أرشيف المقالات

حماه .. التي كسرت هيبة النظام ولم تنكسر - ملفات متنوعة

مدة قراءة المادة : 5 دقائق .

يبدو بشار الأسد كمن يستعيد سيرة أبيه في التعامل مع مسيرة الاحتجاجات الشعبية التي تجتاح البلاد منذ شهور، وهو يعتقد تبعا لذلك أن نجاح الأب مطلع الثمانينيات سيتكرر هذه المرة، وأن بوسعه من خلال القمع والمزيد من القمع أن يقضي على الانتفاضة الشعبية، ولو بعد حين. دوائر النظام لا تخفي هذه الحقيقة، وهي تقول إن قمع تمرد حماة عام 82، ومعه عموم الخروج المسلح على النظام في تلك الحقبة قد استغرق ثلاث أو أربع سنوات، ولا بأس أن تأخذ هذه المعركة مثل ذلك الوقت وأكثر منه إذا تطلب الأمر.

ما ينبغي أن يقال هنا هو إن ثمة أنظمة تبدي قدرا من الذكاء والحنكة في التعاطي مع المسائل الخارجية، لكنها تفقد عقلها حين تكون القضية داخلية تقترب من تهديد نظام الحكم.

يُذكر للنظام السوري أيام الأسد الأب والأسد الابن تجاوزه للعديد من الأزمات الكبيرة خلال العقود الأخيرة، ويكفي أن يتمكن نظام الابن من تجاوز معضلة احتلال العراق حتى يشهد له بذلك.

لكن النظام لم يكن ذكيا في تعاطيه مع الأزمة الجديدة، فهو ابتداءً استبعد انضمام سوريا لدول الربيع العربي بدعوى أنها من دول المقاومة والممانعة، وكأن الأخيرة تدفع الناس إلى القبول بنظام حكم دكتاتوري وفاسد، وقد كان بوسعه أن يتجاوز المأزق بقدر من الإصلاحات لا يهدد البنية الأساسية للنظام، لكنه لم يفعل وواصل العناد.


بعد اندلاع الاحتجاجات واصل النظام دفن الرأس في الرمال، ورفض تقديم تنازلات مقنعة، بينما كان سقف مطالب الشارع يرتفع بالتدريج، وهو ما رد عليه بتصعيد آلة القمع في مواجهة الشارع، معطوفة على ترديد حكاية بائسة عن المندسين والسلفيين والعصابات المسلحة.

نستعيد ذلك كله، لنشير إلى الفروق الكبيرة بين مجزرة حماة الأولى عام 82 (30 ألف قتيل)، وبين مسلسل المجازر الجديدة، وآخرها مجزرة يوم الأحد الماضي في ذات المدينة (حماة).
والأخيرة تختلف من دون شك عن المجزرة الأولى التي ستؤدي إلى تدخل دولي لو تكررت، في ذات الوقت الذي ستشعل حربا أهلية طاحنة، لاسيَّما أن مزاج الشعب السوري (سياسيا ودينيا) يبدو مختلفا عما كان عليه مطلع الثمانينيات.

كان هدف النظام من الاجتياح الأخير هو الثأر من مدينة كسرت هيبته ابتداءً، وكسرت فوق ذلك قاعدة المظاهرات المحدودة مدشنة سياسة التجمعات الضخمة بمئات الآلاف، الأمر الذي امتد إلى دير الزور ومدن أخرى، وهو أمر يدرك النظام أبعاده الخطيرة.

بعد مواجهات سابقة خشي النظام من تحولها إلى مجازر، كانت السياسة المتبعة هي إبقاء الجيش خارج المدينة، الأمر الذي ضاعف من جرأة الناس على الخروج من دون الخوف من الرصاص المباشر، في ذات الوقت الذي صار شباب الثورة يأخذون راحتهم في تنظيم الاحتجاجات.


من هنا كان على النظام أن يجتاح المدينة ويؤدبها ويعتقل أهم نشطائها، لكي يرسل رسالة واضحة للمدن الأخرى، في ذات الوقت الذي يحول فيه دون استمرار الاحتجاجات الضخمة خلال فترة ما بعد التراويح في شهر رمضان .

ما لا يدركه النظام هو أن الشعب السوري كله، ربما باستثناء الطائفة العلوية، أو غالبها في أقل تقدير، يبدو منحازا للانتفاضة الشعبية، الأمر الذي يختلف عما كان عليه الحال عام 82 حين واجه النظام تنظيما مسلحا لا أكثر، كما أن الاحتجاجات هنا سلمية وليست مسلحة، حتى لو تخللها بعض النشاط المسلح من قبل البعض ردا على الممارسات الدموية للجيش والأجهزة الأمنية.

البعد الإعلامي المفتوح يبدو حاضرا بقوة هنا، وهو ما يؤدي إلى فضح ممارسات النظام بشكل يومي، ومن ثم يؤدي إلى ضغوط دولية على النظام، مع أن أحدا من رموز الثورة ونشطائها لا يرغب في تدخل دولي على النمط الليبي، ويبقى الموقف الرسمي العربي البائس، والذي رد عليه السوريون بجمعة «صمتكم يقتلنا».


صحيح أن للنظام مصدر قوة يتمثل في الورقة الطائفية، ووجود نواة صلبة من الناس تعمل معه، لكن ذلك لن يلبث أن يرتد عليه، ليس بسبب الواقع الشعبي (المتدين والقابل للشحن الطائفي) فحسب، بل أيضا في المؤسسة العسكرية التي تراقب البعد الطائفي، كما تراقب الحضور الإيراني في اللعبة، والذي قد يدفعها نحو التفكير في انقلاب عسكري، وإن بدا احتماله محدودا بسبب ضعف الحضور السني في مؤسسة الجيش والأمن، لاسيَّما في القيادات العليا والمؤثرة (التأثير شيء والرتب شيء آخر في سوريا).

بتقديمها سربا جديدا من الشهداء ؛ تحسم حماة خيارها في استمرار الثورة، في ذات الوقت الذي تشعل فيه نار الغضب فيما تبقى من سوريا، وتدين بدورها كل الساكتين عن جرائم النظام من السوريين ومن العرب. والنتيجة ما قلناه مرارا، وهو أن النظام ساقط لا محالة مهما طال الزمن أو عظمت التضحيات.
 

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢