شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [11]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أما بعد:

فيقول البخاري رحمه الله: باب: الحلق والجلوس في المسجد.

عقد هذا الباب للجلوس في المسجد لطلب العلم والتحلق فيه، وهذا معنى (الحلق)، و(الحلق) جمع (حلْقة) بالإسكان، وهذا الفصيح فيها، وقد تحرك؛ أي: قد تفتح، يقال: (حلَقة) نادرًا، والفصيح أن يقال: (حلْقة)، وجمعها (حلقات) بالتحريك، وهي المستدير من المجلس، أو من الجماعة، أو من الحديد، فالحلقة المفرغة معناها: التي لا يدرى أين طرفاها، والمقصود بذلك: أن المسجد بني لهذا، فطلب العلم هو من العبادة التي من أجلها بنيت المساجد، ولا يمكن أن يُمنع ذلك في المسجد؛ لأن المسجد أصلًا مخصص للعبادة، ولا يمكن أن يعبد الله سبحانه وتعالى إلا بعد تعلم ما أمر به؛ ولذلك قال الغزالي رحمه الله: (ما عصي الله إلا عن جهل به، أو بشرعه)، فالمعصية أصلها إما الجهل بالله، كمعصية الذين يعرفون الأحكام، فيتجاسرون على المعاصي، فهم جاهلون بالله؛ ولذلك تجاسروا على معصيته، أو عن جهل بشرعه، كحال عوام الناس وأكثرهم؛ لأنهم يجهلون الأحكام، فمن أجل ذلك وقعوا في المعاصي.

وقد عرف في تاريخ الإسلام تحلق الناس لطلب العلم، وذلك أنهم جميعًا في الطلب سواء، فلا يكون بعضهم وراء بعض إلا عند الضرورة وضيق المكان، وقد ورد في ذلك عدد من الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (فقد كان يومًا جالسًا، تحلق أصحابه عليه في المسجد، فجاء ثلاثة نفر؛ فأما أحدهم فوجد فرجة في الحلقة فجلس فيها، وأما الآخر فجلس وراءهم، وأما الثالث فرجع، (انصرف)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أخبركم عن النفر الثلاثة؟ أما أحدهم فأوى إلى الله، فآواه الله، وأما الآخر فاستحيا، فاستحيا الله منه، وأما الثالث فأعرض، فأعرض الله عنه)، والذي أوى إلى الله فآواه الله: هو الذي دخل في الصف، وهذا يدل على أن صفوف العبادات هي مثل صفوف الصلاة، فوصلها مطلوب، ومن المطلوب أن يجعل الإنسان نفسه مع العابدين الذاكرين الله، فإنه إذا اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، تحفهم الملائكة، وتتنزل عليهم السكينة، وتغشاهم الرحمة، كما ثبت في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في صحيح مسلم، وغيره: (ومن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا، سهل الله له به طريقًا إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه)، وهذا يشمل دراسة الأحكام؛ لأن مأخذها من القرآن، فالسنة كلها داخلة في القرآن في قول الله تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا[الحشر:7]، وكذلك العلم كله، ما لدينا من العلم- ونحن في هذه الأمة الأمية- كله مأخوذ من كتاب الله؛ فلذلك كل علوم الدين هي من تدارس القرآن، ما كان منها مأذونًا فيه شرعًا أو مطلوبًا، أما ما كان منهيًا عنه شرعًا، فلا يدخل في حيز ذلك، ومن ذلك الفلسفات المضلة، وما كان فيه اعتداء وتجاوز.

والمقصود بالجلوس في المسجد؛ أي: لطلب العلم، وقد ورد في الحديث: (طلب العلم فريضة على كل مسلم

فقال: وعنه رضي الله عنه؛ أي: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر: ما ترى في صلاة الليل؟)، (سأل رجل)؛ أي: من الصحابة، (النبي صلى الله عليه وسلم: ما ترى في صلاة الليل؟)؛ أي: في كيفيتها، فإنه بين لهم كيفيات الفريضة، وقال: (صلوا كما رأيتموني أصلي)، فلا يحتاجون إلى سؤاله عن كيفية الفريضة وعدد ركعاتها وهيئاتها؛ لأنه أراهم ذلك وبينه، وكذلك نوافل النهار، فقد كان يصلي راتبة الظهر القبلية والبعدية في المسجد، راتبة وكذلك العصر وهي قبلية، فكان يصليها في المسجد، فإذًا صلاة النهار واضحة لهم، فرضها ونفلها، وبقي صلاة الليل، وصلاة الليل تطلق على قيام الليل، وهو التهجد؛ أي: مجانبة الهجود، والهجود: النوم؛ أي: ما يكون من الصلاة في الوقت الذي ينام فيه الناس؛ لأن الله تعالى يقول: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ[السجدة:16]، فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (مثنى مثنى، فإذا خشي الصبح صلى واحدةً، فأوترت له ما صلى)، (مثنى مثنى)؛ أي: صلاة الليل هكذا تكون مثنى مثنى؛ أي: ركعتين ركعتين، وهذا هو الأفضل فيها؛ أي: أن يسلم من كل ركعتين، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم غير ذلك، ففي حديث عائشة: (أنه كان يصلي ركعتين خفيفتين، يفتتح بهما صلاة الليل، ثم يصلي أربعًا، فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، لا يسلم بينهن، ثم يصلي أربعًا، فلا تسأل عن حسنهن وطولهن)، وفي رواية أيضًا: (لا يسلم بينهن)، وهذا يقتضي أنه قد يجمع بين أربعٍ بتسليمة واحدة، وقد ثبت ذلك في عدد من الأحاديث عنه صلى الله عليه وسلم في النافلة.

وكذلك الوتر، فإنه هنا ذكر فيه واحدة، قال: (فإذا خشي الصبح صلى واحدة، فأوترت له ما صلى)، والواحدة هي أقل الوتر، والوتر: هو ما لا ضعف له من العدد، ما لا ثاني له من العدد؛ أي: يشمل واحدة، وثلاثًا، وخمسًا، وسبعًا، وتسعًا، إلى آخره.

لكن ظاهر هذا السياق أن ذلك عند ضيق الوقت يقتصر على الواحدة، إذا ضاق الوقت فخشي الإنسان الصبح، فيقتصر في الوتر على واحدة، وإذا لم يضق الوقت، فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من ذلك، فقد أوتر بثلاث، وأوتر بخمس، وأوتر بسبع، وأوتر بتسع، وانتهى وتره إلى إحدى عشرة ركعة، لا يسلم بينهن، لكن اختلف حينئذ في هيئة الصلاة، هل يجلس بعد كل اثنتين، أو لا يفعل ذلك، فإذا كان الوتر ثلاثًا فقد اختلف أهل العلم في هذا، فذهب الحنفية إلى أنه لا يجلس في الاثنتين، بل يجعلهن سردًا؛ لئلًا يكون ذلك كهيئة صلاة المغرب، وذهب الجمهور إلى أنه يجلس بعد كل اثنتين، فيجلس إذا كان سيوتر بتسع يجلس بعد اثنتين، ثم يجلس بعد اثنتين، ثم يجلس بعد اثنتين، ثم يجلس بعد اثنتين، ثم يسلم بعد الأخرى، إذا كان سيوتر بسبع يجلس بعد اثنتين، ثم بعد اثنتين، ثم بعد اثنتين، ثم يسلم بعد الأخرى، وهكذا، وإذا جلس فسيقتصر حينئذ على التشهد؛ لأنها بمثابة التشهد الأول في الصلاة الرباعية أو الثلاثية، وحينئذ يقتصر فيه على التشهد، وإذا صلى على النبي صلى الله عليه وسلم فيه فلا حرج، لكن لا يزيد على ذلك؛ لأن التشهد الأول يطلب تقصيره.

ومعنى (مثنى مثنى)؛ أي: اثنتين اثنتين اثنتين، بالتكرار، وهي معدولة عن ذلك، فأصل (مثنى): اثنتين اثنتين اثنتين، وعدلت، عدل بها عن هذا اللفظ؛ ولذلك منعت من الصرف، (مثنى مثنى، فإذا خشي الصبح)، معناه: خشي طلوعه، (صلى واحدة، فأوترت له ما صلى)، وذلك أن الله وتر يحب الوتر، فالفرائض موتورة بصلاة المغرب، فهي في اليوم والليلة سبع عشرة ركعة بالنسبة للمقيم، وهذه السبع عشرة فيها وتر قطعًا، وهو في المغرب ثلاث ركعات، وكذلك صلاة المسافر ينقص منها ست ركعات، فتبقى إحدى عشرة ركعة في الفريضة، وأصل الصلاة الخمسون التي فرضت على النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج، وقد بقي أجر الخمسين على الخمس؛ لأن الله قال له: (هن خمس، وهن خمسون، ما يبدل القول لدي)، لكن مجموع ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصليه، وما حض عليه، إذا راجعته وجدته يقترب من ذلك دائمًا؛ أي: من خمسين ركعة، لا من خمسين صلاة، والركعة قد تسمى صلاة؛ لأن الوتر صلاة، فإذا عددت الفرائض سبع عشرة ركعة، وعددت ركعتين قبل الفجر وستًّا، في وقت الضحى، وأربعًا قبل الظهر، واثنتين بعدها، واثنتين قبل العصر، أو أربعًا بعد الظهر، أو أربعًا قبل العصر، واثنتين بعد المغرب، واثنتين بعد العشاء في بيته خفيفتين، ثم صليت من الليل ثلاث عشرة ركعة، أو إحدى عشرة ركعة، على ما سبق في النقص في النهار، فيتم لك من ذلك خمسون ركعة، وإذا حافظ الإنسان عليها، يكون قد شكر نعمة الله عليه في اليوم والليلة.

وإنه كان يقول: (اجعلوا آخر صلاتكم وترًا)، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به، (إنه)؛ أي: إن ابن عمر، (كان يقول: اجعلوا آخر صلاتكم)؛ أي: يأمر أهله بذلك وطلابه، (اجعلوا آخر صلاتكم وترًا)، والمقصود: صلاة الليل؛ ولذلك جاء في الرواية الأخرى: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترًا)، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به، فهذا رفع لهذا الحديث، وهو يقتضي أن يوتر الإنسان عند نهاية صلاته، لكن إذا صلى وهو يريد النوم فمن الأفضل ألا ينام قبل أن يوتر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى رجلين من أصحابه بذلك، فقد أوصى أبا هريرة وأبا ذر بالوتر قبل النوم، وذلك أن الإنسان قد ينام فيصبح عليه الوتر، والوتر أمر عظيم جدًّا، وما ورد في شيء من النوافل ما ورد من الحض على الوتر، فيوتر الإنسان قبل أن ينام، فإذا قام من الليل، فإنه أيضًا يصلي ما كتب له، لكن لا يلزمه وتر آخر؛ لأنه إذا أوتر مرة أخرى صارت صلاته شفعًا لا وترًا.

وكان ابن عمر رضي الله عنه إذا حصل له ذلك، فنام بعد الوتر، ثم قام يبدأ صلاته بركعة واحدة يشفع بها وتره الماضي، ثم يصلي ما كتب له، ثم يوتر مرة أخرى، وعلى هذا يكون قد صلى الوتر ثلاث مرات، أوتر أول الليل، ثم شفع ذلك الوتر بوتر آخر، ثم أوتر في نهاية صلاته، وهذا فهم منه، ولم يوافقه الصحابة رضوان الله عليهم عليه، بل رأوا أنه يكفي ذلك الوتر الأول؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا وتران في ليلة)، وإذا انتفى الوتران دل ذلك على أن ما زاد على ذلك منفي، إذا قال: (لا وتران في ليلة)، معناه: ثلاثة أوتار، أو أربعة أوتار، أو خمسة منهي عنها، والوتران شفع دائمًا، إذا حصل وتران لا بد أن يحصل الشفع، والمطلوب في الصلاة الوترية كما ذكرنا؛ لأن الله وتر يحب الوتر؛ ولذلك فكثير من أمور العبادات يقصد فيها الوتر، كما ذكرنا في ركعات الصلاة في الفرض وفي النفل، وأيضًا في الغسلات، ثلاث غسلات في الوضوء، ومثل ذلك في الاستجمار، وفي غيره في كثير من الأمور يندب فيها الإيتار، ومثل ذلك في غسل الميت: (اغسلنها ثلاثًا، أو خمسًا، أو سبعًا، إن رأيتن)، كما في حديث أم عطية في غسل إحدى بنات النبي صلى الله عليه وسلم، فكل ذلك تطلب فيه الوترية.

وهذا الحديث ليس فيه ذكر الحلق، لكن فيه الجلوس في المسجد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان على المنبر عندما سأله الرجل، وظاهر ذلك أن الرجل كان جالسًا في المسجد، ولكن يدل الحديث عمومًا على طلب العلم في المسجد، وعادة السلف التحليق في وقت الطلب؛ لأن كثيرًا من الفهم في العينين، فإذا كان الإنسان يرى، فإن رؤيته المباشرة للمتحدث تعينه على فهم كلامه؛ ولذلك كانوا يتحلقون، وكان لذلك (آداب التحلق) ألا يؤذي بعضهم بعضًا، وألا يزاحمه، وأن يكون السابق بادئًا، وأن يقوم الإنسان عن مقعده لمن هو أفضل منه أو أكبر إجلالًا له وتقديرًا، ونحو ذلك من آداب التحليق.

ثم قال: باب: الاستلقاء في المسجد.

أي: باب: جواز الاستلقاء، وهو: الاضطجاع على الظهر، أن يجعل الإنسان وجهه إلى السماء، فقد ورد النهي عن الاضطجاع في المسجد، ولكن ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه وعن بعض أصحابه، فقد ثبت عن أبي بكر، وعن عمر، وكان عثمان أيضًا يرتفق في مؤخرة المسجد في الثلث الأخير من الليل، فيقرأ الناس عليه القرآن كما في الموطأ، وكذلك فإن علياً لما غاضب فاطمة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم نام في المسجد، فانكشف رداؤه عن جنبه، فلصق به التراب، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم، فمسح عنه التراب، وقال: (قم أبا تراب)، فكانت أحب أسمائه إليه؛ ولذلك فإن كثيرًا من أهل العلم يرون أن النهي عن الاستلقاء في المسجد منسوخ بفعل النبي صلى الله عليه وسلم، وخلفائه الراشدين، وذهب بعضهم إلى أن النسخ لا يثبت إلا بدليل مخصوص؛ فلذلك لا يحمل على النسخ، لكن يقال: إنما جاء النهي عن الاستلقاء في صورة مخصوصة، وهي إذا كان أمام المصلين، أو في ذلك أذًى لهم، أو تضييق للمسجد عليهم، فهم أولى بذلك، وبالأخص إذا كان أمام المصلي، فإن وجه الآدمي مشغلة عن الصلاة إذا كان الإنسان ينظر إليه، بخلاف قفاه، كان الإنسان جالسًا، وكنت تصلي وراءه، فيمكن أن تستتر به، ولا شأن لك في قفاه، لكن إذا كان ينظر إليك- وهو أمامك- فهذا مشغلة عن الصلاة، كذلك إذا كنت تراه في حال الاستلقاء.

فقال: عن عبد الله بن زيد الأنصاري أنه: (رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مستلقيًا في المسجد، واضعًا إحدى رجليه على الأخرى)، فـعبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري رضي الله عنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم مستلقيًا في المسجد؛ أي: مضطجعًا فيه على ظهره، واضعًا إحدى رجليه على الأخرى، وهذا يدل أيضًا على جواز ذلك، وقد ورد النهي عنه في حديث صحيح في النهي عن وضع إحدى الرجلين على الأخرى في حق المضطجع، فهو أيضًا يحمل على نسخ ما سبق، ويمكن أن يقال: إن النسخ لا يثبت إلا بدليل مخصوص، ولا نعرف أي الحديثين كان أولًا، فيقال: إنما كان النهي في حال مخصوص، وهو إذا كان ذلك عرضة لكشف الإزار عن الإنسان، ولا يحق هذا على المتسرول الذي يلبس السراويل؛ لأنه لا يتعرض للكشف، بخلاف المؤتزر، فهو عرضة للكشف، فإذا رفع إحدى رجليه، وبالأخص إذا كان قد رفع ركبته، فجعل رجله على ركبته، فهو عرضة للكشف حينئذ إذا كان مؤتزرًا، وكذلك إذا رفع رجله على الأخرى، كثيرًا ما تنكشف فخذه مثلًا، والعورات يجب الحفاظ عليها بالستر، وقد دخل ذلك في قول الله تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ[النور:30]، فالحفظ يشمل الحفظ من النظر، والحفظ من الاستمتاع.

من فوائد حديث ابن زيد

والحديث يدل على أن الإنسان يشرع له البقاء في المسجد والمكث فيه، وأن المكث في المسجد عبادة، ولو لم يكن الإنسان في صلاة، وذلك أن المساجد هي أحب البقاع إلى الله، ومكث الإنسان فيها منع لنفسه عن المعصية؛ لأن الإنسان ما دام في المسجد، فجوارحه ممنوعة عن المعصية محجوبة عنها، وأيضًا فإن في ذلك تعرفًا على الملائكة الذين يكتبون الناس على أبواب المساجد، الأول فالأول، وقد فسر كثير من أهل العلم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (تعرف إلى الله في الرخاء، يعرفك في الشدة)، بالمرابطة في المساجد، قالوا: التعرف إلى الله في الرخاء بالمرابطة في المساجد؛ أي: بانتظار الصلاة قبل أن يحين وقتها، كانتظار الصلاة بعد الصلاة، قد سمى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك رباطًا، فقال: (ألا أخبركم بما يكفر الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط)، وهذا تعرف إلى الله في الرخاء؛ لأنك إذا جئت في وقت الصلاة فالوقت ضيق لبقائك في المسجد، فليس في الرخاء، بل هو في وقت الشدة، فإذا جئت قبل الصلاة بوقت، أو انتظرتها قبل أن يدخل وقتها، فقد تعرفت إلى الله في الرخاء، فكنت ضيفًا على الله في بيته ومسجده، وتتعرض لنفحاته وإكرامه، وقد كان ضيوف النبي صلى الله عليه وسلم ينامون في المسجد، وهم أهل الصفة من فقراء المهاجرين.

والحديث يدل على أن الإنسان يشرع له البقاء في المسجد والمكث فيه، وأن المكث في المسجد عبادة، ولو لم يكن الإنسان في صلاة، وذلك أن المساجد هي أحب البقاع إلى الله، ومكث الإنسان فيها منع لنفسه عن المعصية؛ لأن الإنسان ما دام في المسجد، فجوارحه ممنوعة عن المعصية محجوبة عنها، وأيضًا فإن في ذلك تعرفًا على الملائكة الذين يكتبون الناس على أبواب المساجد، الأول فالأول، وقد فسر كثير من أهل العلم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (تعرف إلى الله في الرخاء، يعرفك في الشدة)، بالمرابطة في المساجد، قالوا: التعرف إلى الله في الرخاء بالمرابطة في المساجد؛ أي: بانتظار الصلاة قبل أن يحين وقتها، كانتظار الصلاة بعد الصلاة، قد سمى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك رباطًا، فقال: (ألا أخبركم بما يكفر الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط)، وهذا تعرف إلى الله في الرخاء؛ لأنك إذا جئت في وقت الصلاة فالوقت ضيق لبقائك في المسجد، فليس في الرخاء، بل هو في وقت الشدة، فإذا جئت قبل الصلاة بوقت، أو انتظرتها قبل أن يدخل وقتها، فقد تعرفت إلى الله في الرخاء، فكنت ضيفًا على الله في بيته ومسجده، وتتعرض لنفحاته وإكرامه، وقد كان ضيوف النبي صلى الله عليه وسلم ينامون في المسجد، وهم أهل الصفة من فقراء المهاجرين.

ثم قال: باب: الصلاة في مسجد السوق.

عقد هذا الباب لجواز الصلاة في مسجد السوق، وذلك أنه ورد: (أن أحب البلاد إلى الله مساجدها، وأن أبغض البقاع إلى الله أسواقها)، فظاهر ذلك أنها ليست محلًا للعبادة؛ لأنها مبغوضة، لكن إذا اتخذ فيها مسجد، فلا حرج في الصلاة في ذلك المسجد، ولا يشمله ما يشمل السوق من البغض، فهو مكان للطاعة، وحينئذ لا يجوز البيع فيه، ولا تعريف الضالة، ولا غير ذلك مما لا يجوز في المسجد، والمقصود بالمساجد هنا: مسجد السوق إذا كان مسجدًا مخصوصًا، كالموقوف المبني المحوز، ومثل ذلك ما إذا خص الإنسان من محل بيعه مكانًا للصلاة، وهو غير موقوف، وغير مخصص، ولا محرز فيمكن أن يتخذ مسجدًا، ومثل ذلك المساجد المؤقتة، كمساجد أهل البدو الرحل، فإنهم يتخذون مكانًا مسجدًا لوقت نزولهم، ثم ينتقلون، وتزول المسجدية عنه بانتقالهم عنه، لكن لا ينقص ذلك فضله وأجره في وقت اتخاذه مسجدًا؛ ولهذا قال العلامة محمد مولود رحمة الله عليه:

ومسجد البدو وإن تخولفا هل كسواه حرمًا وشرفا

لم ينف ذاك كونه بيت العلي أعد للصلاة والتبتل

وذا هو الوجه الذي منه اكتسب الاخر ما اكتسب لا من الخشب

فإنما اكتسب فضله من كونه مكانًا مخصوصًا للعبادة معدًّا لها، (وذا هو الوجه الذي منه اكتسب الاخر)؛ أي: المسجد المبني، (مسجد الحضر).

وذا هو الوجه الذي منه اكتسب الاخر ما اكتسب لا من الخشب

أي: من هيئة بناء وزخرفته.

ويدخل في هذا المسجد المستأجر، كما إذا كان قوم في مكان، ولا يجدون مكانًا مخصوصًا يجعلونه مسجدًا، فلهم أن يستأجروا مكانًا، ويجعلوه مسجدًا لمدة محددة، وهي مدة الأجرة، وقد كان الفقهاء- رحمهم الله- يذكرون هذا قديمًا، ولم يكن الناس يظنون أنه سيتحقق في حياتهم، حتى جاءت الهجرة إلى أوروبا وأمريكا والبلاد الضيقة، فاضطر الناس لاستئجار الأماكن للصلاة، فأصبحت مساجد مستأجرة كما ذكر الفقهاء، والمسجد المستأجر يجوز أن تقام فيه الجمعة وغيرها، وكذلك الراجح أن المساجد التي لم تبن ولم تسقف يجوز إقامة الجمعة فيها، بدليل المسجد الحرام، فإنه لم يكن مبنيًا في العهد النبوي، وكانت تقام فيه الجمعة، وأيضًا فأول جمعة جمعت في الإسلام صلاها أبو أمامة أسعد بن زرارة رضي الله عنه بالأنصار في المدينة تحت ظلال النخل بهزم النبيت، بنقيع الخضمات، ولم يكن إذ ذاك مسجد مبني في المدينة.