مقدمات في العلوم الشرعية [15]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فقد تكلمنا عن العلل المتعلقة بالمتن والسند، ونذكر الآن القواعد العشر.

أما اسم هذا العلم فهو علم العلل، وهذا الاسم جمع (علة) والعلة ما يغير حال الشيء، وتطلق على المرض، والمقصود بذلك ما يعتري الحديث مما ينقص حجيته أو يضعف روايته مما فيه خفاء وستر، وهذا الخفاء إما أن يكون في الإسناد مثلاً مثل التدليس أو السقط في المتعاصرين، سقط في نفس الطبقة أو التدليس كذلك، أو الانقطاع الخفي الذي يقع كثيراً، أو الاضطراب؛ كأن يحدث به في البلد الفلاني عن فلان عن فلان ويحدث به في بلد آخر بإسناد آخر، أو يسمي الشيخ باسم ويسميه بمكان آخر باسم آخر، هذا نوع الاضطراب، أو الاضطراب في المتن، بأسلوبه بالصيغ المتنافية.

وهذا النوع من العلل اضطراب الإسناد والاضطراب المتن ونحوهما قد يعتبر علة وقد لا يعتبر، مثلاً إذا كان الاضطراب في المتن لا يقتضي اختلافاً في المعنى وإنما هو اختلاف في اللفظ فقط، فهذا ليس علة مثل حديث: ( ثلاث من كن فيه ذاق بهن حلاوة الإيمان.. )، و: ( نال بهن حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما.. )، وفي رواية: ( من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء.. )، أو: ( العبد لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر.. )، أو: ( إن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقع في النار )، أو: ( يرمى به في النار )، هذه كلها ألفاظ في الصحيح، وهذا النوع لا يضعف الحديث لأنها متقاربة المعنى ولا تغيره، لا تؤثر شيئاً

ومثل ذلك الاضطراب في صيغ الأداء، مثل أن يأتي في البخاري بالحديث في باب فيقول فيه: حدثنا، وفي موضع آخر فيقول: حدثني أو أخبرنا، وهذا النوع ليس اضطراباً في صيغ الأداء لأن معناها أنه هو لا يميز بين هذه الصيغ، وهذا اصطلاحه، ومثل ذلك ما لو قال مسلم: وقال مرة حدثنا، أي أنه عرف أنه سمع هذا الحديث، مثلاً إذا قال: عن فلان، هذا يمكن أن يحمل على التدليس، على عدم السماع، بالعنعنة، لكن إذا قال: قال مرة حدثنا، فمعناه أنه جزم فيه بالسماع.

كذلك يذكرون أن الحديث الذي وجدت له علة وكان مخرجاً في الصحيحين أو أحدهما فرواية الصحيحين قاضية على غيرها، مثلاً لو حصل الاضطراب في حديث في الإسناد أو في المتن، وكان الحديث مثلاً له رواية في الصحيح فتلك الرواية التي في الصحيح قاضية على الاضطراب الذي في غير الصحيح، مثل حديث أبي هريرة في ولوغ الكلب، هذا الحديث أخرجه مالك في الموطأ والبخاري في الصحيح بلفظ: ( إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً )، وأخرجه مسلم كذلك في الصحيح من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً إحداهن بالتراب )، فأتى مسلم بزيادة (إحداهن بالتراب) وبلفظ (ولغ) وفي البخاري والموطأ (شرب) وأتى مسلم كذلك بلفظ: (فليرقه)..

وأما حديث ابن المغفل ( وعفروه الثامنة بالتراب )، هذا حديث عبد الله بن المغفل، في صحيح مسلم، ليس في البخاري ولا في الموطأ، والمشكلة في زيادة إحداهن بالتراب ... كلها، هذه انفرد بها عن أبي هريرة أبو صالح السمان، ولم يروها أحد من أصحاب أبي هريرة سواه، وانفرد بها عن أبي صالح السمان الأعمش، ولم يروها أحد من أصحابه سواه، فحصل الانفراد بها في طبقتين من طبقات الإسناد؛ ولذلك قال الدارقطني وأبو عمر بن عبد البر: إن رواية مسلم التي فيها (فليرقه) رواية متروكة، ويقصدون بمتروكة معللة، فحكموا عليها بالترك لمعنى الشذوذ أو أنها غير مقبولة، أما رواية: ( إحداهن بالتراب )، فهذه في صحيح مسلم وقد وجدناها في سنن أبي داود: ( وأولاهن بالتراب )، ووجدناها في سنن الترمذي: ( أولاهن أو أخراهن بالتراب )، ووجدناها في صحيح ابن حبان: ( أخراهن بالتراب )، فهذا ليس اضطراباً وإن كان فيه تعارض واضح، (أولاهن) و(أخراهن) في فرق، (أولاهن أو أخراهن) (إحداهن) ... لكن رواية (إحداهن) هي أقواهن لأنها في الصحيح، في صحيح مسلم وهي قاضية على العلة الموجودة التي فيها الاضطراب.

ونظير هذا حديث البسملة، حديث أنس بن مالك: ( صليت وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر فكانوا يفتتحون الصلاة بـ: الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[الفاتحة:2] )، هذا الحديث فيه اضطراب في الإسناد واضطراب في المتن، أما الاضطراب في الإسناد فكثير من عدد من الوجوه؛ لأن مداره على قتادة عن أنس، وقتادة قد كتبه إلى الأوزاعي وحدث به كذلك من طريق.. حدث به عبد العزيز بن صهيب وسعيد بن أبي عروبة ورواه عن ... فحصل الاضطراب في إسناده، كذلك من ناحية ما بعد الأوزاعي وطبقته ورواه الوليد بن مسلم، والوليد مشهور بنوع من أنواع التدليس يسمى تدليس التسوية.

وكذلك من ناحية المتن جاء فيه: ( صليت وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر )، وجاء فيه: ( صليت وراء أبي بكر وعمر وعثمان )، بإسقاط النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء فيه: ( فكانوا يفتتحون الصلاة بـ: الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[الفاتحة:2] )، ورواية: ( لا يقرءون: بِسْمِ اللهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ[الفاتحة:1] سراً ولا جهراً )، ورواية: ( فكانوا يسرون بـ: بِسْمِ اللهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ[الفاتحة:1] )، فهذا اضطراب في المتن، لكن يحكم على هذا برواية الصحيح، فرواية الصحيح مقدمة على غيرها، فتقضي على الاضطراب في الإسناد وتقضي على الاضطراب في المتن.

بالنسبة لواضع علم العلل لا يمكن أن يجزم به أيضاً لكن من الذين اشتهروا بالحديث في علم العلل الإمام يحيى بن سعيد القطان، هو من أبرز الناس في هذا الباب، وكذلك الإمام شعبة بن الحجاج قبله، فـيحيى بن سعيد القطان هو الذي أخذ الناس عنه العلل؛ ولذلك من مشاهير تلامذته الإمام أحمد بن حنبل والإمام يحيى بن معين والإمام محمد بن يحيى الذهلي، وغير هؤلاء الثلاثة من كبار الذين يتكلمون في العلل، لكن من ناحية التأليف أول من ألف في العلل تأليفاً بهذا الاسم هو الإمام أحمد بن حنبل، وكتابه (العلل ومعرفة الرجال) أكثره كلام في الرجال لكن فيه علل أيضاً، وأكثر العلل التي ذكرها أحمد هي بالإرسال، وعلة الإرسال هذه حظيت بما لم يحظ به غيرها من العلل ولذلك ألف أبو داود المراسيل، وألف ابن أبي حاتم الرازي في المراسيل، كتباً مستقلة بهذا الاسم.

ثم جاء البخاري فاعتنى بالعلل ومع ذلك لم يخرج لنا كتاباً في العلل، لكن روى عنه الترمذي آراءه في كثير من العلل، وأبو حاتم الرازي وأبو زرعة كذلك اعتنيا بالعلل عناية بالغة وقد روى عنهما كلامهما في العلل عبد الرحمن بن أبي حاتم وألف فيه كتاباً سماه (كتاب العلل) وكذلك الترمذي أتى بكثير من نقدهما في الحديث.

بالنسبة للترمذي ألف كتابين في العلل أحدهما (العلل الصغير) الذي ألحق بسننه في آخره، والثاني (العلل الكبير) العلل الكبير ذكر فيه ما لم يذكره في الصغير، والصغير كذلك فيه ما ليس في الكبير، لكن الكبير يفهم منه بعض القواعد التي ليست موجودة في غيره؛ ولهذا شرحه ابن رجب فاستنبط منه عشرة أمور قال: هي التي عليها مدار العلل كلها، مدار العلل على هذه الأمور العشرة، إما التردد بين الرفع والوقف وإما التردد بين الإرسال والإسناد وإما التردد بين الانقطاع والوصل، وإما الاضطراب في الإسناد وإما الاضطراب في المتن، وإما المخالفة، سواءً كانت بالشذوذ أو بالنكارة، هذه نوعين، وإما بالإدراج، أصل الحديث صحيح، ولكن أدرج فيه ما ليس منه، وهذا الإدراج أيضاً على نوعين: إدراج في الإسناد أو إدراج في المتن، وإما بالقلب، القلب أيضاً كذلك يحصل في الإسناد وفي المتن، وضع إسناد لمتن غيره أو جمع متنين في إسناد واحد. فهذه هي أصول العلل التي عليها مدار العلل، في الغالب.

من المؤلفات المهمة في هذا الباب أو هو أعظم تأليف فيه كتاب الدارقطني، وهذا الكتاب لم يرو عن الدارقطني ولم يخرجه وإنما توفي وهو في صندوقه، الدارقطني يمكن أن يسمى "فارس علم العلل" بلا منازع، في حفظه الفذ، الذي ... هنا ... الإسناد، كان يسأل في طريقه إلى المسجد عن حديث فيقول: هذا الحديث وصل إلينا من ثلاثة عشر وجهاً، الوجه الأول كذا وكذا رواه فلان، وصحف فيه فلان واختلف فيه على فلان فرواه عنه فلان بكذا ورواه عنه فلان بكذا ... كذا، حتى يأت على كل واحد، وهذا الكتاب طبع الآن تقريباً نصفه ... أحدى عشر مجلداً، قد توفي الرجل الذي كان ... رحمه الله ...

وكتب العلل الأخرى من أهمها كتب المسندات المعللة، منها (المسند الكبير) لـيعقوب بن شيبة، والمسند المعلل كذلك للبزار ولم يكن مسند معلل إلا هو، فالمسانيد المعللة يموت أصحابها قبل إكمالها ...

وكثير من الكتب كذلك التي اعتنى أصحابها بالتعليل ومن أهمها (السنن الصغرى) للنسائي، وهي سادس الكتب الستة، فإن النسائي اعتنى بالتعليل فيه، وإذا أتى بحديث يعقد باباً للعلل بعده، إذا كان الحديث ... باب الاختلاف فيه على أيوب بن أبي تميمة وباب الاختلاف فيه على خالد الحذاء، وكذلك عناية الترمذي بالعلل واضحة جداً في كتابه بعد كل حديث عادة، كل حديث معلل يذكره، يتكلم عنه من ناحية المتن ويقول: وعلى هذا العمل عند جماهير أهل العلم أو أخذ بهذا بعض أهل العلم وكذلك من ناحية الإسناد يقول: واختلف فيه على زيد بن حباب، أو على فلان بن فلان، يأتي بالوجه الذي حصل فيه الاختلاف، أو يقول: وقد وصله شعبة وأبو عوانة، وأرسله إسرائيل مثلاً.

وقد اشتهر بعض الأئمة بالخبرة في أحاديث الرجال المعينين مثل محمد بن يحيى الذهلي اشتهر في أحاديث الزهري، والزهريات فصلها وعرف ما فيها من العلل، الزهري تقريباً انفرد في الرواية عن حوالي مائة من التابعين ما روى عنهم أحد سواه، في أكثر من مائة، كذلك الشيخ علي بن عبد الله بن المديني، وهو من تلامذة يحيى بن سعيد القطان كما ذكرنا من قبل، أخذ عنه البخاري علم العلل كذلك، لكن ما له مثل ما للبخاري من طول اليد في هذا الباب.

بالنسبة لعلم العلل بعد الدارقطني أصبح متصلاً بعلم التقليد، ولم يعد فيه متخصصون من غير ... يصعب على الإنسان أن يؤلف الآن تأليفاً في العلل ... في زماننا هذا اشتغل مقبل الوادعي بكتاب أخرجه ذكر فيه عللاً لكن هذه العلل بعضها تافه ومخالف للعلل نهائياً، وبعضها يمكن أن يكون له وجه، والغريب أنه يحكم على بعض الأحاديث بالضعف نظراً لفهم ... مثل فيه، والذي يراجع كتابه سيجد هذا واضحاً بيناً فيه، من المسند ... ولذلك يندر جداً أن تجد اليوم مشتغلون بعلم العلل بالخصوص ... لكن الذين يخرجون يتعرضون للعلل، يخرجون أحاديث كتاب معين أو يحققون الكتب يهتمون بالعلل.

أما فضل علم العلل فلا شك أنه قمة ما وصل إليه المحدثون في الدقة؛ ولذلك لاحظوا أسماء الذين اشتغلوا وحكمه أنه فرض كفاية على الأمة يفتون فيها من يتعلمه في غير المستدل، المناظر الذي يستدل حتماً لابد أن يعرف ... الحديث الذي يستدل به، والمقصود بذلك العلل التي القادحة مؤثرة بارزة، أما ما يخفى على أمثاله فلا يطالب به؛ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا[البقرة:286].

ونسبته إلى غيره من العلوم، نسبة العموم والخصوص الوجهي بالنسبة لعلم المصطلح ولعلم التخريج ولعلم الجرح والتعديل، كذلك لعلم أصول الفقه وما يتعلق به في الدلالة.

بالنسبة للاعتناء بالعلل متناً دون الإسناد أقل لا شك، لم تكن العناية بها مثل العناية بالعلل من ناحية السند لأن تلك أسهل من هذه، قد ألف ابن القيم رحمه الله في ذلك (المنار المنيف في الصحيح والضعيف) على العلل من ناحية المتن، ولا شك أنها أصعب ... وأدق..

بالنسبة للعلة من ناحية المتن من أمثلتها ما ذكرناه في ... حديث صحيح من ناحية ... في صحيح مسلم، صحيح، لكنهم عللوه من ناحية المتن، ومثل هذا تعليلهم لحديث القلتين من ناحية المتن، وأن هذا غير منضبط أصلاً، الحديث مداره على الوليد بن أبي كثير ومحمد بن إسحاق، ومن ناحية الإسناد له علل لأن كل واحد منهما اختلف عليه فيه، كل واحد منهما تارة يرويه عن محمد بن عباد الزبيري وتارة يرويه عن محمد بن جعفر بن عباد، وكلاهما اختلف عليه فيه فتارة يرويانه عن عبد الله بن عبد الله بن عمر المكبر وتارة عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر المصغر وكذلك في متنه الاضطراب الواضح؛ ففيه: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الماء يكون بالفلاة من الأرض وما ينوبه من السباع والدواب؟ فقال: إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث )، وفي رواية: ( أو ثلاث )، وفي رواية للدارقطني: ( مائة قلة )، والقلال مجهولة! ما هي؟ البيهقي قال: القلال يقصد بها قلال هجر، أي: الأحساء، لكن المشكلة أنه مدار ذكر قلال هجر في الحديث على المغيرة بن سقلاب والمغيرة بن سقلاب ضعيف لدى أهل الحديث كلهم، وهو الذي ذكر قلال هجر، قلال هجر إنما ذكرت في حديث المعراج، عندما وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى سدرة المنتهى فرأى أوراقها كآذان الفيلة ونبقها كقلال هجر، وقلال هجر متفاوتة في الأحجام، وذلك أن النبق أيضاً في شجرة السدر متفاوتة في الحجم، فليس لقلال هجر حد محدد من ناحية المعنى حتى يحال إليه.

أما موضوع هذا العلم ما يعرض للأحاديث التي ظاهرها الصحة مما ينزل بها إلى درجة الضعف أو الوضع، والإطلاق في قولنا: ما يعرض للأحاديث يشمل ما يعرض لها من جهة الإسناد وما يعرض لها من جهة المتن، وذلك ما سنذكره في مسائل هذا العلوم إن شاء الله.

أما مستمده - هذه المقدمة التي بعدها - فهو مستمد من علوم العلم بالحديث رواية ودراية، ومن علم الجرح والتعديل.

أما مسائله فهي إلى الآن غير منحصرة، ولا له أبواب متعينة لقلة المشتغلين به وقلة المؤلفين فيه، وقد ذكرنا التآليف في علم العلل، وهي قليلة يسيرة، وكذلك الذين برزوا في هذا العلم قلائل، ولهذا لم تكن له مسائل محصورة، وإن حاول ابن رجب رحمه الله في شرحه لعلل الترمذي أن يذكر أطرف أنواع من العلل يمكن أن تعد من المسائل، بعضها يرجع إلى الإسناد وبعضها يرجع إلى المتن، وهذه منها الانقطاع الخفي، هذه المسألة، ويمكن أن يترجم لها بالتردد بين الوصل والانقطاع، معناه أن يكون الحديث قابلاً للوصل والانقطاع فهذه علة من علله.

وهذه العلة يدخل تحتها عدد من التراجم منها مثلاً (المزيد في متصل الأسانيد) ومثال ذلك ما أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث عروة بن الزبير، البخاري يقول فيه: حدثنا يحيى بن بكير قال: أخبرنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن زينب بنت أبي سلمة عن أم حبيبة بنت أبي سفيان عن زينب بنت جحش: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ ذات ليلة فزع يقول: لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب! فتح اليوم من ردم يأجوج مثل هذه وحلق بإصبعيه الإبهام والتي تليها، قلت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث )، وقد أخرج هذا الحديث مسلم في الصحيح وأضاف بين زينب بنت أبي سلمة وأم حبيبة حبيبة بنت أم حبيبة، وهي زيادة في الإسناد؛ وعلى هذا سمي هذا الحديث بحديث الأربع، اشتهر بهذه التسمية؛ لأن في إسناده أربعاً نسوة من بيت النبوة، اثنتان من ربائب رسول الله صلى الله عليه وسلم، هما زينب بنت أبي سلمة وأمها أم سلمة أم رومية وحبيبة بنت أم حبيبة، أي: حبيبة بنت عبيد الله بن جحش وأمها أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان أم المؤمنين، واثنتان من أمهات المؤمنين وهما أم حبيبة وزينب بنت جحش، فاشتهر هذا الحديث لدى المحدثين باسم حديث الأربع، والبخاري لم يخرج في إسناده إلا ثلاثاً من النسوة، وأسقط منه واحد.

ويمكن أن يعلل الحديث في صحيح البخاري بالانقطاع الخفي؛ لأن الأربع متعاصرات جميعاً؛ ولذلك يعتبر الحديث إذا قيس بأسانيد البخاري نازلاً جداً، وإسناده مثل يحيى بن بكير عن الليث بن سعد عن عقيل عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن زينب بنت أبي سلمة عن أم حبيبة عن زينب بنت جحش، هذا ثمان في صحيح البخاري، وتسع في صحيح مسلم ... في ذلك العصر ... جداً وقارنوا هذا بثلاثيات البخاري مثلاً التي يقول فيها: حدثنا المكي بن إبراهيم قال: أخبرنا يزيد بن أبي عبيد عن سلمة بن الأكوع عن النبي صلى الله عليه وسلم ... الفرق شاسع بين اتساع ذات الثلاثيات في الإسناد، وذلك أن أربعاً، أربع نسوة في الإسناد متعاصرات في زمان واحد، وإن كانت الطبقة مختلفة لأننا ذكرنا من قبل في الرجال أن أهل الحديث جعلوا في الصحابة وحدهم أربع طبقات، هي الطبقات الاثنتي عشرة التي هي قبل أصحاب المؤلفات، طبقات الأسانيد إلى أصحاب المؤلفات جعلوها اثنتي عشرة طبقة، وهذه الطبقات أربع منها في الصحابة، ثم ثمان طبقات فيمن دونهم إلى أن تصل إلى أصحاب المؤلفات، وأول من قعد تلك الطبقات كما ذكرنا من قبل هو الحافظ أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني رحمه الله.

ونظير هذا الحديث حديث الأربعة، وهو الحديث الذي أخرجاه في الصحيحين أيضاً من حديث عبد الله بن السعدي عن المسور بن مخرمة عن حويطب بن عبد العزى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ( ما أتاك من هذا المال من غير مسألة أو استشراف نفس فخذه وما لم يأتك فلا تتبعه نفسك )، وهذا الحديث أخرجه البخاري بهذا الإسناد الذي ذكرنا وفي إسناده أربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم عبد الله بن السعدي ومسور بن مخرمة وحويطب بن عبد العزى وعمر بن الخطاب، لكن مسلماً أسقط منه حويطب بن عبد العزى، فكان الإسناد في صحيح مسلم ظاهره الاتصال لأن الأربعة في زمان واحد، ولكن له علة خفية وهي الانقطاع هنا.

كذلك مما يدخل في الانقطاع الخفي تدليس الإسقاط، وتدليس الإسقاط يمكن أن يحمل عليه أحاديث الحسن بن أبي الحسن البصري رحمه الله عن كبار الصحابة فقد روى عن علي والحسن بن علي، وعن أم سلمة وعن عمران بن حصين وعن ابن مسعود واختلف كذلك في روايته عن أبي هريرة ولهذا لم يخرج له البخاري في روايته عن أبي هريرة إلا مع محمد بن سيرين، ويخرج له متابعة فقط لا استشهاداً، أما روايته عن سمرة بن جندب فإن البخاري يرى أنه لم يسمع منه إلا حديث العقيقة وحده، ولم يخرج في البخاري ولا مسلم من رواية الحسن عن سمرة شيئاً في الصحيحين.

كذلك من أنواع هذه العلل المتعلقة بالتردد بين الوصل والانقطاع اختلاف الرواة في الوصل والانقطاع مثل الحديث الذي أخرجه أصحاب السنن الأربعة وأحمد في المسند والحاكم في المستدرك وابن حبان في صحيحه وابن خزيمة في صحيحه كلهم من حديث أبي موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا نكاح إلا بولي )، وهذا الحديث رواه عدد من الأئمة عن أبي إسحاق السبيعي عن أبي بردة عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء الذين رووه منهم من رواه أيضاً من وجه آخر فحدث به عن أبي إسحاق السبيعي عن أبي بردة عن النبي صلى الله عليه وسلم فتردد بين الإرسال والرفع.. أقصد الوصل، ولكن هذا يقضى على العلة فيه بأن أثبت الناس في أبي إسحاق السبيعي من هو؟ هو إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق، حفيده إسرائيل، وقد رواه مرفوعاً ولم يتردد عنه في ذلك، لكن ممن ترد عليه في ذلك أو حصل عليه اختلاف في ذلك شعبة بن الحجاج والثوري وأبو عوانة وعدد من الأئمة، ومن الذين رووه مرسلاً كذلك يونس بن أبي إسحاق عن أبيه عن أبي بردة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا لم يعمل الحنفية بهذا الحديث اعتباراً بهذه العلة ... الحديث علة هنا.

ومثل هذا تعليل الشافعية لحديث البسملة، وهو حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: ( صليت وراء النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر فكانوا يفتتحون الصلاة بـ: الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[الفاتحة:2] )، وفي رواية: ( لا يذكرون: بِسْمِ اللهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ[الفاتحة:1] سراً ولا جهراً )، وفي رواية: ( كانوا يسرون بـ: بِسْمِ اللهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ[الفاتحة:1] )، وفي رواية: ( صليت وراء أبي بكر وعمر وعثمان )، فإسقاط النبي صلى الله عليه وسلم فيكون الحديث موقوفاً؛ ولهذا ذكر له الشافعية تسع علل:

أولاً: أنه من رواية الوليد بن مسلم، وقد اشتهر الوليد بأنه يدلس تدليس التسوية.

ثانياً: أن الذي رواه عن قتادة عن أنس هو الإمام الأوزاعي وقد قال فيه: كتب إلي قتادة ؛ فهو متلقىً عن طريق الكتابة لا عن طريق السماع.

ثالثاً: أن الأوزاعي قال: كتب إلي قتادة وقتادة أكمه، لا يكتب، فالكاتب له مجهول.

رابعاً: أن أنساً قيل له: هل تحفظ ... البسملة؟ قال: لا.

خامساً: الاضطراب في الإسناد.. وفي المتن، وقد ذكرناه.

سادساً: الاضطراب في المتن وقد أشرنا إليه أيضاً برواية الوقف.

سابعاً: خفاء العلة بالاتصال.

ثامناً: أن عدداً الأئمة طعنوا فيه كـالشافعي وغيره من بعض الأئمة.

تاسعاً: أنه لم يصحبه العمل، وهذه علة لازمة.

فهذه العلل التي ذكروها يقضى لديها لدى أهل علم العلل بأن الرواية التي تحرف في الصحيح قاضية على ما سواها، لكن المشكلة أن هذه القاعدة التي يقعدها أهل العلل ينقضونها من وجه آخر؛ فمثلاً أخرج البخاري في الصحيح من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً )، ولم يذكر فيه التتريب ولا إراقة الماء، وهذه هي رواية مالك وقد رواه البخاري من طريقه، لكن رواه مسلم في الصحيح من طريق الأعمش عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة: ( إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً إحداهن بالتراب وليرق )، فالذي في صحيح البخاري والموطأ ينبغي أن يكون قاضياً على الذي في صحيح مسلم وبالأخص عند الانفراد لأنه لم يرو التتريب من أصحاب أبي هريرة الذين رووا عنه هذا الحديث إلا أبي صالح السمان، ولم يروه من أصحاب أبي صالح الذين رووا عنه الحديث - وهم عدد - إلا الأعمش، فانفرد به الأعمش وانفرد به فوقه أبو صالح عن أبي هريرة ؛ فحصل الانفراد في طبقتين من طبقات الإسناد، وهذا يعتبر شذوذ عند الاختلاف.

لكن أهل العلم أخذوا بالتتريب ولم يعللوه، وتركوا الإراقة فعللوها، وهناك ... فسر أهل العلم ومنهم المذاهب الأربعة علل الإراقة، أن الإراقة معللة، يقولون: (فليرقه) يقولوا: هذه اللفظة ... مع أنها في صحيح مسلم، لكننها معللة بالشذوذ، وأكثرهم يأخذون بالتتريب ما عدا الحنيفة، الحنيفة لا يرون التتريب أصلاً، ومن سواهم يرى التتريب ومع ذلك فالحنيفة يرون أن التتريب مضطرب في ذاته لأنه ورد فيه (إحداهن في التراب) كما في صحيح مسلم وورد فيه (أخراهن بالتراب) كما عند أحمد في المسند وغيره وورد فيه (أولاهن بالتراب) كما في سنن أبي داود وورد فيه (أولاهن أو أخراهن) كما في سنن الترمذي، وهذا اضطراب عندهم، وكذلك حصل الاضطراب بقياس هذا الحديث إلى حديث عبد الله بن المغفل الذي في صحيح مسلم وفيه: ( ثم عفروا الثامنة بالتراب )، فجعل التعفير بالتراب في الثامنة، فقالوا: هذا الاضطراب لا مرجح فيه فتركوا التتريب مطلقاً، وفعل ذلك بعض المالكية أيضاً، لكن يجاب عن هذا بالقاعدة السابقة بأن التتريب إذا أخذ به وثبت فستغلب رواية الصحيح، ورواية صحيح مسلم فيها (إحداهن بالتراب) وهذا يشمل الأولى والأخيرة ... أية غفلة ... اضطراب.

نوع آخر من أنواع العلل هو التردد بين الإرسال والاتصال، الأول التردد بين الانقطاع والوصل والثاني بين الإرسال والاتصال، والثالث التردد بين الرفع والوصل، والرابع التردد في الشخص نفسه، في الراوي، في الشخص الراوي، مثل حديث ... الذي أخرجه أصحاب السنن وأحمد في المسند وغيرهم من حديث القاسم بن ربيعة عن يعقوب بن أوس أو عن عقبة بن أوس ... يعقوب بن أوس أو عن عقبة بن أوس عن عبد الله بن عمرو أو عن عبد الله عمر أو عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهنا الإشكال هو الذي هو يعقوب بن أوس وعقبة بن أوس، وأيضاً هل الصحابي الذي روي عنه الحديث عبد الله عمرو وعبد الله بن عمر مع أن العلة فيما يتعلق بتعيين الصحابي أسهل لأنهم جميعاً عدول بخلاف من دونهم، ومثل هذا الحديث المشهور الذي أخرجه أحمد في المسند وأبو داود في السنن وأبو عقيل في سننه من حديث ابن البيلماني عن أبي عبد الرحمن الخراساني عن عطاء عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا تبايعتم بالعينة.. ).

... وميله لابنه، وميله كذلك لـابن الجوزي، ومن المتأخرين كتاب السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة، هذا مختص بالوفيات ونحو ذلك، ثم الطبقات المختصة بعلم آخر كطبقات القراء قد ألف فيها عدداً من الكتب، قد ألف الحافظ الذهبي كتابه طبقات القراء الكبار، وألف الداوودي كتاب طبقات المفسرين، والسيوطي كذلك طبقات المفسرين، والسيوطي قد اختصر كتاب تذكرة الحفاظ للذهبي وكتابه طبقات الحفاظ ...، هو مجرد اختصار لكتاب الذهبي، وإن كان قد وضع على كتاب الذهبي عدد من ... ككتاب النجار، ثم كتاب السيوطي الذي ترجم فيه لنفسه ولعدد من معاصريه، وكذلك طبقات النحويين واللغويين مثل كتاب طبقات النحويين واللغويين لـابن الأنباري، طبقات النحويين واللغويين للزبيدي، وبغية الوعاة، وكذلك البلغة لـمحمد بن يعقوب الجرجرائي في طبقات النحويين واللغويين، وكتاب السيوطي ...، فهذه عدد من الكتب في تراجم أهل اللغة عموماً، النحويين واللغويين والبلاغيين، وكذلك ما ألف من الكتب على الأمصار أو الأقاليم، وكثير من هذه الكتب كما ذكرنا من قبل يسمى بالتواريخ، لكن بعضها قد يسمى باسم خاص مثل النجوم الزاهرة في تراجم أهل مصر والقاهرة لـابن بردي بن تغرى، ومثل كتب الحافظ ابن حجر كتاب الدرر الكامنة، وكتاب إنباء الغمر بأبناء العمر.

وهذه الطريقة التي سلكها الحافظ في الدرر الكامنة هي التي تبعها بعده السخاوي، ثم جاء بعده الشوكاني فسار على نفس طريقة البدر الطالع، وسلكها كذلك ابن العماد الحنبلي في كتابه شذرات الذهب، والتواريخ الكبيرة كذلك فيها بعض هذه التراجم ككتاب التاريخ لـابن جرير الطبري، وكتاب البداية والنهاية لـابن كثير، وكتاب المنتظم لـابن الجوزي، وذيله لحفيده، وكتاب الكامل في التاريخ لـابن الأثير، وكتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر لـابن خلدون، وكتاب الإحاطة بأخبار غرناطة، وكتاب الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، وكذلك كتب المتأخرين مثل الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، ونحو ذلك، هذه فيها تراجم لكن أكثرها من الثناء، بل قد يصل المستوى بصحابها إلى أن يؤلف كتاباً بكامله من السجع كالثناء مثل كتاب الفتح بن خاقان الذي سماه قلائد العقيان، كتاب كله سجع من أول الكتاب إلى آخره، ومطبوع في مجلدين.

ومثل هذا كتب الأسانيد، فيتكلم في بعضها عن تراجم بعض الناس، ومن أهمها الكتب التي تسمى بالفهارس، ومن فهرس ابن المديني، وفهرس القاضي عياض المسمى بالغنية، وفهرس الشيخ زروق، وفهرس ابن عطية، وفهرس ابن خير، وفهرس ابن رشيد، وفهرس أبي الحسن بن القطان الفاسي، وغيرها من كتب الفهارس عموماً، فهذه كتب الفهارس فيها تراجم لكثير من الرجال، الذين قد يخفى على بعض الناس تراجمهم، فمثلاً عندما ذكر السخاوي الذين ألفوا في الجرح والتعديل وتكلموا في ذلك في رسالة له مختصة حققها الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمة الله عليه، ونشرها تحت عنوان (رسائل في علم الحديث)، من ضمن الرسائل هذه، ذكر السخاوي أن من الذين يتكلمون في الجرح والتعديل ويؤلفون فيه أبو الأصبغ بن سهل، فبحث عنه الشيخ عبد الفتاح كل بحث فلم يجد له ترجمة، وقال: غفر الله لمن دلني على أية ترجمة له، وهو إمام من أئمة المالكية المشهورين، ترجمته معروفة، وكتابه الأحكام لـابن سهل المطبوع في مجلدين محقق، وله تراجم في كتب المالكية، لكن الشيخ ما بحث عنه في تراجم كتب المالكية، وظن أنه من المحدثين في مكان آخر، كما ... ...، ونظير هذا كثير ما يحصل فقد يخفى على الإنسان ترجمة إنسان إذا لم يكن له كتاب بين يديه أو لم يجد له مظنةً كما حصل لـابن حزم مع الترمذي، قد روى حديثاً في المحلى من طريق الإمام الترمذي، فقال: ومحمد بن عيسى بن سورة الترمذي ضعف الحديث.

أما فائدة هذا العلم فهي عظيمة جداً؛ لأنه به ينكشف الزيغ والكذب، وبه يذب عن السنة، وبه يعرف أيضاً تاريخ الأمة أعلامها ومشاهيرها، ويقتدى بهؤلاء ويتبعون، وفي ذلك يقول عبد الله بن المبارك: سير الصالحين جند من جنود الله يثبت الله بها قلوب عباده المؤمنين، ومصداق ذلك من القرآن قول الله تعالى: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [هود:120]، هذا جند من جنود الله للتثبيت، وكم من إنسان اهتدى بسبب قراءته لسيرة عالم من العلماء، أو قائد من القادة، فهي مؤثرة جداً، والاشتغال بها نافع في التربية، ولذلك احتاج الناس في زماننا هذا إلى أن يستخلصوا بعض المستخلصات من كتب التراجم والسير، ومن الكتب الجيدة في هذا الباب كتاب اسمه صلاح الأمة سبع مجلدات حول علو الهمة اسمه صلاح الأمة في علو الهمة، كتاب مجموع في سبع مجلدات لكنه يستخلص الحكايات الغريبة في التراجم والسير، فيأتي بها بأشياء مبدعة مفيدة جداً، كتاب يباع، طبعاً هذا من السابقين نحن نقصد المعاصرين الذين اشتغلوا بهذا.

ومثل ذلك كتابات الشيخ الدكتور محمد عقيل موسى من ملخصاته وغيره من الذين اعتنوا بهذا الباب، ومما يفيد به هذا العلم كما ذكرنا جرح الذين يدعون غير الواقع، كما حصل للحاكم مع رجل سمعه يحدث عن هشام بن عمار فقال: أيها الشيخ! متى دخلت مصر؟ فقال: سنة مائتين وثمانين، فقال: إن هذا الشيخ قد لقي هشاماً فحدثه بعد موته بإحدى عشرة سنة، فبهت الرجل، والتاريخ مهم جداً في هذا الباب، ولذلك فإن الله تعالى استدل به في كتابه، وقد قال: وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ [آل عمران:65]، إذ ادعى اليهود أن إبراهيم كان يهودياً، وادعى النصارى أنه كان نصرانياً، واستدل الله بالتاريخ فقال: وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ [آل عمران:65]، فهذا غاية في تكذيب ما هم عليه، فاليهودية إنما بدأت من نزول التوراة، والنصرانية إنما بدأت من نزول الإنجيل، فكيف يكون كذلك؟ كيف يكون إبراهيم يهودياً أو نصرانياً؟ وقد حصل للخطيب البغدادي أمر مهم في هذا الباب وهو أنه جاء اليهود في أيامه بكتاب يزعمون أنه كتاب من رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسقاط الجزية عنهم، أنه قديم لديهم، وأن الخلفاء كانوا يظلمونهم، فأخرجوا الكتاب قديماً جداً وجاءوا به إلى الخليفة، فعجب الخليفة لذلك وهم له هماً عظيماً، ودعا العلماء من مشارق الأرض ومغاربها حتى وصل الكتاب إلى الخطيب البغدادي، فلما نظر فيه بصق عليه، وقال: هذا مكذوب عن النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا له: من أين لك ذلك؟ قال: في شهوده سعد بن معاذ ومعاوية بن أبي سفيان وما اجتمعا في الإسلام، فـسعد بن معاذ جرح يوم الأحزاب، ومات بعد غزوة بني قريظة في العام الخامس من الهجرة، ومعاوية أسلم بعد الفتح في العام الثامن من الهجرة، فكيف يكونان شهوداً على كتاب واحد؟ فأبطله بالتاريخ.

أما فضله فهو بحسب فائدته، ولا شك أن الذين برزوا في التاريخ من علماء الأمة لهم مكانتهم وفضلهم الذي لا ينكره أحد كما ذكرنا في الحافظ الذهبي والحافظ ابن حجر والأئمة الذين سبقوا كـالبخاري وابن جرير وغيرهم من الأئمة الأعلام، فالمؤرخون والمعتنون بالسير عادةً إنما هم الجهابذة الفطاحلة الكبار.


استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
مقدمات في العلوم الشرعية [18] 3788 استماع
مقدمات في العلوم الشرعية [39] 3562 استماع
مقدمات في العلوم الشرعية [42] 3514 استماع
مقدمات في العلوم الشرعية [30] 3438 استماع
مقدمات في العلوم الشرعية [16] 3390 استماع
مقدمات في العلوم الشرعية [4] 3373 استماع
مقدمات في العلوم الشرعية [22] 3324 استماع
مقدمات في العلوم الشرعية [13] 3262 استماع
مقدمات في العلوم الشرعية [6] 3254 استماع
مقدمات في العلوم الشرعية [35] 3145 استماع