سلسلة الأسماء والصفات [12]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

سبحانك اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً يا أرحم الراحمين!

يقول الشيخ حفظه الله:

[والكتب التي على رسل البشر أنزل من كلامه جل فذر

قولهم القرآن قد دل على الـ كلام أو على الذي الكلام دل]

من أركان الإيمان: الإيمان بالكتب المنزلة، وهذا الركن في أصله داخل في الركن الأول الذي هو الإيمان بالله؛ فأركان الإيمان ستة، لكن ثلاثة منها ترجع إلى واحد.

فالإيمان بالله يشمل الإيمان بالكتب المنزلة والإيمان بالقدر؛ لأن الكتب المنزلة كلام الله، والقدر من علم الله، فهذا كله يرجع إلى الإيمان بالله.

فإذاً: تعود هذه الأقسام في حقيقتها إلى أربعة: الإيمان بالله، والإيمان بالملائكة، والإيمان بالرسل، والإيمان باليوم الآخر.

أما الإيمان بالكتب والإيمان بالقدر فهو من الإيمان بصفات الله، وللعناية بالإيمان بالكتب جُعل الإيمان بها ركناً مستقلاً من أركان الإيمان، وللعناية بالقدر وكثرة زيغ الناس فيه جُعل الإيمان به ركناً مستقلاً.

والكتب جمع كتاب، والكتاب في اللغة فعال للآلة، من (كتب) بمعنى: خاط، فهو آلة الخياطة، ثم أطلق بعد هذا على الأوراق التي تكون حاوية للرسوم المقصودة فتخاط لتجمع، فسميت كتاباً، ثم سميت الحرفة التي هي الضرب بالحروف على الأوراق كتابة، ولهذا قال الله تعالى: وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ[العنكبوت:48] .

ومنه قول الشاعر:

تخطه من ذوات المصر كاتبة قد طالما ضربت باللام والألف

وإطلاق الكتب على كلام الله سبحانه وتعالى المنزل إلى الرسل من البشر سببه: أن هذا الكلام الذي ينزله الله تعالى عليهم كان ينزل عليهم مكتوباً، إلا القرآن فلم ينزل مكتوباً، وإنما أنزل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك سمي كتاباً، وتسميته كتاباً بمجاز آخر وهو: أن الرسالة التي يرسلها أحد إلى أحد تسمى كتاباً ، فتقول: أرسل إلي فلان كتاباً، وهذا القرآن هو كتاب الله إلى خلقه، فهو رسالة من عند الله إلى خلقه، وقد أنزلها على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، وليست مكتوبة، ولكنها رسالة يؤديها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس، فمن أجل هذا سمي كتاباً.

والحاجة إلى كتابة الكتب السابقة: أنها لم تكن في علم الله تعالى تصلح إلا لمدة محددة لا تتجاوزها؛ فلذلك جاءت مكتوبة من عند الله سبحانه وتعالى، ولم يؤمر الناس بحفظها؛ لأن الحفظ في الصدور أبقى من مجرد الكتابة، فالعلم مع كثرة كتابته وكثرة الكتب المؤلفة فيه يقل إذا لم يكن محفوظاً بالصدور، ومن هنا فإن الكتب السابقة كلها لم يكن أهلها يحفظونها، إنما كانوا يستودعونها ويستحفظونها مكتوبة، ويتوارثها الناس نسخاً مكتوبة.

وجوب الإيمان بالكتب التي أنزلها الله عز وجل وسماها

فمن الرسل من أنزلت عليه الكتب في شكل صحف، وقد جاء التصريح بذلك في إبراهيم وموسى، كما قال عز وجل: إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى[الأعلى:18-19]، وفي هذا أن صحف إبراهيم وموسى من الصحف الأولى ، وهذا يدلنا على أن الكتب المنزلة في الصحف ليست محصورة في هذه فقط، بل المنزل على نوح أيضاً كان صحفاً، وكذلك على من دونه من الرسل.

وأيضاً أطلقت القراطيس في أنبياء بني إسرائيل على الكتب؛ حيث جاء ذكر ذلك في سورة الأنعام في قول الله تعالى: قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ[الأنعام:91] .

وقد كتب الله التوراة لموسى بيمينه في الألواح، فسلمه هذه الألواح، واستشهد على ذلك سبعين من قومه، شهدوا على استلام موسى للألواح من ربه، وهذه الألواح كانت أربعة عشر لوحاً، فانكسر منها اثنا عشر وبقي اثنان، ومع ذلك فقد جاء بعد موسى معززون لشريعته من أنبياء بني إسرائيل، وأنزل على كثير منهم وحي.

وأما الكتب المسماة فهي هذه الأربعة التي هي: التوراة والإنجيل والزبور والقرآن.

فالتوراة هي الكتاب المنزل على موسى باللغة العبرية، وهي العبرانية.

وهذه الكلمة مختلف فيها هل هي عربية أو غير عربية، والراجح: أنها من العربية، فالتوراة أصلها: التورية، أي: الكلام الذي يشير إلى أحداث ستقع، وليس فيه التصريح بذلك.

وقيل: هي غير عربية؛ لأنها لو كانت عربية لما قيل: التوراة، ولقيل: التورية.

وعلى هذا الاختلاف اختلف القراء في قراءتها في القرآن هل تقرأ بالإمالة أم لا؟

فمنهم من يقرؤها بالإمالة بين بين، كـورش ، فمثلاً: يقرأ قوله تعالى: الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ[آل عمران:1-4].

ومنهم من يميلها إمالة محضة، كـأبي عمرو و الكسائي فيقرآن: وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ[آل عمران:3-4] .

ومنهم من يكون له فيها وجهان، كـقالون فله وجهان: بالتقليل والفتح.

وأما الإنجيل فهذا اللفظ باللغة العبرانية معناه: الكتاب، وقد استعمل في لغة العرب بذلك، ومنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أناجيل أمتي في صدورها).

وأما الزبور فهو الكتاب المنزل على داود، واشتقاقه من الزبر، وهو الكتابة، فزبر معناه: أخذ المزبر فكتب به، والمزبر هو القلم، وهذا من لغة العرب، ومع ذلك سمي به هذا الكتاب، ويطلق عليها قديماً المصاحف، كما جاء في الحديث: (إن داود كان يقرأ في المصحف) والمقصود بالمصحف الزبور.

والمصحف يجوز فيه ثلاثة لغات: المَصحف والمِصحف والمُصحف، ومعناه: ما يجمع الصحف، فهو مشتق من الصحيفة؛ لأنه يجمعها، فلذلك يطلق على القرآن وعلى غيره من الكتب المنزلة.

وجوب الإيمان بالكتب التي أنزلها الله عز وجل ولم تسم

وما لم يسم من كتب الله سبحانه وتعالى يجب الإيمان به إجمالاً، ولا يجب الإيمان تفصيلاً إلا بهذه الكتب، ولا يجب الإيمان تفصيلاً من هذه الكتب بما فيه إلا بالقرآن؛ لأن الكتب الأخرى قد نسخت ورفعت، وغيرت وبدلت قبل ذلك.

والإيمان بها يقتضي التصديق بما جاء بها من الأخبار على ما أخبر الله به عن رسوله صلى الله عليه وسلم أنه مصدق لما بين يديه من الكتاب، فهذا القرآن مصدق لما بين يديه من الكتاب، فيجب على كل المسلمين أن يعتقدوا صدق ما أنزله الله على رسله جميعاً من الكتب، وصدق ما فيها من الأخبار.

الإيمان بنسخ ما كان قبل القرآن من أحكام

كذلك من الإيمان بها: الإيمان بأن ما فيها من الأحكام ما نسخ منه بالقرآن لم يعد صالحاً للعمل به، ولا يجزئ بين يدي الله؛ لأن الله أخبر بذلك في كتابه في قوله: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ[آل عمران:85] .

مع ذلك فهذه الكتب المنزلة ينبغي أن نعلم أن فيها أمراً يخفى على كثير من الناس، وهو أن رسل الله ينقسمون إلى قسمين: إلى رسل قد جاءوا بشرائع جديدة، وإلى رسل قد جاءوا مكملين لشريعة سابقة، والجميع يصدق عليه قول الله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا[المائدة:48] .

فلا تنافي بين أن يكون الرسول مجدداً لشريعة من قبله، وبين أن يكون له شرعة ومنهاج، والشرعة والمنهاج الذي أوتيه مكمل ومتمم لشرع من قبله.

ويتفاوت فضل الرسل بذلك، فأولو العزم من الرسل وهم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليهم وسلم، أوتوا شرائع جديدة.

ولا منافاة بين هذا وبين أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وأمته باتباع ملة إبراهيم؛ لأن الملة إنما يقصد بها في أغلب إطلاقاتها: ما يتعلق بالأخلاق والسلوك، لا ما يتعلق بالتشريعات.

ولهذا فإن خصال الفطرة من ملة إبراهيم، والضيافة من ملة إبراهيم، والغسل من الجنابة من ملة إبراهيم، وعقد النكاح من ملة إبراهيم، وكذلك الحج أصله من ملة إبراهيم.

ومن ملة إبراهيم عدم الدعاء على قومه، والحلم عنهم والصفح، وهذا أبرز شيء أخذ به الرسول الله صلى الله عليه وسلم من خلق إبراهيم عليه الصلاة والسلام.

فكثير من الأنبياء الآخرين جاء في القرآن التصريح بدعائهم على قومهم، وبالهلاك الذي حصل لقومهم.

وقوم إبراهيم لا يدري أحد ماذا حصل لهم، ولا يستطيع أحد الآن أن يقول: إنهم أُهلكوا بالوصف الفلاني، فتجد إهلاك قوم نوح وهم قبلهم، وإهلاك قوم موسى وهم بعدهم، وأقوام غير هؤلاء من الرسل، كقوم شعيب وقوم لوط وصالح هود، لكن قوم إبراهيم لم تذكر أخبار هلاكهم، وإنما يعرف أن الله أنجى إبراهيم عليه السلام، وأن النار كانت برداً وسلاماً عليه، وأنه هاجر عنهم.

وعلى هذا تكون الكتب بعضها مجدداً كالزبور؛ فإن جمهور المفسرين يذكرون أن هذا الكتاب ليس فيه تشريعات جديدة لبني إسرائيل، وإنما فيه المواعظ والحكم وأذكار يذكرون الله بها، وقد جاءت الإشارة إلى ذلك بقول الله تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ[الأنبياء:105] ، فبعد ذكر الله الذي فيه جاء فيه أحكام، منها حكم الله النافذ وسنته الكونية التي لا تتغير: أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ[الأنبياء:105].

مخالفة الإنجيل للتوراة

وأما الإنجيل فقد جاء فيه تغيير كثير لأحكام التوراة، وقد صرح بذلك عيسى عليه السلام في سورة آل عمران في قوله تعالى حكاية عنه: وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ[آل عمران:50] ، فقد صرح بأنه سيحل لهم بعض الذي حرم عليهم.

وقد ذكر بعض العلماء مقارنة بين ملة موسى وملة عيسى، فجعلهما طرفين مختلفين في كثير من المسائل، وجعل أمة محمد صلى الله عليه وسلم وسطاً بينهما.

ولهذا أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم عن الأيام فذكر أن في الأسبوع يوماً فاضلاً عند الله، وأن الله أخبر به الرسل، وأن موسى أخبر به قومه فضلوا عنه؛ فطلبوه فالتمسوه في اليوم الذي بعده، وهو يوم السبت، فجاء النصارى فطلبوه، فالتمسوه في اليوم الذي بعد ذلك، وهو يوم الأحد، وهدى الله المسلمين إليه، وهو يوم الجمعة.

فهو اليوم الفاضل، والناس في ذلك تبع لنا، فاليهود عندهم يوم السبت، والنصارى عندهم يوم الأحد.

ومن هذه الأحكام: قضية تعدد الزوجات، فإنه مباح في التوراة إلى غير حدود، حيث يجوِّز للرجل أن يتزوج ما شاء من النساء، ولذلك تزوج سليمان بن داود ألف امرأة.

وأما الإنجيل ففيه تحريم تعدد الزوجات مطلقاً، حتى لو تزوج الإنسان فماتت زوجته في ليلتها الأولى لم يحل له الزواج بعد ذلك.

وجاءت هذه الشريعة وسطاً لمراعاة حقوق الزوجين معاً، فلا يستطيع الرجال ولا يحتاجون إلا إلى أربع نسوة في أقوى صورهم.

وكذلك لم يبح التعدد فيما كان أكثر من هذا، وإذا كان الرجل أيضاً لم يستطع العدل أو لم يستطع في جسمه أو ماله أو مسكنه التعدد لم يحل له مطلقاً.

وكذلك فيما يتعلق بالتعامل مع الحائض؛ فإن اليهود حُرم عليهم الجلوس مع الحائض على فراش واحد، وحرم عليهم الكلام معها ما دامت حائضاً.

والنصارى أُحل لهم وطء الحيَّض، وفي الشريعة الإسلامية جاءت الوسطية، فحل الأكل معها، والجلوس معها على فراش واحد، والكلام معها، ولكن حرم وطؤها، وهذا من مظاهر وسطية الشريعة الإسلامية.

ومظاهر هذا كثيرة في الملتين، وقد ذكر ابن حزم رحمه الله أن ما بقي من الإنجيل بيد النصارى حكم واحد فقط، وهو عدم تعدد الزوجات، وأن كل الأحكام الأخرى قد غيروها وبدلوها!

فكل ما يتعلق بالأحكام من أصل الإنجيل قد غير وبدل، وما بقي منه إلا حكم واحد، وهذه الكتب تختص بالرسل من البشر، وقد ذكرنا أن الرسل يكونون من البشر ومن الملائكة، فلذلك قال:

والكتب التي على رسل البشر أنزل من كلامه جل ..

والرسْل: جمع رسول، وهو جمع تكسير، أصلها (رُسُل) وكتبت بالإسكان.

وأضيفت الرسل إلى البشر لأنهم رسل إليهم، وهذا مخرج للرسل من الملائكة، فإنهم لم تنزل عليهم كتب، وإنما يؤتمنون على توصيل الكتب إلى البشر أو توصيل الأوامر والنواهي إلى الملائكة.

والإنزال من عند الله سبحانه وتعالى هو الوحي، وهو مختلف الصور، فقد يكون بالكتابة وتسليمه، وقد يكون بالكلام مباشرة من وراء حجاب، وقد يكون بإرسال الملك، وقد يكون بتكليمه في النوم، وغير ذلك، فكل هذا يسمى إنزالاً؛ لأنه قادم من جهة العلو، وكل ما هو قادم من جهة العلو، يوصف بأنه نازل ومنزل.

فمن الرسل من أنزلت عليه الكتب في شكل صحف، وقد جاء التصريح بذلك في إبراهيم وموسى، كما قال عز وجل: إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى[الأعلى:18-19]، وفي هذا أن صحف إبراهيم وموسى من الصحف الأولى ، وهذا يدلنا على أن الكتب المنزلة في الصحف ليست محصورة في هذه فقط، بل المنزل على نوح أيضاً كان صحفاً، وكذلك على من دونه من الرسل.

وأيضاً أطلقت القراطيس في أنبياء بني إسرائيل على الكتب؛ حيث جاء ذكر ذلك في سورة الأنعام في قول الله تعالى: قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ[الأنعام:91] .

وقد كتب الله التوراة لموسى بيمينه في الألواح، فسلمه هذه الألواح، واستشهد على ذلك سبعين من قومه، شهدوا على استلام موسى للألواح من ربه، وهذه الألواح كانت أربعة عشر لوحاً، فانكسر منها اثنا عشر وبقي اثنان، ومع ذلك فقد جاء بعد موسى معززون لشريعته من أنبياء بني إسرائيل، وأنزل على كثير منهم وحي.

وأما الكتب المسماة فهي هذه الأربعة التي هي: التوراة والإنجيل والزبور والقرآن.

فالتوراة هي الكتاب المنزل على موسى باللغة العبرية، وهي العبرانية.

وهذه الكلمة مختلف فيها هل هي عربية أو غير عربية، والراجح: أنها من العربية، فالتوراة أصلها: التورية، أي: الكلام الذي يشير إلى أحداث ستقع، وليس فيه التصريح بذلك.

وقيل: هي غير عربية؛ لأنها لو كانت عربية لما قيل: التوراة، ولقيل: التورية.

وعلى هذا الاختلاف اختلف القراء في قراءتها في القرآن هل تقرأ بالإمالة أم لا؟

فمنهم من يقرؤها بالإمالة بين بين، كـورش ، فمثلاً: يقرأ قوله تعالى: الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ[آل عمران:1-4].

ومنهم من يميلها إمالة محضة، كـأبي عمرو و الكسائي فيقرآن: وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ[آل عمران:3-4] .

ومنهم من يكون له فيها وجهان، كـقالون فله وجهان: بالتقليل والفتح.

وأما الإنجيل فهذا اللفظ باللغة العبرانية معناه: الكتاب، وقد استعمل في لغة العرب بذلك، ومنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أناجيل أمتي في صدورها).

وأما الزبور فهو الكتاب المنزل على داود، واشتقاقه من الزبر، وهو الكتابة، فزبر معناه: أخذ المزبر فكتب به، والمزبر هو القلم، وهذا من لغة العرب، ومع ذلك سمي به هذا الكتاب، ويطلق عليها قديماً المصاحف، كما جاء في الحديث: (إن داود كان يقرأ في المصحف) والمقصود بالمصحف الزبور.

والمصحف يجوز فيه ثلاثة لغات: المَصحف والمِصحف والمُصحف، ومعناه: ما يجمع الصحف، فهو مشتق من الصحيفة؛ لأنه يجمعها، فلذلك يطلق على القرآن وعلى غيره من الكتب المنزلة.

وما لم يسم من كتب الله سبحانه وتعالى يجب الإيمان به إجمالاً، ولا يجب الإيمان تفصيلاً إلا بهذه الكتب، ولا يجب الإيمان تفصيلاً من هذه الكتب بما فيه إلا بالقرآن؛ لأن الكتب الأخرى قد نسخت ورفعت، وغيرت وبدلت قبل ذلك.

والإيمان بها يقتضي التصديق بما جاء بها من الأخبار على ما أخبر الله به عن رسوله صلى الله عليه وسلم أنه مصدق لما بين يديه من الكتاب، فهذا القرآن مصدق لما بين يديه من الكتاب، فيجب على كل المسلمين أن يعتقدوا صدق ما أنزله الله على رسله جميعاً من الكتب، وصدق ما فيها من الأخبار.

كذلك من الإيمان بها: الإيمان بأن ما فيها من الأحكام ما نسخ منه بالقرآن لم يعد صالحاً للعمل به، ولا يجزئ بين يدي الله؛ لأن الله أخبر بذلك في كتابه في قوله: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ[آل عمران:85] .

مع ذلك فهذه الكتب المنزلة ينبغي أن نعلم أن فيها أمراً يخفى على كثير من الناس، وهو أن رسل الله ينقسمون إلى قسمين: إلى رسل قد جاءوا بشرائع جديدة، وإلى رسل قد جاءوا مكملين لشريعة سابقة، والجميع يصدق عليه قول الله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا[المائدة:48] .

فلا تنافي بين أن يكون الرسول مجدداً لشريعة من قبله، وبين أن يكون له شرعة ومنهاج، والشرعة والمنهاج الذي أوتيه مكمل ومتمم لشرع من قبله.

ويتفاوت فضل الرسل بذلك، فأولو العزم من الرسل وهم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليهم وسلم، أوتوا شرائع جديدة.

ولا منافاة بين هذا وبين أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وأمته باتباع ملة إبراهيم؛ لأن الملة إنما يقصد بها في أغلب إطلاقاتها: ما يتعلق بالأخلاق والسلوك، لا ما يتعلق بالتشريعات.

ولهذا فإن خصال الفطرة من ملة إبراهيم، والضيافة من ملة إبراهيم، والغسل من الجنابة من ملة إبراهيم، وعقد النكاح من ملة إبراهيم، وكذلك الحج أصله من ملة إبراهيم.

ومن ملة إبراهيم عدم الدعاء على قومه، والحلم عنهم والصفح، وهذا أبرز شيء أخذ به الرسول الله صلى الله عليه وسلم من خلق إبراهيم عليه الصلاة والسلام.

فكثير من الأنبياء الآخرين جاء في القرآن التصريح بدعائهم على قومهم، وبالهلاك الذي حصل لقومهم.

وقوم إبراهيم لا يدري أحد ماذا حصل لهم، ولا يستطيع أحد الآن أن يقول: إنهم أُهلكوا بالوصف الفلاني، فتجد إهلاك قوم نوح وهم قبلهم، وإهلاك قوم موسى وهم بعدهم، وأقوام غير هؤلاء من الرسل، كقوم شعيب وقوم لوط وصالح هود، لكن قوم إبراهيم لم تذكر أخبار هلاكهم، وإنما يعرف أن الله أنجى إبراهيم عليه السلام، وأن النار كانت برداً وسلاماً عليه، وأنه هاجر عنهم.

وعلى هذا تكون الكتب بعضها مجدداً كالزبور؛ فإن جمهور المفسرين يذكرون أن هذا الكتاب ليس فيه تشريعات جديدة لبني إسرائيل، وإنما فيه المواعظ والحكم وأذكار يذكرون الله بها، وقد جاءت الإشارة إلى ذلك بقول الله تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ[الأنبياء:105] ، فبعد ذكر الله الذي فيه جاء فيه أحكام، منها حكم الله النافذ وسنته الكونية التي لا تتغير: أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ[الأنبياء:105].

وأما الإنجيل فقد جاء فيه تغيير كثير لأحكام التوراة، وقد صرح بذلك عيسى عليه السلام في سورة آل عمران في قوله تعالى حكاية عنه: وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ[آل عمران:50] ، فقد صرح بأنه سيحل لهم بعض الذي حرم عليهم.

وقد ذكر بعض العلماء مقارنة بين ملة موسى وملة عيسى، فجعلهما طرفين مختلفين في كثير من المسائل، وجعل أمة محمد صلى الله عليه وسلم وسطاً بينهما.

ولهذا أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم عن الأيام فذكر أن في الأسبوع يوماً فاضلاً عند الله، وأن الله أخبر به الرسل، وأن موسى أخبر به قومه فضلوا عنه؛ فطلبوه فالتمسوه في اليوم الذي بعده، وهو يوم السبت، فجاء النصارى فطلبوه، فالتمسوه في اليوم الذي بعد ذلك، وهو يوم الأحد، وهدى الله المسلمين إليه، وهو يوم الجمعة.

فهو اليوم الفاضل، والناس في ذلك تبع لنا، فاليهود عندهم يوم السبت، والنصارى عندهم يوم الأحد.

ومن هذه الأحكام: قضية تعدد الزوجات، فإنه مباح في التوراة إلى غير حدود، حيث يجوِّز للرجل أن يتزوج ما شاء من النساء، ولذلك تزوج سليمان بن داود ألف امرأة.

وأما الإنجيل ففيه تحريم تعدد الزوجات مطلقاً، حتى لو تزوج الإنسان فماتت زوجته في ليلتها الأولى لم يحل له الزواج بعد ذلك.

وجاءت هذه الشريعة وسطاً لمراعاة حقوق الزوجين معاً، فلا يستطيع الرجال ولا يحتاجون إلا إلى أربع نسوة في أقوى صورهم.

وكذلك لم يبح التعدد فيما كان أكثر من هذا، وإذا كان الرجل أيضاً لم يستطع العدل أو لم يستطع في جسمه أو ماله أو مسكنه التعدد لم يحل له مطلقاً.

وكذلك فيما يتعلق بالتعامل مع الحائض؛ فإن اليهود حُرم عليهم الجلوس مع الحائض على فراش واحد، وحرم عليهم الكلام معها ما دامت حائضاً.

والنصارى أُحل لهم وطء الحيَّض، وفي الشريعة الإسلامية جاءت الوسطية، فحل الأكل معها، والجلوس معها على فراش واحد، والكلام معها، ولكن حرم وطؤها، وهذا من مظاهر وسطية الشريعة الإسلامية.

ومظاهر هذا كثيرة في الملتين، وقد ذكر ابن حزم رحمه الله أن ما بقي من الإنجيل بيد النصارى حكم واحد فقط، وهو عدم تعدد الزوجات، وأن كل الأحكام الأخرى قد غيروها وبدلوها!

فكل ما يتعلق بالأحكام من أصل الإنجيل قد غير وبدل، وما بقي منه إلا حكم واحد، وهذه الكتب تختص بالرسل من البشر، وقد ذكرنا أن الرسل يكونون من البشر ومن الملائكة، فلذلك قال:

والكتب التي على رسل البشر أنزل من كلامه جل ..

والرسْل: جمع رسول، وهو جمع تكسير، أصلها (رُسُل) وكتبت بالإسكان.

وأضيفت الرسل إلى البشر لأنهم رسل إليهم، وهذا مخرج للرسل من الملائكة، فإنهم لم تنزل عليهم كتب، وإنما يؤتمنون على توصيل الكتب إلى البشر أو توصيل الأوامر والنواهي إلى الملائكة.

والإنزال من عند الله سبحانه وتعالى هو الوحي، وهو مختلف الصور، فقد يكون بالكتابة وتسليمه، وقد يكون بالكلام مباشرة من وراء حجاب، وقد يكون بإرسال الملك، وقد يكون بتكليمه في النوم، وغير ذلك، فكل هذا يسمى إنزالاً؛ لأنه قادم من جهة العلو، وكل ما هو قادم من جهة العلو، يوصف بأنه نازل ومنزل.


استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
سلسلة الأسماء والصفات [6] 3903 استماع
سلسلة الأسماء والصفات [9] 3424 استماع
سلسلة الأسماء والصفات [8] 3255 استماع
سلسلة الأسماء والصفات [2] 3205 استماع
سلسلة الأسماء والصفات [3] 2889 استماع
سلسلة الأسماء والصفات [10] 2670 استماع
سلسلة الأسماء والصفات [14] 2453 استماع
سلسلة الأسماء والصفات [7] 2316 استماع
سلسلة الأسماء والصفات [1] 1998 استماع
سلسلة الأسماء والصفات [13] 1945 استماع