خطب ومحاضرات
مقدمات في العلوم الشرعية [20]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن من العلوم الشرعية المهمة علم السيرة النبوية، وهذا العلم أحبه؛ لأنه العلم الذي يبحث فيه عن أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومراحل حياته ودعوته.
ثم موضوعه ما يتعلق بمولد النبي صلى الله عليه وسلم وتربيته ونشأته، ثم ما يتعلق ببعثته ودعوته والوحي إليه، وهجرته، وإقامته للدولة الإسلامية، وموته صلى الله عليه وسلم، وغزواته، وبعوثه وسراياه، وما يتعلق كذلك بأصحابه الذين آزروه ونصروه من المهاجرين والأنصار الذين جاءوا من بعدهم، ويشمل كذلك أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم الخَلقية والخُلقية، وهي التي تسمى بالشمائل النبوية.
ثم واضع هذا العلم لا يمكن تحديده كالعلوم التاريخية كلها، إذ ليس للتاريخ واضع بعينه، لكن يمكن أن يحمل هذا على أول من ألف فيه.
أول من ألف في علم السير
وأول من ألف في علم السير كتابةً وجمعاً واعتنى بذلك هو الإمام عروة بن الزبير بن العوام رضي الله عنهما، وهو من كبار التابعين ومن أئمة التابعين الذين اشتهروا بالفقهاء السبعة، فأبوه حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام، وأمه أسماء بنت أبي بكر الصديق، وعمة أبيه خديجة بنت خويلد، وجدته لأبيه صفية بنت عبد المطلب رضي الله عنهن، وخالته كذلك أم المؤمنين عائشة الصديقة ابنة الصديق رضي الله عن الجميع.
وقد ولد عروة بن الزبير رضي الله عنه في أوائل خلافة عثمان بن عفان، وانفرد بالعلم، وحين اشتغل آل بيته كأخيه عبد الله وأخيه مصعب وغيرهما من إخوانه بالسياسة وأمر الدولة، لم يكن هو يشتغل بذلك، بل اقتصر على العلم جمعاً وتعليماً ودراسةً، ولكن مع هذا فإن تأليفه الذي جمعه في السير، وروى فيه عن كبار الصحابة كعائشة رضي الله عنها وغيرها من أمهات المؤمنين، كغيره من تآليف التابعين، لكنه لم يكن على طريقة التأليف التي جرت فيما بعد، بل كان جمعاً للقصص والأخبار، لكن روي من طريقه كثير من هذه القصص في الصحيحين وغيرهما، فكثير من قصص السير تروى من طريق عروة بن الزبير .
سيرة ابن إسحاق واختصار ابن هشام لها
ثم جاء تلامذة عروة، فاشتهر من الذين ألفوا منهم في هذا العلم محمد بن إسحاق، وكان فارس ميدان السير، ومع هذا فقد كان فيه لين، وقد كان مالك سيئ الرأي فيه، وقد جعله البخاري على شرطه، فأخرج له في الصحيح، ولم يجعله مسلم على شرطه فلم يخرج له شيئاً في الصحيح، وهذا النوع يحصل، فقد يكون الرجل على شرط البخاري وليس على شرط مسلم، وقد يكون كذلك على شرط مسلم وليس على شرط البخاري، فمثلاً سهيل بن أبي صالح السمان على شرط مسلم، وليس على شرط البخاري، فلم يخرج له البخاري شيئاً، وكذلك حماد بن سلمة على شرط مسلم، ولم يخرج له البخاري شيئاً، وفي المقابل محمد بن إسحاق وعبيد الله بن موسى وعمران بن حطان، وعدد من الذين انفرد بهم البخاري في الصحيح ليسوا على شرط مسلم، ولم يخرج لهم، ويمكن أن يعد مع هؤلاء محمد بن يحيى الذهلي شيخ البخاري ومسلم، فقد أخرج له البخاري في الصحيح، ولم يخرج له مسلم شيئاً.
ومحمد بن إسحاق بلا ريب من أوعية العلم، ومن الحفاظ الكبار وبالأخص في مجال السير، ولقد ألف كتابه (المنتقى في السير) كتاباً كبيراً اشتهر فيما بعد بسيرة ابن إسحاق، وإن كان لم يعتن فيه بالأسانيد، ولا بالتصحيح، وقد أورد فيه كثيراً من القصص التي يخالفها قصص أخرى صحيحة في الصحيحين وغيرهما، وأورد فيه كذلك كثيراً من الأشعار التي لو كانت صحيحة النسبة لاشتهرت روايتها كما اشتهرت رواية غيرها، ومع ذلك لم ترو، ولهذا احتاج العلماء فيما بعد إلى تهذيبه، فانبرى لذلك ابن هشام اللخمي الأندلسي فألف كتابه في تهذيب سيرة ابن إسحاق، وقد اشتهر هذا الكتاب بـ (سيرة ابن هشام)، وقد حذف كثيراً من القصص التي أوردها ابن إسحاق، والتي يرى هو أنها منقولة عن طريق أهل الكتاب كما رواه ابن إسحاق من طريق محمد بن كعب القرظي، أو ما رواه عن تلامذة كعب الأحبار، وعن غيرهما من مسلمة اليهود الذين كانوا بالمدينة، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني قريظة سبى ذراريهم ونساءهم، فأسلموا وبقوا بالمدينة، ولقي محمد بن إسحاق عدداً كثيراً منهم، فمن أحاديثه في الأخبار ما يكون عن هؤلاء الذين كانوا يهوداً، وبالأخص ما يتعلق بالأنبياء السابقين، وبدء الخلق، وأحاديث الأنبياء وغير ذلك، فحذف ابن هشام أكثر هذه القصص التي يرى أنها أخذت عن طريق مسلمة أهل الكتاب، وأثبت كثيراً مما سواها، لكنه يعلق عليها، فإذا أثبت قصيدةً من الشعر من سيرة ابن إسحاق قال بعدها: وأكثر أهل العلم بالشعر ينكرونها له، أو لا يعرفونها له.
وكذلك فإن سيرة ابن إسحاق أصبحت مرجعاً فيما بعد لدى كثير من الفقهاء والمؤرخين وغيرهم، فالذين يأخذون الأحكام من القصص السيرية في التاريخ يأخذونها عن طريق سيرة ابن إسحاق؛ لأنها أعلى كتاب في هذا الفن.
كتابة الواقدي للسيرة
ثم بعد ابن إسحاق الإمام الواقدي محمد بن عمر، وقد كان يجلس إلى مالك بن أنس ويحدثه، ويسمع منه مالك دون أن يرد عليه، لكن مالكاً لم يحدث عنه بشيء، وهو متروك عند أهل الحديث، ومع هذا فهو من أوعية العلم، ومن الأئمة الكبار في الحديث والتفسير والسير والتاريخ وغير ذلك، ويكفي لعلو كعبه أن كاتبه وتلميذه هو محمد بن سعد صاحب الطبقات الذي هو إمام وشيخ لأصحاب الكتب الستة، فقد ألف الواقدي كثيراً من الكتب في السير، منها كتاب السير الكبير ولم يصل إلينا، وكتاب السير الصغير ولم يصل إلينا كذلك، وكتاب (فتوح الشام) وقد طبع في عدة طبعات، وكتب أخرى له في هذا المجال.
ومن هؤلاء الذين اشتهروا كذلك في ذلك العصر بالاشتغال بالسير موسى بن عقبة، وهو كذلك من أوعية العلم، وقد اشتهر برواية السير والمغازي، وألف في المغازي كتاباً جامعاً كبيراً، ولم يصل إلينا.
واشتهر عموماً في زمان التابعين عدد من أئمة السير الذين كانوا يتناقلون في الأخبار، ومن هؤلاء المعتمر بن سليمان وأبوه قبله، وسليمان بن بلال، وأبو سهيل نافع بن مالك بن أبي عامر عم مالك بن أنس .
إدخال علم السير في علم الحديث
ثم فيما بعد هذا العصر أدخلت السير في علم الحديث كغيرها من العلوم، فقد جعل البخاري في صحيحه كتاباً لبدء الخلق، وكتاباً لأحاديث الأنبياء، وكتاباً لاستتابة المرتدين، وكتاباً للمغازي، وكتاباً للمناقب والفضائل، وذكر فيه مناقب آل البيت، ومناقب المهاجرين، ومناقب الأنصار، وكذلك في كتاب التفسير في الصحيح كثير من قصص السير التي تتعلق بتفسير القرآن، وهذا مثال فقط من اعتناء المحدثين بالسير في كتبهم.
اختلاط علم السير بعلم الرجال
وقد خالط هذا العلم علم الرجال الذي سبق التحدث عنه، فقد عددنا من كتب علم الرجال كتاب الطبقات الكبرى لـابن سعد، وقد افتتحه بجزءين كاملين في السيرة النبوية الجزء الأول والثاني، ثم الجزء الثالث عن أهل بدر، وذكر فيه كثيراً من أمور السيرة، وهكذا الكتب المؤلفة على الطبقات أو التواريخ في علم الرجال كثير منها يعتني بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
التأليف في السيرة النبوية على طريقة جمع القصص
ثم بعد هذا بدأ التأليف في التاريخ الإسلامي على طريقة تختلف عن طريقة المحدثين، وهي طريقة جمع القصص دون الرجوع إلى الأسانيد سواءً رتبت على السنوات بحوادث السنين، أو كانت في تراجم الرجال وذكر المأثور عنهم، وفارس هذا الميدان وأول من ألف فيه تقريباً هو محمد بن جرير الطبري حيث ألف كتابه الكبير الحافل الذي اشتهر باسم تاريخ الطبري، لكن كثيراً من القصص فيه مروية عن المتروكين والضعفاء، وكان ذلك سنة أهل السير فيما بعد، فلم يعتنوا بالتمييز بين الخبيث والطيب من لدن ابن جرير الطبري إلى هلم جراً، ولهذا قال الإمام أحمد البدوي رحمه الله قال: وليعلم الناظر أن السيرة تضم ما صح وما قد ذكر، فيصعب فيها التمييز بين الخبيث والطيب. والعراقي في الألفية قال نظير هذا أيضاً.
ومن الكتب المؤلفة على شاكلة كتاب الطبري الآخذة مما فيه من السير كتب الإمام الذهبي، فقد افتتح التاريخ الإسلامي بالسيرة النبوية، وبسيرة الخلفاء الراشدين، وكذلك في كتبه الأخرى في التاريخ ككتاب العبر وغيره.
وكذلك الحافظ ابن كثير ألف كتابه المستقل في السيرة النبوية وهو مطبوع مشتهر، وقد اختار منه محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى كتاب (مختصر السيرة)، وكذلك كتابه في التاريخ الإسلامي الكبير الذي سماه (البداية والنهاية).
ومن المؤلفين على هذه الشاكلة كذلك ابن الأثير الذي ألف كتابه الكامل في التاريخ، فاعتنى فيه بالسير والقصص، ثم جاء ابن سيد الناس اليعمري فألف كتابه (عيون الأثر في المغازي والشمائل والسير)، فكان من أحسن هذه الكتب وأدقها تعبيراً وأحسن ترتيباً، واعتنى به من خلفه، وعليه تقريباً اعتمد القسطلاني في كتابه القيم (المواهب اللدنية في السيرة النبوية)، وهذا الكتاب هو الذي شرحه محمد بن عبد الباقي الزرقاني في كتابه الحافل الكبير (شرح المواهب اللدنية)، وهو من أوسع الكتب في علم السير، وكذلك اعتمد عليه صاحب سبل الهدى والرشاد، وهو أيضاً بعد شرح ابن عبد الباقي أوسع كتاب في السير، لكن صاحب (سبل الهدى والرشاد) حاول أن يميز كل باب من أبواب السيرة بما ورد فيه من الأحاديث الصحيحة، فكان هذا تطويراً لعلم السير عموماً.
وعلى كثرة المؤلفين من الحفاظ في علم السير فإنك تجد أن كثيراً مما يقصونه من القصص يعتمد على رواية ابن إسحاق والواقدي، ومن هؤلاء الدمياطي في كتابه (السيرة) مع أنه من الحفاظ النقال، وكذلك ابن عبد البر في كتابه (المختصر في السيرة النبوية)، وكذلك ابن قدامة في كتبه المتعددة التي خصص كتاباً منها في سيرة الصحابة من المهاجرين، وكتاباً في سيرة الصحابة من الأنصار، وكتاباً للسير، وكذلك الكلاعي الأندلسي الذي ألف كتابه الكبير الحافل في السير، وغير هذا من الكتب الكثيرة التي لا يمكن إحصاؤها، فما من قطر من الأقطار إلا واشتهر فيه عدد كبير من المؤلفات في السيرة النبوية، ولكن مرجعها واحد؛ لأنها تتناقل في الغالب القصص كما هي من رواية ابن إسحاق والواقدي، والكتب المتميزة في هذا العلم غير كتاب ابن عبد الباقي الذي امتاز بالجمع والإحاطة، وكتاب (سبل الهدى والرشاد) الذي امتاز بالتأصيل بالأحاديث الصحيحة.
كتاب الشفاء وتميزه عن كتب علم السير
ومن الكتب التي تميزت كذلك في هذا العلم كتاب الشفاء للقاضي عياض، وقد سماه (الشفاء بالتعريف بحقوق المصطفى) صلى الله عليه وسلم، وهو كتاب علمي عقد فيه أبواباً لم يتطرق لها أهل السير، مثل الكلام في محبة النبي صلى الله عليه وسلم، ومثل الكلام في عصمة الأنبياء عموماً، ومثل الكلام في احترام السلف لرسول الله صلى الله عليه وسلم وآل بيته، وأتى فيه بكثير من العلم، ومع ذلك فيه بعض الأحاديث الضعيفة، وفيه كذلك بعض القصص التي ليس لها إسناد، لكن ليست منسوبةً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا إلى أصحابه بل هي مقطوعة عمن دونهم.
وعموماً كان كتاب القاضي عياض من أجل الكتب، وقد وضع الله له القبول، فكان أهل الحديث يروونه كما يروون غيره من الكتب، واشتهر في آفاق الأرض جميعاً، وإلى زماننا هذا لا يخلو إسناد من أثبات المحدثين من سند لكتاب الشفاء للقاضي عياض، وكذلك فإن العلماء في كل زمان في شهر ربيع الأول يقرءونه في مجالسهم على الطلاب، وقد سمعته ثلاث عشرة مرةً من جدي رحمه الله، كل واحدة كانت في شهر ربيع الأول.
وهذا الكتاب على جلالة قدره ونفاسته اعتنى به الناس كذلك في الشروح والتعليقات، وكثرت شروحه والتعليقات عليه، واشتهر به صاحبه الإمام عياض بن موسى بن عياض اليحصبي، وهو قاضي المرابطين من أئمة علماء المالكية، وله سوى الشفاء كثير من الكتب مثل كتاب التنبيهات على المدونة ولم يطبع بعد. ومن كتبه النافعة كتاب مشارق الأنوار، شرح فيه غريب لغة الصحيحين والموطأ، وعندما وصل هذا الكتاب إلى مصر نظر فيه أبو حيان فأعجب به إعجاباً بالغاً، وكتب عليه أبياته المشهورة:
مشارق أنوار تبدت بسبتة فوا عجباً تبدو المشارق بالمغرب
ومرعًى أنيق في جديب ربوعها ألا فاعجبوا للخصب في وضيع الجدب
فما فضل الأرجاء إلا رجالها وإلا فلا فضل لترب على ترب
لكن مع هذا أطت شهرة الشفاء على غيره من كتاب القاضي عياض، حتى أصبح الناس يقولون: لولا الشفاء لما عرف المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ لأن كثيراً من الناس لا يعرفون حقوق النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا واقع في المسلمين.
والمقصود من معرفة المصطفى صلى الله عليه وسلم معرفة ما له من حقوق على أمته، والإجابة عن كثير من الإشكالات العلمية المتعلقة بحياته صلى الله عليه وسلم.
المنظومات في علم السيرة النبوية
ثم جاء الإمام أبو الفضل عبد الرحيم بن الحسين العراقي فنظم ألفية في السيرة النبوية، ولم تلقَ هذه الألفية من العناية ما لقي غيرها كألفيته في الحديث مثلاً.
والمنظومات في هذا العلم كذلك كثيرة، ومن أهمها: نظم الغزوات لـأحمد البدوي الأموي الشنقيطي، وهذا النظم يتحدث عن غزوات النبي صلى الله عليه وسلم، وشاركته فيه أخته، وقد وضع الله عليها القبول، فرواه الناس وحفظوه، وكثرت شروحه، واشتهرت، ومن شروحه المتداولة إنارة الدجى لـحسن المشاط المالكي، وكذلك روض النهى لابن أخيه حماد بن الأمير الأموي المجلسي، وكذلك شرح العلامة عبد القادر بن محمد بن محمد بن سالم البهي، وإن كان لم يطبع بعد إلا أنه من أوسع هذه الكتب.
ومن المنظومات كذلك في هذا العلم: منظومة قرة الأبصار في سيرة المشفع المختار صلى الله عليه وسلم لـعبد العزيز اللمطي الجزائري، وهي نظم سهل هين يحفظه الصغار، وقد كثرت شروحه كذلك ووضع الله عليه القبول، فلم يزل الناس يحفظونه ويتداولونه فيما بينهم، على أن في آخره في خاتمته بعض المبالغات التي قد تدخل فيما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من الإطراء.
التأليف في علم الشمائل النبوية
ويدخل في علم السير علم الشمائل النبوية، ومن أهم الكتب المؤلفة فيه كتاب الترمذي أبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة الإمام، وهذا الكتاب فيه عدد كبير من الأحاديث الصحيحة، وفيه كذلك بعض الأحاديث الضعيفة، وقد اشتهر كذلك في مشارق الأرض ومغاربها، وكثرت المؤلفات والشروح عليه، ومن الشروح المطبوعة عليه شرح جسوس، وحاشية ابن نيس، وإن كان فيهما بعض ما اختلقه بعض المتصوفة.
وكذلك كتاب الشمائل النبوية لـابن كثير، وقد جاء كتاب ابن القيم زاد المعاد حاوياً لأمور مهمة في هذا العلم، فلم يجعل كتابه مختصاً في السير، بل أتى فيه ببعض الأبحاث السيرية مربوطة بالأحكام الفقهية، وبهدي النبي صلى الله عليه وسلم وسلوكه وتصرفه في الأمر، فكان كتابه متميزاً من هذا القبيل.
وكذلك كتاب سفر السعادة لـمحمد بن يعقوب الفيروزآبادي صاحب القاموس، فقد أتى فيه بأبحاث السيرة، وأضاف إليها بعض ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأذكار والأدعية.
وأول من ألف في علم السير كتابةً وجمعاً واعتنى بذلك هو الإمام عروة بن الزبير بن العوام رضي الله عنهما، وهو من كبار التابعين ومن أئمة التابعين الذين اشتهروا بالفقهاء السبعة، فأبوه حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام، وأمه أسماء بنت أبي بكر الصديق، وعمة أبيه خديجة بنت خويلد، وجدته لأبيه صفية بنت عبد المطلب رضي الله عنهن، وخالته كذلك أم المؤمنين عائشة الصديقة ابنة الصديق رضي الله عن الجميع.
وقد ولد عروة بن الزبير رضي الله عنه في أوائل خلافة عثمان بن عفان، وانفرد بالعلم، وحين اشتغل آل بيته كأخيه عبد الله وأخيه مصعب وغيرهما من إخوانه بالسياسة وأمر الدولة، لم يكن هو يشتغل بذلك، بل اقتصر على العلم جمعاً وتعليماً ودراسةً، ولكن مع هذا فإن تأليفه الذي جمعه في السير، وروى فيه عن كبار الصحابة كعائشة رضي الله عنها وغيرها من أمهات المؤمنين، كغيره من تآليف التابعين، لكنه لم يكن على طريقة التأليف التي جرت فيما بعد، بل كان جمعاً للقصص والأخبار، لكن روي من طريقه كثير من هذه القصص في الصحيحين وغيرهما، فكثير من قصص السير تروى من طريق عروة بن الزبير .
ثم جاء تلامذة عروة، فاشتهر من الذين ألفوا منهم في هذا العلم محمد بن إسحاق، وكان فارس ميدان السير، ومع هذا فقد كان فيه لين، وقد كان مالك سيئ الرأي فيه، وقد جعله البخاري على شرطه، فأخرج له في الصحيح، ولم يجعله مسلم على شرطه فلم يخرج له شيئاً في الصحيح، وهذا النوع يحصل، فقد يكون الرجل على شرط البخاري وليس على شرط مسلم، وقد يكون كذلك على شرط مسلم وليس على شرط البخاري، فمثلاً سهيل بن أبي صالح السمان على شرط مسلم، وليس على شرط البخاري، فلم يخرج له البخاري شيئاً، وكذلك حماد بن سلمة على شرط مسلم، ولم يخرج له البخاري شيئاً، وفي المقابل محمد بن إسحاق وعبيد الله بن موسى وعمران بن حطان، وعدد من الذين انفرد بهم البخاري في الصحيح ليسوا على شرط مسلم، ولم يخرج لهم، ويمكن أن يعد مع هؤلاء محمد بن يحيى الذهلي شيخ البخاري ومسلم، فقد أخرج له البخاري في الصحيح، ولم يخرج له مسلم شيئاً.
ومحمد بن إسحاق بلا ريب من أوعية العلم، ومن الحفاظ الكبار وبالأخص في مجال السير، ولقد ألف كتابه (المنتقى في السير) كتاباً كبيراً اشتهر فيما بعد بسيرة ابن إسحاق، وإن كان لم يعتن فيه بالأسانيد، ولا بالتصحيح، وقد أورد فيه كثيراً من القصص التي يخالفها قصص أخرى صحيحة في الصحيحين وغيرهما، وأورد فيه كذلك كثيراً من الأشعار التي لو كانت صحيحة النسبة لاشتهرت روايتها كما اشتهرت رواية غيرها، ومع ذلك لم ترو، ولهذا احتاج العلماء فيما بعد إلى تهذيبه، فانبرى لذلك ابن هشام اللخمي الأندلسي فألف كتابه في تهذيب سيرة ابن إسحاق، وقد اشتهر هذا الكتاب بـ (سيرة ابن هشام)، وقد حذف كثيراً من القصص التي أوردها ابن إسحاق، والتي يرى هو أنها منقولة عن طريق أهل الكتاب كما رواه ابن إسحاق من طريق محمد بن كعب القرظي، أو ما رواه عن تلامذة كعب الأحبار، وعن غيرهما من مسلمة اليهود الذين كانوا بالمدينة، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني قريظة سبى ذراريهم ونساءهم، فأسلموا وبقوا بالمدينة، ولقي محمد بن إسحاق عدداً كثيراً منهم، فمن أحاديثه في الأخبار ما يكون عن هؤلاء الذين كانوا يهوداً، وبالأخص ما يتعلق بالأنبياء السابقين، وبدء الخلق، وأحاديث الأنبياء وغير ذلك، فحذف ابن هشام أكثر هذه القصص التي يرى أنها أخذت عن طريق مسلمة أهل الكتاب، وأثبت كثيراً مما سواها، لكنه يعلق عليها، فإذا أثبت قصيدةً من الشعر من سيرة ابن إسحاق قال بعدها: وأكثر أهل العلم بالشعر ينكرونها له، أو لا يعرفونها له.
وكذلك فإن سيرة ابن إسحاق أصبحت مرجعاً فيما بعد لدى كثير من الفقهاء والمؤرخين وغيرهم، فالذين يأخذون الأحكام من القصص السيرية في التاريخ يأخذونها عن طريق سيرة ابن إسحاق؛ لأنها أعلى كتاب في هذا الفن.
ثم بعد ابن إسحاق الإمام الواقدي محمد بن عمر، وقد كان يجلس إلى مالك بن أنس ويحدثه، ويسمع منه مالك دون أن يرد عليه، لكن مالكاً لم يحدث عنه بشيء، وهو متروك عند أهل الحديث، ومع هذا فهو من أوعية العلم، ومن الأئمة الكبار في الحديث والتفسير والسير والتاريخ وغير ذلك، ويكفي لعلو كعبه أن كاتبه وتلميذه هو محمد بن سعد صاحب الطبقات الذي هو إمام وشيخ لأصحاب الكتب الستة، فقد ألف الواقدي كثيراً من الكتب في السير، منها كتاب السير الكبير ولم يصل إلينا، وكتاب السير الصغير ولم يصل إلينا كذلك، وكتاب (فتوح الشام) وقد طبع في عدة طبعات، وكتب أخرى له في هذا المجال.
ومن هؤلاء الذين اشتهروا كذلك في ذلك العصر بالاشتغال بالسير موسى بن عقبة، وهو كذلك من أوعية العلم، وقد اشتهر برواية السير والمغازي، وألف في المغازي كتاباً جامعاً كبيراً، ولم يصل إلينا.
واشتهر عموماً في زمان التابعين عدد من أئمة السير الذين كانوا يتناقلون في الأخبار، ومن هؤلاء المعتمر بن سليمان وأبوه قبله، وسليمان بن بلال، وأبو سهيل نافع بن مالك بن أبي عامر عم مالك بن أنس .
ثم فيما بعد هذا العصر أدخلت السير في علم الحديث كغيرها من العلوم، فقد جعل البخاري في صحيحه كتاباً لبدء الخلق، وكتاباً لأحاديث الأنبياء، وكتاباً لاستتابة المرتدين، وكتاباً للمغازي، وكتاباً للمناقب والفضائل، وذكر فيه مناقب آل البيت، ومناقب المهاجرين، ومناقب الأنصار، وكذلك في كتاب التفسير في الصحيح كثير من قصص السير التي تتعلق بتفسير القرآن، وهذا مثال فقط من اعتناء المحدثين بالسير في كتبهم.
وقد خالط هذا العلم علم الرجال الذي سبق التحدث عنه، فقد عددنا من كتب علم الرجال كتاب الطبقات الكبرى لـابن سعد، وقد افتتحه بجزءين كاملين في السيرة النبوية الجزء الأول والثاني، ثم الجزء الثالث عن أهل بدر، وذكر فيه كثيراً من أمور السيرة، وهكذا الكتب المؤلفة على الطبقات أو التواريخ في علم الرجال كثير منها يعتني بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم بعد هذا بدأ التأليف في التاريخ الإسلامي على طريقة تختلف عن طريقة المحدثين، وهي طريقة جمع القصص دون الرجوع إلى الأسانيد سواءً رتبت على السنوات بحوادث السنين، أو كانت في تراجم الرجال وذكر المأثور عنهم، وفارس هذا الميدان وأول من ألف فيه تقريباً هو محمد بن جرير الطبري حيث ألف كتابه الكبير الحافل الذي اشتهر باسم تاريخ الطبري، لكن كثيراً من القصص فيه مروية عن المتروكين والضعفاء، وكان ذلك سنة أهل السير فيما بعد، فلم يعتنوا بالتمييز بين الخبيث والطيب من لدن ابن جرير الطبري إلى هلم جراً، ولهذا قال الإمام أحمد البدوي رحمه الله قال: وليعلم الناظر أن السيرة تضم ما صح وما قد ذكر، فيصعب فيها التمييز بين الخبيث والطيب. والعراقي في الألفية قال نظير هذا أيضاً.
ومن الكتب المؤلفة على شاكلة كتاب الطبري الآخذة مما فيه من السير كتب الإمام الذهبي، فقد افتتح التاريخ الإسلامي بالسيرة النبوية، وبسيرة الخلفاء الراشدين، وكذلك في كتبه الأخرى في التاريخ ككتاب العبر وغيره.
وكذلك الحافظ ابن كثير ألف كتابه المستقل في السيرة النبوية وهو مطبوع مشتهر، وقد اختار منه محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى كتاب (مختصر السيرة)، وكذلك كتابه في التاريخ الإسلامي الكبير الذي سماه (البداية والنهاية).
ومن المؤلفين على هذه الشاكلة كذلك ابن الأثير الذي ألف كتابه الكامل في التاريخ، فاعتنى فيه بالسير والقصص، ثم جاء ابن سيد الناس اليعمري فألف كتابه (عيون الأثر في المغازي والشمائل والسير)، فكان من أحسن هذه الكتب وأدقها تعبيراً وأحسن ترتيباً، واعتنى به من خلفه، وعليه تقريباً اعتمد القسطلاني في كتابه القيم (المواهب اللدنية في السيرة النبوية)، وهذا الكتاب هو الذي شرحه محمد بن عبد الباقي الزرقاني في كتابه الحافل الكبير (شرح المواهب اللدنية)، وهو من أوسع الكتب في علم السير، وكذلك اعتمد عليه صاحب سبل الهدى والرشاد، وهو أيضاً بعد شرح ابن عبد الباقي أوسع كتاب في السير، لكن صاحب (سبل الهدى والرشاد) حاول أن يميز كل باب من أبواب السيرة بما ورد فيه من الأحاديث الصحيحة، فكان هذا تطويراً لعلم السير عموماً.
وعلى كثرة المؤلفين من الحفاظ في علم السير فإنك تجد أن كثيراً مما يقصونه من القصص يعتمد على رواية ابن إسحاق والواقدي، ومن هؤلاء الدمياطي في كتابه (السيرة) مع أنه من الحفاظ النقال، وكذلك ابن عبد البر في كتابه (المختصر في السيرة النبوية)، وكذلك ابن قدامة في كتبه المتعددة التي خصص كتاباً منها في سيرة الصحابة من المهاجرين، وكتاباً في سيرة الصحابة من الأنصار، وكتاباً للسير، وكذلك الكلاعي الأندلسي الذي ألف كتابه الكبير الحافل في السير، وغير هذا من الكتب الكثيرة التي لا يمكن إحصاؤها، فما من قطر من الأقطار إلا واشتهر فيه عدد كبير من المؤلفات في السيرة النبوية، ولكن مرجعها واحد؛ لأنها تتناقل في الغالب القصص كما هي من رواية ابن إسحاق والواقدي، والكتب المتميزة في هذا العلم غير كتاب ابن عبد الباقي الذي امتاز بالجمع والإحاطة، وكتاب (سبل الهدى والرشاد) الذي امتاز بالتأصيل بالأحاديث الصحيحة.
ومن الكتب التي تميزت كذلك في هذا العلم كتاب الشفاء للقاضي عياض، وقد سماه (الشفاء بالتعريف بحقوق المصطفى) صلى الله عليه وسلم، وهو كتاب علمي عقد فيه أبواباً لم يتطرق لها أهل السير، مثل الكلام في محبة النبي صلى الله عليه وسلم، ومثل الكلام في عصمة الأنبياء عموماً، ومثل الكلام في احترام السلف لرسول الله صلى الله عليه وسلم وآل بيته، وأتى فيه بكثير من العلم، ومع ذلك فيه بعض الأحاديث الضعيفة، وفيه كذلك بعض القصص التي ليس لها إسناد، لكن ليست منسوبةً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا إلى أصحابه بل هي مقطوعة عمن دونهم.
وعموماً كان كتاب القاضي عياض من أجل الكتب، وقد وضع الله له القبول، فكان أهل الحديث يروونه كما يروون غيره من الكتب، واشتهر في آفاق الأرض جميعاً، وإلى زماننا هذا لا يخلو إسناد من أثبات المحدثين من سند لكتاب الشفاء للقاضي عياض، وكذلك فإن العلماء في كل زمان في شهر ربيع الأول يقرءونه في مجالسهم على الطلاب، وقد سمعته ثلاث عشرة مرةً من جدي رحمه الله، كل واحدة كانت في شهر ربيع الأول.
وهذا الكتاب على جلالة قدره ونفاسته اعتنى به الناس كذلك في الشروح والتعليقات، وكثرت شروحه والتعليقات عليه، واشتهر به صاحبه الإمام عياض بن موسى بن عياض اليحصبي، وهو قاضي المرابطين من أئمة علماء المالكية، وله سوى الشفاء كثير من الكتب مثل كتاب التنبيهات على المدونة ولم يطبع بعد. ومن كتبه النافعة كتاب مشارق الأنوار، شرح فيه غريب لغة الصحيحين والموطأ، وعندما وصل هذا الكتاب إلى مصر نظر فيه أبو حيان فأعجب به إعجاباً بالغاً، وكتب عليه أبياته المشهورة:
مشارق أنوار تبدت بسبتة فوا عجباً تبدو المشارق بالمغرب
ومرعًى أنيق في جديب ربوعها ألا فاعجبوا للخصب في وضيع الجدب
فما فضل الأرجاء إلا رجالها وإلا فلا فضل لترب على ترب
لكن مع هذا أطت شهرة الشفاء على غيره من كتاب القاضي عياض، حتى أصبح الناس يقولون: لولا الشفاء لما عرف المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ لأن كثيراً من الناس لا يعرفون حقوق النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا واقع في المسلمين.
والمقصود من معرفة المصطفى صلى الله عليه وسلم معرفة ما له من حقوق على أمته، والإجابة عن كثير من الإشكالات العلمية المتعلقة بحياته صلى الله عليه وسلم.
استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
مقدمات في العلوم الشرعية [18] | 3788 استماع |
مقدمات في العلوم الشرعية [39] | 3562 استماع |
مقدمات في العلوم الشرعية [42] | 3514 استماع |
مقدمات في العلوم الشرعية [30] | 3438 استماع |
مقدمات في العلوم الشرعية [16] | 3390 استماع |
مقدمات في العلوم الشرعية [4] | 3373 استماع |
مقدمات في العلوم الشرعية [22] | 3324 استماع |
مقدمات في العلوم الشرعية [13] | 3262 استماع |
مقدمات في العلوم الشرعية [6] | 3254 استماع |
مقدمات في العلوم الشرعية [35] | 3144 استماع |