سلسلة الأسماء والصفات [2]


الحلقة مفرغة

الإيمان وقاية للعقل من الخرافات

يقول الشيخ حفظه الله:

[ ليست له صاحبة ولا ولد ووالد ليس له كفواً أحد ].

الذي جاء في نصوص الوحي في وصف الله سبحانه وتعالى ينقسم إلى قسمين:

إلى إثبات ونفي، والإثبات جاء أكثره مفصلاً، والنفي جاء أكثره مجملاً، وقد جاء نفي مفصل وهو قليل، فبدأ به لقلته في النصوص، وإنما جاء النفي المفصل في النصوص فيما يتعلق بالصاحبة والولد والوالد فقط في قوله تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ[الإخلاص:1-4] ونحو ذلك.

والصاحبة: تطلق على القرينة فهي مؤنثة الصاحب بمعنى المصاحب، والمقصود بذلك: ما يخيل إلى بني آدم من أن حاجة الكائن أياً كان تقتضي وجود قرين له من جنسه.

ومن هنا نتذكر بعض الفوائد العقلية التي ذكرناها سابقاً والتي تفيد العقل من الإيمان، وقد ذكرنا أن الإيمان لمصلحة العقل، ومن فوائده:

أنه ينفي الخرافات عن العقل؛ لأن الخرافات هي متاهات العقول، فلو لم ترد هذه النصوص من الوحي لبقيت عقائد الناس مثل ما كانت عقائد الإغريق اليونانيين، عندهم الآلهة ذكور وإناث، وهناك عندهم بعض الآلهة ابن زناً من الإله، أي: إله زنى بإلهة فأنجبت له ابناً من زناً وأصبح إلهاً لديهم!! وهكذا من خرافات عقلية لا نهاية لها، ولذلك هذا الإله (أولمبيك) يسمونه إله الرياضة، وهو ابن زنا عندهم، زنت إلهة بإله آخر فأنجبت منه هذا الولد فسميت عليه الرياضة، وإلى الآن تسمعون بالملاعب الأولمبية ونحو ذلك وكله من أولمبيك.

فعلى هذا فإن هذه النصوص هي التي حررت العقول من هذه الأوهام وهذه الخيالات التي منشؤها التشبيه بما يعهده العقل؛ ولذلك فإن نصوص التنزيل في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كثيرة جداً، وهي التي تقتضي سد القلب بالكلية عن هذه الأوهام والتخيلات التي هي متاهات تضيع فيها العقول.

وكان العرب في الجاهلية يذهبون إلى أن الملائكة بنات الله، والتصور العقلي يقتضي أن البنات لا يمكن أن يوجدن إلا بعد أن توجد أم، والله سبحانه وتعالى فند هذه الفكرة تفنيداًَ قاطعاً في كثير من الآيات، ومن أبلغ ذلك ما كان فيه خطاب للعقل والعاطفة معاً، فقد جاء الخطاب في ذلك للعقل فقط في مثل قوله: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ[الإخلاص:3]، وجاء الخطاب فيه للعقل والعاطفة معاً في مثل قوله: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ * وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ[الزخرف:17-18] وفي القراءة السبعية الأخرى: (وجعلوا الملائكة الذين هم عند الرحمن إناثاً أأُشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون).

مجيء النفي المفصل في صفات الله

فرد هذه الأوهام مهم جداً للعقول، ولهذا جاء النفي فيها مفصلاً، بخلاف بعض الأمور التي لا تكون من ورائها المتاهات الكبيرة فلم يرد النص بنفيها على التفصيل، وإنما جاء النفي الإجمالي في قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ[الشورى:11] فقضى ذلك على التشبيه بالمخلوق كالجسم، والأعضاء، والجوارح وغير ذلك، ولم يأت التفصيل فيها، وإنما يفصل فيها المتكلمون ويذهبون فيها كل مذهب فيقولون:

ليس بجوهر ولا بجسم وعرض كاللون أو كالطعم

إلى آخره.

هذا التفصيل العقول في غنىً عنه، ولا تحتاج إليه أصلاً؛ لأنه لا يوجد وهم يميل إلى أن الله خالق هذا الكون كله عرض مثل الطعم أو مثل اللون، فلا يحتاج إلى نفي هذا إلا على سبيل الإجمال فيقال: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) ومن هنا ندرك حاجة العقول إلى الإيمان وأنه لمصلحة هذه العقول، وحائل بينها وبين التخبط في المتاهات التي لا يمكن أن تخرج من هذا الوحل.

قوله: (ليست له صاحبة ولا ولد) هذا نفي، وزعم الولد قديم في البشرية، فقد زعم اليهود أن العزير ابن الله، وزعم النصارى أن المسيح ابن الله، وزعم المشركون أن الملائكة بنات الله، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، وكل هذا بسبب أن بيئتهم وواقعهم لم تستنر بنور الوحي فتخبطت في الخرافات التي منشؤها ما يقيسون فيه على أنفسهم، فالذي يعظمونه في الأرض هم الملوك، والملوك لهم صواحب ولهم أولاد وبنات، فيرون أن من يقربه الملوك ويدنونه يمت لهم بصلة قرابة فيبحثون عن تلك القرابة، ومن هنا قال اليهود: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ[المائدة:18] فرد هذا الوهم بالكلية.

وكذلك فإن النصارى يزعمون أن الله سبحانه وتعالى أب لعيسى، ثم يزعمون أنه من وراء ذلك أب للبشر كلهم، فالفكرة القديمة لدى النصارى أنه أب لعيسى فقط، واليوم يزعمون أنه أبٌ للعالم كله ويزعمون أن الناس جميعاً أبناء الله، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.

ومن أجل هذا تجدون في الكتب المترجمة اليوم التي فيها بعض الأحاديث، مثلاً خرجت ترجمة لرياض الصالحين بالفرنسية: (الخلق كلهم عيال الله وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله)، ترجموا هذا فقالوا: الخلق كلهم أبناء الله!! فهموها هذا الفهم فترجموها به؛ ولذلك فإن خطر التدوين فيما يتعلق بترجمة النصوص هو من جهة أن الأوهام ستسبق إلى ما تعودت عليه إذا لم تستنر بنور الوحي.

(أو والد) كذلك نفى الوالد، وقد نفاه الله عن نفسه في قوله: لَمْ يُولَدْ[الإخلاص:3] فهو نفي للوالد مطلقاً.

المقصود من نفي وجود الكفء لله

ثم قال: (ليس لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) وهذا تقرير لكل ما سبق، ولا يحتاج إلى العطف فيه، يمكن أن تقول: لماذا لم يقل: (وليس لَهُ كُفُواً أَحَدٌ)؟

والجواب: أن معنى أنه (ليس لَهُ كُفُواً أحد): أنه لا صاحبة له ولا ولد ولا والد؛ لأن الكفء هو النظير، يقال: الكفو بالواو، والكفء بالهمزة، والكفؤ بضمتين، وهذه كلها مقروءة، فقراءة نافع و ابن كثير و ابن عامر (كفؤاً) بالهمزة، وقراءة الكوفيين: (كفواً) بالواو لكن شعبة يقرؤها (كفْواً) بإسكان الفاء بالإسكان وغيره يقرؤها بالضم.

والمقصود بهذا أمران: أحدهما: نفي التشبيه مطلقاً؛ لأن الكفاءة مقتضية لقدر من الاشتراك في الشبه، فالبشر من جهة التمثيل أكفاء، لا أحد منهم يزيد على آخر بعضو مثلاً، بل هم صورة واحدة؛ ولهذا قال الشافعي رحمه الله:

الناس من جهة التمثيل أكفاء أبوهم آدم والأم حواء

والثاني: وهو المقصود الأساس من نفي الكفء: أنه لا يمكن أن يكافئه ولا أن يناظره أحد حتى يتزاوج معه، أو حتى يحصل بينهما اتحاد، أو حتى يحصل بينهما الاشتراك في أي شيء، فلذلك لا يمكن أن يحصل أي شرك به من أي وجه من الوجوه، فهذا ينفي الصاحبة، والولد، وينفي الوالد، وينفي كذلك المشابهة مطلقاً بأي شيء من مخلوقاته، وينفي كذلك استعانته بأي مخلوق من خلقه، وينفي الحاجة إلى أي مخلوق؛ لأن الخلق كلهم محتاجون إلى الخالق، ويحتاج بعضهم إلى بعض، والخالق غني لا يحتاج إلى شيءٍ من خلقه، فلم يستفد منهم أية صفة، أي: لم يستفد منهم صفة الخلق بعد أن خلقهم، ولا صفة الرزق بعد أن رزقهم، فقد كان خالقاً ولا مخلوق، وكان رازقاً ولا مرزوق، وهو على ما عليه كان، لا تحله الحوادث والآفات، و لا تأخذه سنة ولا نوم، هو الحي القيوم كما كان.

وهذه الصفات المذكورة في هذا البيت فيها نفي الصاحبة، ونفي الولد، ونفي الوالد، ونفي الكفو، ونفي الكفو متضمن لنفي الصاحبة، وقد جاء الثلاثة في سورة الإخلاص: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ[الإخلاص:1-4] وهذا شامل لنفي الصاحبة، فقصد بذلك على أن يكون تفسير: (لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) أنه ليست له صاحبة ولا ولد أو والد، و(أو) هنا بمعنى الواو، فقوله: (ولا ولد أو والد) معناه: ولا والده.

يقول الشيخ حفظه الله:

[ ليست له صاحبة ولا ولد ووالد ليس له كفواً أحد ].

الذي جاء في نصوص الوحي في وصف الله سبحانه وتعالى ينقسم إلى قسمين:

إلى إثبات ونفي، والإثبات جاء أكثره مفصلاً، والنفي جاء أكثره مجملاً، وقد جاء نفي مفصل وهو قليل، فبدأ به لقلته في النصوص، وإنما جاء النفي المفصل في النصوص فيما يتعلق بالصاحبة والولد والوالد فقط في قوله تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ[الإخلاص:1-4] ونحو ذلك.

والصاحبة: تطلق على القرينة فهي مؤنثة الصاحب بمعنى المصاحب، والمقصود بذلك: ما يخيل إلى بني آدم من أن حاجة الكائن أياً كان تقتضي وجود قرين له من جنسه.

ومن هنا نتذكر بعض الفوائد العقلية التي ذكرناها سابقاً والتي تفيد العقل من الإيمان، وقد ذكرنا أن الإيمان لمصلحة العقل، ومن فوائده:

أنه ينفي الخرافات عن العقل؛ لأن الخرافات هي متاهات العقول، فلو لم ترد هذه النصوص من الوحي لبقيت عقائد الناس مثل ما كانت عقائد الإغريق اليونانيين، عندهم الآلهة ذكور وإناث، وهناك عندهم بعض الآلهة ابن زناً من الإله، أي: إله زنى بإلهة فأنجبت له ابناً من زناً وأصبح إلهاً لديهم!! وهكذا من خرافات عقلية لا نهاية لها، ولذلك هذا الإله (أولمبيك) يسمونه إله الرياضة، وهو ابن زنا عندهم، زنت إلهة بإله آخر فأنجبت منه هذا الولد فسميت عليه الرياضة، وإلى الآن تسمعون بالملاعب الأولمبية ونحو ذلك وكله من أولمبيك.

فعلى هذا فإن هذه النصوص هي التي حررت العقول من هذه الأوهام وهذه الخيالات التي منشؤها التشبيه بما يعهده العقل؛ ولذلك فإن نصوص التنزيل في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كثيرة جداً، وهي التي تقتضي سد القلب بالكلية عن هذه الأوهام والتخيلات التي هي متاهات تضيع فيها العقول.

وكان العرب في الجاهلية يذهبون إلى أن الملائكة بنات الله، والتصور العقلي يقتضي أن البنات لا يمكن أن يوجدن إلا بعد أن توجد أم، والله سبحانه وتعالى فند هذه الفكرة تفنيداًَ قاطعاً في كثير من الآيات، ومن أبلغ ذلك ما كان فيه خطاب للعقل والعاطفة معاً، فقد جاء الخطاب في ذلك للعقل فقط في مثل قوله: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ[الإخلاص:3]، وجاء الخطاب فيه للعقل والعاطفة معاً في مثل قوله: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ * وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ[الزخرف:17-18] وفي القراءة السبعية الأخرى: (وجعلوا الملائكة الذين هم عند الرحمن إناثاً أأُشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون).

فرد هذه الأوهام مهم جداً للعقول، ولهذا جاء النفي فيها مفصلاً، بخلاف بعض الأمور التي لا تكون من ورائها المتاهات الكبيرة فلم يرد النص بنفيها على التفصيل، وإنما جاء النفي الإجمالي في قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ[الشورى:11] فقضى ذلك على التشبيه بالمخلوق كالجسم، والأعضاء، والجوارح وغير ذلك، ولم يأت التفصيل فيها، وإنما يفصل فيها المتكلمون ويذهبون فيها كل مذهب فيقولون:

ليس بجوهر ولا بجسم وعرض كاللون أو كالطعم

إلى آخره.

هذا التفصيل العقول في غنىً عنه، ولا تحتاج إليه أصلاً؛ لأنه لا يوجد وهم يميل إلى أن الله خالق هذا الكون كله عرض مثل الطعم أو مثل اللون، فلا يحتاج إلى نفي هذا إلا على سبيل الإجمال فيقال: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) ومن هنا ندرك حاجة العقول إلى الإيمان وأنه لمصلحة هذه العقول، وحائل بينها وبين التخبط في المتاهات التي لا يمكن أن تخرج من هذا الوحل.

قوله: (ليست له صاحبة ولا ولد) هذا نفي، وزعم الولد قديم في البشرية، فقد زعم اليهود أن العزير ابن الله، وزعم النصارى أن المسيح ابن الله، وزعم المشركون أن الملائكة بنات الله، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، وكل هذا بسبب أن بيئتهم وواقعهم لم تستنر بنور الوحي فتخبطت في الخرافات التي منشؤها ما يقيسون فيه على أنفسهم، فالذي يعظمونه في الأرض هم الملوك، والملوك لهم صواحب ولهم أولاد وبنات، فيرون أن من يقربه الملوك ويدنونه يمت لهم بصلة قرابة فيبحثون عن تلك القرابة، ومن هنا قال اليهود: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ[المائدة:18] فرد هذا الوهم بالكلية.

وكذلك فإن النصارى يزعمون أن الله سبحانه وتعالى أب لعيسى، ثم يزعمون أنه من وراء ذلك أب للبشر كلهم، فالفكرة القديمة لدى النصارى أنه أب لعيسى فقط، واليوم يزعمون أنه أبٌ للعالم كله ويزعمون أن الناس جميعاً أبناء الله، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.

ومن أجل هذا تجدون في الكتب المترجمة اليوم التي فيها بعض الأحاديث، مثلاً خرجت ترجمة لرياض الصالحين بالفرنسية: (الخلق كلهم عيال الله وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله)، ترجموا هذا فقالوا: الخلق كلهم أبناء الله!! فهموها هذا الفهم فترجموها به؛ ولذلك فإن خطر التدوين فيما يتعلق بترجمة النصوص هو من جهة أن الأوهام ستسبق إلى ما تعودت عليه إذا لم تستنر بنور الوحي.

(أو والد) كذلك نفى الوالد، وقد نفاه الله عن نفسه في قوله: لَمْ يُولَدْ[الإخلاص:3] فهو نفي للوالد مطلقاً.

ثم قال: (ليس لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) وهذا تقرير لكل ما سبق، ولا يحتاج إلى العطف فيه، يمكن أن تقول: لماذا لم يقل: (وليس لَهُ كُفُواً أَحَدٌ)؟

والجواب: أن معنى أنه (ليس لَهُ كُفُواً أحد): أنه لا صاحبة له ولا ولد ولا والد؛ لأن الكفء هو النظير، يقال: الكفو بالواو، والكفء بالهمزة، والكفؤ بضمتين، وهذه كلها مقروءة، فقراءة نافع و ابن كثير و ابن عامر (كفؤاً) بالهمزة، وقراءة الكوفيين: (كفواً) بالواو لكن شعبة يقرؤها (كفْواً) بإسكان الفاء بالإسكان وغيره يقرؤها بالضم.

والمقصود بهذا أمران: أحدهما: نفي التشبيه مطلقاً؛ لأن الكفاءة مقتضية لقدر من الاشتراك في الشبه، فالبشر من جهة التمثيل أكفاء، لا أحد منهم يزيد على آخر بعضو مثلاً، بل هم صورة واحدة؛ ولهذا قال الشافعي رحمه الله:

الناس من جهة التمثيل أكفاء أبوهم آدم والأم حواء

والثاني: وهو المقصود الأساس من نفي الكفء: أنه لا يمكن أن يكافئه ولا أن يناظره أحد حتى يتزاوج معه، أو حتى يحصل بينهما اتحاد، أو حتى يحصل بينهما الاشتراك في أي شيء، فلذلك لا يمكن أن يحصل أي شرك به من أي وجه من الوجوه، فهذا ينفي الصاحبة، والولد، وينفي الوالد، وينفي كذلك المشابهة مطلقاً بأي شيء من مخلوقاته، وينفي كذلك استعانته بأي مخلوق من خلقه، وينفي الحاجة إلى أي مخلوق؛ لأن الخلق كلهم محتاجون إلى الخالق، ويحتاج بعضهم إلى بعض، والخالق غني لا يحتاج إلى شيءٍ من خلقه، فلم يستفد منهم أية صفة، أي: لم يستفد منهم صفة الخلق بعد أن خلقهم، ولا صفة الرزق بعد أن رزقهم، فقد كان خالقاً ولا مخلوق، وكان رازقاً ولا مرزوق، وهو على ما عليه كان، لا تحله الحوادث والآفات، و لا تأخذه سنة ولا نوم، هو الحي القيوم كما كان.

وهذه الصفات المذكورة في هذا البيت فيها نفي الصاحبة، ونفي الولد، ونفي الوالد، ونفي الكفو، ونفي الكفو متضمن لنفي الصاحبة، وقد جاء الثلاثة في سورة الإخلاص: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ[الإخلاص:1-4] وهذا شامل لنفي الصاحبة، فقصد بذلك على أن يكون تفسير: (لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) أنه ليست له صاحبة ولا ولد أو والد، و(أو) هنا بمعنى الواو، فقوله: (ولا ولد أو والد) معناه: ولا والده.

قال: [وليس مثله علا شيء ولا يلزم ذا نفي صفاته العلا].

ذكر التفصيل لإثبات الإلهية والنبوة في سورة الطور

ذكرنا التشابه الجسمي، وقد نفي بقوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ[الشورى:11] والثاني: المداناة في المكانة حتى يمكن أن يحصل التزاوج أو نحو ذلك.

والنفي الإجمالي يأتي على حسب أوهام العقول؛ ولذلك فإن التفصيل البليغ في سورة الطور عجيب جداً، ألا تلاحظون أن أول ما يخيل إلى من سمع رسولاً يقرأ كتاباً ويقول: أنا أرسلت من رب العالمين، أن يتخيل أن هذا الكلام الذي يقرؤه إنما هو شعر، أو سحر، أو كهانة على عادة الناس، هذا أول ما يبدأ في العقل، فرد الله هذه الفكرة بقوله: أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنْ الْمُتَرَبِّصِينَ[الطور:30-31] أي: فالشعراء يموتون وتنتهي أشعارهم معهم وليست لهم أذكار مستمرة.

بعد هذا يفكرون بهذا الوحي الذي أتاهم فيقولون: هذا الكلام إذا فهمنا أنه ليس مثل كلام البشر، لكن من أين أتى؟

هل هو كلام لا يلفت الانتباه ولا يمكن أن ينتبه له أحد، أو هو كلام أعظم من هذا؟ فلذلك رد الله هذه الفكرة بقوله: أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ * أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ[الطور:32-34] أي: إذا كان هو تقوله من عند نفسه وادعاه، فليس بأبلغ من أن يقول لهم بعدها: (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ).

وهنا عرفنا أن هذا ليس كلاماً من كلام البشر وأنه وحي منزل، لكن من أين أتى؟ هنا يأتي التفكير فيمن أنزله.

فالتفكير فيمن أنزله بدايته التفكير في الخالق، والناس لم يشاهدوا خلق آدم، ولم يشاهدوا خلق السماوات والأرض وإنما رأوا الناس يتكاثرون، وراو المطر ينزل فتنبت الأرض شجراً وييبس وينبت من جديد وهكذا؛ فلذلك يمكن أن يتخيل العقل في هذه اللحظة إنكار الألوهية أصلاً فرد هذه الفكرة بقوله: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ[الطور:35-36].

هذه ثلاثة أفكار متسلسلة، بدايتها:

(أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ) فنحن قطعاً خلقنا ونحن موجودون ولم نكن ثم كنا، فمن خلقنا؟! هل يمكن أن يكون الإنسان غير موجود ثم يوجد من غير تأثير أي شيء آخر؟ هذا مستحيل؛ لأن من مبادئ العقل أن وجود أثر بلا مؤثر مستحيل، وترجيح بلا مرجح مستحيل.

(أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ) هل خلقوا أنفسهم؟ هذا مستحيل أيضاً لا يقبله عقل، ولا يمكن أن يدعيه وهم، وإذا ادعى بعض الناس أن غلاماً خلقه أبوه، وأن ذلك خلقه أبوه وهكذا بالتسلسل، لكن من خلق هذه السماء وهذه الأرض، وما نراه من الخلق العظيم الذي لا يمكن أن يكون للإنسان فيه تأثير: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ).

وبعد أن تثبت الألوهية لله الذي أنزل هذا الكتاب يأتي توهم آخر في العقل، فيقول: لكن لماذا خص هذا الإنسان بهذا الوحي من بين الناس؟ لماذا لم ينزل هذا على كل الناس أو يختار له منهم من هو أشرف في نظرهم منه؟ قال: أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمْ الْمُسَيْطِرُونَ[الطور:37] فلا يمكن أن يتحكموا في عطاء الله واختياره، وليس لهم ذلك.

وهنا يمكن أن يحصل في الوهم في خيال الإنسان أن الرسالة مكتسبه، وأنه إنما اكتسب ذلك بعمل تقرب به إلى الله حتى ينيله هذه المنزلة والرتبة، فيرد الله على هذا فيقول: أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ[الطور:38] لو كانت القضية باكتساب وحيلة فإن لكم عقولاً ولكم حيلاً، فلماذا لم تكتسبوها ولم تحصلوا عليها؟!

وبعد هذا نصل إلى الكلام على الواسطة التي تنزل هذا الوحي من السماء إلى الأرض؛ لأننا قطعنا النظر عن السلم إلى السماء، ولم ينقل بعد هذا إلا هذا الوحي المنزل من السماء؛ فمن أتى به؟ يأتي الوهم في الملائكة، فهم يزعمون أنهم بنات الله، فرد الله هذه الفكرة فقال: أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمْ الْبَنُونَ[الطور:39] ، كيف يكون هو الخالق الذي يهبكم البنيين، ويرزقكم هذه الأعداد الهائلة من الأولاد، ويختار لنفسه بنات فقط؟! هذا مستحيل.

فبطلت هذه الفكرة، ولم يبق إلا قضية العداوة الشخصية والحسد لهذا الرسول الذي اختاره الله، وأنزل عليه الملك بالوحي، فرد هذه الفكرة فقال: أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ[الطور:40] فهل لك عليهم مطالبات تطالبهم بها في مقابل الوحي حتى يحسدوك عليها؟! أم أنك لا تسألهم عليه أجراً، وإنما تريد هدايتهم وإيصالهم إلى الحق؛ فلذلك وجدنا أن العقول بتدرج أفكارها يأتي تنزيل الوحي لهدايتها، ورد كل هذا الخبث حتى يذهب جفاء.

أقسام الناس في صفات الله

قال: (وليس مثله علا شيء) هذا هو النفي المجمل وهو الوارد في قوله: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) وذلك أن الناس في صفات الله سبحانه وتعالى افترقوا إلى ثلاثة مذاهب:

المذهب الأول: هم المشبهة الذين انطلقوا من أوهام العقول فشبهوه بالمخلوقات.

والقسم الثاني: هم المعطلة الذين نفوا عنه ما أثبته لنفسه من الصفات.

والقسم الثالث: هم أهل الحق الذين لم يشبهوه بخلقه، ولكنهم لم ينفوا عنه ما أثبته لنفسه، فيثبتون ما أثبته لنفسه على مقتضى ما يليق به، وينزهونه عن مشابهة خلقه، فهذه الآية جاءت رداً على الطائفتين المنحرفتين المشبهة والمعطلة، ففيها قول الله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ[الشورى:11] وهو ردٌ على المشبهة، وقوله: وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ[الشورى:11] وهو رد على المعطلة، وسنذكر إن شاء الله أن لدينا طائفتين هما طرفان: المشبهة والمعطلة، وأهل الحق في هذا وسط بين الطائفتين.

لكن هناك أيضاً طرفان لأهل الحق: طرف لديه زيادة قليلة في الإثبات، وطرف لدية زيادة قليلة في التنزيه، فلذلك كل واحد من الطرفين يتهم الآخر بانتسابه إلى الطرف الذي يليه، فالذين هم أهل إثبات وعندهم فيه زيادة قليلة يتهمهم من سواهم بأنهم مشبهة، وينسبونهم إلى من ورائهم، والذين لديهم تنزيه زائد أيضاً ينسبهم غيرهم إلى من ورائهم من المعطلة، وهم وسط بين هاتين الطائفتين، وهذا ما سنبينه إن شاء الله، والشيخ احترز من الطائفتين بقوله فيما سبق:

(لا ما يقول من لذا أو ذا انتمى زعماً ولم يسر على ما رسما)

فلذلك كثير من الأشاعرة ينسبون بعض الحنابلة إلى التشبيه وليسوا مشبهين، لكن نظراً للإثبات الذي فيه زيادة قليلة، وكذلك كثير من الحنابلة ينسبون الأشاعرة إلى التعطيل، وليسوا معطلة في أغلبهم، لكن مقصود ذلك أنهم بالغوا في التنزيه أيضاًَ.

قوله: (فليس مثله علا شيء) (شيء) هي اسم ليس، أي: وليس شيء مثله

(علا) أي: تعالى، وفيه إثبات صفة العلو لله سبحانه وتعالى وسنذكرها إن شاء الله تعالى بالتفصيل.

قوله: (ولا يلزم ذا نفي صفاته العلا) أي: نفي التشبيه عنه لا يقتضي نفي صفاته التي أثبتها لنفسه، (ولا يلزم ذا) معناه: إذا نفينا عنه التشبيه، فلا يقتضي ذلك إلزامنا بنفي صفاته التي أثبتها لنفسه، بل نثبت له ما أثبته لنفسه ولا يقتضي ذلك تشبيهاً له بخلقه، لذلك قال:




استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
سلسلة الأسماء والصفات [6] 3900 استماع
سلسلة الأسماء والصفات [9] 3421 استماع
سلسلة الأسماء والصفات [8] 3250 استماع
سلسلة الأسماء والصفات [3] 2886 استماع
سلسلة الأسماء والصفات [10] 2645 استماع
سلسلة الأسماء والصفات [12] 2505 استماع
سلسلة الأسماء والصفات [14] 2449 استماع
سلسلة الأسماء والصفات [7] 2315 استماع
سلسلة الأسماء والصفات [1] 1994 استماع
سلسلة الأسماء والصفات [13] 1942 استماع