء الذي يشربونه, وستر الله الجميل الذي يجعل بعضهم يركن إلى بعض ويميل إليه, وجبل قلوبهم على الألفة والمحبة وغير ذلك، كل هذا أثر من آثار رحمة الله سبحانه وتعالى, ومع ذلك فما في الدنيا من رحمة الله المخلوقة إلا رحمة واحدة من مائة رحمة.

ويذكر عن عبد الله بن المبارك رحمه الله أنه دخل على هارون الرشيد , فوعظه فبكى هارون بكاءً شديداً, وكان في غزو، وكان هارون يغزو في كل سنة، وكان عبد الله بن المبارك كثيراً ما يغزو معه، فسأله أن يحدثه بما يزيده طمعاً فيما عند الله تعالى وترغيباً لما عنده, فقال: يا هارون ! ما نصيبك في هذه الدنيا من رحمة الله؟ قال: أوفر نصيب، فقد منّ الله علي بالإيمان والعقل والحكمة والعلم وإمارة المؤمنين، وأن ملكي شمل مشارق الأرض ومغاربها، وامتن علي بالمال والأولاد وصالح الأهل، وغير ذلك من أنواع ما يرغب فيه, فقال: هذا حظك من رحمة واحدة قسمت بين أهل الدنيا كلهم برهم وفاجرهم أولهم وآخرهم, فما ظنك بنصيبك من تسعة وتسعين رحمة يوم القيامة؟! نلت من هذه الرحمة الدنيوية هذا النصيب, وهي رحمة واحدة، فكيف سيكون نصيبك من تسع وتسعين رحمة يوم القيامة؟!

ولذلك فإن هذه الرحمة أمر الله بها عباده، فهي كما ذكرنا من الصفات التي هي للتعلق والتخلق, وقد ذكرنا أن أسماء الله منها ما هو للتخلق والتعلق، ومنها ما هو للتعلق فقط, والتعلق معناه: أن يسأل الله به ويدعى به, لكن لا يمكن أن يتصف به المخلوق, وذلك مثل الكبرياء والعظمة والجلال, ومنها ما هو للتعلق والتخلق ومنه الرحمة, فقد أمر الله بها، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من لا يَرحم لا يُرحم), وصح عنه في الحديث المسلسل بالأولية: (الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء), وهذه الرحمة متعلقها في الأصل من يحتاج إليها وهم كل ضعيف مبتلى، فهم أحق الناس بالرحمة.

والبلاء أنواع: فمنه البلاء في الدين، ومنه البلاء في البدن، والبلاء في المال، والبلاء في الأهل، والبلاء في العقل.. وغير ذلك, فأولى الناس بالرحمة هم المبتلون؛ ولذلك جاء في حديث ابن عمر في صحيح مسلم وهو أيضاً في الموطأ وكتاب الزهد للإمام أحمد من حديث يحيى بن سعيد أنه بلغه أن عيسى بن مريم كان يقول: (لا تكثروا الكلام في غير ذكر الله فتقسو قلوبكم, فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد, وإنما الناس مبتلىً ومعافىً فارحموا أهل البلاء واحمدوا الله على العافية), فرحمة أهل البلاء مختلفة باختلاف الحال, فمثلاً: الفاجر الذي هو مبتلى في دينه, رحمته أن تحاول أن تعينه على الشيطان، وأن لا تعين الشيطان عليه حتى يهتدي على يديك، والكافر رحمته هي محاولة إدخاله في الإسلام، والمبتلى بأي بلاء رحمته بحسب ذلك، ولهذا يقول أحد الحكماء:

ارحم بني جميع الخلق كلهم وانظر إليهم بعين الرفق والشفقة

وقر كبيرهم وارحم صغريهم وراع في كل خلق حق من خلقه

فهو مخلوق لأرحم الراحمين.

إثبات صفة الأخذ لله عز وجل

(يأخذ منا الصدقات): هذه صفة أخرى من صفات الله سبحانه وتعالى وهي صفة الأخذ، وهذه الصفة متعددة المتعلق: فالمتعلق الأول: أن يأتي أخذ الصدقات بمعنى قبولها، فالله سبحانه وتعالى هو الذي يأخذ الصدقات بمعنى: يتقبلها، وقد جاء في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صح عنه أنه قال: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وما تصدق عبد من كسب طيب إلا كان كأنما وضعها في كف الرحمن، ولا يزال ينميها له كما ينمي أحدكم فلوه أو فصيله حتى تكون كالجبل) فمن تصدق من كسب حلال كأنما وضع صدقته في كف الرحمن، يعني: يأخذها الله منه ويتقبلها، ويكون قرضاً حسناً عند الله عز وجل، فلذلك لا يزال الله ينمي له صدقته هذه ويضاعف له أجرها بحسب انتفاع الناس بها أبد الآبدين، (كما ينمي أحدكم فلوه) أي: كما يربي أحدكم فلوه، أي: ولد فرسه (أو فصيله) أي: ولد ناقته، حتى تكون هذه الصدقة كالجبل، وتنمية الله عز وجل ليست مثل تنمية البشر، فيبارك فيها ويضاعفها أضعافاً مضاعفة وهكذا، فلذلك قال: (يأخذ منا الصدقات).

أما المتعلق الثاني: فالأخذ بمعنى الإذلال، فالله سبحانه وتعالى يأخذ أعداءه أخذ عزيز مقتدر، ومعنى ذلك: أن يهلكهم بأخذ البغتة، وقد ذكر سبحانه وتعالى أمثلة لذلك، كأخذه لقوم نوح بالطوفان، وأخذه لقوم هود بالرياح، وأخذه لقوم صالح بالصيحة، وأخذه لغيرهم من الأمم، وهذا هو الأخذ الوبيل الذي يأخذ به أعداءه وهو الذي ينبغي أن يخافه أهل الإيمان دائماً وأن لا يأمنوا مكر الله: فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ[الأعراف:99] .

إذاً: هذان متعلقان بصفة الأخذ، الأول: أخذ بمعنى القبول، والثاني: أخذ بمعنى الإذلال.

إثبات صفة الإطعام لله عز وجل

(يطعم وليس يطعم): هاتان الصفتان متقابلتان بالإثبات والنفي، إحداهما: صفة الإطعام: فالله سبحانه وتعالى يطعم عباده فهو الذي تكفل لجميع مخلوقاته برزقها، كما قال تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ[هود:6]، ولذلك فهو الذي يطعم هذه المخلوقات كلها.


استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
سلسلة الأسماء والصفات [6] 3903 استماع
سلسلة الأسماء والصفات [9] 3424 استماع
سلسلة الأسماء والصفات [8] 3255 استماع
سلسلة الأسماء والصفات [2] 3205 استماع
سلسلة الأسماء والصفات [3] 2889 استماع
سلسلة الأسماء والصفات [10] 2671 استماع
سلسلة الأسماء والصفات [12] 2509 استماع
سلسلة الأسماء والصفات [14] 2453 استماع
سلسلة الأسماء والصفات [1] 1998 استماع
سلسلة الأسماء والصفات [13] 1945 استماع