خطب ومحاضرات
الطريق إلى القدس
الحلقة مفرغة
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد:
نحمد لله تعالى على هذا اللقاء تحت مظلة الندوة العالمية للشباب الإسلامي، والتي رفعت رءوس هذه الأمة وشرفتها بمواقفها وعملها، وبالأخص في الأزمة الأخيرة في غزة وما قبل ذلك من الحصار، نسأل الله تعالى أن يوفق القائمين عليها، وأن يؤيدهم بنصره ولطفه، وأن يحقق رجاءهم ويستجيب دعاءهم، وأن يجعل هذه الوجوه جميعاً من الوجوه الناضرة الناظرة إلى وجه الله الكريم.
ثم إن الله سبحانه وتعالى جعل هذه الحياة الدنيا مسرحاً للصراع بين الحق والباطل، وجعل فيها حزبين متنافسين هما: حزب الله وحزب الشيطان، والصراع بينهما أبدي مستمر، ولا يمكن الحياد بينهما أبداً، فإما أن يكون الإنسان من حزب الله، وإما أن يكون من حزب الشيطان؛ لأنه لا ثالث للحزبين في هذه الحياة الدنيا.
وهذان الحزبان يتصارعان وليس من سلطة أحدهما ولا من إمكانياته أن يقضي على الآخر بالكلية، بل إستراتيجيتهما تتصل بالدفع، فهي سنة كونية للتدافع بين الحق والباطل بين الله أنها مصلحة الأرض فقال تعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ[البقرة:251].
ومعنى ذلك أنه لو تمحض الحق على الأرض فلم يبق للباطل وجود، وانتصر الحق نصراً نهائياً لاستحق أهل الأرض أن ينتقلوا عن دار الأقذار إلى دار القرار؛ لأنهم نجحوا في الامتحان، والدنيا دار امتحان وليست دار جزاء.
ولو انتصر الباطل على الحق فلم يبق للحق صولة ولا جولة في الأرض وطبقها حزب الشيطان بالكلية، لاستحق أهل الأرض سخط الله ومقته وغضبه المهلك الذي ليس بعده بقاء على وجه الأرض، فلذلك اقتضت حكمة الله بقاء هذا الصراع أبدياً أزلياً، وإذا تخلف أقوام عنه فيأتي الله جل جلاله بقوم يخلفونهم فيؤدون الواجب، وقد هدد الله بذلك في كتابه في أربعة مواضع، فقال تعالى في سورة المائدة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [المائدة:54]، وقال في سورة الأنعام: فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ [الأنعام:89]، وقال في سورة التوبة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ * إِلاَّ تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التوبة:38-39].
وقال في سورة محمد صلى الله عليه وسلم: هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:38].
وقد جعل الله سبحانه وتعالى النصر لمن بذل الجهد ولو كان جهده يسيراً، ولو كانت إمكانياته ضعيفة؛ لأن المعايير المادية ليست هي التي توصل إلى النتائج المطلوبة، ومن المعلوم أن الله تعالى سير العالم كله بقسمين من كلامه وقسمين من علمه: هما الشرع والقدر، فالشرع علمناه وكلفنا به، والقدر لم يعلمناه ولم يكلفنا به، فبذل الأسباب هو من الشرع ونحن مأمورون به شرعاً، والنتائج هي من القدر ولسنا مكلفين بها، فعلينا أن نبذل الأسباب وليس علينا أن نصل إلى النتائج، وإذا أدرك الإنسان ذلك هانت عليه القوة المعادية ولا يقف في وجهه أحد من الأعداء؛ لأنه لا ينظر إليهم بميزان القوة المادية، بل ينظر إلى أنه مكلف مأمور بأن يفعل هذا الفعل من لدن خالق السموات والأرض الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ [فاطر:41] وهو الذي كلفه أن يفعل هذا الفعل، وهو الذي يرتب على الأسباب ما يشاء، فقد يبذل الإنسان أسباباً طائلة ولا يتحقق شيء، وقد يبذل سبباً ضعيفاً فيرتب الله عليه فتوحاً كبيرة.
فيستطيع أن يقول: إن الله كلف مريم ابنة عمران وهي امرأة صغيرة السن ضعيفة الجسم عند وضع حملها، بأن تمسك جذع نخلة ميت في وقت البرد الشديد الذي لا يمكن أن يقع فيه الرطب ولا التمر، فتهز هذا الجذع فيتساقط عليها الرطب، قال تعالى: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً [مريم:25]، ففعلت مريم فحقق الله ذلك، مما يدل على أن الله جل جلاله هو الذي يخلق النتائج ويحققها، سواء رتبها على أسباب علمناها أو على أسباب جهلناها، ولذلك قال: وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [آل عمران:126].
فلا يمكن أن يأتي النصر بفعلنا نحن ولا بتصرفنا ولا بأدواتنا وآلاتنا ولا بعقولنا ووسائلنا، إنما يأتي من عند الله يكتبه لمن يشاء، وانظروا إلى قصص الثابتين، فإن النصر يأتي مع الشدة دائماً، فقد قص الله علينا في سورة القمر الطريقة التي أهلك بها الذين كذبوا نوحاً حين قاطعه أهل الأرض جميعاً وتمالئوا عليه وآذوه أشد الأذى، فقال: فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ[القمر:10]، فأمر الله السماء فانفتحت أبوابها بالماء المنهمر، وأمر الأرض فتفطرت عيوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ [القمر:12] فلم يبق لقومه باقية وأنجى الله نوحا ًومن معه في السفينة.
ثم قص عليه الطريقة التي أهلك الذين كذبوا هوداً حين تمالئوا عليه وأخرجوه وحيداً، وقال لهم كلمته المليئة بالإيمان والروح المعنوية فقال: إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ[هود:56]، فحينئذ سلط الله عليهم الريح العقيم فسخرها عليهم ثمانية أيام حسوماً، فلم تبق منهم باقية إلا ما يبقى من جذوع النخل المنقعر.
ثم قص علينا الطريقة التي أهلك الذين كذبوا صالحاً حين تألبوا عليه وتمالئوا عليه، ولم يؤمن به إلا قلة منهم واتهموه بأنواع الاتهامات، فسلط الله عليهم الصيحة، فصاح بهم الملك، فشق أشرفة قلوبهم فماتوا ميتة رجل واحد.
وقص علينا الطريقة التي أهلك بها الذين كذبوا لوطاً حين تمالئوا عليه وعلى أذاه وهددوه بإخراجه من قريتهم، فسلط الله عليهم الحاصب فاقتلع قريتهم من الأرض، ورفعها حتى سمع أهل السماء أصوات كلابهم، ثم ردها على الأرض وجعل عاليها سافلها، وأتبعها بحجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك، وما هي من الظالمين ببعيد.
ثم قص علينا الطريقة التي أهلك بها فرعون ذي الأوتاد الذي قال: أنا ربكم الأعلى، حين أراد هو وملأه أن يتخلصوا من موسى وأن يقتلوه بعد تسلطهم على السحرة الذين قطعوا أيدهم وأرجلهم من خلاف، وصلبوهم في جذوع النخل، فأمر الله موسى أن يضرب البحر بعد أن قال له قومه: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ[الشعراء:61]، فالبحر من أمامنا والعدو من خلفنا وليس لنا بهم طاقة ولا قدر، فقال موسى : كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ[الشعراء:62]، فضرب البحر بعصاه فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [الشعراء:63] فمر موسى وقومه يمشون في طريق فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى [طه:77].
ثم اتبعه فرعون بجنوده، فلما توسطوا البحر أمره الله بالتحرك فالتطم فعاد كما كان، فذهب ذاك الملك العظيم والجبروت والكبرياء في طرفة عين، ولم تبق له باقية.
ثم بعد هذا قال الله تعالى: أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ[القمر:43]، الخطاب لكم معاشر المسلمين. (أكفاركم): الكفار الذين ترهبونهم وتخافونهم، أمريكا وغيرها من قوى الاستكبار، هل هم (خير من أولئكم)؟ هل هم خير من عاد الذين قالوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً[فصلت:15]؟ هل هم خير من ثمود الذين يتخذون من الجبال بيوتاً فارهين؟ هل هم خير من فرعون ذي الأوتاد؟ أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ[القمر:43].
ثم تغير الالتفات في الخطاب، فبعد أن كان الخطاب لنا، التفت في الخطاب إلى الكفار مباشرة فقال: ((أَمْ لَكُمْ)) أيها الكفار بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ[القمر:43] (براءة): أي من عند الله ألا يأخذكم بمثل ما أخذ به السابقون، (في الزبر) أي: الكتب المنزلة من عند الله.
أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ[القمر:44]، إذا كانوا يعتمدون على وسائلهم وحولهم وقوتهم وعلى الدعوة بالإعلام والدعاية، فسيقولون: نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ[القمر:44] فما سنة الله في هذه؟ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ[القمر:45]، فهذه سنة الله الماضية ولا معقب لحكمه.
وقد أراد الله جل جلاله أن يمتحن هذه الأمة بمحن عظيمة وبلايا جسيمة، ولكنه ربط تلك المحن بمنح عجيبة أيضا ًهي فيها تعزية وتسلية، فأعظم محنة أصيبت بها هذه الأمة هي موت رسولها صلى الله عليه وسلم، فقد توفي في أوج قوته وتمام حكمته، وقد بلغ ثلاثاً وستين عاماً، ودانت له جزيرة العرب، وخرج إلى الروم في غزوة تبوك والوحي أشد ما يكون تتابعاً، والناس قد تعلقوا به وأحبوه حبه الذي يستحق، في هذا الوقت قبض الله رسوله صلى الله عليه وسلم.
فكانت محنة عظيمة وصفها أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته كالمعزى المطيرة.(كالمعزى) أي الأغنام المطيرة التي أصابها المطر يدخل بعضها في بعض.
ولذلك أنكر عمر رضي الله عنه عقله فتصرف تصرفاً لا يتصرفه عاقل، جرد سيفه وقال: والله لا يزعم أحد أن محمداً قد مات إلا ضربته بالسيف.
وأقعد علي بن أبي طالب فكان يصلي جالساً لا يستطيع القيام لهول هذه المصيبة، لكن الله جعل فيها تسلية وتعزية لهذه الأمة ففيها خير كثير لها، فلو عاش النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأمة أبد الآبدين لما كان في الأمة خلفاء راشدون، ولما كان فيها علماء مهديون، ولما كان فيها مجتهدون، ولما كان إجماعها حجة، كل ذلك بفضل الله على هذه الأمة وهو تفضيل عظيم، ولولا وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تحققت الأمور.
إن المصيبة التي نحن بصدد الحديث عنها هي مصيبة من المصائب العظيمة وهي زراعة هذا الكيان الصهيوني الغاصب المعتدي في الأرض المقدسة بلاد الشام، فهي مصيبة عظيمة على هذه الأمة، ولكن لله فيها حكمة بالغة، وللأمة فيها مصالح جسيمة كبيرة.
تجميع المسلمين بعد تفرقهم بسبب سقوط الخلافة العثمانية
فمن أعظم هذه المصالح: أن هذا الكيان قام في وقت سقوط الخلافة العثمانية التي كانت تجمع دار الإسلام وذمة المسلمين، ولم يبق للمسلمين رأس يجمعهم جميعاً، فالخلافة أنهيت وأهملت وأزيل أركانها وسميت بالرجل المريض، فالمشارقة والمغاربة والجنوبيون والشماليون والعرب والعجم ما الذي يجمعهم؟ لم يعد لهم ربط سياسي واحد يجمعهم بعد سقوط الخلافة، فشاء الله أن تأتي قضية فلسطين فتكون قضية المسلمين الأولى المركزية في هذا الأوان، فتكون بمثابة الخلافة للمسلمين؛ لأن الخلافة لا يقصد بها مجرد التمويل والتخطيط، فهذا يتقنه كل أحد، إنما يقصد بها الرمز الذي يجمع الكلمة ويوحد الصف، وهذا الرمز الآن يشمل المسلمين من مشرق الغرب إلى مغربه، فما من مسلم الآن في شرق الصين أو في غرب الولايات المتحدة أو في شرق اليابان إلا وهو يهتم بقضية فلسطين ويعتني بها، فإن بها رمزاً لتوحيد المسلمين وجمع كلمتهم على الحق، وشد انتباههم إلى أمتهم، وشد انتباههم إلى هويتهم، فكان ذلك بلطف الله وفضله.
تذكير المسلمين بقبلتهم الأولى ومسرى رسول الله
ومن حكمة الله فيها: أن الله لما أراد زرع هذا السرطان الخبيث في جسم هذه الأمة لم يزرعه في طرف من الأطراف، فلو قامت دولة الصهاينة في موريتانيا أو في إريتيريا أو في إندونيسيا أو في أي طرف من الأطراف لنسيه العالم ولم يتحدث عنه كما نسي المسلمون الأندلس وصقلية وقبرص وغيرها من البلاد التي كانت يوماً من الأيام تمثل حضارة إسلامية راقية، ونسيها المسلمون نهائيا ًاليوم، فأراد الله أن يزرع هذا الكيان في القلب الذي لا ينسى، في قبلة المسلمين الثانية، وفي مهاجر أبيهم إبراهيم عليه السلام، وفي مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي المهاجر الثاني للمسلمين في آخر الزمان، فقد أخرج أصاحب السنن: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنه تكون هجرة بعد هجرة، ويوشك أن يكون خير مهاجركم مهاجر أبيكم إبراهيم عليه السلام )، فسيهاجر المسلمون في آخر الزمان عندما يضطرون من أطراف الأرض، ويطوي الله الأرض فيقصرها من أطرافها، فيجتمع المسلمون إلى الشام عندما ( ينزل المسيح بن مريم عليه السلام حكماً عدلاً عند المنارة البيضاء شرقي دمشق وقت أذان الفجر يمينه على ملك وشماله على ملك، إذا رفع رأسه تحدر منه مثل الجمان وإذا طأطأه تقاطر كأنما خرج من ديماس -والديماس الحمام- لا يراه أحد إلا قال: نبي الله، لا يحل لكافر أن يجد ريح نفسه إلا ذاب كما يذوب الملح في الماء، وإن نفسه ليبلغ ما يبلغ بصره).
هذا سلاح الدمار الشامل نفس المسيح بن مريم عليه السلام، (وإن نفسه ليبلغ ما يبلغ بصره). وهو سلاح جيني؛ لأنه قال: ( لا يحل لكافر أن يجد ريح نفسه إلا ذاب كما يذوب الملح في الماء )، فيهاجر إليه المسلمون في هذه الأرض.
إظهار بركة الأرض المقدسة أرض الشام
وهذه الأرض وصفها الله بالبركة فهي مباركة، مع أنها رقعة صغيرة جداً، ونحن نسمع حديث الناس عن غزة وكأنها قارة؛ لكثرة ما يسمع الناس فيها من الأحداث، وما واجهت من الضرب والإبادة، فيظن من يسمع عنها أنها على قدر مساحة أستراليا أو على قدر مساحة كندا لكن كم مساحتها؟ ثلاثين كيلو متراً طولاً في ستة كيلو مترات عرضاً، هذه القطعة هي غزة.
وهذه المساحة فيها العديد من المدن: مدينة غزة، ومدينة جباليا، ومدينة بيت لاهية أو مدينة الشجاعية، وصلاح الدين، وخان يونس، وخزاعة، ورفح، ودير البلح، ومدن كثيرة جداً في هذه المساحة الصغيرة جداً، مما يدلنا على هذه البركة التي ذكرها الله جل جلاله، فإنه ذكر أنه بارك حول بيت المقدس، وهذه البركة تشمل البركة في الأرض وفي نباتها وفي خيراتها وفي بشرها أيضاً وأرضها ومدنها.
اختبار المسلمين في تحمل الأذى من اليهود
ومن حكم الله في زراعة هذا الكيان: أنه عندما سلط هؤلاء الصهاينة الذين حكمة الله في خلقهم الأذى فلله الحكمة في كل مخلوق، الله لا يخلق شيئاً عبثاً، وكل خلق إنما خلقه لفائدة بني آدم ، ولذلك قال: خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا[البقرة:29] قال ابن عباس: إما انتفاعا ًوإما اعتباراً وإما اختباراً.
فالانتفاع: مثل المأكولات والمشروبات والملبوسات والمسكونات التي ينتفع بها البشر، والاعتبار: ما ينفع عقولهم بالتفكر، فما نراه الآن من المجرات البعيدة والكواكب الكبيرة التي ليس فيها نفع لنا إلا الاهتداء في الظلام، وما نراه من أنواع المخلوقات غير الضارة، مخلوقات بحرية وغيرها، كلها خلقت للاعتبار، أي: لكي نعتبر بهذا الخلق.
والاختبار: ما خلقه الله اختباراً للبشر، مثل ما فيه أذىً، كالسموم والأوبئة والميكروبات والجراثيم، وكل ما هو ضار في الأرض يتمحضه الضرر، فحكمة الله في خلقه الاختبار، وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ[الأنبياء:35].
واليهود واضح جداً من خلال النصوص أن حكمة الله من خلقهم الاختبار والأذى للبشر، فهم أعداء الله من خلقه، قالوا يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا[المائدة:64]، وقَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ[آل عمران:181]، وقالوا: إن الله صرعه إسرائيل وخنقه حتى مد لسانه فشرط عليه ألا يعذب أحداً من ذريته إلا أياماً معدودات، رب يصرع ويخنق وهو بخيل لا يعطي شيئا ًوهو فقير لا يملك شيئاً كيف يعبد؟! من يعبده إلا مجنون.
وهم أعداء رسل الله فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ [المائدة:70]، قتلوا زكريا وقطعوه نصفين بالمنشار، وقطعوا رأس يحيى بن زكريا وأهدوه إلى بغي من بغاياهم.
وهم أعداء محمد صلى الله عليه وسلم فقد حاولوا قتله خمس مرات، مالئوا عليه المشركين، ودعاهم أبو رافع بن أبي الحقيق إلى حصنه في تدبير اغتيال النبي صلى الله عليه وسلم، ومالئوا عليه المنافقين في المدينة ودعاهم كعب بن الأشرف إلى حصنه ليقتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصعدوا له عمرو بن جحاش على دار هو يجلس في ظلها وبيده صخرة كبيرة ليرميها على رأسها، فأتاه جبريل فأخبره فقام من مكانه فوقعت الصخرة في مكانه.
وسحروه حيث سحره لبيد بن الأعصم ، ووضعوا له السم في الشاة، وكان ذلك سبب شهادته بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.
وهم أيضاً أعداء ملائكة الله، فقد جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ( يا رسول الله! من يأتيك بالوحي من الملائكة؟ قال: جبريل ، قالوا: ذلك عدونا من الملائكة؛ فأنزل الله في ذلك: مَنْ كَانَ عَدُوًّا للهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ[البقرة:98] ).
وهم أعداء كتب الله المنزلة؛ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ[النساء:46]، وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ[آل عمران:78].
وهم أعداء الاقتصاد؛ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ[المائدة:42]، وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ[النساء:161]، فهم أول من أنشأ البنوك، وهم أول من أنشأ دور القمار وهم أول من باع بالأسهم، وكل هذه الثلاثة من تدمير الاقتصاد تدميراً نهائياً، وكذلك هم أعداء البشرية كلها لأن الله يقول: وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللهُ لا يُحِبُّ المُفْسِدِينَ[المائدة:64]؛ فلذلك لا يستغرب منهم الاعتداء.
وقد أقاموا كيانهم على هذه الأرض الطاهرة المقدسة، وتمالأ معهم من تمالأ من ضعاف الإيمان ومن ضعاف العقول ومن ضعاف التدبير من المسلمين على مر العصور؛ فهم دائماً لا يستطيعون الاستقلال، ولا يواجهون إلا معتمدين على حبل من الله وحبل من الناس؛ فهم يبحثون عمن يكونون تحت ظله؛ ولذلك في بروتوكولاتهم أنهم في بداية التأسيس يكونون تحت ظل بريطانيا، ثم بعد ذلك يكونون تحت ظل الولايات المتحدة الأمريكية، ثم إذا تفككت أمريكا يكونون تحت ظل دولة الهند الكبرى، وهذا تخطيطهم الذي اعتمدوا عليه؛ فهم دائماً يبحثون عن حبل من الناس مع ما كتب الله لهم، قد كتب الله لهم دولتين يفسدون فيهما فساداً كبيراً:
الدولة الأولى كانت عندما جاهد داود عليه السلام ومن معه العمالقة من أهل فلسطين، فانتصروا عليهم فأقام داود وسليمان دولة بني إسرائيل في القدس وما حولها، وهم يعلمون أنهم جاءوا مهاجرين ليسوا من أهل تلك البلاد؛ فبنوا إسرائيل جاءوا من مصر وقبل ذلك من صحراء سيناء؛ فـيعقوب عليه السلام كان يسكن في صحراء سيناء، وفيها رمي يوسف في الجب، ثم هاجر إلى مصر وفيها انتشرت ذريته، ثم جاءوا منها بعد إهلاك فرعون وأمروا بدخول أريحا فامتنعوا من ذلك واعتذروا أقبح ما قيل في الاعتذار؛ فقالوا: إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ[المائدة:22]، قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ[المائدة:24]، وقد قال أهل التفسير: هذا أقبح ما قيل في الاعتذار! فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا[المائدة:24]، فكتب الله عليهم التيه أربعين سنة يتيهون في الأرض، ثم بعد ذلك مات الجيل الذي تعود على الخنوع لفرعون وجنوده، ونشأ جيل جديد تربى في الصحاري وفي الشظف والانتقال؛ فاستطاع هؤلاء أن يتخلصوا من الضغوط النفسية واستطاعوا الجهاد، فنصر الله داود ومكن له ولكن لم تدم هذه الدولة على استقامتها كثيراً؛ فبعد أن قبض الله داود وسليمان ومن جاء على آثارهما من المصلحين قام الملوك من بني إسرائيل ففجروا في الأرض وبغوا فيها، وقد كانت سنة الله ماضية في أنه يملك على الناس أقواماً، فإذا أحسنوا استقامت لهم الرعية، وإذا أراد الله إهلاكهم يسلطهم على أنفسهم بمعصية الله والظلم في الأرض وحينئذ ينتقم الله منهم؛ كما قال الله تعالى: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً [الإسراء:16].
وأنتم تلاحظون أن هذه الأفعال عطفت بالفاء التي تقتضي الترتيب والتحقيق؛ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا[الإسراء:16]، وأمرناهم معناه: وليناهم إمارتها، وجعلناهم أمراء فيها، من: أمرّ الرجل.. فهو أمير، أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا[الإسراء:16]، مباشرة بعد تأميرهم وتوليتهم لا يبدءون بالإصلاح بل يبدءون بالفسق والعصيان؛ فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ[الإسراء:16]، مباشرة يحق عليها قول الله ووعده في الأرض، فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا[الإسراء:16]، يأتي التدمير الماحق بعد ذلك.
ووعد الله لبني إسرائيل بهاتين الدولتين تحقق لهم في الدولة الأولى فبغوا وأفسدوا في الأرض، ولم يرعوا حرمة للبلاد المقدسة فسلط الله عليهم فارس يقودهم بختنصر والرومان البيزنطيون فاقتلعوا دولتهم وأذلوهم وأهانوهم بأنواع الإهانات.
ثم بعد ذلك تعهد الله لهم بدولة أخرى في آخر الزمان وهي هذه الدولة التي قامت بوعد بلفور، وهذا الوعد هو العطاء الذي أعطاه من لا يملك لمن لا يستحق! وهذا ما يجهله كثير من الأوروبيين والأمريكان الآن، ومن شأن المسلمين اليوم أن ينبهوهم عليه، فالتصور الموجود الآن لدى الغربيين أن في فلسطين شعبين يتناحران على الأرض، فينظرون إليهما كدولتين متجاورتين بينهما حرب كما ينظرون إلى اليمن الجنوبي واليمن الشمالي قديماً، أو إلى العراق والكويت، فينظرون بهذه النظرة، وينسون أن اليهود ما جاءوا إلا قبل سبعين سنة، وإنما جاء بهم الأوروبيون وأتوا بهم من مشارق الأرض ومغاربها وجمعوهم في هذا المكان، ليس لهم أي وجود، لا منزل واحد ولا مزرعة ولا بيت؛ فلا يمكن أن يقاسوا بسكان البلد الذين ولدوا فيه، وولد فيه آباؤهم وأجدادهم وترعرعوا فيه لمدة طويلة؛ ولذلك فإن امرأة من الإنجليز كانت تقوم بدعوتهم لإقامة دولتين في فلسطين: إحداهما لأهل فلسطين والأخرى للصهاينة، وقد سألها أحد المشايخ فقال: أرأيت لو أن الألمان حين احتلوا فرنسا، استقروا في شمالها وتصدقوا على الشعب الفرنسي بجنوبها، هل يقبل الفرنسيون بهذا؟ قالت: لا؛ لأنهم غزاة ولا بد أن يخرجوا، فقال لها: ولو أن أمريكا لم تتدخل في الحرب العالمية حتى احتلت ألمانيا بريطانيا كاملة فتصدقت على البريطانيين بإسكتلندا مثلاً واحتلت باقي بريطانيا وأقامت عليه دولتها، فهل يرضى البريطانيون بهذا؟ قالت: لا، هؤلاء غزاة ظالمون، لابد أن يرجعوا إلى بلادهم التي أتوا منها، فقال: ما الفرق؟ فانتبهت إلى الخطأ، وتذكرت وعد بلفور وعرفت أن هؤلاء ليس لهم أي مكان في هذه الأرض التي يحتلونها ولا لهم وجود فيها، ولا يمكن أن يقول أحد منهم: أنا أجدادي وآبائي كانوا يملكون هذه الأرض بمقتضى الصك الفلاني، أو اشتروها من فلان أو فتحوها في وقت فلان أبداً.
والذين يريدون إخراجهم منها وقد أخرجوهم وأجلوهم وشتتوهم في أنحاء العالم من سكان الأرض الأصلية لديهم على الأقل ألف وأربعمائة سنة، وهم من سكان هذه الأرض مستقرين فيها لم يخرجوا منها يميناً ولا شمالاً، وأسلافهم وأجدادهم وعمومتهم متجذرة فيها.
إظهار قوة وجبروت شعب فلسطين وعدم استسلامهم
ومن حكمة الله: أن هذا الشعب الذي شاء الله أن يبتليه بزراعة هذا السرطان فيه شعب لا يخنع ولا يذل أبداً، إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ[المائدة:22] والجبار معناه: جذع النخلة القوي كما قال زياد بن حمل :
وجنة ما يدوم الدهر حاضرها جبارها بالندى والحل محتزم
جبارها: هو جذعها القوي.
فهم شعب جبارون لا يخنعون، وقد سمعتم ورأيتم كلام النساء والأطفال الصغار، وذلك الطفل الذي فقد عينيه بالقنابل الفسفورية، وهو في المستشفى أمام التلفزيون يتحدث بكل هدوء واسترخاء؛ مما يدل على أن هذا الشعب هو الذي يستطيع الوقوف في وجه هذا الطغيان؛ فهو مخلوق لذلك مؤهل له بحكمة الله جل جلاله.
فمن أعظم هذه المصالح: أن هذا الكيان قام في وقت سقوط الخلافة العثمانية التي كانت تجمع دار الإسلام وذمة المسلمين، ولم يبق للمسلمين رأس يجمعهم جميعاً، فالخلافة أنهيت وأهملت وأزيل أركانها وسميت بالرجل المريض، فالمشارقة والمغاربة والجنوبيون والشماليون والعرب والعجم ما الذي يجمعهم؟ لم يعد لهم ربط سياسي واحد يجمعهم بعد سقوط الخلافة، فشاء الله أن تأتي قضية فلسطين فتكون قضية المسلمين الأولى المركزية في هذا الأوان، فتكون بمثابة الخلافة للمسلمين؛ لأن الخلافة لا يقصد بها مجرد التمويل والتخطيط، فهذا يتقنه كل أحد، إنما يقصد بها الرمز الذي يجمع الكلمة ويوحد الصف، وهذا الرمز الآن يشمل المسلمين من مشرق الغرب إلى مغربه، فما من مسلم الآن في شرق الصين أو في غرب الولايات المتحدة أو في شرق اليابان إلا وهو يهتم بقضية فلسطين ويعتني بها، فإن بها رمزاً لتوحيد المسلمين وجمع كلمتهم على الحق، وشد انتباههم إلى أمتهم، وشد انتباههم إلى هويتهم، فكان ذلك بلطف الله وفضله.
ومن حكمة الله فيها: أن الله لما أراد زرع هذا السرطان الخبيث في جسم هذه الأمة لم يزرعه في طرف من الأطراف، فلو قامت دولة الصهاينة في موريتانيا أو في إريتيريا أو في إندونيسيا أو في أي طرف من الأطراف لنسيه العالم ولم يتحدث عنه كما نسي المسلمون الأندلس وصقلية وقبرص وغيرها من البلاد التي كانت يوماً من الأيام تمثل حضارة إسلامية راقية، ونسيها المسلمون نهائيا ًاليوم، فأراد الله أن يزرع هذا الكيان في القلب الذي لا ينسى، في قبلة المسلمين الثانية، وفي مهاجر أبيهم إبراهيم عليه السلام، وفي مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي المهاجر الثاني للمسلمين في آخر الزمان، فقد أخرج أصاحب السنن: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنه تكون هجرة بعد هجرة، ويوشك أن يكون خير مهاجركم مهاجر أبيكم إبراهيم عليه السلام )، فسيهاجر المسلمون في آخر الزمان عندما يضطرون من أطراف الأرض، ويطوي الله الأرض فيقصرها من أطرافها، فيجتمع المسلمون إلى الشام عندما ( ينزل المسيح بن مريم عليه السلام حكماً عدلاً عند المنارة البيضاء شرقي دمشق وقت أذان الفجر يمينه على ملك وشماله على ملك، إذا رفع رأسه تحدر منه مثل الجمان وإذا طأطأه تقاطر كأنما خرج من ديماس -والديماس الحمام- لا يراه أحد إلا قال: نبي الله، لا يحل لكافر أن يجد ريح نفسه إلا ذاب كما يذوب الملح في الماء، وإن نفسه ليبلغ ما يبلغ بصره).
هذا سلاح الدمار الشامل نفس المسيح بن مريم عليه السلام، (وإن نفسه ليبلغ ما يبلغ بصره). وهو سلاح جيني؛ لأنه قال: ( لا يحل لكافر أن يجد ريح نفسه إلا ذاب كما يذوب الملح في الماء )، فيهاجر إليه المسلمون في هذه الأرض.
وهذه الأرض وصفها الله بالبركة فهي مباركة، مع أنها رقعة صغيرة جداً، ونحن نسمع حديث الناس عن غزة وكأنها قارة؛ لكثرة ما يسمع الناس فيها من الأحداث، وما واجهت من الضرب والإبادة، فيظن من يسمع عنها أنها على قدر مساحة أستراليا أو على قدر مساحة كندا لكن كم مساحتها؟ ثلاثين كيلو متراً طولاً في ستة كيلو مترات عرضاً، هذه القطعة هي غزة.
وهذه المساحة فيها العديد من المدن: مدينة غزة، ومدينة جباليا، ومدينة بيت لاهية أو مدينة الشجاعية، وصلاح الدين، وخان يونس، وخزاعة، ورفح، ودير البلح، ومدن كثيرة جداً في هذه المساحة الصغيرة جداً، مما يدلنا على هذه البركة التي ذكرها الله جل جلاله، فإنه ذكر أنه بارك حول بيت المقدس، وهذه البركة تشمل البركة في الأرض وفي نباتها وفي خيراتها وفي بشرها أيضاً وأرضها ومدنها.
ومن حكم الله في زراعة هذا الكيان: أنه عندما سلط هؤلاء الصهاينة الذين حكمة الله في خلقهم الأذى فلله الحكمة في كل مخلوق، الله لا يخلق شيئاً عبثاً، وكل خلق إنما خلقه لفائدة بني آدم ، ولذلك قال: خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا[البقرة:29] قال ابن عباس: إما انتفاعا ًوإما اعتباراً وإما اختباراً.
فالانتفاع: مثل المأكولات والمشروبات والملبوسات والمسكونات التي ينتفع بها البشر، والاعتبار: ما ينفع عقولهم بالتفكر، فما نراه الآن من المجرات البعيدة والكواكب الكبيرة التي ليس فيها نفع لنا إلا الاهتداء في الظلام، وما نراه من أنواع المخلوقات غير الضارة، مخلوقات بحرية وغيرها، كلها خلقت للاعتبار، أي: لكي نعتبر بهذا الخلق.
والاختبار: ما خلقه الله اختباراً للبشر، مثل ما فيه أذىً، كالسموم والأوبئة والميكروبات والجراثيم، وكل ما هو ضار في الأرض يتمحضه الضرر، فحكمة الله في خلقه الاختبار، وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ[الأنبياء:35].
واليهود واضح جداً من خلال النصوص أن حكمة الله من خلقهم الاختبار والأذى للبشر، فهم أعداء الله من خلقه، قالوا يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا[المائدة:64]، وقَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ[آل عمران:181]، وقالوا: إن الله صرعه إسرائيل وخنقه حتى مد لسانه فشرط عليه ألا يعذب أحداً من ذريته إلا أياماً معدودات، رب يصرع ويخنق وهو بخيل لا يعطي شيئا ًوهو فقير لا يملك شيئاً كيف يعبد؟! من يعبده إلا مجنون.
وهم أعداء رسل الله فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ [المائدة:70]، قتلوا زكريا وقطعوه نصفين بالمنشار، وقطعوا رأس يحيى بن زكريا وأهدوه إلى بغي من بغاياهم.
وهم أعداء محمد صلى الله عليه وسلم فقد حاولوا قتله خمس مرات، مالئوا عليه المشركين، ودعاهم أبو رافع بن أبي الحقيق إلى حصنه في تدبير اغتيال النبي صلى الله عليه وسلم، ومالئوا عليه المنافقين في المدينة ودعاهم كعب بن الأشرف إلى حصنه ليقتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصعدوا له عمرو بن جحاش على دار هو يجلس في ظلها وبيده صخرة كبيرة ليرميها على رأسها، فأتاه جبريل فأخبره فقام من مكانه فوقعت الصخرة في مكانه.
وسحروه حيث سحره لبيد بن الأعصم ، ووضعوا له السم في الشاة، وكان ذلك سبب شهادته بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.
وهم أيضاً أعداء ملائكة الله، فقد جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ( يا رسول الله! من يأتيك بالوحي من الملائكة؟ قال: جبريل ، قالوا: ذلك عدونا من الملائكة؛ فأنزل الله في ذلك: مَنْ كَانَ عَدُوًّا للهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ[البقرة:98] ).
وهم أعداء كتب الله المنزلة؛ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ[النساء:46]، وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ[آل عمران:78].
وهم أعداء الاقتصاد؛ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ[المائدة:42]، وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ[النساء:161]، فهم أول من أنشأ البنوك، وهم أول من أنشأ دور القمار وهم أول من باع بالأسهم، وكل هذه الثلاثة من تدمير الاقتصاد تدميراً نهائياً، وكذلك هم أعداء البشرية كلها لأن الله يقول: وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللهُ لا يُحِبُّ المُفْسِدِينَ[المائدة:64]؛ فلذلك لا يستغرب منهم الاعتداء.
وقد أقاموا كيانهم على هذه الأرض الطاهرة المقدسة، وتمالأ معهم من تمالأ من ضعاف الإيمان ومن ضعاف العقول ومن ضعاف التدبير من المسلمين على مر العصور؛ فهم دائماً لا يستطيعون الاستقلال، ولا يواجهون إلا معتمدين على حبل من الله وحبل من الناس؛ فهم يبحثون عمن يكونون تحت ظله؛ ولذلك في بروتوكولاتهم أنهم في بداية التأسيس يكونون تحت ظل بريطانيا، ثم بعد ذلك يكونون تحت ظل الولايات المتحدة الأمريكية، ثم إذا تفككت أمريكا يكونون تحت ظل دولة الهند الكبرى، وهذا تخطيطهم الذي اعتمدوا عليه؛ فهم دائماً يبحثون عن حبل من الناس مع ما كتب الله لهم، قد كتب الله لهم دولتين يفسدون فيهما فساداً كبيراً:
الدولة الأولى كانت عندما جاهد داود عليه السلام ومن معه العمالقة من أهل فلسطين، فانتصروا عليهم فأقام داود وسليمان دولة بني إسرائيل في القدس وما حولها، وهم يعلمون أنهم جاءوا مهاجرين ليسوا من أهل تلك البلاد؛ فبنوا إسرائيل جاءوا من مصر وقبل ذلك من صحراء سيناء؛ فـيعقوب عليه السلام كان يسكن في صحراء سيناء، وفيها رمي يوسف في الجب، ثم هاجر إلى مصر وفيها انتشرت ذريته، ثم جاءوا منها بعد إهلاك فرعون وأمروا بدخول أريحا فامتنعوا من ذلك واعتذروا أقبح ما قيل في الاعتذار؛ فقالوا: إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ[المائدة:22]، قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ[المائدة:24]، وقد قال أهل التفسير: هذا أقبح ما قيل في الاعتذار! فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا[المائدة:24]، فكتب الله عليهم التيه أربعين سنة يتيهون في الأرض، ثم بعد ذلك مات الجيل الذي تعود على الخنوع لفرعون وجنوده، ونشأ جيل جديد تربى في الصحاري وفي الشظف والانتقال؛ فاستطاع هؤلاء أن يتخلصوا من الضغوط النفسية واستطاعوا الجهاد، فنصر الله داود ومكن له ولكن لم تدم هذه الدولة على استقامتها كثيراً؛ فبعد أن قبض الله داود وسليمان ومن جاء على آثارهما من المصلحين قام الملوك من بني إسرائيل ففجروا في الأرض وبغوا فيها، وقد كانت سنة الله ماضية في أنه يملك على الناس أقواماً، فإذا أحسنوا استقامت لهم الرعية، وإذا أراد الله إهلاكهم يسلطهم على أنفسهم بمعصية الله والظلم في الأرض وحينئذ ينتقم الله منهم؛ كما قال الله تعالى: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً [الإسراء:16].
وأنتم تلاحظون أن هذه الأفعال عطفت بالفاء التي تقتضي الترتيب والتحقيق؛ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا[الإسراء:16]، وأمرناهم معناه: وليناهم إمارتها، وجعلناهم أمراء فيها، من: أمرّ الرجل.. فهو أمير، أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا[الإسراء:16]، مباشرة بعد تأميرهم وتوليتهم لا يبدءون بالإصلاح بل يبدءون بالفسق والعصيان؛ فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ[الإسراء:16]، مباشرة يحق عليها قول الله ووعده في الأرض، فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا[الإسراء:16]، يأتي التدمير الماحق بعد ذلك.
ووعد الله لبني إسرائيل بهاتين الدولتين تحقق لهم في الدولة الأولى فبغوا وأفسدوا في الأرض، ولم يرعوا حرمة للبلاد المقدسة فسلط الله عليهم فارس يقودهم بختنصر والرومان البيزنطيون فاقتلعوا دولتهم وأذلوهم وأهانوهم بأنواع الإهانات.
ثم بعد ذلك تعهد الله لهم بدولة أخرى في آخر الزمان وهي هذه الدولة التي قامت بوعد بلفور، وهذا الوعد هو العطاء الذي أعطاه من لا يملك لمن لا يستحق! وهذا ما يجهله كثير من الأوروبيين والأمريكان الآن، ومن شأن المسلمين اليوم أن ينبهوهم عليه، فالتصور الموجود الآن لدى الغربيين أن في فلسطين شعبين يتناحران على الأرض، فينظرون إليهما كدولتين متجاورتين بينهما حرب كما ينظرون إلى اليمن الجنوبي واليمن الشمالي قديماً، أو إلى العراق والكويت، فينظرون بهذه النظرة، وينسون أن اليهود ما جاءوا إلا قبل سبعين سنة، وإنما جاء بهم الأوروبيون وأتوا بهم من مشارق الأرض ومغاربها وجمعوهم في هذا المكان، ليس لهم أي وجود، لا منزل واحد ولا مزرعة ولا بيت؛ فلا يمكن أن يقاسوا بسكان البلد الذين ولدوا فيه، وولد فيه آباؤهم وأجدادهم وترعرعوا فيه لمدة طويلة؛ ولذلك فإن امرأة من الإنجليز كانت تقوم بدعوتهم لإقامة دولتين في فلسطين: إحداهما لأهل فلسطين والأخرى للصهاينة، وقد سألها أحد المشايخ فقال: أرأيت لو أن الألمان حين احتلوا فرنسا، استقروا في شمالها وتصدقوا على الشعب الفرنسي بجنوبها، هل يقبل الفرنسيون بهذا؟ قالت: لا؛ لأنهم غزاة ولا بد أن يخرجوا، فقال لها: ولو أن أمريكا لم تتدخل في الحرب العالمية حتى احتلت ألمانيا بريطانيا كاملة فتصدقت على البريطانيين بإسكتلندا مثلاً واحتلت باقي بريطانيا وأقامت عليه دولتها، فهل يرضى البريطانيون بهذا؟ قالت: لا، هؤلاء غزاة ظالمون، لابد أن يرجعوا إلى بلادهم التي أتوا منها، فقال: ما الفرق؟ فانتبهت إلى الخطأ، وتذكرت وعد بلفور وعرفت أن هؤلاء ليس لهم أي مكان في هذه الأرض التي يحتلونها ولا لهم وجود فيها، ولا يمكن أن يقول أحد منهم: أنا أجدادي وآبائي كانوا يملكون هذه الأرض بمقتضى الصك الفلاني، أو اشتروها من فلان أو فتحوها في وقت فلان أبداً.
والذين يريدون إخراجهم منها وقد أخرجوهم وأجلوهم وشتتوهم في أنحاء العالم من سكان الأرض الأصلية لديهم على الأقل ألف وأربعمائة سنة، وهم من سكان هذه الأرض مستقرين فيها لم يخرجوا منها يميناً ولا شمالاً، وأسلافهم وأجدادهم وعمومتهم متجذرة فيها.
ومن حكمة الله: أن هذا الشعب الذي شاء الله أن يبتليه بزراعة هذا السرطان فيه شعب لا يخنع ولا يذل أبداً، إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ[المائدة:22] والجبار معناه: جذع النخلة القوي كما قال زياد بن حمل :
وجنة ما يدوم الدهر حاضرها جبارها بالندى والحل محتزم
جبارها: هو جذعها القوي.
فهم شعب جبارون لا يخنعون، وقد سمعتم ورأيتم كلام النساء والأطفال الصغار، وذلك الطفل الذي فقد عينيه بالقنابل الفسفورية، وهو في المستشفى أمام التلفزيون يتحدث بكل هدوء واسترخاء؛ مما يدل على أن هذا الشعب هو الذي يستطيع الوقوف في وجه هذا الطغيان؛ فهو مخلوق لذلك مؤهل له بحكمة الله جل جلاله.
استقر اليهود في فلسطين وعاثوا في الأرض فساداً في دولتهم الثانية كما وعدهم الله بذلك، لكن لن يدوم هذا أبداً؛ فالدنيا مبنية على التحول والانتقال وهي عرض سيال، وبقاء حال من المحال؛ فلا يمكن أن يستقر فيها حال على ما هو أبداً، وتذكروا قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما وقف على ضجنان، وهو جبل في شمال مكة في نهاية حجه قال: لا إله إلا الله وحده! كنت أرعى إبلاً للـخطاب على ضجنان فكنت إذا أبطأت ضربني، وقال: ضيعت، وإذا عجلت ضربني وقال: لم تعش، ولقد أصبحت وأمسيت وليس بيني وبين الله أحد أخشاه، ثم أنشأ يقول:
لا شيء مما ترى تبقى بشاشته يبقى الإله ويفنى المال والولد
لم تغن عن قيصر يوماً خزائنه والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا
ولا سليمان إذ تجري الرياح له والجن والإنس فيما بينها ترد
أين الملوك التي كانت بعزتها من كل صوب إليها وافد يفد
حوض هنالك مورود بلا كذب لا بد من ورده يوماً كما وردوا
الدليل من الكتاب على سقوط دولة اليهود
لا بد أن تسقط هذه الدولة اليهودية، وقد وعد الله بذلك فقال تعالى: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً * عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً [الإسراء:7-8].
والمفسرون الأوائل ينطلقون من واقعهم في ذلك الزمان فيفسرون الضمائر على خلاف ما نراه نحن في واقعنا اليوم، فنحن نعلم أن اليهود لم تقم لهم دولة بعد تلك الدولة التي أقامها داود وسليمان ، ولم تكن لهم دولة قبل ذلك، فما لهم دولة في التاريخ إلا هذه فهي الثانية قطعاً، وهذا من الأمور المقطوع بها في التاريخ؛ فإذاً هذا هو الوعد الثاني.
وقول الله: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ [الإسراء:7] أي: حق عليها وعد الله بسقوطها، لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ[الإسراء:7]، أي: ليسوء به اليهود وجوه المسلمين، وقد فعلوا؛ فقد رأيتم ما حصل في هذه الأيام الثلاثة والعشرين فقد ساءوا وجوه المسلمين حقيقة؛ وَلِيَدْخُلُوا المَسْجِدَ[الإسراء:7] أي: المسجد الأقصى، والأنفاق الآن من تحته والمؤامرة عليه قائمة على أشدها، كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا[الإسراء:7]، (ليتبروا) أي: يدمروا ويهلكوا، مَا عَلَوْا[الإسراء:7]، أي: مدة علوهم فتكون (ما) موصولاً حرفياً نائباً عن ظرف الزمان، ويمكن أن تكون موصولاً اسمياً بمعنى (الذي) أي: الذي علوه، ويكون العائد محذوفاً؛ لأنه منصوب بفعل متصرف فيقاس حذفه، ويكون معناه: ليتبروا الذي علوه من الأرض تتبيراً، أي: إهلاكاً، وقد رأيتم الجرافات كيف تعمل في هدم المساجد والمدارس والبيوت، ورأيتم آثار هذا الدمار الذي لا يقارن إلا بالهزات الأرضية المدمرة، مثل زلزال ذمار في اليمن أو زلزال ... في الجزائر أو نحو ذلك، ولا يمكن أن تقارن بأي شيء آخر، وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً [الإسراء:7].
عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ [الإسراء:8]، (عسى) من الله واجب، وهذا خطاب لهذه الأمة: عسى ربكم يا معشر المسلمين أن يرحمكم؛ وذلك بإزالة هذا الطغيان عنكم، وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا[الإسراء:8]: أي: إن عدتم إلى الجهاد في سبيل الله عدنا إلى ما عودناكم من النصر والتمكين، وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا[الإسراء:8]: أي: حصرناهم فيها حصراً لا يستطيعون الخلاص منه، والحصير معناه الحبس فحصر فلان فلاناً، أي: منعه، فمعناه الحبس الذي لا يستطيع الإنسان خلاصه.
الدليل من السنة على سقوط دولة اليهود
وقد جاء في الأحاديث ما يدل على سيناريو نهاية هذه الدولة، فمن ذلك ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من خراب المدينة في آخر الزمان، فقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لتتركن المدينة على خير ما كانت لا يغشاها إلا العوافي، قيل: وما العوافي يا أبا هريرة؟ قال: السباع، حتى يأتي ذئب أبيض فيغذي على المنبر لا يرده أحد، وآخر من يدخلها راعيان من مزينة ينعقان بغنميهما حتى إذا بلغا ثنية الوداع انكبا على وجوههما ).
وفي صحيح البخاري من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما أنه قال: (وددت لو كنت سألت رسول الله صل الله عليه وسلم ما الذي يخرج أهل المدينة من المدينة؟)، ولكن الله لم يشأ ذلك؛ لأنه لو سأله لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبين لهم شيئاً لا تدركه عقولهم ولا تصل إليه، فلم يكونوا يعرفون سلاحاً لا يهدم البيوت ولا الشوارع ولا يقتلع الشجر ولا النبات ولا يغير ألوان المنازل، ومع ذلك يقتل البشر والحيوان، لم يكن هذا السلاح موجوداً في ذلك الوقت، وقد وجد الآن السلاح الذي يفعل هذا الفعل، فالغازات السامة لا تهدم البيوت ولا المنازل ولا تغير ألوانها وما فيها ولا تغير الشوارع ولا تهلك الشجر، ولكنها تقتل البشر والحيوان، فلذلك قال: (لتتركنَّ المدينة على خير ما كانت)، لم يتغير فيها شيء من الشوارع والمباني والـأنفاق والطرق، ( لا يغشاها إلا العوافي ).
وجاء في حديث آخر: (خراب المدينة فتح بيت المقدس، وفتح بيت المقدس فتح رومية، وفتح القسطنطينية خروج الدجال )، وهذا الحديث يربط خراب المدينة بفتح بيت المقدس، مما يدل على أن خراب المدينة يكون منقذاً لليهود فهم الذين يسعون لخرابها دائماً، وإذا فعلوا فستقوم الخلافة الراشدة التي وعد بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر الزمان كما في حديث جابر بن سمرة بن جندب عند البخاري وغيره: (لا تقوم الساعة حتى يقوم اثنا عشر خليفة، وقال كلمة فأسر بها، فسألت أبي وكان بيني وبينه فقلت: ماذا قال؟ قال: كلهم من قريش).
وكذلك الأخبار الواردة عن الخلافة آخر الزمان كحديث عبيدة عند أحمد في المسند وغيره: ( تكون فيكم النبوة ما شاء الله لها أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهج النبوة ما شاء الله لها أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً ما شاء الله لها أن تكون ثم أن يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرياً ما شاء الله لها أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهج النبوة وسكت).
فهذا الحديث تضمن خمس مراحل من مراحل السياسة في هذا الأمة: قيادة النبوة معصومة، ثم الخلافة التي هي على منهج، ثم الملك العاض الذي يقتضي جمع الدار وجمع الكلمة خلافة على الأقل وإن كان فيه تضييق وشدة على الناس لكن قال: (ملكاً عاضاً) وهذا يشهد دولة بني أمية ودولة بني العباس ودولة بني عثمان والدول الصغيرة التي كانت بين ذلك، ثم قال: ( ثم تكون ملكاً جبرياً )، والملك الجبري لا يمكن أن يكون شامل لجميع أرجاء الأمة، بل لابد أن يتفرق أهلها فيه كالواقع اليوم فكل بلد فيه حكم مستقل لا يجمعه جميعاً حكم واحد.
(ما شاء الله لها أن تكون ثم تكون خلافة على منهج النبوة وسكت)، فهذا سيتحقق لا محالة؛ لأنه وعد الله في القرآن، فقد قال الله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ [النور:55].
استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
خطورة المتاجرة بكلمة الحق | 4821 استماع |
بشائر النصر | 4288 استماع |
أسئلة عامة [2] | 4132 استماع |
المسؤولية في الإسلام | 4060 استماع |
كيف نستقبل رمضان [1] | 4000 استماع |
نواقض الإيمان [2] | 3947 استماع |
عداوة الشيطان | 3934 استماع |
اللغة العربية | 3931 استماع |
المسابقة إلى الخيرات | 3907 استماع |
القضاء في الإسلام | 3897 استماع |