نظرة شرعية .. حكم الشرع في معاهدات السلام مع اليهود و الهدنة معهم
مدة
قراءة المادة :
8 دقائق
.
يتساءل كثيرون عن حكم الشرع في هذا المؤتمر، أو في الصلح مع إسرائيل عمومًا.
ولقد عقدت مؤتمرات إسلامية كثيرة في القاهرة ومكة وعمَّان سنة 1968م، وعقد مؤتمر آخر في كوالالمبور (عاصمة ماليزيا) بعد سنة، وقد حضر هذه المؤتمرات عدد من علماء المسلمين، وأعلنت الجهاد بإجماع آراء العلماء الذين شهدوا هذه المؤتمرات والذين لم يشهدوها. وقد جاء في بعض المؤتمرات أن أسباب وجود الجهاد التي حددها القرآن الكريم قد أصبحت كلها متوافرة في عدوان اليهود على أرض العرب والمسلمين، وانتهاكه لحرمات الدين في أقدس شعائره وأماكنه، وبما كان من إخـراج المسلمين والعرب من ديارهم، وبما كان من قسوة ووحشية في تقتيل المستضعفين من الشيوخ والأطفال؛ فمن أجل ذلك كله صار الجهاد بالمال والنفس فرضًا في عنق كل مسلم، يقوم به على قدر وسعه وطاقته، مهما بعدت الديار. إذن، فقد قررت تلك المؤتمرات رفع علم الجهاد، وليس الجهاد حملاً للسلاح فقط؛ بل نريد أيضًا جهادًا من منطلق الإعداد، بدءًا من الإعداد المعنوي، بإعداد الأمة من الناحية العقدية، فالأمة نسيت عداوتها لليهود وحلفائهم.
وكما قيل: رضيت من الغنيمة بالإياب (1)
فيكفينا أن تحافظ أجهزة الإعلام العربية على إشعار الأمة بأن اليهود أعداؤنا اليوم وأمس وغدًا. كما أن هناك فتوى متأخرة من علماء المسلمين بتحريم التنازل عن أي جزء من أرض فلسطين، فعلماء المسلمين أفتوا بعدم جواز الصلح مع اليهود في حال اغتصابهم أيَّ شبر من بلاد المسلمين، من تلك الفتاوى مثلاً:
- فتوى علماء فلسطين التي صدرت عن المؤتمر الأول المنعقد في القدس عام 1935م.
- وفتوى الشيخ محمد رشيد رضا في السنة نفسها.
- وفتوى رئيس جمعية العلماء المركزية في الهند في السنة نفسها.
- وفتوى علماء نجد عام 1937م.
- وفتوى علماء العراق في العام نفسه.
- ونداء علماء الأزهر بتحريم الصلح مع اليهود ووجوب الجهاد عام 1956م.
- وفتوى شيخ الأزهر ومفتي الديار المصرية حسن مأمون.
- وفتوى علماء المؤتمر الدولي الإسلامي في باكستان عام 1968م.
- وفتوى لجنة الفتوى بالأزهر عام 1979م، وقد جاءت في رد على سؤال يخص التنازل عن أي جزء من فلسطين، وقد نُشرت في جمعية الإصلاح بالكويت في كتاب صدر عنها في يناير عـام 1990م. وقد وقَّع على هذه الفتوى أكثر من ستين عالمًا من علماء المسلمين في الفترة الممتدة من 1988م إلى 1989م، وخلاصة ما جاء فيها: "نحن الموقعين على هذه الوثيقة نعلن للمسلمين في هذه الظروف الصعبة، أن اليهود أشد الناس عداوة للذين آمنوا، اغتصبوا فلسطين، ودنَّسوا مقدساتها، ولن يقر لهم قرار حتى يقضوا على دين المسلمين، وينهوا وجودهم. ونحن نعلن بما أخذ الله علينا من عهد وميثاق في بيان الحق أن الجهاد هو السبيل الوحيد لتحرير فلسطين، وأنه لا يجوز بحال من الأحوال الاعتراف لليهود بشبر من أرض فلسطين، وليس لشخص أو جهة أن يقر اليهود على أرض فلسطين، أو يتنازل لهم عن أي جزء منها، أو يعترف لهم بأي حق فيها. .شروط الهدنة مع الأعداء (2):
يتكلم الكثيرون عن الهدنة، وشروطها، وما يتعلق بها، من الناحية الفقهية، فأقول: يجوز للمسلمين عقد الهدنة مع عدو يحتاجون إلى الهدنة والمصالحة معه بشروط:
- الشرط الأول: أن تكون الهدنة لمصلحة المسلمين، كالعجز عن القتال مثلاً، أما إذا كان المقصود من الهدنة مصلحة الكفار فليست هدنة في الحقيقة، وإنما ذاك اسمها في الواقع لقلب الحقائق، لكن عمومًا إذا كانت لمصلحة الكفار فلا تجوز، كما أنها إذا كانت لمصلحة أطراف أخرى فإنها لا تكون - حينئذ - هدنة صحيحة. - الشرط الثاني: أن تكون مدتها محدودة بزمن، حتى قال كثير من الفقهاء: لا يجوز عقد هدنة أكثر من عشر سنوات؛ لأنها أقصى مدة عقد النبي - صلى الله عليه وسلم- فيها صلحًا مع قريش في الحديبية، وهو اختيار الشافعي.
وقيل : يجوز بأكثر من عشر سنين وهو قول أبي حفيفة، وذكر ابن قدامة أن عقد الصلح المطلق يفضي إلى إبطال الجهاد. ثم هذا الذي يطرح الآن هو الاعتراف الحقيقي بالوجود الدائم لليهود، وأنهم جزء من هذه المنطقة، وأن لهم الحق في البقاء فيها، وأنهم ينبغي أن يكوِّنوا مع العرب والمسلمين تكاملاً ثقافيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا، إلى غير ذلك...
فليست المسألة إذا تكتيكاً، ولا هدنة مؤقتة لظروف عابرة.
ونحن لا نقول للناس جاهدوا الآن وهم لا يملكون القدرة على الجهاد، لكن نقول: لا يجوز لمسلم أن يعترف بأن الجهاد باطل أو منسوخ. - الشرط الثالث: أن يخلو عقد الهدنة من شرط فاسد، وذلك كشرط معاونة الكفار مثلاً على المسلمين، وهذا لعله أن يكون موجودًا في عدد من المهادنات والمصالحات التي تعقد اليوم وأمس وغدًا. ويحتج البعض بصلح الحديبية، والحق أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في صلح الحديبية جاء إلى مكة أصلاً، وعقد صلحًا مع المشركين لمدة معينة لا تتجاوز عشر سنوات. ويحتج بعضهم بموقفه - صلى الله عليه وسلم - مع يهود المدينة عندما عاهدهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الهجرة، والحق أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عقد معاهدة معهم كان هو الحاكم فيها، وكان اليهود مطالَبين بموجبها أن يرجعوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أي شجار يحدث بينهم، ومطالبين بموجبها بالدفاع عن المدينة ضد أي هجوم، فلما خانوا العهد أجلاهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - عنها (3) ولا أحد ينكر أصل العقود مع غير المسلمين على ما فيه مصالح البلاد والعباد، إذا أبرمها المعنيون بمستقبل الأمة الحريصون على حمايتها، الصادقون في تمثيلها.
ـــــــــ
(1) هذا القول يضرب مثلاً للرجل يشقى في طلب الحاجة حتى يرضى بالخلوص سالمًا، وهو من قول امرئ القيس:
لقد طوَّفتُ في الآفاق حتى * رضيتُ من الغنيمة بالإياب
انظر: كتاب جمهرة الأمثال (1/484).
(2) انظر في شروط الهدنة: الحاوي الكبير للماوردي (14/350-372)، والمغني لابن قدامة (13/154-163).
(3) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/31)، وزاد المعــاد (3/126-136).