سلسلة الأسماء والصفات [8]


الحلقة مفرغة

يقول الشيخ حفظه الله: يحكم بالحق يستفهم وهو أعلم.

كذلك من الصفات المثبتة لله سبحانه وتعالى صفة الحكم، فقد أثبتها لنفسه في كثير من الآيات، وإثباتها في القرآن جاء بصيغة الفعل، وجاء بصيغة الاسم بالحصر:

فصيغة الاسم مثل قول الله تعالى على لسان يعقوب ويوسف عليهما السلام: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ[يوسف:67] ، فيعقوب عليه السلام يقول: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ[يوسف:67] ، ويوسف عليه السلام يقول: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ[يوسف:40] ، وكذلك قول الله تعالى: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ[الشورى:10] .

وبالفعل مثل قوله تعالى: فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ[البقرة:113] ، ونحو هذا من الآيات التي فيها الإثبات بالفعل.

والمقصود بالحكم الفصل، والفرق بينه وبين صفة القضاء: أن صفة القضاء يختلف إطلاقها باختلاف المخاطب، فمثلاً: قول الله تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ[الإسراء:23] ، إن كان الخطاب لأمة الدعوة فقضى هنا بمعنى: أمر، وإن كان الخطاب لأمة الإجابة فقضى بمعنى: أوجب، فالقضاء المطلق هو بمعنى الأمر فقط الذي لا يشمل جزماً، وإن كان لأمة الإجابة الذين آمنوا وصدقوا محمداً صلى الله عليه وسلم فهو على سبيل الإيجاب والجزم.

أما الحكم فلا يكون إلا جازماً، ولذلك فالقضاء قد يكون بالخطاب التكليفي الشرعي وقد يكون بالخطاب القدري، فإن الله يقضي بمعنى: يوجب، أو يحرم، فهذا هو قضاؤه التشريعي، أما قضاؤه القدري فمعناه: تنفيذ ما علم وأراد أن يقع في الأزل، فما أراده الله يقضيه، أي: ينفذه ويوقعه على وفق إرادته وعلمه.

أما الحكم فكذلك يتعلق بالدنيا والآخرة:

ففي الدنيا يطلق على الخطاب التشريعي، كقول الله تعالى: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ[الشورى:10] .

وفي الآخرة يطلق على فصل الخصام يوم القيامة عندما يتجلى الباري سبحانه وتعالى لفصل الخصام، فيختصم الناس إليه، وحينئذٍ يقام الخصام بين كل فريقين اخلتفا، فكل خلاف في الدنيا يُفصل في ذلك الوقت، ولذلك سمي ذلك اليوم يوم الفصل، ولذلك قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (الله أكبر! أنا أول من يجثو بين يدي ربي يوم القيامة للخصام، حين أنزل الله تعالى: هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ[الحج:19-21])، وهؤلاء هم الذين كفروا من أهل المبارزة يوم بدر وهم:

عتبة بن ربيعة .

وشيبة بن ربيعة .

والوليد بن عتبة بن ربيعة .

والذين آمنوا الذين يخاصمونهم وهم الخصم الثاني هم:

علي بن أبي طالب .

وحمزة بن عبد المطلب .

وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب .

فيجثو الناس بين يدي الله سبحانه وتعالى للخصام، ولذلك قال الله تعالى: وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً[الجاثية:28] ، فهذا هو الحكم الأخروي المذكور في قوله: فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ[البقرة:113] وكثير من الآيات فيها تعليق الحكم بيوم القيامة.

ومثله قول الله تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ[الزمر:46] ، والمقصود: الحكم الأخروي، ولهذا كان ابن عمر رضي الله عنه إذا ذكر وقعة الجمل يقول: قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ[الزمر:46] ، يقصد بذلك إحالة الحكم في مثل هذا إلى الله سبحانه وتعالى؛ فهو الذي يفصل فيه وحده.

وحكم الله سبحانه وتعالى بالحق دائماً؛ لأنه لا يقول إلا الحق، كما قال تعالى: وَالْحَقَّ أَقُولُ[ص:84] ، ولذلك فإن الملائكة عليهم السلام إذا فزع عن قلوبهم قالوا: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ[سبأ:23] ، فحكمه لا يكون إلا بالحق، وهذا الحق معناه: الحق المحض الذي ليس فيه جور ولا ظلم ولا تهافت ولا تناقض ولا اختلاف في وجه من الوجوه؛ فليس مثل حكم غيره، فالحاكم في الدنيا حاكم مخلوق حتى لو كان معصوماً فإنه يحكم وفق البينة ووفق ما يسمع، لكن قد لا يكون ذلك حقاً محضاً، ولهذا جاء في حديث أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للرجلين اللذين اختصما عنده: (إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إليَّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بشيء من مال أخيه فإنما أقتطع له جمراً من النار، فليأخذه أو ليدعه).

فالحاكم الدنيوي يقضي، ولكن قضاءه لا يحل حراماً ولا يحرم حلالاً، وإنما هو بحسب الظاهر فقط، أما حكم الله تعالى فهو الحق المحض الذي لا يمكن أن يقع فيه اختلاف ولا لبس، وهذا وجه الفرق بين صفة الله وصفة المخلوق، فالحكم يثبت للمخلوق ويثبت لله سبحانه وتعالى، لكن حكم الله بالحق دائماً، وحكم المخلوق الله أعلم به؛ فقد يوافق الحق وقد لا يوافقه، ولهذا قال: يحكم بالحق.

استفهام الله عز وجل

وقوله: (يستفهم وهو أعلم)، أي أن الله سبحانه وتعالى يستفهم، وهذا الاستفهام أنواع، فمنه:

- استفهام تقريري، مثل قوله تعالى: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى[الأعراف:172] .

- ومنه استفهام إنكاري، وكثيراً ما يقع في القرآن للرد على المشركين، فيأتي الاستفهام إنكارياً، ولكنه لا يقصد به الاستعلام؛ لأنه هو أعلم ، ونظير ذلك الاستفهام من أجل الاستشهاد مثل حديث: (إن لله ملائكة سيارين في الأرض بغيتهم حلق الذكر، فإذا وجدوهم حفوهم بأجنحتهم، وتنادوا: أن هذه طلبتكم، فيمكثون ما شاء الله، ثم يرتفعون إلى ربهم، فيقول: ماذا يقول عبادي؟ فيقولون: يسبحونك ويكبرونك ويهللونك، فيقول: وهل رأوني؟ فيقولون: لا، فيقول: فكيف لو رأوني؟ فيقولون: وعزتك وجلالك لو رأوك لكانوا لك أشد ذكراً، فيقول: وماذا يسألونني؟ فيقولون: يسألونك الجنة، فيقول: وهل رأوها؟ فيقولون: لا، فيقول: فكيف لو رأوها؟ فيقولون: وعزتك وجلالك لو رأوها لكانوا عليها أشد حرصاً ولها أشد طلباً، فيقول: ومماذا يستعيذونني؟ فيقولون: يستعيذونك من النار، فيقول: وهل رأوها؟ فيقولون: لا، فيقول: فكيف لو رأوها؟ فيقولون: وعزتك وجلالك لو رأوها لكانوا منها أشد خوفاً، فيقول: أشهدكم أني قد غفرت لهم، فيقولون: يا رب! فيهم عبدك فلان وليس منهم إنما جاء لحاجة، فيقول: هم الرهط أو هم القوم لا يشقى بهم جليسهم).

فهذا الاستفهام كله وهذه الأسئلة كلها لا يقصد بها زيادة علم، وإنما يقصد بها استشهاد الملائكة على ذلك، والملائكة يشهدون كما قال تعالى: وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا[النساء:166] ، فالملائكة يشهدون هذا، والله سبحانه وتعالى يسألهم لتثبت الشهادة عندهم بأنه استشهدهم على هذا.

والاستفهام في اللغة معناه طلب الفهم، لكنه في الاصطلاح لا يقصد به ذلك، بل يقصد به السؤال مطلقاً.

وأسئلة الله سبحانه وتعالى لخلقه بالاستفهام كثيرة، سواء كانت على وجه التشريع مثل سؤاله لموسى عليه السلام: وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى[طه:17] ، وهذا النوع من الاستفهام لا يدخل في الأنواع السابقة؛ فليس استفهاماً إنكارياً ولا تقريرياً ولا استشهادياً، وإنما يسمى استفهاماً تأنيسياً، فيؤنسه بهذا السؤال؛ لأنه يخاطبه ديان السماوات والأرض، وهو بشر فلو خاطبه بغير هذا الخطاب لأمكن أن ينشق شغاف قلبه من خشية الله، ولكنه أنسه فخاطبه بهذا الاستفهام العجيب فقال: وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى[طه:17] ، وهنا أجاب موسى بهذا الجواب الذي فيه إطناب، وأراد بذلك التزود بتكليم الله سبحانه وتعالى له فقال: هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى[طه:18] ، وكان الجواب المطلوب على طبق سؤاله أن يقول: عصاً، فيكفي لو قال: عصاً، ولكنه انتهز فرصة تكريم الله له هذا التكريم العجيب، فأطال مدة الجواب، ولهذا قال: (يستفهم وهو أعلم).

وقد جاء في عدد من الأحاديث التي فيها سؤال الله تعالى للملائكة: (فيسألهم وهو أعلم)، وهذا يدلنا على أن الاستفهام لا يقصد به الاستخبار ولا زيادة علم.

والألفاظ الواردة في القرآن في الابتلاء والامتحان التي يأتي بعدها (ليعلم)، فلا يقصد بها مزيد علم لله سبحانه وتعالى وإنما يقصد بها إيضاح ذلك للناس، وهو الخروج من حيز العلم الغيبي إلى علم الشهادة، مثل قوله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ[آل عمران:142] ، ونحو هذا قوله تعالى: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا * لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ[الجن:26-28] ، ثم عقب الآية لينفي احتمال تجدد العلم فقال: وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً[الجن:28] فلا يمكن أن يزداد علمه بحصول ذلك.

وقوله: (يستفهم وهو أعلم)، أي أن الله سبحانه وتعالى يستفهم، وهذا الاستفهام أنواع، فمنه:

- استفهام تقريري، مثل قوله تعالى: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى[الأعراف:172] .

- ومنه استفهام إنكاري، وكثيراً ما يقع في القرآن للرد على المشركين، فيأتي الاستفهام إنكارياً، ولكنه لا يقصد به الاستعلام؛ لأنه هو أعلم ، ونظير ذلك الاستفهام من أجل الاستشهاد مثل حديث: (إن لله ملائكة سيارين في الأرض بغيتهم حلق الذكر، فإذا وجدوهم حفوهم بأجنحتهم، وتنادوا: أن هذه طلبتكم، فيمكثون ما شاء الله، ثم يرتفعون إلى ربهم، فيقول: ماذا يقول عبادي؟ فيقولون: يسبحونك ويكبرونك ويهللونك، فيقول: وهل رأوني؟ فيقولون: لا، فيقول: فكيف لو رأوني؟ فيقولون: وعزتك وجلالك لو رأوك لكانوا لك أشد ذكراً، فيقول: وماذا يسألونني؟ فيقولون: يسألونك الجنة، فيقول: وهل رأوها؟ فيقولون: لا، فيقول: فكيف لو رأوها؟ فيقولون: وعزتك وجلالك لو رأوها لكانوا عليها أشد حرصاً ولها أشد طلباً، فيقول: ومماذا يستعيذونني؟ فيقولون: يستعيذونك من النار، فيقول: وهل رأوها؟ فيقولون: لا، فيقول: فكيف لو رأوها؟ فيقولون: وعزتك وجلالك لو رأوها لكانوا منها أشد خوفاً، فيقول: أشهدكم أني قد غفرت لهم، فيقولون: يا رب! فيهم عبدك فلان وليس منهم إنما جاء لحاجة، فيقول: هم الرهط أو هم القوم لا يشقى بهم جليسهم).

فهذا الاستفهام كله وهذه الأسئلة كلها لا يقصد بها زيادة علم، وإنما يقصد بها استشهاد الملائكة على ذلك، والملائكة يشهدون كما قال تعالى: وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا[النساء:166] ، فالملائكة يشهدون هذا، والله سبحانه وتعالى يسألهم لتثبت الشهادة عندهم بأنه استشهدهم على هذا.

والاستفهام في اللغة معناه طلب الفهم، لكنه في الاصطلاح لا يقصد به ذلك، بل يقصد به السؤال مطلقاً.

وأسئلة الله سبحانه وتعالى لخلقه بالاستفهام كثيرة، سواء كانت على وجه التشريع مثل سؤاله لموسى عليه السلام: وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى[طه:17] ، وهذا النوع من الاستفهام لا يدخل في الأنواع السابقة؛ فليس استفهاماً إنكارياً ولا تقريرياً ولا استشهادياً، وإنما يسمى استفهاماً تأنيسياً، فيؤنسه بهذا السؤال؛ لأنه يخاطبه ديان السماوات والأرض، وهو بشر فلو خاطبه بغير هذا الخطاب لأمكن أن ينشق شغاف قلبه من خشية الله، ولكنه أنسه فخاطبه بهذا الاستفهام العجيب فقال: وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى[طه:17] ، وهنا أجاب موسى بهذا الجواب الذي فيه إطناب، وأراد بذلك التزود بتكليم الله سبحانه وتعالى له فقال: هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى[طه:18] ، وكان الجواب المطلوب على طبق سؤاله أن يقول: عصاً، فيكفي لو قال: عصاً، ولكنه انتهز فرصة تكريم الله له هذا التكريم العجيب، فأطال مدة الجواب، ولهذا قال: (يستفهم وهو أعلم).

وقد جاء في عدد من الأحاديث التي فيها سؤال الله تعالى للملائكة: (فيسألهم وهو أعلم)، وهذا يدلنا على أن الاستفهام لا يقصد به الاستخبار ولا زيادة علم.

والألفاظ الواردة في القرآن في الابتلاء والامتحان التي يأتي بعدها (ليعلم)، فلا يقصد بها مزيد علم لله سبحانه وتعالى وإنما يقصد بها إيضاح ذلك للناس، وهو الخروج من حيز العلم الغيبي إلى علم الشهادة، مثل قوله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ[آل عمران:142] ، ونحو هذا قوله تعالى: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا * لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ[الجن:26-28] ، ثم عقب الآية لينفي احتمال تجدد العلم فقال: وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً[الجن:28] فلا يمكن أن يزداد علمه بحصول ذلك.

قال الناظم رحمه الله:

[وما له معين أو ظهير وما له ند ولا نظير]

قوله: (وما له معين أو ظهير)، قد نفى الله سبحانه وتعالى عن نفسه الكفء في قوله: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ[الإخلاص:4] ، وهذا نافٍ لأن يكون له معين من خلقه، فلا يمكن أن يستعين بأحد من خلقه؛ فهو القادر على ما يشاء لا يحتاج إلى أحد من خلقه.

وكذلك الظهير، فالظهير هو الذي يشد الظهر أو يساعد الإنسان على أن يحتاج به إلى قوة، والله سبحانه وتعالى لا يحتاج إلى ذلك، وأما ما يوهم ذلك من الآيات مثل قوله تعالى: وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا[الكهف:51] ، فمفهوم هذا قد يتوهم منه بعض الناس أن غير المضلين يمكن أن يتخذوا عضداً، وليس الحال كذلك، بل المقصود أنه يقوي بهم الحق، فغير المضلين يجعلهم جنوداً للحق، وهو الذي يؤيدهم وينصرهم ولا يحتاج إلى نصرتهم، ولهذا قال: ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ[محمد:4].

ومثل هذا قوله حكاية عن موسى عليه السلام: رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ[القصص:17] ، ومثل هذا قوله تعالى خطاباً لرسوله صلى الله عليه وسلم: وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ * وَلا يَصُدُّنُّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ[القصص:86-87] ، فكل هذا إنما المقصود به: نصرة الحق؛ إذ لا يحتاج الله سبحانه وتعالى إلى أحد من خلقه، لذلك قال:

(وما له معين أو ظهير وما له ند ولا نظير)

والعكس أيضاً: ليس له ند، والند هو المكافئ الذي يمكن أن يقاتل الإنسان أو يواجهه، فقد كان أهل الحرب قديماً يجعلون المباراة بين كل اثنين يتقاربان في الشجاعة والقوة، ويسمى أحدهما ند الآخر.

وهكذا المباراة أيضاً، باراه بمعنى: سابقه، ومنه فلان يباري الريح، أي: يسابقها.

ومنه النديد، فكل ذلك وارد: الند والنديد والقرن والقرين، فالنديد جاءت في شعر الأسود بن عبد يغوث في غزوة بدر في قوله:

وما لأبي حكيمة من نديد أتبكي أن يضل لها بعير

أي: لا يقارنه أحد، وأبو حكيمة هو زمعة بن الأسود ؛ وقد قتل يوم بدر كافراً.

وقوله: (وما له ند ولا نظير)، كذلك نفى النظير، أي: الذي يمكن أن يواجهه أو يرد عليه أي شيء، أو يشاركه في أي شيء، فكل هذا مردود، ولهذا قال الله تعالى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا[الأنبياء:22] ، وقال: إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ[المؤمنون:91] ، وهذا هو الذي يسميه أهل الكلام في إثبات الوحدانية لله بدليل التمانع، فإنهم يقولون:

لو أمكن تعدد الآلهة فإن الإلهين إما أن يتفقا وإما أن يختلفا، فإن اختلفا فلابد أن يغلب أحدهما الآخر أو لا يغلبه، فإن لم يستطع أحد منهما التغلب على الآخر فهما عاجزان لا يتصفان بالألوهية، وإن غلب أحدهما الآخر فالمغلوب غير إله؛ لأنه غُلب، والغالب غير إله؛ لأنه كان يمكن أن يُغلب، وما جاز على المثل جاز على مماثله، وإن اتفقا فسيصنعان شيئاً، والعالم كله لابد أن يكون مصنوعاً للإله، فجواهر الأفراد وهي الذرات التي لا يمكن أن يشترك في صناعتها اثنان، وإذا صنعها واحد فقد استغنت عن الآخر، وكل جوهر فرد إذا صنعه أحدهما فقد استغنى عن الآخر، والمستغنى عنه غير إله، والآخر مثله؛ لأن ما جاز على المثل جاز على مماثله، فانتفى التعدد بالكلية، وأخذوا هذا الدليل من هذه الآية: إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ[المؤمنون:91].

قال الناظم رحمه الله:

[ ولم يكن يئوده حفظ السما والأرض أو يعجزه من فيهما ]

كذلك من الصفات المنفية عن الله سبحانه وتعالى أنه لا يئوده -أي: يثقله- حفظ السماء والأرض، وقد جاء ذلك في آية الكرسي في قوله تعالى: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ[البقرة:255] .

وآده الشيء يئوده بمعنى: أثقله، كما قال الشاعر:

جبل على جمل يكاد يئوده فتراه يمشي مشية المرحوض

جبل، معناه: رجل ضخم. على جمل يكاد يئوده، معناه: يثقله.

فتراه يمشي مشية المرحوض: أي المثقل.

فالله سبحانه وتعالى لا يعجزه شيء من خلقه، فلا يئوده حفظ السماوات والأرض، كما قال: وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ[البقرة:255] .

وقوله: (أو يعجزه من فيهما)، كذلك لا يعجزه أحد من خلقه، ولذلك فإن الجن قالوا هذا كما حكى الله عنهم: وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا[الجن:12] ، فهذا لا يمكن أن يقع أبداً.

وأعجزه يعجزه معناه: انقطع دونه ولم يستطع الوصول إليه، وهو من العجز، والعجز معناه القصور دون الشيء أو الكسل عنه، وفعلها: عجَز يعجز عجزاً، وأما عجِز يعجز بالكسر في الماضي والفتح في المضارع فمعناها: كبرت عجيزته، أو صار عجوزاً، وفعلها: عجز، فالعجز معناه: ضخامة العجُز.

و(من) في الأصل تطلق على العاقل وحده، لكنها تطلق عليه مع غيره لاختلاطه به أو اشتراكهما في العموم، وما في السماوات وما في الأرض فيهم العقلاء وغير العقلاء، فأطلقت لفظة (من) لتشمل كل ذلك.

ومن في السماوات ومن في الأرض هذا يشمل أنواع المخلوقات، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى منها أربعة أصناف في العالم العلوي وأربعة أصناف في العالم السفلي، وذلك في سورة فصلت في قوله تعالى: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ[فصلت:9] ، وهذه قشرة الأرض.

ثم قال تعالى: وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ[فصلت:10-12] ، فالسماوات السبع تقابل الأراضين السبع، وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا[فصلت:12] ، وهذا يقابل قوله: وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا[فصلت:10] .

وقوله: وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ[فصلت:12] ، هذا يقابل قوله: وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا[فصلت:10] .

وقوله: وَحِفْظًا[فصلت:12] ، هذا يقابل قوله: وَبَارَكَ فِيهَا[فصلت:10] ، فهذه أربعة أنواع تقابلها أربعة.

وبالإضافة إلى هذا فجنود الله تعالى لا حصر لها، كما قال تعالى: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ[المدثر:31] ، وقد جاء في الحديث: (أطت السماء وحق لها أن تئط؛ فما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد لله أو راكع)، هذا بالنسبة للسماء.

وكذلك بالنسبة لكثرة جنود الله سبحانه وتعالى في الأرض من الملائكة والجن وغير ذلك من الجنود التي لا نعلمها، ومع هذا فجميع هؤلاء لا يخفي أحد منهم أحداً عن الله سبحانه وتعالى، ولا يلتبس عليه كلامهم ولا خطابهم ولا وظائفهم ولا ما هم فيه، ولهذا قال الله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ[النور:41] ، فكل من في السماوات والأرض قد علم الله صلاته وتسبيحه، أو قد علم هو صلاة نفسه وتسبيح نفسه فلم يعلمها غيره.

فنحن لا نعلم تسبيح الحصى، ولا تسبيح البحار، ولا تسبيح الجبال، لكن الجبال تعرف تسبيحها والبحار تعرف تسبيحها وهكذا، ولهذا قال: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ[الإسراء:44] ، فنحن لا نعرف ذلك، ولكنها هي تعرف ذلك، وهو سبحانه وتعالى يعرف تسبيح كل ذلك لا يلتبس عليه.