الصبر والإيمان بالقدر


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فإن الصبر يعتبر من أشرف مقامات السائرين إلى الله عز وجل، ومن أعظم منازلهم، وقد أخبر تبارك وتعالى أن كل عامل يوفى حقه يوم القيامة وفق عمله إلا الصابرين، قال تعالى: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10] وهل هناك أعظم من أن تعطى أجرك بغير قيد ولا شرط، يعني: أن تعطى حتى تكتفي، وتسعد. لكن بالحساب والعدل يمكن ألا تكتفي، أو يمكن ألا تبلغ الدرجة التي تضمن لك الفوز العظيم، ولكن بالصبر تعطى أجراً بغير حساب.

وبعض الناس لا يفهم من الصبر إلا المفهوم الجزئي المتعلق بأنه الصبر على البلاء، بمعنى: أنه لو مرض شخصٌ أو حلت به مصيبة وصبر عليها فهو الصابر، هذا جزء من الصبر، ولكنه جزءٌ بسيط من المفاهيم الكبيرة للصبر؛ لأن الصبر يتعلق بثلاثة أمور تقسم وفقها، وكل قسم له ثلاثة أقسام، بمعنى: أن المجموع يصبح تسعة أنواع:

فمن حيث تعلق الصبر بذات الصبر ينقسم إلى الأقسام الثلاثة التي ذكرتها في الندوة الماضية، وهي: التصبر، والصبر، والاصطبار.

ومن حيث تعلق الصبر بالموضوع الممارس عليه، فالصبر ينقسم إلى ثلاثة أقسام وهو: الصبر على طاعة الله، والصبر عن معصية الله، والصبر على أقدار الله المؤلمة، وهذا هو المفهوم الذي يظن الناس أن الصبر يقتصر عليه، فهذه ستة أنواع للصبر.

والتعلق الثالث يتعلق بما يريده الإنسان المؤمن بالصبر، أي: ما هي نيتك من الصبر؟ قالوا: وهو أيضاً ثلاثة أقسام: صبرٌ لله، وصبر بالله، وصبر عن الله؛ وهو أسوأ أنواع الصبر -أعاذنا الله وإياكم من ذلك- فالصبر الذي لله يقول فيه ابن القيم رحمه الله: هو صبرك عن معصية الله. فأنت تصبر لله.

والصبر الذي هو بالله: صبرك للطاعة، فأنت تعبده بقوة منه وباستعانة وتأييدٍ وتوفيق منه تبارك وتعالى.

والصبر الذي هو أسوأ أنواعه: وهو الصبر عن الله، وهو صبر الكافر والفاجر؛ لأنه يريد أن يصبر عن ربه؛ فيورد على نفسه من الأشياء التي تصرفه عن أن يذكر الله أو أن يستجيب لأمر الله بالملهيات والمشاغل، ولهذا فهو يحاول أن يصبر، لكن عمَّن يصبر؟ عن ربه وخالقه.

والصبر مدحه الله وأثنى عليه في القرآن العظيم، وبين تبارك وتعالى قيمته وأثنى عليه في أكثر من تسعين موضعاً، فمرةً أمر به تعالى، فقال: وَاصْبِرْ [النحل:127]، ومرةً أثنى على أهله، ومرةً أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبشر أهل الصبر، فقال جل وعلا: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ [البقرة:155]، ومرةً جعله شرطاً في حصول النصر والتأييد والعناية والرعاية من الله، ومرةً أخبر أنه مع أهله فقال عز وجل: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:153]، وأثنى به على صفوته من خلقه وهم الأنبياء والرسل.

صبر أيوب عليه السلام على أقدار الله

قال الله عن نبيه أيوب عليه السلام: إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:44]، وقد تحققت في أيوب عليه السلام جميع أنواع الصبر؛ فكان صابراً لله على طاعته، وعن معصيته، وعلى أقداره المؤلمة، فقد ابتلاه الله في ماله وولده، وجسده بالمرض فصبر. وتذكر كتب التاريخ أنه عانى من المرض الشديد والبلاء العظيم في جسده ولم يشك ويتضجر ويتسخط، بل صابر على كل الأحوال، حتى إنه ما سأل الله أن يشفيه، وإنما كان يعلم أن قضاء الله خيرٌ له في كل الأحوال؛ فكان صابراً.

ومرت به السنون والأيام حتى انتشر الدود في جسده، وأكل اللحم والعصب، ولم يبق إلا الهيكل العظمي، ولكن الله حمى له قلبه ولسانه، فكان قلبه شاكراً، ولسانه ذاكراً.

ومرت السنون بعد ذلك فدخل الدود في اللسان الذاكر والقلب الشاكر، ورأى أيوب عليه السلام أنه سوف يتعطل عن الذكر والشكر بهذا الأمر؛ فابتهل إلى الله وقال: أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء:83] يقول المفسرون: إن الضر الذي مسه ويشكو منه ليس ضر المرض، ولكن ضر التعطيل عن الذكر والشكر، فيقول: أما المرض فصابر عليه، ولكني لا أصبر عن ذكرك وشكرك، فاستجاب الله له، وقد قالت له زوجته رحمة بنت يوسف عليه السلام: أنت نبي مستجاب الدعوة، فسل ربك أن يرحمك ويشفيك، فقال لها: كم بلغت مدة مرضي؟ قالت: (18) سنة، قال: وكم بلغت مدة عافيتي قبل ذلك؟ قالت: ثمانون عاماً، قال: فإني أستحي أن أسأل ربي حتى تبلغ مدة مرضي مدة عافيتي.

يقول: إذا أنهيت ثمانين سنة فأخبريني لكي أدعو الله أن يعافيني، يعني: سواء بسواء. أما نحن فيعافينا الله سنين طوالاً، فإذا أصاب الإنسان مرض ضجر، وقال: ما بالي أنا من بين الناس، كل الناس في عافية إلا أنا؟!! وليته يصبر ويسلك السبل الشرعية في التداوي؛ لأن التداوي لا ينافي التوكل، بل هو مأمور به، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عباد الله! تداووا ولا تداووا بحرام، فإن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها)، ولكنه يتداوى بالحرام، فيذهب إلى الكهنة والمشعوذين ويشكو ربه إليهم، ويبيع دينه -والعياذ بالله- ويخرج من الإسلام؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد، ومن أتاه ولم يصدقه لم تقبل له صلاة أربعين نهاراً).

من الناس من يأتيه المس من الجن، وعلاج المس من الجن معروف وواضح في الدين والقرآن، فالرقية الشرعية للمس ليس هناك أنجع منها، لكن هناك علاج شيطاني عن طريق الكهنة والمشعوذين، بأن يذهب هذا المريض الذي عنده المس أو الصرع إلى هذا الكاهن، فيقوم هذا الكاهن بدعوة ذلك الجني الذي قد مس هذا الإنسي فيقول له: لا تقربه؛ لأن الرجل أتانا وهو من الجماعة -فمنذ أن أتى هذا الكاهن أصبح كافراً، يعني: خرج من الإسلام- فلو لم ننفعه لما اعتقد بنا، فلا تقربه. وحتى يضمن الكاهن تصديق هذا المسكين يأتي إليه فيكتب له عبارات مبهمة على أوراق ويقول له: انقعها واشرب ماءها، ويعطيه حرزاً طالباً منه أن يدفنه في غرفة مظلمة ليس فيها نور ولا صوت، وأحياناً يقول له: خذ تيساً أسود أو أبيض ليس عليه علامة وادخل به على هذا المريض، واذبحه ولا تسم. فيخرج بهذا الفعل من الدين والعياذ بالله.

ولو كان صاحب عقيدة ودين وجاءه هذا المرض ولجأ إلى الله، فالله يختبره، فأحياناً يذهب إلى العالم أو إلى القارئ فيقرأ عليه القرآن مرة ومرتين وثلاث فلا ينتفع؛ لأن ابن القيم رحمه الله ذكر في كتابه زاد المعاد في علاج صرعى الجن قال: إن العلاج لا يقع إلا إذا توفر أمران:

الأمر الأول: يأتي من القارئ، وهو مقدار يقينه وصدقه وصلته بالله.

والأمر الثاني: يأتي من المريض المقروء عليه على مقدار يقينه وصدقه وصلاحه، فإن كان القارئ مخلصاً والمقروء عليه موقناً بالله؛ فإن العلاج ينجح بإذن الله، أما إن تخلف أحدهما بأن كان القارئ فاسقاً، أو جباناً، أو لم يكن عنده قوة عقيدة، أو تخلف المقروء عليه؛ بأن كان قليل دين -والعياذ بالله- ولولا أنه مرض لما عرف القرآن، فلا بد من توفر الشرطين.

فصبر أيوب عليه السلام مضرب المثل، فقد تحقق له جميع أنواع الصبر، فقال عز وجل: إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:44].

وقال لخاتم أنبيائه ورسله محمد صلى الله عليه وسلم: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ [الأحقاف:35] وقال: وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ [النحل:127].

صبر يوسف عليه السلام عن معصية الله

قال يوسف الصديق لما دخل عليه إخوته وقالوا: أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي [يوسف:90] فقال بنيامين قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ [يوسف:90] سبحان الله! ما أعظم صبر يوسف، قصته مشرقة في جميع البيوت الربانية التي يتلا فيها القرآن، فقد مكث في السجن بضع سنين، وبعد ذلك أرسلوا له: أن احضر إلى ربك فيقول للرسول: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ [يوسف:50] يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (يرحم الله أخي يوسف لو كنت أنا لخرجت) أي: بمجرد أن يقولوا: اخرج من السجن فلن أطلب براءة، فالمهم الخروج من السجن. لكن يوسف يقول: لا أخرج من السجن حتى تثبت البراءة. وتثبت البراءة له عن طريق إحضار امرأة العزيز والنساء حين يقال لهن: مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ [يوسف:51] .. قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ [يوسف:51-52] هذه براءة تثبتها له صاحبة الشأن التي تسببت في اتهامه وسجنه.

ويخطئ كثير من الناس في مقام الأنبياء المعصومين فيفسرون قول الله عز وجل: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا [يوسف:24] تفسيراً خاطئاً لا يليق بمقام الأنبياء، فيقولون: إنها همت به، يعني: بالفاحشة وهو هم بها، أي: أرادها، وهذا خطأ، لماذا؟ لأنه لو هم بها فما الذي يمنعه؟ الاستثناء الذي بعدها في قوله تعالى: لوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ [يوسف:24] له تفسير في القرآن الكريم، وهو: أن معنى الهم في اللغة أي: العزم على مباشرة الشيء، هممت أن آكل، يعني: أردت أن آكل، هممت أن أقوم، يعني: أريد أن أقوم، هممت أن أنام، هممت بالسفر، وقد ذكر الله كلمة الهم في القرآن في أكثر من موضع: إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا [آل عمران:122]، ما معنى همت أن تفشلا؟ هل معناه همّت أنها تزني؟ لا. كلمة الهم تفسر من الحال الملابس لها، فالذي يقول: هممت أن أقوم يعني: همّ بالقيام، هممت أن أنام يعني: همّ بالنوم، والذي يقول: هممت أن آكل، يعني: همّ أن يأكل.

فالهم يعني: العزم وإرادة الشيء، وتفسر بالمعنى الملابس لها، فالذي كان يلابس امرأة العزيز رغبتها في يوسف، فهمت به، يعني: لتباشر الزنا معه، والذي كان يلابس يوسف الرفض لأمرها، فهمّ بها، ما معنى: هم بها؟ قال المفسرون: همَّ ليضربها، همت به ليزني بها فهم بها ليضربها، واستبقا الباب، قال الله عز وجل: لوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ [يوسف:24] ذكر المفسرون في هذا كلاماً، لكن أصح الأقوال في هذا الموضوع: أن الله قذف في قلبه برهاناً وبصيرة في أن ضربك يا يوسف لهذه المرأة سيزيد من إدانتك، ويثبت عليك الحجة، يعني: لو جاء زوجها ووجد يوسف يضربها فستقول: هو يراودني عن نفسي وأنا أرفض فيضربني. فالله قذف في قلب يوسف ألا يضربها حتى لا يدين نفسه؛ لأن ضربه لها -رغم أنه يضربها حتى لا يزني بها- سيمكنها من قلب المسألة، وفعلاً قلبت المسألة، فلما استبقا الباب كان هو فاراً منها وهي في أثره، وأرادت أن تمسك بأي جزء منه، فقطعت ثوبه من الخلف: وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ [يوسف:25] أي: وجدا زوجها عند الباب، فعلى الفور قلبت المسألة رأساً على عقب: قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [يوسف:25] قال يوسف: هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي [يوسف:26] يقول: هي التي تراودني، فكيف به لو دخل عليه الملك وهو يضربها لكانت الحجة قائمة عليه، وهذا معنى ما سبق، وإلا فهو عليه الصلاة والسلام نبي، وبعض الناس من غير الأنبياء يتنزهون عن الزنا فكيف بنبي يقع في الزنا، أو يهم به؟! معاذ الله! والذي يرى هذا القول إنما ينال من جانب النبوة.

فيقول يوسف: قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ [يوسف:90] يقول المفسرون: إن صبر يوسف كان من أعظم المقامات في الصبر:

الصبر الأول: أنه صبر في الجب.

والصبر الثاني: أنه صبر في السجن.

والصبر الثالث: أنه صبر على ممارسة الضغط عليه من قبل امرأة العزيز قبل ذلك، فإنه كان في بيت الملك وكان شاباً، جميلاً، وسيماً، غريباً، والغريب لو فعل شيئاً فلن يدري به أحد على الأغلب؛ لأن سمعته في بلده، كما أنه كان آمناً في بيت الملك؛ فلا يستطيع أحد أن يخبر به، وكانت امرأة العزيز من أجمل نساء العالمين، وهو مطلوب لها؛ لأن بعض الناس يتعفف حين لا يطلب منه، ولو طلب منه لما تعفف، وكانت الأبواب مغلقة عليه، قال الله: وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ [يوسف:23] وهذه تسمى صيغة مبالغة، يعني: ما أغلقت، بل غلَّقت، يعني: ما ردت الباب، بل أغلقته بإحكام، وهو ليس باباً واحداً بل أبواب، باب أول وثانٍ وثالث من أجل أن يأمن، وبالرغم من هذا كله صبر يوسف وقال: مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ [يوسف:23]ولم يزنِ.

قال: قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف:90] وهذا يدل على أن الصبر من أجلِّ مقامات الإيمان والدين، وأخص الناس بالصبر هم أخص الناس بالله عز وجل، وأولاهم بالله أشدهم على الصبر تحققاً وقياماً به، والخاصة أحوج إليه من العامة.

قال الله عن نبيه أيوب عليه السلام: إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:44]، وقد تحققت في أيوب عليه السلام جميع أنواع الصبر؛ فكان صابراً لله على طاعته، وعن معصيته، وعلى أقداره المؤلمة، فقد ابتلاه الله في ماله وولده، وجسده بالمرض فصبر. وتذكر كتب التاريخ أنه عانى من المرض الشديد والبلاء العظيم في جسده ولم يشك ويتضجر ويتسخط، بل صابر على كل الأحوال، حتى إنه ما سأل الله أن يشفيه، وإنما كان يعلم أن قضاء الله خيرٌ له في كل الأحوال؛ فكان صابراً.

ومرت به السنون والأيام حتى انتشر الدود في جسده، وأكل اللحم والعصب، ولم يبق إلا الهيكل العظمي، ولكن الله حمى له قلبه ولسانه، فكان قلبه شاكراً، ولسانه ذاكراً.

ومرت السنون بعد ذلك فدخل الدود في اللسان الذاكر والقلب الشاكر، ورأى أيوب عليه السلام أنه سوف يتعطل عن الذكر والشكر بهذا الأمر؛ فابتهل إلى الله وقال: أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء:83] يقول المفسرون: إن الضر الذي مسه ويشكو منه ليس ضر المرض، ولكن ضر التعطيل عن الذكر والشكر، فيقول: أما المرض فصابر عليه، ولكني لا أصبر عن ذكرك وشكرك، فاستجاب الله له، وقد قالت له زوجته رحمة بنت يوسف عليه السلام: أنت نبي مستجاب الدعوة، فسل ربك أن يرحمك ويشفيك، فقال لها: كم بلغت مدة مرضي؟ قالت: (18) سنة، قال: وكم بلغت مدة عافيتي قبل ذلك؟ قالت: ثمانون عاماً، قال: فإني أستحي أن أسأل ربي حتى تبلغ مدة مرضي مدة عافيتي.

يقول: إذا أنهيت ثمانين سنة فأخبريني لكي أدعو الله أن يعافيني، يعني: سواء بسواء. أما نحن فيعافينا الله سنين طوالاً، فإذا أصاب الإنسان مرض ضجر، وقال: ما بالي أنا من بين الناس، كل الناس في عافية إلا أنا؟!! وليته يصبر ويسلك السبل الشرعية في التداوي؛ لأن التداوي لا ينافي التوكل، بل هو مأمور به، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عباد الله! تداووا ولا تداووا بحرام، فإن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها)، ولكنه يتداوى بالحرام، فيذهب إلى الكهنة والمشعوذين ويشكو ربه إليهم، ويبيع دينه -والعياذ بالله- ويخرج من الإسلام؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد، ومن أتاه ولم يصدقه لم تقبل له صلاة أربعين نهاراً).

من الناس من يأتيه المس من الجن، وعلاج المس من الجن معروف وواضح في الدين والقرآن، فالرقية الشرعية للمس ليس هناك أنجع منها، لكن هناك علاج شيطاني عن طريق الكهنة والمشعوذين، بأن يذهب هذا المريض الذي عنده المس أو الصرع إلى هذا الكاهن، فيقوم هذا الكاهن بدعوة ذلك الجني الذي قد مس هذا الإنسي فيقول له: لا تقربه؛ لأن الرجل أتانا وهو من الجماعة -فمنذ أن أتى هذا الكاهن أصبح كافراً، يعني: خرج من الإسلام- فلو لم ننفعه لما اعتقد بنا، فلا تقربه. وحتى يضمن الكاهن تصديق هذا المسكين يأتي إليه فيكتب له عبارات مبهمة على أوراق ويقول له: انقعها واشرب ماءها، ويعطيه حرزاً طالباً منه أن يدفنه في غرفة مظلمة ليس فيها نور ولا صوت، وأحياناً يقول له: خذ تيساً أسود أو أبيض ليس عليه علامة وادخل به على هذا المريض، واذبحه ولا تسم. فيخرج بهذا الفعل من الدين والعياذ بالله.

ولو كان صاحب عقيدة ودين وجاءه هذا المرض ولجأ إلى الله، فالله يختبره، فأحياناً يذهب إلى العالم أو إلى القارئ فيقرأ عليه القرآن مرة ومرتين وثلاث فلا ينتفع؛ لأن ابن القيم رحمه الله ذكر في كتابه زاد المعاد في علاج صرعى الجن قال: إن العلاج لا يقع إلا إذا توفر أمران:

الأمر الأول: يأتي من القارئ، وهو مقدار يقينه وصدقه وصلته بالله.

والأمر الثاني: يأتي من المريض المقروء عليه على مقدار يقينه وصدقه وصلاحه، فإن كان القارئ مخلصاً والمقروء عليه موقناً بالله؛ فإن العلاج ينجح بإذن الله، أما إن تخلف أحدهما بأن كان القارئ فاسقاً، أو جباناً، أو لم يكن عنده قوة عقيدة، أو تخلف المقروء عليه؛ بأن كان قليل دين -والعياذ بالله- ولولا أنه مرض لما عرف القرآن، فلا بد من توفر الشرطين.

فصبر أيوب عليه السلام مضرب المثل، فقد تحقق له جميع أنواع الصبر، فقال عز وجل: إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:44].

وقال لخاتم أنبيائه ورسله محمد صلى الله عليه وسلم: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ [الأحقاف:35] وقال: وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ [النحل:127].

قال يوسف الصديق لما دخل عليه إخوته وقالوا: أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي [يوسف:90] فقال بنيامين قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ [يوسف:90] سبحان الله! ما أعظم صبر يوسف، قصته مشرقة في جميع البيوت الربانية التي يتلا فيها القرآن، فقد مكث في السجن بضع سنين، وبعد ذلك أرسلوا له: أن احضر إلى ربك فيقول للرسول: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ [يوسف:50] يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (يرحم الله أخي يوسف لو كنت أنا لخرجت) أي: بمجرد أن يقولوا: اخرج من السجن فلن أطلب براءة، فالمهم الخروج من السجن. لكن يوسف يقول: لا أخرج من السجن حتى تثبت البراءة. وتثبت البراءة له عن طريق إحضار امرأة العزيز والنساء حين يقال لهن: مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ [يوسف:51] .. قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ [يوسف:51-52] هذه براءة تثبتها له صاحبة الشأن التي تسببت في اتهامه وسجنه.

ويخطئ كثير من الناس في مقام الأنبياء المعصومين فيفسرون قول الله عز وجل: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا [يوسف:24] تفسيراً خاطئاً لا يليق بمقام الأنبياء، فيقولون: إنها همت به، يعني: بالفاحشة وهو هم بها، أي: أرادها، وهذا خطأ، لماذا؟ لأنه لو هم بها فما الذي يمنعه؟ الاستثناء الذي بعدها في قوله تعالى: لوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ [يوسف:24] له تفسير في القرآن الكريم، وهو: أن معنى الهم في اللغة أي: العزم على مباشرة الشيء، هممت أن آكل، يعني: أردت أن آكل، هممت أن أقوم، يعني: أريد أن أقوم، هممت أن أنام، هممت بالسفر، وقد ذكر الله كلمة الهم في القرآن في أكثر من موضع: إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا [آل عمران:122]، ما معنى همت أن تفشلا؟ هل معناه همّت أنها تزني؟ لا. كلمة الهم تفسر من الحال الملابس لها، فالذي يقول: هممت أن أقوم يعني: همّ بالقيام، هممت أن أنام يعني: همّ بالنوم، والذي يقول: هممت أن آكل، يعني: همّ أن يأكل.

فالهم يعني: العزم وإرادة الشيء، وتفسر بالمعنى الملابس لها، فالذي كان يلابس امرأة العزيز رغبتها في يوسف، فهمت به، يعني: لتباشر الزنا معه، والذي كان يلابس يوسف الرفض لأمرها، فهمّ بها، ما معنى: هم بها؟ قال المفسرون: همَّ ليضربها، همت به ليزني بها فهم بها ليضربها، واستبقا الباب، قال الله عز وجل: لوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ [يوسف:24] ذكر المفسرون في هذا كلاماً، لكن أصح الأقوال في هذا الموضوع: أن الله قذف في قلبه برهاناً وبصيرة في أن ضربك يا يوسف لهذه المرأة سيزيد من إدانتك، ويثبت عليك الحجة، يعني: لو جاء زوجها ووجد يوسف يضربها فستقول: هو يراودني عن نفسي وأنا أرفض فيضربني. فالله قذف في قلب يوسف ألا يضربها حتى لا يدين نفسه؛ لأن ضربه لها -رغم أنه يضربها حتى لا يزني بها- سيمكنها من قلب المسألة، وفعلاً قلبت المسألة، فلما استبقا الباب كان هو فاراً منها وهي في أثره، وأرادت أن تمسك بأي جزء منه، فقطعت ثوبه من الخلف: وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ [يوسف:25] أي: وجدا زوجها عند الباب، فعلى الفور قلبت المسألة رأساً على عقب: قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [يوسف:25] قال يوسف: هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي [يوسف:26] يقول: هي التي تراودني، فكيف به لو دخل عليه الملك وهو يضربها لكانت الحجة قائمة عليه، وهذا معنى ما سبق، وإلا فهو عليه الصلاة والسلام نبي، وبعض الناس من غير الأنبياء يتنزهون عن الزنا فكيف بنبي يقع في الزنا، أو يهم به؟! معاذ الله! والذي يرى هذا القول إنما ينال من جانب النبوة.

فيقول يوسف: قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ [يوسف:90] يقول المفسرون: إن صبر يوسف كان من أعظم المقامات في الصبر:

الصبر الأول: أنه صبر في الجب.

والصبر الثاني: أنه صبر في السجن.

والصبر الثالث: أنه صبر على ممارسة الضغط عليه من قبل امرأة العزيز قبل ذلك، فإنه كان في بيت الملك وكان شاباً، جميلاً، وسيماً، غريباً، والغريب لو فعل شيئاً فلن يدري به أحد على الأغلب؛ لأن سمعته في بلده، كما أنه كان آمناً في بيت الملك؛ فلا يستطيع أحد أن يخبر به، وكانت امرأة العزيز من أجمل نساء العالمين، وهو مطلوب لها؛ لأن بعض الناس يتعفف حين لا يطلب منه، ولو طلب منه لما تعفف، وكانت الأبواب مغلقة عليه، قال الله: وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ [يوسف:23] وهذه تسمى صيغة مبالغة، يعني: ما أغلقت، بل غلَّقت، يعني: ما ردت الباب، بل أغلقته بإحكام، وهو ليس باباً واحداً بل أبواب، باب أول وثانٍ وثالث من أجل أن يأمن، وبالرغم من هذا كله صبر يوسف وقال: مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ [يوسف:23]ولم يزنِ.

قال: قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف:90] وهذا يدل على أن الصبر من أجلِّ مقامات الإيمان والدين، وأخص الناس بالصبر هم أخص الناس بالله عز وجل، وأولاهم بالله أشدهم على الصبر تحققاً وقياماً به، والخاصة أحوج إليه من العامة.




استمع المزيد من الشيخ سعيد بن مسفر - عنوان الحلقة اسٌتمع
كيف تنال محبة الله؟ 2924 استماع
اتق المحارم تكن أعبد الناس 2918 استماع
وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً 2799 استماع
أمن وإيمان 2670 استماع
حال الناس في القبور 2670 استماع
توجيهات للمرأة المسلمة 2595 استماع
فرصة الرجوع إلى الله 2567 استماع
النهر الجاري 2471 استماع
دور رجل الأعمال في الدعوة إلى الله 2463 استماع
مرحباً شهر الصيام 2392 استماع