الأصلف الخرشاف
مدة
قراءة المادة :
11 دقائق
.
الأصلف الخرشافبسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعدُ:
فإنَّ من الصِّفاتِ القبيحة التي يتَّصف بها بعضُ الأصدقاء صفةَ "القسوة"؛ ولذلك جاء هذا المقال الثامن من سلسلة: [الصديق القبيح وقبيح الصداقة].
فحديثي عن الصفة الثامنة (الأَصْلَف الخِرْشاف)، وهو: (الصديق القاسي في تعامله، الغليظُ في أسلوبه).
ومعنى (الأَصْلَف) في اللغة هو: [ما اشتَدَّ من الأَرض وصَلُبَ].
وجاء في لسان العرب: [فلان صَلِفٌ: ثَقِيلُ الرُّوح، وأَرض صَلِفةٌ: لا نَبات فيها].
وأما الخِرْشافُ، فمعناه كما ذكر في المعجم الوسيط ولسان العرب:
[الأرضُ الغليظةُ لا يُستطاع أَن يُمشَى فيها].
ومن الألفاظ الخاصة بهذه الصفة: القسوة والفظاظة، وقد عرف ابن منظور القسوة فقال: "القسوة: الصَّلابة في كلِّ شيء، والقسوة في القلب: ذَهاب اللِّين والرَّحمة والخشوع منه، يقال: قسا قلبه قسوة، وقساوة وقساء بالفتح والمدِّ: وهو غِلَظُ القلب وشدَّته، والمقاساة: مكابدة الأمر الشَّديد، وقاساه؛ أي: كابَده، ويوم قسيٌّ - مثال: شقيٌّ -: شديدٌ؛ من حربٍ أو شر"[1].
وقال المناويُّ معرفًا القسوة: "القسوة: غلظ القلب"[2].
وقال الجاحظ أيضًا في تعريفها: "القساوة: هي التهاون بما يلحق الغير من الألم والأذى، وهي خلُق مركب من البغض والشجاعة"[3]، فالقسوة كلمة مرادفة للفظاظة والغلظة والشدة، قال الفيروزابادي: "الفَظُّ: الغليظ الجانب، السيِّئ الخلق، القاسي الخشن الكلام"[4].
ومن الآيات القرآنية التي ترشد المسلم لأن يكون "ليِّنًا رفيقًا" مبتعدًا عن القسوة وأشكالها: قولُه تعالى: ﴿ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ ﴾ [آل عمران: 159].
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: "قال تعالى: ﴿ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾ [آل عمران: 159]؛ الفظُّ: الغليظ، والمراد به ها هنا غليظ الكلام؛ لقوله بعد ذلك: ﴿ غَلِيظَ الْقَلْبِ ﴾ [آل عمران: 159]؛ أي: لو كنت سيئ الكلام، قاسيَ القلب عليهم، لانفضوا عنك وتركوك، ولكنَّ الله جمعهم عليك، وألان جانبَك لهم تأليفًا لقلوبهم"[5].
وقال السعدي أيضًا في تفسير هذه الآية: "﴿ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا ﴾ [آل عمران: 159]؛ أي: سيئ الخلُق، ﴿ غَلِيظَ الْقَلْبِ ﴾ [آل عمران: 159]؛ أي: قاسيه، ﴿ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾ [آل عمران: 159]؛ لأنَّ هذا ينفِّرهم ويبغضهم لمن قام به هذا الخلُقُ السيئ، فالأخلاق الحسنة من الرئيس في الدين تجذب الناسَ إلى دين الله، وترغبهم فيه، مع ما لصاحبه من المدح والثواب الخاص، والأخلاق السيئة من الرئيس في الدين تنفِّر الناس عن الدين، وتبغضهم إليه، مع ما لصاحبها من الذم والعقاب الخاص، فهذا الرسول المعصوم يقول الله له ما يقول، فكيف بغيره؟!"[6].
إن من طبيعة النفس البشرية التي فطرها الله عليها أنها تكره وتبغض القسوة في شتى صورها، وأقبحُ صورة لتلك القسوة هي قسوةُ القلب وذهاب عاطفته، وغلظته وشدته في التعامل مع الناس، وللأسف هناك ممن نخالطهم يتصفون بهذه الصفة القبيحة، وبهذا الخلق المذموم.
فالصديق القاسي هو مَن لا يحمل في قلبه حبًّا ورحمة وشفقة وإحسانًا، "فدائمًا تجده مكفهر المنظر، وعبوس الوجه، إن تكلم أغلظَ في الكلام، وإن نظر رفع حاجبيه مشعرًا من حوله بغضبه، فقلبُه كالأرض الغليظة الخِرْشاف التي لا يُستطاع أن يُمشى عليها".
ولكي تعرف مدى قبح هذه الصفة، فلتتذكر الأشخاص الذين تعاملوا معك بقسوة وغلظه وفظاظة، ما مشاعرك تجاههم؟ وما شعورك الذي تشعر به حينما تتذكر مواقفهم القاسية معك؟
ولذلك؛ لا تجعل غيرك يعيش هذا الألم، واعلم أن الناس طبائع وأجناس، ففيهم الضعيف والقوي، والشجاع والجبان...
وغير ذلك من الصفات، فكل شخص من هؤلاء حتمًا لا يحب القسوة، حتى وإن كان يمتلك شجاعة وقوة تدفعه للقسوة، فاللينُ في التعاملِ يحبِّذُه الجميع ويرغب فيه؛ لذا تجد أن الناس يحبون اللَّيِّنَ اللطيفَ في تعامله، ويكرهون القاسي الغليظ؛ ولذا فإن الذي يتعامل مع الناس بهذه الصفة القبيحة حتمًا سيجني عاقبة هذه الصفة، وهي كرهه وبغضه في نفوس الناس، ومحاولة تجنُّبِه وعدم التعامل معه ولو في أصغر الأمور.
ولذلك قال الله تعالى مرشدًا لنا: ﴿ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾ [فصلت: 34]، انظر إلى هذه الآية التي فيها أمرٌ من الله تعالى لنا بأن نتعامل حتى مع أعدائنا بلطف ولين؛ حتى يظن من حسن تعاملك معه أنه وليٌّ حميم؛ أي: صديق قريب حميم، وهذه من صفات العظماء الذين يحملون قلوبًا لينة تتميز باللطف والرفق، ولكن: ﴿ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ [فصلت: 35].
ولتلك القسوة التي يتصف بها بعض من تخالطهم - مظاهرُ وعلاماتٌ تدل عليها، ومن أكبرها: (تجنب الناس وابتعادهم عنك، وعدم الاحتكاك بك، وحرصهم الشديد على تجنب الحديث معك).
وأخيرًا: يا أيها الأصلف الخرشاف، إياك والقسوة في تعاملك مع البشر، ولا تكن من أصحاب القلوب القاسية، التي لا يُبكى عليهم، ولا يبكون على أحدٍ، كما قال الشاعر[7]:
يُبْكَى عَلَيْنا، ولا نَبْكي على أحدٍ ♦♦♦ لَنَحْنُ أَغْلَظُ أَكبادًا من الإبلِ
فلا تكن غليظًا في تعاملك مع الناس، وكن رفيقًا "لينًا"؛ لتكسب محبتهم وعطفهم ولينهم، وتذكر دائمًا قول النبي عليه الصلاة والسلام: ((إنَّ الله رفيق يحب الرِّفق في الأمر كلِّه))[8]، وقال أيضًا صلى الله عليه وسلم: ((المؤمنون هيِّنون ليِّنون، كالجمل الأنِفِ، إن قِيد انقاد، وإذا أُنيخ على صخرة استناخ))[9].
وقال ابن القيم: "من رَفَقَ بعبادِ الله رَفَقَ الله به، ومن رحمهم رحمه، ومن أحسن إليهم أحسن إليه، ومن جاد عليهم جاد الله عليه، ومن نفعهم نفعه، ومن سترهم ستره، ومن منعهم خيرَه منعه خيره، ومن عامل خلقه بصفةٍ عامَلَه الله بتلك الصِّفة بعينها في الدنيا والآخرة، فالله تعالى لعبده حسب ما يكون العبد لخلقه"[10].
وقال الشاعر واصفًا "ومادحًا" الرفق في التعامل واللين[11]:
الرِّفقُ ممن سيلقَى اليمنَ صاحبُه
والخُرقُ منه يكونُ العنفُ والزللُ
والحزمُ أن يتأنى المرءُ فرصتَه
والكفُّ عنها إذا ما أمكنتْ فشلُ
والبرُّ للهِ خيرُ الأمرِ عاقبةً
واللهُ للبرِّ عونٌ ما له مَثَلُ
خيرُ البريَّةِ قولًا خيرُهم عملًا
لا يصلحُ القولُ حتى يصلحَ العملُ
وأخيرًا، أقول لك: يا أيها الأصلف الخرشاف، يا صاحب القلب القاسي والغليظ، لا تظُنَّ بأن الناس سيقابلون قسوتك بلين، أو يواجهون غلظتك بعطف، فكما قيل: "الجزاء من جنس العمل، وكما تدين تدان"، وما أجمل أن يعيش المرء بحب وعطف ولين ورحمة بين الناس، تدفعه نفسه اللينة إلى بذل كل ما يسعدهم، وتجنُّبِ كل ما يؤذيهم من قول أو فعل.
فيا أيها الأصلف الخرشاف، أيها الإنسان القاسي، إياك ألا تقيم وزنًا لمشاعر الآخرين ولا تكترث بها ولا تُلقي لها بالًا، وإياك أن يكون شعارك المرفوع: (أنا فقط)، والصديق القاسي له صفات يُعرَف بها، ومن صفاته أنه يكون:
1 - قاسيًا "لا يحترم كبيرًا"، ولا يرحم صغيرًا.
2 - قاسيًا "لا تراه مبتسمًا"؛ بل مكفهرًّا.
3 - قاسيًا "دائمًا تراه عنيدًا" معارضًا.
4 - قاسيًا "لا يُعرف إلا متعجرفًا" مستحقرًا.
5 - قاسيًا "لا يرى إلا مخاصمًا" متسخطًا.
6 - قاسيًا "يراه الناس متعاليًا" متكبرًا.
7 - قاسيًا "دائمًا غليظًا" ومجافيًا.
8 - قاسيًا "تشاهده مجادلًا" ومخاصمًا.
9 - قاسيًا "دائمًا مستهزئًا" ساخرًا.
10 - قاسيًا معسِّرًا منفِّرًا.
وختامًا، أسألُ اللهَ تعالى أن يجعلنا من أهلِ الرفقِ واللينِ، إنه جواد برٌّ كريم.
[1] لسان العرب؛ لابن منظور (15/ 180 - 181).
[2] التوقيف؛ للمناوي، ص (272).
[3] تهذيب الأخلاق؛ للجاحظ، ص (30).
[4] القاموس المحيط؛ للفيروزابادي، ص (697).
[5] تفسير القرآن العظيم؛ لابن كثير (2/ 14).
[6] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان؛ للسعدي (1/ 154).
[7] نهاية الأرب؛ للنويري (3/ 274).
[8] رواه البخاري (6927)، ومسلم (2593).
[9] رواه ابن المبارك في "الزهد" (1/ 130)، والبيهقي في "الشعب" (10/ 447)، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" (6669).
[10] الوابل الصيب؛ لابن القيم (ص 35).
[11] روضة العقلاء؛ لابن حبان البستي (ص 215).