تصرف الصبي المميز بالبيع والشراء
مدة
قراءة المادة :
9 دقائق
.
تصرف الصبي المميز بالبيع والشراءالمقصود بالصبي المميِّز هو من بلغ سبع سنين فما فوق دون سن البلوغ،[1] وللعلماء في تصرفه بالبيع والشراء قولان:
القول الأول: يصح تصرف الصبي المميز بالبيع والشراء فيما أذن له الولي.
وهو مذهب أبي حنيفة،[2] ومالك،[3] والمشهور من مذهب أحمد[4].
قال القدوري[5] في التجريد: "قال أصحابنا: يجوز للولي أن يأذن للصبي في البيع، فإذا باع بإذنه وهو يعقل البيع والشراء، جاز"[6].
وقال في المدونة: "الولي إن أذن له - أي الصبي - أن يتجر، وأمره بذلك، جاز ذلك.
ولو خرج في تجارة من موضع إلى موضع بإذن الولي لم يكن بذلك بأس"[7].
وقال في الإنصاف: "تصرف الصبي والسفيه: لا يصح بغير إذن وليهما إلا في الشيء اليسير.
كما قال المصنف.
وهو الصحيح في الجملة.
وهو المذهب.
وعليه الأكثر"[8].
واستدل أصحاب هذا القول بما يلي:
1- قوله تعالى: ﴿ وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ...
﴾ [النساء: 6].
ومعناه؛ اختبروهم لتعلموا رشدهم.
وإنما يتحقق اختيارهم بتفويض التصرف إليهم من البيع والشراء؛ ليعلم هل يغبن أو لا.
ولأنه عاقل مميز، محجور عليه، فصح تصرفه بإذن وليه، كالعبد.
وفارق غير المميز، فإنه لا تحصل المصلحة بتصرفه؛ لعدم تمييزه ومعرفته، ولا حاجة إلى اختياره؛ لأنه قد علم حاله.
وقولهم: إن العقل لا يمكن الاطلاع عليه.
قلنا: يعلم ذلك بآثار وجريان تصرفاته على وفق المصلحة، كما يعلم في حق البالغ، فإن معرفة رشده، شرط دفع ماله إليه، وصحة تصرفه، كذا هاهنا.
فأما إن تصرف بغير إذن وليه، لم يصح تصرفه[9].
2- ولأن العقل لا يمكن الوقوف منه على الحد الذي يصح به التصرف لخفائه وتزايده تزايدًا خفي التدريج فجعل الشارع له ضابطاً وهو البلوغ، فلا تثبت له أحكام العقلاء قبل وجود المظنة[10].
القول الثاني: لا يصح بيع الصبي المميز حتى يبلغ.
وهذا مذهب الشافعي -رحمه الله تعالى- سواء أذن له الولي أم لم يأذن.[11]
قال في النجم الوهاج: "فلا ينعقد بيع الصبي والمجنون والسفيه وإن أذن الولي ووافق الغبطة".[12]
وقال الروياني[13] في بحر المذهب: "لا يجوز تصرف الصبي بحالٍ أذن له الولي أو لم يأذن".[14]
واستدلوا بما يلي:
1- قوله -صلى الله عليه وسلم-: "رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق"[15].
ووجه الدلالة منه: أن البيع لو صح؛ لاستلزم المؤاخذة بالتمكين من التسليم والمطالبة بالعهدة، والحديث دال على نفي المؤاخذة[16].
2 - ولأن الصبي غير مكلف، فلم يصح بيعه، كالمجنون، ولا يصح بيع المجنون؛ للخبر[17].
الترجيح:
الذي يظهر -والله تعالى أعلم- أن القول بجواز تصرف الصبي بالبيع والشراء بإذن وليه هو الأوجَه والأقوى، ومعلوم أن الأشياء الخطيرة والكبيرة لا يوكل للصبي التصرف فيها بيعاً وشراءً، وإنما يوكل إليه الأمور الهينة التي لا يترتب عليها كبير مفسدة.
كما أن أهل الصبي قد يحتاجونه في شراء بعض احتياجات المنزل باستمرار، والقول بعدم نفاذ تصرفه يوقع في الحرج والمشقة.
[1] غاية البيان لابن رسلان: 115، وكفاية الأخيار: 131، ومغني المحتاج: 1/ 313.
[2] الجوهرة النبرة 1/ 239، وملتقى الأبحر 75، والبحر الرائق 5/ 279، وحاشية ابن عابدين "رد المحتار" 3/ 183.
[3] المدونة 4/ 367، ومواهب الجليل 4/ 239، ولوامع الدرر 9/ 464.
[4] المغني 4/ 185، والشرح الكبير على متن المقنع 4/ 6، والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف 4/ 268، والإرشاد 192.
[5] القدوري (362 - 428 هـ) (973 - 1037 م) صاحب الكتاب المشهور في مذهب أبى حنيفة، أحمد بن محمد بن أحمد بن جعفر بن حمدان، أبو الحسن القدوري الحنفي، صاحب المصنف المختصر، الذي يحفظ، كان إماماً بارعاً عالماً، وثبتاً مناظراً، وهو الذي تولى مناظرة الشيخ أبي حامد الإسفراييني من الحنفية، وكان القدوري يطريه ويقول: هو أعلم من الشافعي، وأنظر منه، توفى يوم الأحد الخامس من رجب منها، عن ست وخمسين سنة، ودفن إلى جانب الفقيه أبي بكر الخوارزمي الحنفي.
[البداية والنهاية: 15/ 619، ووفيات الأعيان: 1/ 78، وسير أعلام النبلاء: 17/ 574، والفوائد البهية في تراجم الحنفية: ص30].
[6] التجريد للقدوري 5/ 2612.
[7] المدونة 4/ 367.
[8] الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف 4/ 268.
[9] التجريد للقدوري 5/ 2612، والمغني 4/ 185، والشرح الكبير على متن المقنع 4/ 6.
[10] المغني لابن قدامة 4/ 6.
[11] البيان للعمراني 5/ 12، والمجموع 9/ 158، وكفاية الأخيار 232، وتحفة المحتاج 5/ 169، وبحر المذهب 5/ 78.
[12] النجم الوهاج 4/ 17.
[13] عبد الواحد الروياني (415 - 502 هـ) (2) (1025 - 1108 م) عبد الواحد بن اسماعيل بن احمد بن محمد الروياني (3)، الطبري، الشافعي (ابو المحاسن، فخر الإسلام) فقيه، اصولي.
ولد ببخارى في آخر سنة 415 هـ، وتفقه بها، ورحل الى الآفاق حتى بلغ ما وراء النهر، وحصل علومًا جمة، وسمع الحديث الكثير، وولي القضاء بطبرستان، وقتلته الملاحدة بآمل في 11 المحرم.
من تصانيفه: بحر المذهب من أطول كتب الشافعية، الكافي، حلية المؤمن، وكلها في فروع الفقه الشافعي، الفروق، وعوال في الحديث (خ).
تنظر ترجمته في: [سير أعلام النبلاء: 19/ 260، وطبقات الشافعيين: ص525، والوافي بالوفيات: 19/ 167، وفيات الأعيان: 3/ 198، ومعجم المؤلفين: 6/ 206].
[14] بحر المذهب 5/ 78.
[15] سنن أبي داود، كتاب الحدود، باب في المجنون يسرق أو يصيب حداً برقم (4400)، وسنن النسائي (السنن الصغرى، أو المجتبى من السنن)، كتاب الطلاق، باب من لا يقع طلاقه من الأزواج (3432)، وسنن الترمذي، كتاب الحدود، باب ما جاء فيمن لا يجب عليه الحد (1423)، ومسند أحمد، في مسند علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- برقم (956)، وهو حديث صحيح.
[16] كفاية النبيه 8/ 372.
[17] البيان للعمراني 5/ 12.