حول اتهام الإمام البخاري بالنصب لتجنُّب الرواية عن الإمام جعفر بن محمد الصادق، وأشياء أخرى - سعد الشيخ
مدة
قراءة المادة :
14 دقائق
.
خطر المترفّضين المنتسبين إلى أهل السُّنَّةِ أشدُّ من خطر الرافضة؛ لأنهم يتترسون بمتراس التصوُّف وحب أهل البيت ويستطيل بهم الروافضُ على المحدثين، وهم معروفون يتزعمهم الغماريون والمتأثرون بهم، وقد طال طعنهم إلى الإمام البخاري وكتابه الجامع الصحيح، فوصفه كبيرهم الذي علمهم الرفض، أعني: أحمد الغماري، بأنه كان فيه نوع انحراف عن أهل البيت وميل لأعدائهم، واستخلص بأنه نويصبي صغير! وقال أخوه عبد العزيز: معاذ الله أن يكون الكتاب الذي يخرج حديث حريز بن عثمان وعمران بن حطان مقتصرًا على الصحيح، ولو أجمع على ذلك الإنس والجان! مع أنه لما استمات في توثيق الحارث الأعور رجع إلى قاعدة البخاري ونقاد الحديث في التفريق بين التوثيق والابتداع! لكنه لما أطال لسانه على البخاري لتخريج حديث حريز؛ نسي قاعدته في الحارث الأعور! ومدار شغبهم على ثلاث شبهات:
1- تحايد الإمام البخاري عن بعض رموز أهل البيت وعلى رأسهم إمام أهل البيت وفقيههم جعفر بن محمد الصادق؛ فلم يخرج له في صحيحه شيئًا ولم يحتج به مع احتجاجه بمن دونه في العدالة والضبط!
2- وتنكّب الرواية عن أعيان شيعة أهل البيت ومحبيهم مع احتجاجه بأعدائهم من رموز النواصب ومبغضي علي رضي الله عنه.
3- وكتَمَ كثيرًا من فضائل أمير المؤمنين علي وأهل بيته.
هذه خلاصة شبهات القوم التي أطال فيها المترفِّض ابن عقيل الحضرمي وأبان عن ضعف تحصيله بالصناعة الحديثية وبأسس توثيق الرواة وتجريحهم عند نقاد الحديث وأظهر عن دسيسة باطنه وسوء قصده وسخف عقله، لكن القوم لفرط جهلهم ينقادون لكل رويبضة يغذّي نفوسهم المريضة بالتعصب الطائفي البغيض!
وهذه شبهات متهافتة ساقطة منشؤها الجهل بمنهج الإمام البخاري في اختيار الرواة الذي لا يرتبط بعقائدهم وأفكارهم ما داموا في إطار الإسلام والصدق وضبط الحديث، وهذا أشهر من أن أتكلف للتدليل عليه، لكننا في زمنٍ نكدٍ نضطر فيه إلى توضيح الواضحات، والله المستعان.
وبما أنَّ هؤلاء المترفّضة من أشباه الأنعام الذين لا يفقهون دقائق أسس اختيار الرواة عند البخاري، وأسباب ترك بعض الثقات مع الاحتجاج ببعض الضعفاء لنكات حديثية وفقهية؛ فسأسلك معهم أسلوبًا يفهمونه، فأقول:
• إن لم يخرج البخاري لجعفر في صحيحه، فإنه لم يخرج لمن هم خير من جعفر، كبعض الصحابة رضي الله عنه، وغالب مادة الدارقطني في الإلزامات هي لترك البخاري أحاديث الوحدان من الصحابة وتجاوز عددهم سبعون صحابيًا، ولم يخرج أيضًا لبعض أعيان أهل السُّنَّة وحفّاظهم وبعضُهم أتقن من جعفر بمراحل، ومنهم مَن أخرج عنه حديثًا أو حديثين فقط! وبعضُهم استشهد بهم ولم يحتج بهم، فلم يخرّج مثلًا:
1- لرأس أهل السُّنَّةِ وإمامهم أحمد بن حنبل إلا حديثًا واحدًا وآخر بواسطة!
2- ولم يرو لإمام أهل الجرح والتعديل: يحيى بن معين إلا حديثًا واحدًا مسندًا توبع عليه، وأثران موقوفان قرنه في أحدهما بصدقة بن الفضل!
3- ولم يحتج بنُعَيم بن حمّاد وإنما روى له مقرونًا بغيره في موضعين، وقد كان نُعيم صلبًا في السُّنَّةِ شديدًا على الجهمية وعلى أهل الرأي، ومات في محنة القرآن في الحبس وأوصى أن يُدفن في قيوده، وقال: إني مخاصم، ومع أنه شيخ البخاري وأثنى على حسن اعتقاده واحتج بكلامه في "خلق أفعال العباد" فلم يحتج به في الصحيح، مع احتجاجه بشيوخه الروافض الخبثاء الذين كانوا يجاهرون بشتم عثمان ومعاوية، رضي الله عنهما، كما سيأتي!
4- ولم يخرّج للشافعي شيئًا حتى في روايته لأحاديث الموطأ، مع أن الشافعي يحفظ حديث مالك جيدًا، وهذه من الأمور التي استغربها كثيرٌ من أهل العلم في صنيع الإمام البخاري، حتى كتب في هذه المسألة الخطيب البغدادي رسالة أسماها: "مسألة الاحتجاج بالشافعي"، وتعرض لهذه المسألة تحت عنوان: "سبب ترك البخاري الرواية عن الشافعي رحمهما الله".
5- ولم يخرّج لأبي عُبَيد القاسم بن سلَّام، وهو إمامٌ كبيرٌ يكفي في بيان منزلته أنَّ ابن معين لما سُئل عن الكتابة عن أبي عبيد والسماع منه؛ تبسم، ثم قال: «مثلي يُسأل عن أبي عبيد! أبو عبيد يُسأل عن الناس!».
وقال عباس بن محمد الدوري: سمعت أحمد بن حنبل يقول: «أبو عبيد! أبو عبيد! ممن يزداد عندنا كل يوم خيرًا».
ومع منزلة أبي عبيد العظيمة؛ فإن البخاري لم يحتج به في صحيحه، مع أنه ذكره في كتاب "القراءة خلف الإمام" وقرنه بكبار النقاد محتجًا بهم، فقال: «رأيت أحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، وإسحاق بن راهويه، وأبا عبيد، وعامة أصحابنا يحتجون بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، ما تركه أحد من المسلمين».
قال البخاري: «من الناس بعدهم؟»!
6- ولم يحتج بحمّاد بن سلمة، مع أنه من أثبت الناس في ثابت البناني، وروايته عن ثابت عن أنس بن مالك من أصح الأسانيد عند أحمد وابن معين وغيرهما، وقد روى عنه الأئمة الكبار مثل: يحيى بن القطان، وابن مهدي، وابن المبارك، ومالك، والثوري، وهما من أقرانه، وشعبة وهو أسنُّ منه، وهو ثقة من أصلب الناس في السُّنَّة؛ لذلك قال أحمد وابن معين وابن المديني: «من ذكره بسوء فاتهمه على الإسلام؛ فإنه كان شديدًا على المبتدعة»، وأثنى عليه الأئمة ثناء عظيمًا، قال الإمام أحمد: «حماد بن سلمة لا أعلم أحدًا أروى في الرد على أهل البدع منه».
وقال حجاج بن المنهال: «حدثنا حماد بن سلمة، وكان من أئمة الدين».
وكان حماد بن سلمة محل إجلال وتقدير عند نقاد أهل السنة، بل كان الناقد يخاف أن يتكلم فيه لجلالته وهيبته، فقد حكى أبو الوليد الباجي: «سُئل النسائي عن حماد بن سلمة؛ فقال: لا بأس به، وقد كان قبل ذلك قال فيه: ثقة.
قال القاسم بن مسعدة: فكلّمتُه فيه، فقال: ومن يجترئ يتكلم فيه!».
وكان مع صلابته في السُّنَّة وإتقانه لحديث ثابت البناني، مع ذلك لم يحتج به الإمام البخاري في صحيحه حتى عيب عليه ذلك أشد العيب وعرَّض به ابن حبان واتهمه بعدم إنصافه! قال الحافظ ابن حجر في التهذيب: «عرَّض ابنُ حبان بالبخاري لمجانبته حديث حماد بن سلمة، حيث يقول: لم يُنصف من عدل عن الاحتجاج به إلى الاحتجاج بفُلَيح وعبد الرحمن بن عبد الله بن دينار».
7- ولم يخرّج البخاري أيضًا: لميمون بن مهران، ولا لمحمد بن رُمح، ولا لأبي داود الطيالسي، ولا لداود بن أبي هند ...
ولا لجماعة من الأثبات، بل لم يخرّج لكثير من الصحابة، فكان ماذا؟!
• وإذا احتج البخاريُّ ببعض رموز النواصب من أعداء أهل البيت، فقد احتج أيضًا ببعض رموز الروافض وغلاة الشيعة من أعداء الصحابة! وبعضهم من شيوخه الذين وقف على بدعتهم بنفسه وسمع شتائمهم للصحابة بأذنيه ولم يمنعه ذلك من الاحتجاج بهم! ومن ذلك: ما ذكره الذهبي في السير عن أبي أحمد الحاكم قال: «حدثنا الحسين الغازي، قال: سألتُ البخاريَّ عن أبي غسان (النهدي مالك بن إسماعيل)، قال: وعن ماذا تسأل؟ قلت: التشيُّع، فقال: هو على مذهب أهل بلده، ولو رأيتم عُبَيد الله بن موسى، وأبا نُعَيم، وجماعة مشايخنا الكوفيين؛ لما سألتمونا عن أبي غسان!
قلت (الذهبي): وقد كان أبو نُعَيم، وعُبَيد الله معظِّمين لأبي بكر وعمر، وإنما ينالان من معاوية وذويه، رضي الله عن جميع الصحابة».
قلت: وأبو غسان الذي استصغر البخاري غلوه أمام غلو شيوخه الآخرين؛ كان شديد التشيع لكنه لم يكن شتامًا، لذلك استصغره البخاري أمام شيخه الآخر عبيد الله بن موسى العبسي! الذي كان رافضيًا خبيثًا شتّامًا، وقد أكثر عنه البخاري في صحيحه! قال ابن منده: «وكان معروفًا بالرفض، لم يدع أحدًا اسمه معاوية يدخل داره.
فقيل: دخل عليه معاوية بن صالح الأشعري، فقال: ما اسمك؟ قال: معاوية.
قال: والله لا حدّثتُكَ، ولا حدّثتُ قومًا أنت فيهم».
- ومن شيوخه الغلاة أيضًا: خالد القطواني، قال صالح جزرة: «ثقة إلا أنه كان متهمًا بالغلو في التشيع».
ومن غلوه ما قاله أبو بكر الأَعين: «قلت له: عندك أحاديث في مناقب الصحابة؟ قال: قل في المثالب أو المثاقب؛ يعني بالمثلثة لا بالنون».
- ومن شيوخه أيضًا: عبّاد بن يعقوب الرواجني، وكان شيعيًا مفرطًا غاليًا بل نسب إلى الرفض، وهو الذي روى حديث: «إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه»! قال صالح جزرة: «كان عبّاد يشتم عثمان رضي الله عنه، وسمعته يقول: الله أعدلُ من أن يُدخل طلحة والزبير الجن َّة، قاتلا عليًا بعد أن بايعاه».
وقال ابن جرير: «سمعته يقول: من لم يبرأ في صلاته كل يوم من أعداء آل محمد؛ حُشر معهم».
وقال الذهبي: «من غلاة الشيعة ورؤوس البدع».
- ومن شيوخه أيضًا: علي بن الجعد، وكان شيعيًا غاليًا يسيء القول في عثمان ومعاوية، وقد أدركه مسلم فأعرض عنه ولم يخرج عنه شيئًا.
قال العقيلي: «قلت لعبد الله بن أحمد بن حنبل: لمَ لمْ تكتب عن علي بن الجعد؟ فقال: نهاني أبي أن أذهب إليه، فكان يبلغه عنه أنه تناول أصحاب النبي ».
وقال أبو داود: «وُسم بميسم سوء، قال: ما ضرّني أن يعذّب الله معاوية، وقال: ابن عمر ذاك الصبي».
وقال هارون بن سفيان المستملي، المعروف بالديك: «كنت عند علي بن الجعد، فذكر عثمان بن عفان، فقال: أخذ من بيت المال مائة ألف درهم بغير حق.
فقلت: لا والله ما أخذها، ولئن كان أخذها ما أخذها إلا بحق، قال: لا والله ما أخذها إلا بغير حق.
قلت: لا والله ما أخذها إلا بحق».
هؤلاء جماعةٌ من شيوخه الغلاة، أما من فوقهم من غلاة الشيعة والروافض فحدّث ولا حرج، وقد بلغ عدد رواة الشيعة الذين روى لهم البخاري (39) راويًا، سبعةٌ منهم روى لهم تعليقًا، ووافقه مسلم على الاحتجاج بـــ (35) راويًا منهم، والغلاة منهم (15) راويًا، بعضهم نُسب للرفض وشتم الصحابة وتكفير بعض أعيانهم كعثمان ومعاوية، وعدد شيوخه المباشرين ثمانية وأكثرهم من غلاة الشيعة بل نُسب بعضهم للرفض، وبعض الرواة الذين احتج بهم كانوا رأسًا في التشيع مثل أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية، إليه تُنسب فرقة الهاشمية؛ وهي إحدى فِرق الكيسانية، ثم يأتي مترفض مطموس البصر والبصيرة ويقول: البخاري فيه نصبٌ وعداءٌ لأهل البيت؛ لأنه يحتج بالنواصب ويعرض عن شيعة أهل البيت!
* أما دعوى كتمانه لكثير من فضائل علي وأهل بيته، فهذه كذبةٌ صلعاء، والإمام البخاري اقتصر على ما صح من فضائلهم، وأعرض عن المناكير والضعاف التي اغتر بظاهر أسانيدها كثير من المتأخرين من ذوي النفوس الرخوة، بل أطلق بعضهم تواتر أخبار مروية من طرق منكرة وضعيفة على طريقة المتكلمين والأصوليين في عدِّ كل ما تعددت طرقه من الأخبار متواترًا ولو كانت مروية بأسانيد منكرة ومتهافتة!
وقد عقد الإمام البخاري أبوابًا في فضائل علي وأهل بيته، ومن ذلك:
1- «باب مناقب علي بن أبي طالب القرشي الهاشمي أبي الحسن رضي الله عنه»، أورد تحته جملة من فضائله الثابتة، ثم أورد فضائل بقية أهل بيته مفردًا مناقبهم؛ فقال:
2- «باب مناقب قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنقبة فاطمة عليها السلام بنت النبي صلى الله عليه وسلم».
3- «باب مناقب الحسن والحسين رضي الله عنهما».
4- «باب مناقب فاطمة عليها السلام».
وساق لكل واحدٍ منهم ما صح من فضائلهم ومناقبهم رضي الله عنهم وأرضاهم.
* فإن لم يقنع المترفّضون بما رواه البخاري في فضائل علي وأهل بيته وجعلوا ذلك سببًا في تهمته بالانحراف عنه، فماذا يقولون في بعض السابقين الأولين بل في بعض المبشرين الذين لم يخرج البخاري في فضائلهم شيئًا!
أفلا يعلم هؤلاء المنتحلون للعلم أن الإمام البخاري لم يخرج في فضائل عبد الرحمن بن عوف، وسعيد بن زيد شيئًا! بل ألا يعلم هؤلاء الذين ينسبون الإمام البخاري إلى الميل إلى أعداء أهل البيت أنه لم يذكر في فضائل معاوية شيئًا! بل عقد في كتاب مناقب الصحابة: "باب ذكر معاوية" ثم ذكر شهادة ابن عباس له بالفقه، ولم يذكر حديثًا واحدًا في فضائله! مع أنه قد ورد أحاديث كثيرة في فضائل معاوية وإن كان في بعضها مقالًا لكنهم يتسامحون في رواية الفضائل، فكان يمكن للبخاري أن يخرج في فضائل معاوية ما يتسامحون في روايته في هذا الباب من دون أن ينكر عليه أحد، لو أنه كان ميّالًا لأعداء علي كما يتخرّص به المترفضون!