شرح عقيدة السلف وأصحاب الحديث للصابوني [14]


الحلقة مفرغة

أهل السنة وأصحاب الحديث يحرمون المسكرات

قال الإمام المؤلف رحمه الله تعالى:

[ ويحرم أصحاب الحديث المسكر من الأشربة المتخذة من العنب أو الزبيب أو التمر أو العسل أو الذرة أو غير ذلك مما يسكر، يحرمون قليله وكثيره، ويجتنبونه وينجسونه ويوجبون به الحد ].

أي: يحلون ما أحل الله ويحرمون ما حرم الله، ويتأدبون بالآداب الشرعية الواجبة والمستحبة.

وأصحاب الحديث هم في مقدمة أهل السنة والجماعة وهم أهل الحق، وهم الفرقة الناجية، وتشمل هذه الفرقة كل من عمل بالسنة واجتنب البدعة، سواءً كان مزارعاً أو تاجراً أو صانعاً أو حداداً أو جزاراً أو خياطاً، فأهل السنة والجماعة والفرقة الناجية هم الصحابة والتابعون والأئمة والعلماء وفي مقدمتهم أهل الحديث.

فأصحاب الحديث يحرمون المسكر من الأشربة المتخذة من العنب أو الزبيب أو التمر أو العسل أو الذرة أو غير ذلك مما يسكر، يحرمون قليله وكثيره؛ لأنهم يعملون بالسنة، فقد ثبت في الأحاديث الصحيحة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كل مسكر)، وقال عليه الصلاة والسلام: (كل مسكر خمر وكل مسكر حرام) وعلى هذا فكل مسكر حرام، وهو من الخمر، سواء كان مأكولاً أو مشروباً أو مشموماً، وكانت الخمر تتخذ في الأزمنة القديمة من العنب، فيعصر العنب، فإذا مضى عليه ثلاثة أيام وهو في شدة الحر، قذف بالزبد وتخمر وصار خمراً.

وأحياناً يؤخذ من التمر، ويسمونه المريس، فيوضع في الماء لكي يكون حالياً، فإذا جلس ثلاثة أيام في الحر تخمر.

وأحياناً يؤخذ من العسل، وأحياناً من الذرة، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يعصر له العصير فيشربه اليوم الأول ومن الغد فإذا كان في اليوم الثالث صبه وأهراقه أو سقاه الخادم خشية أن يتخمر، ومعلوم أن الخادم يتأمل وينظر إليه، وذلك في شدة الحر، لكن العصير الآن إذا جعل في الثلاجة لا يتخمر، فإذا ترك في شدة الحر تخمر، وظهرت أنواع جديدة من الخمور منها: المأكول والمشروب، وقد تكون أقراصاً، وقد تكون بالشم، فكل ما يسكر فهو حرام لقوله صلى الله عليه وسلم: (كل مسكر خمر)، فهذا من جوامع الكلم الذي أوتيه النبي صلى الله عليه وسلم، وكل من صيغ العموم.

وجمهور العلماء على أن الخمر من كل شراب، وذهب الإمام أبو حنيفة رحمه الله إلى أن الخمر لا تكون إلا من عصير العنب، والصواب: أن الصفة عامة في العنب وفي غيره.

وللخمر أسماء كثيرة كما ذكر العلماء، منها: السكر، وتسمى الجفن، والجعة، والمزر، والبزر، والسكركة، والفضيخ، والطلاء، والباذق.

وفي الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها)، وفي الحديث الذي رواه البخاري معلقاً: (ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف)، فقوله: (الحر) أي: الفرج يعني: الزنا.

وقوله: (والمعازف) هي آلات الغناء.

وفي الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليشربن أناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها، يعزف على رءوسهم بالمعازف والقينات والمغنيات يخسف الله بهم الأرض، ويجعل منهم القردة والخنازير) رواه ابن ماجة ولا بأس بسنده.

وقوله: (يحرمون قليله وكثيرة ويجتنبونه) أي: يبتعدون عنه، وفي النسخة الأخرى (ينجسونه) أي: يرون أنه نجس، وهذه مسألة خلافية بين أهل العلم هل الخمر نجس أو ليس بنجس؟! فالجمهور على أنه نجس، واستدلوا بقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ [المائدة:90].

وذهب بعض العلماء إلى أنه ليس بنجس، وقالوا: لا يلزم من التحريم النجاسة، واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإراقتها لما حرمت فملأت سكك المدينة، والناس يمشون إلى المسجد حافين، فيطؤونها ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بغسل أرجلهم، فدل ذلك على أنها ليست نجسة، وعلى كل حال فهي محرمة سواء كانت نجسة أو ليست نجسة.

وقوله: (ويوجبون به الحد) أي: من شرب الخمر وثبت عليه ذلك، فإنه يقام عليه الحد أربعين جلدة أو ثمانين جلدة.

فحد شارب الخمر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين جلدة، وكذلك في عهد أبي بكر ، أما في آخر عهد عمر فإنه جلد ثمانين جلدة، وأخذ الناس من بعده بذلك.

أهل الحديث يسارعون إلى إقامة الصلوات

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ويرون المسارعة إلى أداء الصلوات، وإقامتها في أوائل الأوقات أفضل من تأخيرها إلى أواخر الأوقات إحرازاً للأجور الجميلة بها والمثوبات ].

أهل السنة والجماعة يرون المسارعة إلى أداء الصلوات عملاً بقول الله تعالى: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238]، وقوله سبحانه وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:277]، وقوله تعالى على لسان موسى: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى [طه:84] جماعة في المساجد وإقامتها في أوائل الأوقات، فإن ذلك أفضل من تأخيرها إلى آخر الأوقات.

ولما جاء في الأحاديث الصحيحة من الحث على المسارعة إلى أداء الصلاة في أول وقتها فإن ذلك أفضل وفي الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أي الأعمال أفضل؟ قال: الصلاة على وقتها) وفي رواية: (والصلاة في أول وقتها).

وجوب قراءة الفاتحة في حق الإمام والمنفرد عند أهل السنة

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ويوجبون قراءة فاتحة الكتاب خلف الإمام ].

وقراءة الفاتحة ركن في حق الإمام والمنفرد بالاتفاق، فلا تصح صلاة أحدهما إلا بقراءتها في كل ركعة، فلو تركها الإمام أو المنفرد في ركعة من الركعات لم تصح صلاتهما، لبطلان هذه الركعة إلا أن يستأنفها.

أما قراءة المأموم ففيها خلاف بين أهل العلم على أربعة أقوال: فمن العلماء من قال بوجوب قراءتها مطلقاً في السرية والجهرية.

ومنهم من قال: لا تجب لا في السرية ولا في الجهرية، وهو مذهب الإمام أبي حنيفة واستدلوا بحديث: (من كان له إمام فقرائته له قراءة)، لكنه حديث ضعيف عند أهل العلم.

ومن العلماء من قال: تجب على المأموم إلا إذا أدرك الإمام راكعاً فإنها تسقط عنه، لحديث أبي بكرة : (أنه جاء والنبي صلى الله عليه وسلم راكع فركع دون الصف ثم دب دبيباً حتى وقف في الصف، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته قال: زادك الله حرصاً ولا تعد) ولم يأمره بقضاء الركعة فدل على أنه أدركها.

وذهب آخرون من أهل العلم: إلى أنه إذا أدرك الإمام راكعاً فإنه تفوته الركعة؛ لأنه لم يقرأ الفاتحة، فلابد من قراءتها وهو اختيار الإمام البخاري رحمه الله، وألف في هذا جزء القراءة خلف الإمام، فتكون قراءة الفاتحة في حق المأموم فيها أربعة أقوال:

القول الأول: أنها لا تجب لا في السرية ولا في الجهرية، وهذا أضعفها.

القول الثاني: أنها تجب في السرية والجهرية إلا إذا أدرك الإمام راكعاً، فإنها تسقط عنه.

القول الثالث: أنها تجب في السرية دون الجهرية.

القول الرابع: أنها تجب في السرية والجهرية، وإذا أدرك الإمام راكعاً فإنه لا يدرك الركعة.

والراجح أنها تجب على المأموم مطلقاً في السرية والجهرية، إلا إذا أدرك الإمام راكعاً فإنها تسقط عنه وهو القول الثاني، وهي في حق المأموم واجب مخفف، بحيث إذا نسيها سقطت عنه، أو إذا أدرك الإمام راكعاً، أو أدركه في آخر ركعة فإنها تسقط عنه، أو قلد من يقول أنها ليست واجبة، والدليل على هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي لا بأس بسنده: (لعلكم تقرءون خلف إمامكم؟! قالوا: نعم يا رسول الله! قال: فلا تفعلوا إلا بأم القرآن، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها) ويكون مخصصاً لعموم قول الله تعالى: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا [الأعراف:204] أي: إلا الفاتحة فإنها مستثناة فتقرأ في الصلاة، وحديث: (وإذا قرأ فأنصتوا) أي: إلا الفاتحة.

ومذهب الجمهور: أنها تجب في السرية والجهرية، وأنها في الجهرية تسقط عن المأموم.

والقول بوجوبها حتى في الجهرية قول قوي اختاره الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه وألف رسالة في هذا واختاره ابن خزيمة وجماعة من الشافعية كـالبيهقي والنووي وابن حجر ، واختاره أيضاً البخاري وابن حزم والشوكاني وهو اختيار جمع من أصحاب الحديث، وكذلك المؤلف رحمه الله قال بوجوبها.

فأهل السنة منهم من يوجبها، ومنهم من لا يوجبها، ومنهم من يوجبها في السرية دون الجهرية.

وجوب إتمام الركوع والسجود والطمأنينة فيهما عند أهل السنة

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ويأمرون بإتمام الركوع والسجود حتماً واجباً، ويعدون إتمام الركوع والسجود بالطمأنينة فيهما والارتفاع من الركوع والانتصاب منه والطمأنينة فيه، وكذلك الارتفاع من السجود والجلوس بين السجدتين مطمئنين فيه من أركان الصلاة التي لا تصح إلا بها ].

لابد من إتمام الركوع والسجود، فمن لم يتم الركوع والسجود ولم يطمئن فيهما فصلاته باطلة؛ لأن الطمأنينة ركن من أركان الصلاة، والطمأنينة في الركوع هي أنه إذا ركع يظل راكعاً حتى يعود كل مفصل إلى موضعه.

واطمئنان المصلي هو أن يجلس حتى يعود كل مفصل إلى موضعه، ويطمئن في الركوع والسجود، وكذلك إذا رفع رأسه من الركوع يقف حتى ينتصب قائماً وإذا سجد فعليه أن يطمئن، وكذلك إذا رفع رأسه من الجلوس بين السجدتين فعليه أن يطمئن، فلا بد من الطمأنينة في الأركان كلها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع وقف حتى يقول القائل: قد نسي، وإذا رفع رأسه من السجود جلس حتى يقول القائل: قد نسي، يعني: أنه يطيل هذين الركنين.

وبعض الأحناف لا يرون الطمأنينة واجبة، فبمجرد أن يقول: سمع الله لمن حمده يسجد مباشرة، وإذا رفع رأسه من السجدة عاد مباشرة وسجد، فهم لا يرون الطمأنينة واجبة بعد الركوع وبين السجدتين، لذلك تجد أن بعض الإخوان الباكستانيين يفعلون هذا عملاً بمذهب بعض الحنفية، وهذا غلط ومخالف لصلاة النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه لا بد من الطمأنينة، فقد جاء في حديث المسيء صلاته أنه جاء وصلى ركعتين ولم يتم الركوع ولا السجود فأمره النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات بقوله: (ارجع فصل فإنك لم تصل) حتى فعل ذلك ثلاثاً، ثم بعد ذلك أرشده إلى الطمأنينة، وقال له: (إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً، ثم اجلس حتى تطمئن ساجداً، ثم اجلس حتى تطمئن جالساً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها).

قيام الليل

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ويتواصون بقيام الليل للصلاة بعد المنام، وبصلة الأرحام وإفشاء السلام وإطعام الطعام، والرحمة على الفقراء والمساكين والأيتام، والاهتمام بأمور المسلمين، والتعفف في المأكل والمشرب والمنكح والملبس، والسعي بالخيرات والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والبدار إلى فعل الخيرات أجمع، واتقاء سوء عاقبة الطمع، ويتواصون بالحق والصبر ].

إن من صفات وأخلاق أهل الحق والاستقامة، أهل السنة والجماعة أهل الحديث، أنهم يتواصون بقيام الليل للصلاة بعد المنام، كما قال الله تعالى عن المتقين: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [السجدة:16].

فقيام الليل من أفضل القربات وأجل الطاعات، وهو من صفات المتقين، قال سبحانه في وصف المتقين: كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:17-18].

فتراهم يتواصون بقيام الليل، بعد النوم وإن لم يكن واجباً ولكنه مستحب، وهذه من صفات المؤمنين.

صلة الأرحام

ويتواصلون بصلة الأرحام، والأرحام: هم القرابات من جهة الأم أو من جهة الأب، وأقرب الأرحام: الأبوان الأب والأم، ثم الأقرب فالأقرب من الأبناء والبنات وأبنائهم والأجداد والجدات، ومن الأعمام والعمات وأبنائهم، ومن الأخوال والخالات وأبنائهم الأقرب فالأقرب، وتكون الصلة بحسب الحالة، فقد تكون بالسؤال عن حاله وإبلاغه السلام، أو بزيارته وإجابة دعوته، أو بمشاركته في آماله وآلامه والهدية له والنفقة عليه إن كان محتاجاً، وكل هذه الأعمال من صلة الرحم.

وأقل شيء فيها رفع سماعة الهاتف للسؤال عن حالهم والسلام عليهم بين فترة وفترة، وإن كان هذا لا يكفي، لكن قد يكون في بعض الأحيان بعيداً فيكفي هذا.

إفشاء السلام

وأهل الحق كذلك أيضاً يتواصون بإفشاء السلام، فعليك أيها المؤمن أن تسلم على كل من لقيت عرفته أو لم تعرفه، فالسلام من أجل القربات، وهو من صفات المؤمنين ومن أسباب المحبة والألفة، والمحبة من أسباب دخول الجنة، فمن أراد دخول الجنة فعليه أن يفشي السلام، ويسلم على كل من لقي، وهذا فيه إزالة للوحشة؛ فإنك إذا لقيت شخصاً ولم تسلم عليه، دخلت جفوة ووحشة بينك وبينه، قال عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم).

إطعام الطعام

وإطعام الطعام من أفضل القربات، ومن أجل الطاعات، ومن أسباب دخول الجنة، وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا أيها الناس! أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام)، فهذه الأعمال من أسباب دخول الجنة، وهي إفشاء السلام والرحمة على الفقراء والمساكين، ومعاملتهم بالعطف عليهم والإحسان إليهم، والنفقة عليهم، والتواضع لهم، وخفض الجناح لهم، وكذلك الأيتام، واليتيم هو من فقد أباه وهو صغير دون البلوغ.

ومن صفات أهل الحديث وأهل السنة الاهتمام بأمور المسلمين، وتفقد أحوالهم وإطعام جائعهم، وتعليم جاهلهم، والصفح عن أخطائهم، والسؤال عن أحوال الضعفاء والأقليات والمجاهدين في كل مكان.

السعي في الخيرات

ومن صفاتهم التعفف عن الحرام في مأكلهم وفي مشربهم وفي ملبسهم، وكذلك في النكاح فلا يفعلون الحرام.

ومن صفات صاحب الحق أيضاً السعي في الخيرات عموماً، كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأهل الحديث وأهل السنة يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، قال الله تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:71]، وقال سبحانه: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110].

ومن صفاتهم البدار إلى فعل الخيرات أجمع سواء كان الخير من الأقوال، أو من الأفعال، وهم يتقون سوء وشر عاقبة الطمع الذي يجعل الإنسان يقدم على الشبهات في المآكل أو في المشارب، وهم يتواصون بالحق والصبر، ويدعون إلى الله، ويصبرون على الابتلاء في ذلك، وكل هذه الأخلاق من صفات المؤمنين.

الحب في الله والبغض في الله

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ويتحابون في الدين ويتباغضون فيه ].

إن أهل الحق يتحابون في الدين ويتباغضون فيه، وهذا أصل من أصول الإيمان، وأصل عظيم الحب في الله والبغض في الله، وهو أن تحب ما يحب الله من شخص أو فعل فتحب هذا الشخص؛ لأنه مستقيم على طاعة الله؛ لأنه يؤدي فرائض الله، ولو كان بعيداً، ولو كان أعجمياً، ولو كان في المشرق وأنت في المغرب، وتبغض من كان مستروحاً للمعاصي والكبائر والآثام والشرك، ولو كان قريباً لأمك وأبيك، فهذا من الأصول العظيمة التي أميتت في هذا الزمن عند كثير من الناس، فتجد أناساً لا يتحابون إلا لأجل الدنيا، وإذا كان بينك وبينهم مصالح حصلت المحبة، فإذا انتهت المصلحة زالت المحبة، هذا إذا كان الحب لأجل الدنيا، وأعظم من ذلك وأشد إثماً أن تكون المحبة من أجل الاشتراك في المعاصي والبدع، فيكون شريكه في المعصية أو في البدعة؛ ولذلك فهو يحبه، وأعظم منه أن يكون الحب لأجل الاشتراك في الشرك نعوذ بالله.

فالحب في الله والبغض في الله هذا أصل من أصول الإيمان، ولهذا جاء في الحديث: (أفضل الأعمال الحب في الله والبغض في الله)، وفي الحديث الآخر: (من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان)، وفي الحديث الآخر: (لا يجد العبد طريق الإيمان - وفي اللفظ الآخر - لا يجد العبد صريح الإيمان حتى يحب في الله، ويبغض في الله، - وفي اللفظ الآخر - أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله)، وفي الحديث الآخر أيضاً: (من أحب في الله، وأبغض في الله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان)، وفي اللفظ الآخر: (لن يجد عبد طعم الإيمان حتى يحب لله، ويبغض في الله، ويوالي في الله، ويعادي في الله).

البعد عن الجدل والخصومات

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ويتقون الجدال في الله والخصومات فيه، ويتجانبون أهل البدع والضلالات، ويعادون أصحاب الأهواء والجهالات ].

من أوصاف أهل السنة والجماعة، وأهل الحق، والفرقة الناجية، أنهم يتقون الجدال في الله والخصومات فيه؛ فإن الجدال يؤدي إلى المراء والخصومات، ويؤدي أيضاً إلى الشبه والشكوك، فأهل الحق يجتنبون الجدال، إلا إذا كان جدالاً بالحق لإيضاح الحق ورد الباطل بدون ترتب مفسدة على ذلك، أما إذا كان جدالاً عقيماً لا يحق حقاً ولا يبطل باطلاً فهذا يجب أن يترك، وكذلك الخصومات والنزاعات فإنها تؤدي إلى البغضاء والعداوة وتنافر القلوب، وأهل السنة يجتنبون أهل البدع والضلالات ويعرضون عنهم، ويعادون أصحاب الأهواء والجهالات، وهذه هي طريقة أهل السنة والجماعة وأهل الحق وأهل الحديث.

الاقتداء بالرسول والصحابة والسلف الصالح

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ويقتدون بالنبي صلى الله عليه وسلم وبأصحابه الذين هم كالنجوم بأيهم اقتدوا اهتدوا، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله فيهم، ويقتدون بالسلف الصالحين من أئمة الدين وعلماء المسلمين، ويتمسكون بما كانوا به متمسكين من الدين المتين والحق المبين ].

إن من أوصاف أهل الحديث وأهل السنة أنهم يقتدون بالنبي صلى الله عليه وسلم وبأصحابه، ويعملون بكتاب الله وسنة رسوله، وإذا لم يكن في المسألة نص في السنة عملوا بسنة الخلفاء الراشدين، وإذا لم يوجد في سنة الخلفاء الراشدين، ووجد قول صحابي وليس له معارض من الصحابة فإنهم يعملون به، وأما قول المؤلف رحمه الله:

(الذين هم كالنجوم بأيهم اقتدوا اهتدوا كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيهم) فهو يشير إلى حديث: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم)، وهذا حديث باطل سنداً ومتناً، والمحشي يقول: إنه موضوع وهو ليس بموضوع، ولكنه حديث ضعيف جداً، وباطل سنداً ومتناً، وهذا يستدل به الأصوليون، فأما سنده فإنه لا يوجد له سند صحيح في شيء من دواوين السنة، وأما متنه فإن معناه غير صحيح؛ لأنه إذا قال ابن عباس مثلاً: إن ربا الفضل حلال، ويرى زيد بن ثابت أنه حرام، فمعنى الحديث: إن اقتديت بمن يقول حلال فأنت مهتد، وإن اقتديت بمن يقول: إنه حرام فأنت مهتد أيضاً! وهذا باطل؛ لأنهما قولان متناقضان، والصحابي إذا قال قولاً وعارضه صحابي آخر تعارضا فتساقطا فنرجع إلى أصول السنة وإلى قواعد الشريعة وأصولها، ونبحث عن دليل آخر.

أما إذا قال الصحابي قولاً واشتهر ولم يعارضه أحد فهو حجة، فهذا الحديث ليس بصحيح وهو: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم).

ومن علامات أهل الحق أنهم يقتدون بالسلف الصالح من أئمة الدين وعلماء المسلمين، ويتمسكون بما كانوا به متمسكين من الدين المتين والحق المبين.

بغض أهل البدع ومجانبتهم

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ويبغضون أهل البدع الذين أحدثوا في الدين ما ليس منه، ولا يحبونهم ولا يصحبونهم، ولا يسمعون كلامهم ولا يجالسونهم، ولا يجادلونهم في الدين ولا يناظرونهم، ويرون صون آذانهم عن سماع أباطيلهم التي إذا مرت بالآذان وقرت في القلوب ضرت، وجرت إليها من الوساوس والخطرات الفاسدة ما جرت. وفيه أنزل الله عز وجل قوله: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [الأنعام:68] ].

ذكر هنا من صفات أهل الحديث وأهل السنة أنهم يبغضون أهل البدع الذين أحدثوا في الدين ما ليس منه، والبدعة: كل ما أحدث في الدين وليس منه.

فهم يبغضون أهل البدع، ولا يحبونهم؛ لمخالفتهم للسنة، ولا يتخذونهم أصحاباً، ولا يسمعون كلامهم، ولا يجالسونهم، ولا يجادلونهم في الدين؛ خشية إثارة الشبه، ولا يناظرونهم، ويرون صون آذانهم عن سماع أباطيلهم التي إذا مرت بالآذان وقرت بالقلوب ضرت، وجرت إليها الوساوس والخطرات الفاسدة ما الله به عليم، وهكذا شأن أهل السنة أنهم يبتعدون عن أهل البدع، ولا يجالسونهم ولا يعودون مريضهم، ولا يأتون جنازتهم، ويصونون آذانهم عن سماع الشبه؛ لأنها إذا وصلت إلى الآذان وقرت في القلب ضرت وأحدثت الوساوس والخطرات الفاسدة، ولهذا أنزل الله تعالى: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [الأنعام:68]، ويدخل في هذا أهل البدع، فإنهم يخوضون في آيات الله بغير بصيرة، فيجب الإعراض عنهم.

قال الإمام المؤلف رحمه الله تعالى:

[ ويحرم أصحاب الحديث المسكر من الأشربة المتخذة من العنب أو الزبيب أو التمر أو العسل أو الذرة أو غير ذلك مما يسكر، يحرمون قليله وكثيره، ويجتنبونه وينجسونه ويوجبون به الحد ].

أي: يحلون ما أحل الله ويحرمون ما حرم الله، ويتأدبون بالآداب الشرعية الواجبة والمستحبة.

وأصحاب الحديث هم في مقدمة أهل السنة والجماعة وهم أهل الحق، وهم الفرقة الناجية، وتشمل هذه الفرقة كل من عمل بالسنة واجتنب البدعة، سواءً كان مزارعاً أو تاجراً أو صانعاً أو حداداً أو جزاراً أو خياطاً، فأهل السنة والجماعة والفرقة الناجية هم الصحابة والتابعون والأئمة والعلماء وفي مقدمتهم أهل الحديث.

فأصحاب الحديث يحرمون المسكر من الأشربة المتخذة من العنب أو الزبيب أو التمر أو العسل أو الذرة أو غير ذلك مما يسكر، يحرمون قليله وكثيره؛ لأنهم يعملون بالسنة، فقد ثبت في الأحاديث الصحيحة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كل مسكر)، وقال عليه الصلاة والسلام: (كل مسكر خمر وكل مسكر حرام) وعلى هذا فكل مسكر حرام، وهو من الخمر، سواء كان مأكولاً أو مشروباً أو مشموماً، وكانت الخمر تتخذ في الأزمنة القديمة من العنب، فيعصر العنب، فإذا مضى عليه ثلاثة أيام وهو في شدة الحر، قذف بالزبد وتخمر وصار خمراً.

وأحياناً يؤخذ من التمر، ويسمونه المريس، فيوضع في الماء لكي يكون حالياً، فإذا جلس ثلاثة أيام في الحر تخمر.

وأحياناً يؤخذ من العسل، وأحياناً من الذرة، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يعصر له العصير فيشربه اليوم الأول ومن الغد فإذا كان في اليوم الثالث صبه وأهراقه أو سقاه الخادم خشية أن يتخمر، ومعلوم أن الخادم يتأمل وينظر إليه، وذلك في شدة الحر، لكن العصير الآن إذا جعل في الثلاجة لا يتخمر، فإذا ترك في شدة الحر تخمر، وظهرت أنواع جديدة من الخمور منها: المأكول والمشروب، وقد تكون أقراصاً، وقد تكون بالشم، فكل ما يسكر فهو حرام لقوله صلى الله عليه وسلم: (كل مسكر خمر)، فهذا من جوامع الكلم الذي أوتيه النبي صلى الله عليه وسلم، وكل من صيغ العموم.

وجمهور العلماء على أن الخمر من كل شراب، وذهب الإمام أبو حنيفة رحمه الله إلى أن الخمر لا تكون إلا من عصير العنب، والصواب: أن الصفة عامة في العنب وفي غيره.

وللخمر أسماء كثيرة كما ذكر العلماء، منها: السكر، وتسمى الجفن، والجعة، والمزر، والبزر، والسكركة، والفضيخ، والطلاء، والباذق.

وفي الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها)، وفي الحديث الذي رواه البخاري معلقاً: (ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف)، فقوله: (الحر) أي: الفرج يعني: الزنا.

وقوله: (والمعازف) هي آلات الغناء.

وفي الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليشربن أناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها، يعزف على رءوسهم بالمعازف والقينات والمغنيات يخسف الله بهم الأرض، ويجعل منهم القردة والخنازير) رواه ابن ماجة ولا بأس بسنده.

وقوله: (يحرمون قليله وكثيرة ويجتنبونه) أي: يبتعدون عنه، وفي النسخة الأخرى (ينجسونه) أي: يرون أنه نجس، وهذه مسألة خلافية بين أهل العلم هل الخمر نجس أو ليس بنجس؟! فالجمهور على أنه نجس، واستدلوا بقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ [المائدة:90].

وذهب بعض العلماء إلى أنه ليس بنجس، وقالوا: لا يلزم من التحريم النجاسة، واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإراقتها لما حرمت فملأت سكك المدينة، والناس يمشون إلى المسجد حافين، فيطؤونها ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بغسل أرجلهم، فدل ذلك على أنها ليست نجسة، وعلى كل حال فهي محرمة سواء كانت نجسة أو ليست نجسة.

وقوله: (ويوجبون به الحد) أي: من شرب الخمر وثبت عليه ذلك، فإنه يقام عليه الحد أربعين جلدة أو ثمانين جلدة.

فحد شارب الخمر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين جلدة، وكذلك في عهد أبي بكر ، أما في آخر عهد عمر فإنه جلد ثمانين جلدة، وأخذ الناس من بعده بذلك.