تعب السعداء وتعب الأشقياء


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن دعا بدعوته وعمل بسنته إلى يوم الدين.

أيها الإخوة: لا شك أنكم في مثل هذا الوقت قد تحسون بشيء من التعب بعد ما تلقيتم العديد من الدروس والبرامج، ووفقتم بالعديد من الأعمال، ولكن جلوسكم في هذه اللحظات احتساباً وطلباً للأجر والفائدة، وحرصاً على سماع ما قد ينفعكم، لا شك أنه من الأعمال التي يتقرب بها إلى الله عز وجل.

ورب كلمة يسمعها الإنسان تكون سبباً في سعادته في الدنيا والآخرة.

أيها الإخوة: الموضوع الذي أريد أن أتحدث إليكم فيه، هو بعنوان: (تعب السعداء وتعب الأشقياء) وهناك حقيقة مهمة لا بد من التذكير بها في البداية، وهي أن الله عز وجل حين خلق الخلق كتب عليهم أنهم لا بد أن يتعبوا في هذه الدنيا، ويلقوا فيها من الكد والكدح والكبد ما يلقون، فمقل ومستكثر، يقول الله تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإنْسَانَ فِي كَبَدٍ [البلد:4]. ويقول سبحانه: يَا أَيُّهَا الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ [الانشقاق:6].

ويقول تعالى -مخاطباً آدم عليه السلام-: فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى [طه:117].

فالحياة الدنيا لا بد فيها من التعب والجهد، يستوي في ذلك المؤمن والكافر، والكبير والصغير، والذكر والأنثى، والغني والفقير، وسائر طبقات الناس، كل منهم لا بد أن يكون له نصيبه من التعب، ولكن هذا التعب يتفاوت من شخص لآخر -كما سيظهر جلياً في هذا الحديث.

كما أنه من المعلوم أن الناس ينقسمون نتيجة لهذا التعب إلى قسمين: فواحد يتعب ويشقى لإسعاد نفسه، وفكاكها، وإعتاقها، وآخر يتعب ويشقى في سبيل تكبيل نفسه بالقيود، وإيباقها، وإتعاسها، وإشقائها.

وفي الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم -لما ذكر جمع خلق الإنسان في بطن أمه وإرسال الملك- ذكر أن الملك يكتب فيما يكتب: رزق الإنسان، وأجله، وعمله.. وماذا بعد؟ وشقي أو سعيد.

إذاً فالإنسان لا بد أن يكون من أحد فئتين: إما من الأشقياء وإما من السعداء.

والفرق بينهما كبير، يقول الله تعالى: يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ [هود:105] ليس هناك حل ثالث -أيها الإخوة- الذي لا يكون سعيداً فهو شقي، فمنهم شقي وسعيد.

ثم انظر في مصير هؤلاء وهؤلاء، قال تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ. خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ وَأَمَّا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ [هود: 106، 107، 108].

هذا الشقاء وهذه السعادة هي نتيجة عمل الإنسان في هذه الدنيا، هذا الجهد الذي يبذله الإنسان على ظهر الأرض، هذا العمل الذي لا بد أن يبذله كل إنسان، نتيجته أن يكون المرء شقياً أو سعيداً.

وقد أبرز النبي صلى الله عليه وسلم هذه الحقيقة في الحديث الآخر الذي رواه مسلم عن أبي مالك الحارث بن عاصم الأشعري رضي الله عنه وأرضاه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {الطُّهور شَطْر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد الله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك}.

ثم قال صلى الله عليه وسلم: {كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها} تأمل وتفكر في معنى هذه الكلمة الأخيرة: (كل الناس يغدو) الأصل أن كل الناس يشتغلون، ويتحركون، كل الناس يغدون، لكن نتيجة هذا الغدو، نتيجة هذا العمل، نتيجة هذا الكد تختلف، (فبائع نفسه فمعتقها) أي بالطاعات، فهذا هو الذي يغدو في طاعة الله، يتعب في عبادة الله، يصرف جهده وهمه في سبيل مرضاة الله، فهذا قد أعتق نفسه.

أما الآخر: فهو الذي يغدو في معصية الله، فيوبق نفسه بالمعاصي، ويهلكها بانتهاك الحرمات والمحرمات.

هذه القضية يجب أن تكون واضحة لدى كل فرد منا، إذا كنت تتعب في الطاعة فلا تظنن أن غيرك في المعصية آنس مرتاح، لا يبذل جهداً ولا كداً، كل ما تراه من تعب السعداء في الطاعة، فاعلم أن الأشقياء يتعبون أضعاف أضعافه في المعصية.

لكن شتان بين تعب وتعب ونريد أن نقف باختصار على أهم الفروق بين تعب السعداء وبين تعب الأشقياء:

تعب السعداء في طاعة الله، والأشقياء في معصيته

الفرق الأول بين تعب هؤلاء وتعب أولئك: أن تعب السعداء: تعب في طاعة الله ومرضاته، فيحصل التاعب أو العابد فيه على الأجر والرضوان من الله تبارك وتعالى، فهو قربة وطاعة.

ولذلك لما ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم الكفارات في حديث معاذ وابن عمر وغيرهما، وفي أحاديث كثيرة جداً، ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الكفارات التي يكفر بها عن الإنسان ما اقترفه من الذنوب والخطايا، ماذا ذكر صلى الله عليه وسلم في الكفارات؟ ما هي الكفارات؟ في أحاديث كثيرة، كما في حديث معاذ قال النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما خرج على أصحابه يوماً من الأيام لصلاة الفجر، وقد تأخروا جداً حتى كادت الشمس أن تطلع، فجاء فصلى بهم صلاة تَجَوَّز فيها -أي خففها- ثم التفت إلى أصحابه صلى الله عليه وسلم، فقال: {إنني بعد أن صليت -صلاة الليل- رقدت رقدة خفيفة، فرأيت ربي عز وجل في أحسن صورة؛ فقال لي: يا محمد، فيم يختصم الملأ الأعلى؟} الملائكة في ماذا يختصمون؟ {قلت: الله تعالى أعلم! قال: فوضع الرب تبارك وتعالى يده بين كتفي حتى وجدت بردها في صدري؛ ثم قال لي: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ فعلمت ما بين السماء والأرض، فقلت: يختصمون في الكفارات، والدرجات، والدعوات فقال: وماالكفارات؟ -تعرفون ماذا كان جواب النبي صلى الله عليه وسلم -الكفارات هي نقل الأقدام إلى الجمعات -وفي رواية: إلى الجماعات أي إلى المساجد- وانتظار الصلاة بعد الصلاة -وفي لفظ: والجلوس في المساجد بعد الصلوات، وإسباغ الوضوء على الكرهات} وهذا هو الشاهد: إسباغ الوضوء على الكرهات، وفي بعض ألفاظ الحديث: {وإسباغ الوضوء على الصبرات} فما هو المقصود بالكرهات؟

يحتمل أحد معنيين:

المعنى الأول: إسباغ الوضوء في حالة حصول ما يكرهه الإنسان، من هم أو غم أو حزن أو مصيبة أو ما أشبه ذلك، ولذلك ورد الأمر لمن غضب أن يتوضأ.

فيكون المعنى: أن يتوضأ الإنسان ويفزع إلى الوضوء والصلاة إذا نابه أمر يكرهه، كما في قوله تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة:45].

والمعنى الثاني: -وهو الأقرب- أن يكون إسباغ الوضوء على الكرهات، يعني: أن يتوضأ الإنسان للصلوات حتى في حال شدة البرد.

ولذلك جاء في الرواية الأخرى (على الصبرات) والصبرات: هي جمع صبرة، وهي شدة البرد، فيكون المعنى أن إقدام الإنسان على الوضوء بالماء البارد في حال شدة البرد على الرغم من أن نفسه تكره هذا الأمر، إقباله على هذا الأمر طلباً لمرضاة الله هو من كفارات الذنوب.

ومثله: المشي إلى المساجد خاصة في الظلمات، وفي شدة البرد -أيضاً- ومثله: حبس النفس عن الخروج من المسجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة.

وحرمان الإنسان نفسه مما تحب من الاشتغال بأمور الدنيا ومجالسة الأصحاب والأهل والأولاد وغير ذلك مما تألفه النفوس.

فهذه الأشياء لما كان فيها مشقة على النفس وتعب وآلام، جعل الله عز وجل فيها كفارةً لذنوب الإنسان، وهذا هو الأمر الأول المتعلق بتعب السعداء، أن تعبهم لا يخلو من أحد حالين: إما تكفير معصية، أو رفع درجة.

ولذلك في الحديث الصحيح: {أن الإنسان إذا مشى إلى المسجد، كانت خطواته: إحداها تحط خطيئة، والأخرى ترفع درجة} فتعب السعداء هو: تكفير لذنوبهم ورفع لدرجاتهم.

أما تعب الأشقياء، فهو: على النقيض من ذلك هو تكثير لذنوبهم وخطاياهم ومزيد إثم لهم، ولذلك لما ذكر الله تعالى الكفار وما أعطوا من المال في هذه الدنيا، قال: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة:55].

وفي الآية الأخرى -لما ذكر الإملاء لهم- قال: إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً [آل عمران:178].

وفرق بين إنسان يتعب في طاعة الله، وآخر يتعب في معصية الله، إنسان يتعب في فكاك نفسه، وآخر يتعب في رق نفسه وإيباقها، هذا هو الفرق الأول.

تعب السعداء يصحبه لذة وسرور، بخلاف الأشقياء

الفرق الثاني: أن تعب السعداء لأنه تعب في الطاعة يلقى السعداء في الدنيا العاجلة قبل الآجلة، يلقون في قلوبهم من السرور والنعيم -الناتج عن معاناة التعب في طاعة الله- يلقون ما يزيل عنهم هذا التعب، بل ما يحول تعبهم إلى لذة وسرور.

ولذلك الإنسان قد يقاسي قيام الليل -مثلاً- وخاصة في بداية توجهه لهذه العبادة، ويجد مشقة في هذا الأمر، ولكن بعد ما يتدرب على هذا الأمر ويعتاد؛ تألفه نفسه، حتى يصبح يجد من اللذة بالقيام ومواجهة البرد الشديد والوضوء بالماء البارد، ثم الوقوف بين يدي الله سبحانه وتعالى، ومناجاته بالعبادة بالقرآن وبالذكر وبالدعاء، يجد من اللذة في ذلك ما لا يجده غيره من اللاهين واللاعبين والنائمين ومن أصناف الناس.

حتى إن بعض العلماء يقول: (إن لي ورداً بعد صلاة الفجر حتى ترتفع الشمس -من القرآن والذكر ومناجاة الله عز وجل- لو لم أقم به ما استطعت أن أقوم بأعمالي في سائر يومي).

فهو يجد لهذا الورد من الأثر المقوي لقلبه ولنفسه والدافع له ما يشعر بأنه لو تخلف عن ورده لسبب أو لآخر؛ لعجز عن القيام بأعماله الأخرى من أعمال العبادة والدعوة والعلم والتعليم، ومن أعماله الدنيوية التي لا بد له منها.

وكلكم تعرفون كلمة بعض العباد الذي كان يقول: [[لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف]].

هذا -أيها الإخوة- ليس تمثيلاً ولا كلاماً يقال، بل هم شعروا من الأنس واللذة لمناجاة الله عز وجل ما جعلهم يحتقرون الدنيا، يحتقرون أهل الدنيا، يحتقرون ما عليه المشتغلون بالدنيا -مهما يكن في أيديهم من المال والسلطان والجاه والمنـزلة والرئاسة وغيرها- لأنهم يشعرون أنهم في وادٍ، وهؤلاء القوم في وادٍ آخر.

فالسعداء يتعبون في العبادة فيجدون لذة العبادة عاجلاً غير آجل، وهذه اللذة التي يجدونها إنما هي عُرْبون للسعادة الأخروية التي وعدوا بها.

ولذلك وعد الله سبحانه وتعالى الذين آمنوا وعملوا الصالحات ذكراناً وإناثاً بأن يحييهم حياة طيبة، فقال: مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل:97] فهذا من الحياة الطيبة التي وُعِدَ بها المؤمنون.

أما الأشقياء والتعساء: فإنهم لا يجدون في قلوبهم نتيجة تعبهم إلا الشقاء والكبد والتعب...!

وقد يقول قائل: وما هو التعب الذي يلقاه هؤلاء الأشقياء في دنياهم؟

فأقول: إن هذا التعب كثير، ولكن خذ بعض الأمثلة من هذا التعب الذي يلقاه أولئك الأشقياء:

الشقي يشعر -أولاً- بأن تعبه في معصية الله، فإذا انتهى من لذته أياً كانت هذه اللذة، وذهب شعوره بها، بقيت الحسرة في قلبه.

ولذلك كان الشاعر يقول وهو ينصح ابنه:

إن أهنا عيشة قضيتها           ذهبت لذتها والإثم حل

فهو إذا كان ممن ينتسبون إلى الإسلام يشعر بأنه وقع في معصية، فإذا انتهى تلذذه بهذه المعصية بدأ قلبه يوبخه، وضميره يعاتبه، فشعر بالإثم وبالذنب العظيم، فأصابه نتيجة لذلك شيء غير قليل من الشقاء.

كذلك قد يترتب على هذه المعصية التي وقع فيها: مصائب دنيوية يصيبه الله عز وجل بها في نفسه أوفي أهله أو في ماله أو في غير ذلك، تجعل حياته كلها تنغيصاً.

تسمعون -مثلاً- عن الأمراض الجنسية الفتاكة التي انتشرت في العالم اليوم: كالهربس والإيدز وغيرهما.

وهذه الأمراض ليست جديدة، بل قد كان العالم يتحدث قبلها عن أمراض كثيرة، مثل: أمراض الزهري والسيلان وغيرها من الأمراض الجنسية التي تكلم عنها الأطباء.

فالإنسان حين ينتهي من هذه اللذة العابرة التي هي أسرع ما تزول، قد يصاب بمثل هذه الأمراض الفتاكة التي تفسد عليه حياته، وتهدم جسمه، وتهدم عمره، فينتهي أجله شر نهاية، وتقول له نفسه: (بينما الناس الصلحاء يقتلون شهداء في المعارك، في الذب عن دينهم أو عن أعراضهم أو عن أخلاقهم، أنت تموت شر ميتة في سبيل لذة عابرة) فيشعر بالخزي والعار نتيجة لذلك.

وقد يسلط الله تعالى عليه مصيبة في ماله، حيث يبذر هذا المال في أوجهه المحرمة، حتى ينتهي ماله الذي تعب في جمعه، ينتهي في هذا السبيل المحرم، فيصبح هذا الإنسان شقياً من وجهين: شقياً -أولاً- في جمع هذا المال، ثم شقياً -ثانياً- حين فرقه في معصية الله تعالى.

وقد يسلط الله تعالى عليه نتيجة معصيته فضيحة تلازمه إلى آخر الدهر، سمعت من بعض الثقات قصة حقيقية، يقول: إن رجلاً وامرأة قامت بينهما علاقات محرمة، ونكح هذا الرجل هذه المرأة نكاحاً محرماً، حتى حصل الحمل نتيجة لذلك، وخشيت هذه المرأة من الفضيحة، فصارت تداري هذا الأمر عن أقرب الناس إليها: عن أمها، وأبيها، وتخشى إن علموا بذلك أن يقتلوها وأن يحصل شيء لا تحمد عقباه.

فاحتارت ماذا تصنع، ولكنها كانت ذات حيلة، فكتمت الأمر عنهم، وفي يوم من الأيام كانت مع أبيها في سفر، وأبوها ربما يكون مغفلاً لا يدري من الأمر شيئاً، فلما نام أبوها شعرت بآلام المخاض وهي آلام شديدة، فتحيرت ماذا تصنع، والمرأة عادة في مثل هذه الحالة تحتاج إلى أن يكون بقربها نساء: أمها أو طبيبة أو غيرهن من النساء لكن الموقف يختلف بالنسبة لهذه المرأة، فذهبت من أبيها مكاناً قصياً حتى ولدت بعد جهد جهيد وبعد ما عانت من الآلام ما عانت، ثم واجهت بعد ذلك مصيبة أخرى بأي وجه تقابل أباها الذي تركته قبل دقائق دون أن يعلم بذهابها؟!

كيف تقابله ومعها طفل صغير؟! هذا موقف صعب! ومن قبل كانت مريم البتول الطاهرة عليها الصلاة والسلام، وهي التي برأها الله عز وجل، وجعل لها آية بينة على قومها، مع ذلك واجهت صعوبة في مواجهة قومها بهذا الأمر، حتى كانت تقول: يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً [مريم:23] مع ما جعل الله عز وجل لها من الآيات البينات، وما وضع في قلبها من الروح والطمأنينة، ومع ما جعل في ابنها من المعجزات، التي منها: نطقه في المهد وإقامته الحجة على بني إسرائيل.

مع ذلك كله واجهت مريم عليها السلام ما واجهت، فقالت: يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً [مريم:23] فهذه المرأة لم تجد بداً من أن تقتل ابنها، وهو وإن كان ابناً غير شرعي لها إلا أنه ابنها الذي خرج من بطنها، والذي كان في رحمها تسعة أشهر، ولا بد أنها تحس نحوه بالحنان كما تحس أية أم نحو ابنها بالحنان.

ومع ذلك تخنقه بكلتا يديها والدموع تسيل من عينيها، ثم تحفر له في جذع الشجرة وتدفنه لئلا تفتضح جريمتها.

ويأبى الله عز وجل إلا أن ينكشف الغطاء، ويبين الأمر، ويعرف صاحبها الذي شاركها في هذا الفعل، وينكشف فعلها بابنها، وتبين آثار الجريمة أولها وآخرها.

فالصور والأشياء والنتائج التي يمكن أن تترتب على هذا التعب الذي تعبه الإنسان في المعصية كثيرة جداً.

ولذلك لا تتصور -أخي الشاب- وأنت تحرم نفسك من الأشياء المحرمة، تحرم نفسك من مشاهدة الأفلام الجنسية الهابطة، من مشاهدة المسلسلات المنحرفة، من النظر إلى النساء، من عقد الصداقات المحرمة، من السفر إلى بلاد الكفار، من تمتع العين والقلب برؤية الصور الجميلة، لا تظن وأنت تحرم نفسك من ذلك كله أنك في شقاء، وأن الذي أجاب داعي الشيطان، وأملى لنفسه في هذه الأمور في سعادة، لا تظنن ذلك، بل تأكد أنك تجد من لذة حرمان نفسك من هذه المعاصي، وشعورك بالترفع، وشعورك بأنك نجحت في المجاهدة، تجد في نفسك وفي قلبك من اللذة الشيء العظيم.

وذلك الإنسان الذي أتبع نفسه هواها في هذه الأمور يجد من الشقاء والتعاسة والألم وتوبيخ الضمير ما لا يخطر لك على بال.

حتى حدثني بعض من رأى هؤلاء الشباب، قال: والله لقد رأيت أحدهم وهو يجلس مع بعض النسوة، ثم يغادرهن إلى مكان آخر ليبكي بأعلى صوته، يبكي لأنه يجد في قلبه داعي الإيمان، ويجد في قلبه شعوراً بالخطيئة، فيتألم لذلك، وقد يسيطر عليه هذا الشعور، فيعبر عنه بالصراخ والبكاء، والأمر كما قال الشاعر:

كل الحوادث مبدؤها من النظر       ومعظم النار من مستصغر الشرر

كم نظرة فتكت في قلب صاحبها      فتك السهام بلا قوس ولا وتر

يسر مقلته ما ضر مهجته      لا مرحباً بسرور جاء بالضرر

فهذا الشيء الذي يسر العين -هو يضر القلب ويؤثر فيه، فهذا هو الفرق الثاني بين تعب السعداء وتعب الأشقياء: أن تعب السعداء يصحبه لذة وسرور في القلب، وأما تعب الأشقياء يصحبه ألم وتعاسة وشقاوة في القلب.

تعب السعداء مؤقت ينتهي بالموت، بخلاف الأشقياء

الفرق الثالث: أن تعب السعداء مؤقت، فهو ينتهي بالموت، حيث يجد الإنسان عند الموت من التثبيت والبشرى إن كان من المؤمنين ما بينه الله عز وجل في قوله: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنـزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ [فصلت:30-31].

أما الأشقياء فإنهم على شقاوتهم في الدنيا يجدون عند الموت من النذر والعلامات على شقاوتهم ما يجعلهم يموتون شر ميتة، ثم يجدون في قبورهم وفي الآخرة ما يصدق ذلك.

والحياة الدنيا مهما تطل فهي قصيرة، وهذا وحده كاف في أن يجعل الإنسان يشعر أنه -ولو أطبقت عليه الشقاوة في الدنيا من كل جانب- ما دامت هذه الشقاوة تنتهي بالموت، فإنها تحتمل في سبيل الله عز وجل.

ولذلك فإن الإنسان عند الموت لا بد أن يشعر بالألم والندم، فإن كان مؤمناً ندم ألا يكون ازداد، وإن كان فاسقاً أو عاصياً ندم ألا يكون نـزع من معصيته.

ولذلك أيضاً فإن الإنسان في يوم القيامة يستقل كل تعب لقيه في سبيل الله عز وجل، حتى إنه لو قضى حياته كلها في شقاء وفي ألم، ويضرب بالسياط ويواجه ألوان المذلة في سبيل الله، إنه يستقل ذلك إذا رأى ثوابه يوم القيامة.

ولذلك ورد في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: {يؤتى يوم القيامة بأشد أهل الدنيا بؤساً من أهل الجنة، فيصبغ في النعيم صبغة، ثم يقال له: يا ابن آدم! هل رأيت شراً قط؟ هل مر بك بؤس قط؟ أي في الدنيا، فيقول: لا والله يا رب، ما رأيت شراً قط! ولا مر بي شدة قط!، ويؤتى بأشد أهل الدنيا نعيماً من أهل النار، فيصبغ في العذاب صبغة، ثم يقال له: يا ابن آدم! هل رأيت خيراً قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب ما رأيت خيراً قط! ولا مر بي نعيم قط!}.

صبغة واحدة في النعيم أنست المطيع كل شقاء الدنيا، وصبغة واحدة في العذاب أنست العاصي جميع لذات الدنيا، وهذا هو القول المبين الذي لا شك فيه ولا امتراء.

فكل ما تلقاه -أيها المطيع- في سبيل الله فهو هين في جنب الله عز وجل، وهين بالقياس ما سلمت منه من العذاب، وهين بالقياس إلى ما لقيته من النعيم.

السعيد يجد من توفيق الله ما ينسيه هذا التعب، بخلاف الشقي

الفرق الرابع: أن المطيع والسعيد يجد في الدنيا من توفيق الله عز وجل له وتيسيره ما ينسيه هذا الشقاء، فهو ممن تكفل الله عز وجل بدفع كربتهم وإزالة غربتهم.

ولذلك لما جهر الرسول صلى الله عليه وسلم بدعوته في مكة، ورمته قريش عن قوس واحدة، وأساءت إليه، قيض الله عز وجل له عمه أبا طالب، فكان يدفع عنه ويحميه ويقف دونه، حتى يقول في قصيدته المشهورة مخاطباً قريشاً، ومبيناً استعداده للدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنفس والمال والأهل والولد، يقول:

كذبتم -وبيتِ الله- نبزْى محمداً     ولما نُطَاعِنْ دُونَهُ ونُنَاضِلِ

ونُسْلِمَهُ حَتىَّ نُصَرَّعَ حوله     ونُذْهَلَ عن أبنائنا والحلائلِ

رجل كافر يعلن أمام الملأ من قريش أنه لا يمكن أن يسلم إليهم النبي صلى الله عليه وسلم حتى يقتل دونه، ويذهل عن أولاده وعن أزواجه وعن أمواله، وهو كافر! لكن الله سخره لنبيه صلى الله عليه وسلم.

وهكذا أصحابه كان الله يقيض لهم من يحميهم ويجيرهم، كما قيض الله ابن الدغنة والمطعم بن عدي وغيرهم من كفار قريش لحماية أصحابه.

ثم لما ذهب الصحابة المهاجرون إلى الحبشة قيض الله عز وجل لهم النجاشي حال كفره -ثم هداه الله للإسلام- فحماهم حتى كان يقول لهم: [[اذهبوا فأنتم شيوم بأرضي]] وكلمة شيوم بالحبشية معناها: آمنون، [[اذهبوا فأنتم شيوم بأرضي، من سبكم غرم، من سبكم غرم، من سبكم غرم]] ورَدَّ رسولي قريش اللذين جاءا في طلبهم.

ثم قيض لهم الأنصار الذين عقدوا البيعة على استقبالهم، حتى كان الأنصار رضي الله عنهم يتنازعون في إيواء المهاجرين، حتى لم ينـزل واحد من المهاجرين على واحد من الأنصار إلا بقرعة، وحتى آثروهم بالأموال والزوجات، وبذلوا في سبيل نصرتهم وإيوائهم ما ذكره الله عز وجل بقوله: وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9].

وهذا ليس خاصاً بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، بل تجد من العلماء والدعاة من قيض الله عز وجل له -سواء من المؤمنين أو من الكفار أحياناً- من يعينه وينصره.

يذكر التاريخ عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، أن قازان التتري لما هجم على بلاد المسلمين وأهلك الأخضر واليابس والحرث والنسل والبلاد والعباد، اتفق مجموعة من مشايخ الشام على الخروج إليه ومحادثته، ومحاولة أخذ الأمان لأهل الشام منه.

فخرج ابن تيمية رحمه الله مع مجموعة من العلماء، فلما دخلوا على قازان تصدر ابن تيمية للحديث، وتحدث بكلام قوي بليغ؛ وقال له: (يا قازان! أنت -وأنت تزعم أنك مسلم) وكان قازان من الحملات التترية التي تدعي الإسلام، أما أجداده الأوائل: هولاكو وغيره فكانوا كفاراً وثنيين (يا قازان! أنت -وأنت تدعي الإسلام- قد أفسدت بلاد المسلمين وأسأت إلى المسلمين ما لم يفعله أجدادك الوثنيون الذين كانوا لا يدعون الإسلام ولا ينتسبون إلى الدين لا شكلاً ولا حقيقة) وظل يتكلم عليه بكلام ساخن قوي، دون هيبة أو وجل، حتى أَجَلَّه قازان وعظمه، وقال لترجمانه الذي كان يترجم كلام ابن تيمية: قل لهذا الشيخ يدعو لي، قل له: يدعو لي!!

فرفع ابن تيمية يديه إلى السماء، وقال: اللهم إن كان عبدك هذا -ويشير إليه بأصبعه- خرج وجاء إلى هذه البلاد مقاتلاً في سبيلك فأيده وانصره، وإن كان خرج رياء وسمعة، وفي سبيل توسيع رقعة أرضه، وتوطيد سلطانه، وإيذاء بلاد المسلمين، وإهلاك العباد -وظل يذكر الأوصاف الموجودة فعلاً في قازان- فأهلكه وأهلك جنده، وانتقم منه، واكف المسلمين شره، وظل يدعو عليه، وقازان رافعٌ يديه إلى السماء يؤمن على دعاء الشيخ، دون أن يعرف ماذا يقول إلا أن الترجمان يترجم كلامه.

ثم خرجوا من عنده، فقال المشايخ للشيخ ابن تيمية رحمه الله: إننا لا نريد أن نصحبك؛ لأننا نعرف أن هذا السلطان الطاغي سوف يرسل إليك في الطريق من ينتقم منك، فقال ابن تيمية رحمه الله: وأنا -أيضاً- لا أريد أن أصحبكم، فذهب العلماء في طريق وذهب هو في طريق آخر.

يقول أحد هؤلاء العلماء، وهو الذي يروي القصة: (فأما ابن تيمية رحمه الله فإنه لم يصل إلى دمشق إلا في وسط حراسة كوكبة من فرسان التتر الذين ثارت في نفوسهم الحمية والأريحية، وأعجبوا به وبشجاعته، فذهبوا يحرسونه حتى أوصلوه إلى بيته في دمشق، أما نحن فسلط علينا مجموعة من العيارين فشلحونا وأخذوا ما بأيدينا...!)

وهذا أنموذج للتعب الذي يبذله السعداء فيقيض الله عز وجل لهم في الدنيا من يعينهم وينصرهم ويذهب عنهم آثار هذا التعب.

ولكنا نجد في حياتنا اليوم أن كل تعب يبذله الإنسان في سبيل الله فإنه يلقي جزاءه عاجلاً غير آجل.

ويحدثني أحد الشباب الذين ذهبوا للدراسة فيأوروبا أن هناك رجلاً أسلم من الأوروبيين وحسن إسلامه، وصار حريصاً على تطبيق شعائر الإسلام كلها، حريصاً على أن يظهر إسلامه ويعتز به أمام الكفار دون خجل أو حياء أو تردد، حتى لو لم يكن هناك مناسبة، فإنه يحرص على أن يفتعل المناسبات ليظهر إسلامه.

يقول: فأعلن في أحد المؤسسات الحكومية في تلك البلاد الكافرة عن وجود وظيفة فتقدم لها، فسأله المقابل عن بعض الأمور ومن ضمنها قال له: هل تشرب الخمر؟ قال: لا أشرب الخمر، لأنني قد أسلمت، وديني يمنعني من معاقرة الخمر وشربها.

قال: هل تتخذ الخليلات والصديقات؟ قال: لا؛ لأن دين الإسلام الذي أنتسب إليه يُحَرِّمُ عليًّ ذلك، ويقصر علاقتي على زوجتي التي نكحتها بمقتضى شريعة الله عز وجل.

وخرج وهو شبه يائس من أن ينجح في هذه المسابقة!! ولكن النتيجة كانت أن جميع هؤلاء المتسابقين -وكان عددهم كبيراً- فشلوا ونجح هو وحده في هذه المسابقة.

فذهب إلى الشخص الذي أجرى معه المقابلة، وسأله قائلاً: كنت أنتظر أن تحرموني من هذه الوظيفة عقاباً لي على مخالفتكم في دينكم، وعلى اعتناق الإسلام، ولكنني فوجئت بأنكم قبلتموني ورددتم أبناء دينكم من النصارى، فما هو السر في ذلك؟

فقال له: إن الشخص المرشح لهذه الوظيفة كان يشترط فيه أن يكون شخصاً منتبهاً في جميع الحالات، حاضر الذهن، والشخص الذي يتعاطى الخمر لا يمكن أن يكون كذلك، فكنا نترقب شخصاً من الأشخاص الذين لا يشربون الخمر، ونظراً لتوفر هذه الخصلة فيك فقد وقع الاختيار عليك لهذه الوظيفة...!

وكل واحد منا قد يجد في حياته -مثلاً- كبيراً أو صغيراً، يصدق هذه القاعدة: (ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه).

فتعب السعداء يصحبه في هذه الدنيا لطف من الله عز وجل، بأن يقيض لك سواء من المؤمنين أو من غيرهم، من يكون عوناً لك على ما تلقاه من الجهد والتعب.

أما تعب الأشقياء فليس كذلك، فإن الله عز وجل يسلط بعضهم على بعض، ويسلط عليهم من المؤمنين من يكون سبباً في شقائهم وعذابهم.

ومن الأمثلة على ذلك ما شرعه الله عز وجل من الجهاد الذي يقتل فيه الكفار وتسبى نساؤهم، وتؤخذ أموالهم غنيمة في سبيل الله، فهذا نوع من العذاب الذي سلطه الله عز وجل على هؤلاء الكفار بأيدي المؤمنين.

ولذلك يقول الله عز وجل: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ [التوبة:14].

تعب السعداء مآله إلى النعيم، بخلاف الأشقياء

ثم هناك الفرق الأكبر، وهو: ما يلقاه السعداء في قبورهم من النعيم، ثم ما يلقونه في الآخرة من السعادة والسرور وألوان اللذة؛ التي لا تخطر لهم على بال.

وأعظم من ذلك كله النظر إلى وجه الله الكريم في جنة عدن، قال الله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23].

أما الكفار فهم محرومون من ذلك كله، ومن أعظم الحرمان الذي أصيبوا به: حرمانهم من النظر إلى وجه الله، ولذلك قال سبحانه: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15] ليس ذلك فحسب، ليس الأمر هو حرمانهم من النعيم، بل هم يقاسون من ألوان العذاب ما يقاسون، حتى إنهم يطلبون أقل طلب، يطلبون أن يخفف عنهم يومٌ من العذاب، فلا يجابون إلى ذلك، يطلبون الموت فلا يجابون إلى ذلك، وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ [الزخرف:77] وكما يقول الشاعر:

كفى بك داء أن ترى الموت شافيا      وحسب المنايا أن يكن أمانيا

يامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ. لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ [الزخرف:78].

يطلبون أن يخفف عنهم يوم من العذاب: وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذَابِ [غافر:49] هم لا يستطيعون أن يدعوا، أو يئسوا من الدعاء؛ فصاروا يلتمسون من الخزنة أن يدعوا الله عز وجل أن يخفف عنهم، ما طلبوا أن يقالوا بالكلية، إنما طلبوا التخفيف فقط يوماً من العذاب: قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ [غافر:50] أي في الدنيا، قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إلا فِي ضَلالٍ * إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [غافر:50-51].

إذاً إن كان الله عز وجل قد كتبك من السعداء، فأنت سعيد في الدنيا بطاعة الله، بلذة المناجاة، بالأنس بقرب الله عز وجل، سعيد حتى بما تلقى من الأذى في سبيل الله، وبما تجد من التعب في الطاعة، سعيد بكل معاني السعادة، سعيد عند الموت بالبشرى، سعيد في قبرك بما ترى من النعيم، سعيد عند البعث، سعيد بعد الحساب.

وهذا هو جزاء المؤمنين الذين قرروا أن يقضوا حياتهم على وفق ما يرضي الله عز وجل، وإن تعبوا، ونصبوا، وحرموا أنفسهم من اللذات، وإن حرموا أنفسهم مما يتمتع به أبناء جنسهم من الأشياء الدنيوية والشهوات العابرة، جزاءً من جنس العمل.

وأما من كان من الأشقياء، فهو شقي في الدنيا بالتعب في معصية الله، شقي في جسمه، شقي في قلبه، شقي عند موته، شقي في قبره، شقي عند البعث، شقي عند الحساب، شقي بعد الحساب: جَزَاءً وِفَاقاً [النبأ:26] وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46].

جعلني الله وإياكم من السعداء في طاعته، وكفاني وإياكم شر أنفسنا، ووفقني وإياكم لما يجب ويرضى، وأعانني وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته، وصبرني وإياكم على طاعته... وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمداً وآله وصحبه.

الفرق الأول بين تعب هؤلاء وتعب أولئك: أن تعب السعداء: تعب في طاعة الله ومرضاته، فيحصل التاعب أو العابد فيه على الأجر والرضوان من الله تبارك وتعالى، فهو قربة وطاعة.

ولذلك لما ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم الكفارات في حديث معاذ وابن عمر وغيرهما، وفي أحاديث كثيرة جداً، ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الكفارات التي يكفر بها عن الإنسان ما اقترفه من الذنوب والخطايا، ماذا ذكر صلى الله عليه وسلم في الكفارات؟ ما هي الكفارات؟ في أحاديث كثيرة، كما في حديث معاذ قال النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما خرج على أصحابه يوماً من الأيام لصلاة الفجر، وقد تأخروا جداً حتى كادت الشمس أن تطلع، فجاء فصلى بهم صلاة تَجَوَّز فيها -أي خففها- ثم التفت إلى أصحابه صلى الله عليه وسلم، فقال: {إنني بعد أن صليت -صلاة الليل- رقدت رقدة خفيفة، فرأيت ربي عز وجل في أحسن صورة؛ فقال لي: يا محمد، فيم يختصم الملأ الأعلى؟} الملائكة في ماذا يختصمون؟ {قلت: الله تعالى أعلم! قال: فوضع الرب تبارك وتعالى يده بين كتفي حتى وجدت بردها في صدري؛ ثم قال لي: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ فعلمت ما بين السماء والأرض، فقلت: يختصمون في الكفارات، والدرجات، والدعوات فقال: وماالكفارات؟ -تعرفون ماذا كان جواب النبي صلى الله عليه وسلم -الكفارات هي نقل الأقدام إلى الجمعات -وفي رواية: إلى الجماعات أي إلى المساجد- وانتظار الصلاة بعد الصلاة -وفي لفظ: والجلوس في المساجد بعد الصلوات، وإسباغ الوضوء على الكرهات} وهذا هو الشاهد: إسباغ الوضوء على الكرهات، وفي بعض ألفاظ الحديث: {وإسباغ الوضوء على الصبرات} فما هو المقصود بالكرهات؟

يحتمل أحد معنيين:

المعنى الأول: إسباغ الوضوء في حالة حصول ما يكرهه الإنسان، من هم أو غم أو حزن أو مصيبة أو ما أشبه ذلك، ولذلك ورد الأمر لمن غضب أن يتوضأ.

فيكون المعنى: أن يتوضأ الإنسان ويفزع إلى الوضوء والصلاة إذا نابه أمر يكرهه، كما في قوله تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة:45].

والمعنى الثاني: -وهو الأقرب- أن يكون إسباغ الوضوء على الكرهات، يعني: أن يتوضأ الإنسان للصلوات حتى في حال شدة البرد.

ولذلك جاء في الرواية الأخرى (على الصبرات) والصبرات: هي جمع صبرة، وهي شدة البرد، فيكون المعنى أن إقدام الإنسان على الوضوء بالماء البارد في حال شدة البرد على الرغم من أن نفسه تكره هذا الأمر، إقباله على هذا الأمر طلباً لمرضاة الله هو من كفارات الذنوب.

ومثله: المشي إلى المساجد خاصة في الظلمات، وفي شدة البرد -أيضاً- ومثله: حبس النفس عن الخروج من المسجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة.

وحرمان الإنسان نفسه مما تحب من الاشتغال بأمور الدنيا ومجالسة الأصحاب والأهل والأولاد وغير ذلك مما تألفه النفوس.

فهذه الأشياء لما كان فيها مشقة على النفس وتعب وآلام، جعل الله عز وجل فيها كفارةً لذنوب الإنسان، وهذا هو الأمر الأول المتعلق بتعب السعداء، أن تعبهم لا يخلو من أحد حالين: إما تكفير معصية، أو رفع درجة.

ولذلك في الحديث الصحيح: {أن الإنسان إذا مشى إلى المسجد، كانت خطواته: إحداها تحط خطيئة، والأخرى ترفع درجة} فتعب السعداء هو: تكفير لذنوبهم ورفع لدرجاتهم.

أما تعب الأشقياء، فهو: على النقيض من ذلك هو تكثير لذنوبهم وخطاياهم ومزيد إثم لهم، ولذلك لما ذكر الله تعالى الكفار وما أعطوا من المال في هذه الدنيا، قال: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة:55].

وفي الآية الأخرى -لما ذكر الإملاء لهم- قال: إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً [آل عمران:178].

وفرق بين إنسان يتعب في طاعة الله، وآخر يتعب في معصية الله، إنسان يتعب في فكاك نفسه، وآخر يتعب في رق نفسه وإيباقها، هذا هو الفرق الأول.