من وحي رمضان


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

مرحباً بكم -أيها الإخوة- في هذه الليلة النورانية، التي اجتمعت فيها الأنوار من كل جانب؛ أنوار الصيام، وأنوار التراويح والقيام، وأنوار القنوت والبكاء من خشية الملك الديان، وأنوار القرآن، وأنوار بيوت الرحمن: نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ [النور:35].

اللهم اجعل لنا من هذا النور أوفر الحظ والنصيب، واجعل لنا من هذا النور نوراً في قلوبنا، ونوراً في أبصارنا، ونوراً في أسماعنا، ونوراً في ألسنتنا، ونوراً عن أيماننا وعن شمائلنا، ومن أمامنا ومن خلفنا، ومن فوقنا ومن تحتنا، اللهم أعظم لنا نوراً واجعل النور بين أيدينا مع الذين قلت فيهم: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ [الحديد:12] اللهم اجعل لنا هذا النور في الدنيا والآخرة.

أيها الإخوة: هذه الأنوار لها دلائل وعليها براهين، ستبقى صلاتنا وتراويحنا وقيامنا وتلاوتنا بل وحتى بكاؤنا ستبقى عرائس من الزهور، حتى إذا أكدناها وصدقناها بأعمالنا وتصرفاتنا دبت فيها الأنوار؛ لأن من الناس من يقول: أنا أحضر إلى المسجد ولا أبكي، نقول له: كيف أنت إذا نظرت إلى الحرام؟ هل تغض بصرك؟!

كيف أنت إذا استمعت إلى الحرام؟ هل تصون سمعك؟!

كيف أنت إذا سمعت الناس يخوضون؟ هل تكف لسانك؟!

كيف أنت مع الزنا؟! كيف أنت مع اللواط؟! كيف أنت مع الغناء؟!

كيف أنت مع الربا؟! كيف أنت مع كل المحرمات؟!

كيف أنت مع الطاعات؟!

فإن كان كما يرضي الله على الهدي الصحيح؛ على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كان هو المؤمن الحق، أما إذا بكى هنا، فإذا لاحت له معصية وقع فيها، يبارز الله بالعظائم، ويستخفي من الناس، ولا يستخفي من الله فهذا يقول الله فيه وفي أمثاله: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً [الفرقان:23] عمل أجوف لا روح فيه، صورة شكل لا معنى لها، إن الحقيقة هي في السلوك، والعمل، والتطبيق، والمراقبة، والخشية، والشعور بالمراقبة الربانية لك -أيها المؤمن- في الليل والنهار، في السر والجهار، وقد ذكر أئمة الحديث حديثاً صحيحاً عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بأقوامٍ يوم القيامة لهم حسنات كأمثال جبال تهامة فيقول الله لها: صيري هباءً فقال الصحابة: لم يا رسول الله؟! قال: كانوا إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها) هذه مشكلتهم؛ أنهم في الخلوة يجترئون على معصية الله، وبين الناس ربما يتظاهرون بخشية الله، وهي علامة النور الصوري؛ لأنه ينفع مع الناس، ولكنه مع الله ينطفئ، أما النور الحقيقي فإنه مع الناس ومع الله يزداد، إذا لم يكن هناك أحد يراك إلا الله فإنك تشعر بعظم المراقبة.

وإذا خلوت بريبة في ظلمة     والنفس داعية إلى الطغيان

فاستحي من نظر الإله وقل لها     إن الذي خلق الظلام يراني

إذا غابت عنك أعين الناس فإن عين الله لا تغيب عنك أبداً: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [النجم:32].

أيها الإخوة في الله: هذه الأنوار وهذه الليالي الرمضانية الإيمانية، ما أعظم وما أجمل أن يقضيها المؤمن في رحاب الله، ومع كلام الله، ومع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم! وشهر رمضان شهر الذكريات، شهر المعاني والإيحاءات، شهر الخيرات والبركات، شهر الفوز والمكرمات، يفرح به المؤمن، ويتمنى لو كان الزمان كله رمضان، يفرح حين مقدمه، ويعيش أعظم ساعاته في شهر رمضان، ثم إذا ولى رمضان يبكي عليه حزناً وشوقاً، فقد كان السلف يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، فإذا انتهى رمضان دعوا الله ستة أشهر أن يتقبل منهم ما عملوه من حسنات في رمضان.

رمضان ..

أيـا شهر الصيام فدتك نفسي     تمهل بالرحيل والانتقال

فلا أدري إذا ما عدت يوماً     على هذي الحياة بخير حال

أتلقاني مع الأحياء حياً     أو انك تلقني في اللحد بالِ

رمضان ..

يا ذا الذي ما كفاه الذنب في رجبٍ     حتى عصى ربه في شهر شعبان

ها قد أظلك شهر الصوم بعدهما     فلا تصيره أيضاً شهر عصيان

اتلُ الـكتاب وسبح فيه مجتهداً     فإنه شهر تسبيحٍ وقرآن

كم كنت تعرف ممَّن صام من سلفٍ     من خير أهلٍ وجيرانٍ وإخوان

أفناهم الموت واستبقاك بعدهم     حياً فما أقرب القاصي من الداني

ومعجب بثياب الـعيد يقطعها     فأصبحت في غدٍ أثواب أكفان

حتى متى يعمر الإنسان مسكنه     مصير مسكنه قبر لإنسانِ

هذا الشهر الكريم من أجلِّ العبادات ومن أزكى القربات، فرضه الله بصيغة الكتابة، ثلاثة أشياء في القرآن والأوامر الربانية جاءت بصيغة الكتابة، وكأنها صكوك ربانية لا تقبل النسخ، ولا التبديل، ولا الاستثناء؛ ثلاثة أمور صعبة على النفس:

الأمر الأول: الصيام: قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:183].

الأمر الثاني: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ [البقرة:178].

الأمر الثالث: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ [البقرة:216].

ثلاثة أمور: صيام، وقصاص، وقتال.

يقول العلماء: إن جعل الصوم مع القتل والقصاص مشعر بأهمية الصوم وعظمته، وأنه لا يقبله ولا يتحمله ولا يرضخ له ولا يحبه إلا المؤمن، ولهذا خاطب الله أهل الإيمان بهذه الصفة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ [البقرة:178] أي: فرض وأوجب وألزمتم به كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة:178] وحتى لا يقول أحد: لماذا يا رب! نحن دون بقية الناس؟ قال: كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:178] أي: ليس الصيام أمراً بدعاً في حياة الأمم والشرائع، لا، إنه سنة الله، إنه دين الله الذي لا يتبدل في جميع الديانات والرسالات؛ فما من نبيٍ بعث، وما من شريعة نزلت، وما من كتابٍِ نزل إلا وفيه الأمر بالصيام، كما فيه الأمر بالصلاة وبالتوحيد، ولكن تختلف الشرائع، لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً [المائدة:48] كان صوم الأولين أنهم يمسكون عن الطعام والشراب والكلام، حتى الذي يتكلم كلمة يفطر ويقضي اليوم، بكلمة واحدة! ولهذا لما جاءت مريم بولدها عيسى عليهما السلام، قالت: إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً [مريم:26] وذلك عندما قيل لها: يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً [مريم:28] فأشارت إليه لم تتكلم، قال تعالى: فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً [مريم:29] فتكلم هو وقال: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً * وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً [مريم:30-31]. كل شريعة سبقت نزل فيها الأمر بالصوم، ولهذا عزانا الله وقال: الأمر لا يخصكم فقط بل إنه يخص كل الأمم: كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:183].

الحكمة من الصيام

ثم جاء التبرير والتوضيح لهدف الصيام، والحكمة من فرضيته فقال: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183] ليس الغرض تعذيبكم أو تجويعكم، فليس لله حاجة في ترككم طعامكم وشرابكم، ولكن الغرض تربيتكم ورفع درجاتكم، والهدف تعويدكم على الانتصار على النفس وشهواتها وملذاتها، تعويدكم على الانتصار على كل المباحات، فالغرض هو التقوى: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]، وإذا صرتم متقين حصلت لكم الخيرات من كل جانب، إذا صرتم متقين فإن الله وليكم في الدنيا والآخرة، يقول تعالى: وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ [الجاثية:19].

إذا صرتم متقين فيقول الله: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62] .. الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63] .. إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ [المرسلات:41] .. إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ [الدخان:51] .. إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ [الطور:17] .. إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر:54-55].

لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183] حتى تتقوا، فإذا وصلتم إلى درجة التقوى وهي: الشعور بالمراقبة لله الذي لا إله إلا هو، إذ أن الصوم هو العبادة الوحيدة التي لا يطلع عليها إلا الله؛ بإمكان كل واحدٍ أن يتظاهر أنه صائم، وبإمكانه بالخفية أن يفطر، من يعرفك؟! من يلازمك أربعاً وعشرين ساعة؟! من يراقب تصرفاتك؟!

ولهذا جاء في الحديث أن الله عز وجل يقول: (كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلا الصوم؛ فإنه لي وأنا أجزي به)، لم كان الصوم لله خالصاً من بين الأعمال؟ لأنه لا يمكن أن يعرف حقيقته أحد إلا الله.

ذكرت قصة حصلت لي في الجنوب في أبها : فقد كنت في معهد علمي ألقي محاضرة، وبعد المحاضرة وانفضاض الناس أمسك بي شاب تشرق أنوار الإيمان من وجهه، عليه بهاء الإيمان والدين، وقال لي: يا شيخ! عندي سؤال على انفراد، قلت: تفضل، قال: أنا شاب تائه تبت ورجعت إلى الله منذ تسعة أشهر، وسبق وأن مضى عليَّ سبعة رمضانات لم أصم لله فيها يوماً واحداً، ولم يسجل لي في صحيفتي حسنة واحدة من أول عمري؛ لا صلاة، ولا صيام، ولا أي عمل، قلت له: أين تعيش؟ قال: في هذا البلد، قلت: وأبوك وأمك لا يدرون أنك لا تصوم ولا تصلي؟ قال: أقول لهم: إني أصوم ولكني آكل في الخفية، وأقول لهم: إني أصلي ولكني أخرج من البيت ثم أعود وأقول لهم: قد صليت، قلت: وماذا بعد هذا؟

قال: حتى أراد الله أن يهديني، قلت: وكيف كانت الهداية؟ قال: خرجت من بيتنا في القرية لأذهب إلى منطقة محائل من أجل حضور مباراة بين ناديين كبيرين في المنطقة، يقول: فلما انطلقت في الخط تسرب الهواء من إطار السيارة، والحمد لله أنه حين تسرب الهواء من الإطار تسرب معه الشر من تلك اللحظة، وبدأت الحياة الإيمانية بتسرب الهواء من إطار السيارة.

يقول: السيارة فيها إطار احتياطي، لكن سوف تفوتني المباراة إن قمت بتركيبه، يقول: فقمت بإيقافها على حافة الطريق، وأوقفت أول سيارة، وركبت حتى أحضر المباراة من أولها، وما إن ركبت في السيارة إلا وصاحبها يضع يده على الشريط، ثم قام بتشغيل شريط إيماني لم أسمع في حياتي مثله، يقول: إنه لم يحضر صلاة جمعة ولا خطبة ولا ندوة ولا محاضرة، يقول: أنا معزول عن الله أعيش مع الشيطان أربعاً وعشرين ساعة، يقول: فسمعت هذا الكلام فدخل أذني واستقر في قلبي، وبدأت أراجع نفسي وأضرب حساباً مع نفسي، وأقول: أين أنا من هذا الكلام؟ وماذا لو مت الآن ودخلت النار؟ كيف أصحح الغلطة؟! لماذا لا أتوب؟! يقول: وصلت إلى محائل وقررت التوبة.

والتوبة والهداية -أيها الإخوة- ليست أمراً معجزاً للإنسان، هي قضية سهلة ما عليك إلا أن تقلع عن المعاصي، وتعلن التوبة والرجوع إلى الله، وإما أن تستمر على ما أنت عليه من المعاصي، فتعيش في ظلمات الكفر -والعياذ بالله!- والنفاق والمعاصي.

يقول: وعندما وصلت إلى مدينة محائل نزلت من السيارة ولم أذهب إلى المباراة، فركبت سيارة غيرها ورجعت إلى سيارتي، ومن ذلك اليوم رجعت إلى الله.

يقول: وقد مرت عليَّ سبعة رمضانات لم أصمها فماذا أصنع؟

قلت له: لو قلنا لك: بأن تصوم سبعة رمضانات فهل تصوم؟

قال: والله أصومها حتى لو كان سبعين رمضان. عندما دخل الإيمان انفتح القلب، وانشرح الصدر وتلألأ، وبدأت الهداية والخشوع والخضوع لله عزوجل.

قلت له: ليس عليك صوم؛ لأنك كنت في حكم الكافر، ما دمت لا تصلي ولا تصوم، فإن الله عز وجل يعفو عنك إن شاء الله، والتوبة تجب ما قبلها، والإسلام يهدم ما قبله، ولكن العبرة والمعول على المستقبل، فاستمر واثبت حتى تلقى الله، لا تتذبذب ولا تتردد ولا ترجع، فإن الذي يرجع وينتكس عن طريق الحق، هذا خائب لا خير فيه ولا يصلح للجنة؛ وهذه مشكلة يشكو منها بعض الشباب، يقول: أنا التزمت قليلاً ثم تظهر علامات الانتكاسة فيه يريد أن يرجع، تعرفون ما هو السبب؟

السبب: أنه لما سار في طريق الإيمان لم يخلِ قلبه وجوراحه من الآفات والشوائب والأخلاط، ثم جعل الخير على هذه الشوائب فما انتفع به، فإذا كان عندك كأس مملوء بالتراب والقذر، وجاءك شخص وأعطاك لبناً وقال: هات كوبك أصب لك فيه لبناً، هل تصب اللبن والحليب في هذا الكوب؟!! لا. وإذا صببته هل تستفيد من الكوب مع وجود هذه القذارة فيه؟! بل يفسد عليك هذا اللبن.

إن العقل يفرض عليك أن تغسل هذا الإناء، وتعقمه وتطهره، ثم تضع فيه اللبن لتستفيد منه، بعض الناس الآن يريد أن يجمع بين الخير والشر، يريد أن يصير طالباً مهتدياً ومنتظماً، ولكنه يحب الأغاني والنظر المحرم، والأفلام والربا والزنا، ويقول: أنا أحسن من غيري، أنا أصلي وأصوم لكن هل أكون ملتزماً دائماً؟!

ففرضية الصيام سببها وحكمتها وعلتها: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183] ثم يقول عز وجل بعد هذا: أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ [البقرة:184] يسهلها رب العالمين، يقول: لماذا الخوف؟ ولماذا لا تصومون، هل هو كثير؟ أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ [البقرة:184] العام فيه (360) يوماً، فرضنا عليكم فيها صيام (30) يوماً فقط، و(330) يوماً تأكلون فيها، ثم إن نسبة الصيام قليلة وسهلة، لو فرض الله علينا الصيام طوال العام أفي إمكاننا أن نرفض؟! لا نرفض والله، بل نصوم، لو فرض الله رمضان طوال العام لكنا صائمين، وما كنا مفطرين، لماذا؟ لأن الذي يفطر له النار، ولكن من رحمة الله أن جعل لك صيام شهر واحد، ثم جعل الشهر يعدل عشرة أشهر، وجعل ستة أيام في شهر شوال تعدل شهرين، بمعنى: أنك إذا صمت رمضان وأتبعته ستاً من شوال كأنك صمت العام كله، كما جاء في صحيح مسلم : (من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال كان كمن صام الدهر كله).

أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ [البقرة:184] ثم جاء الفرج من الله، وقال: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184] إذا ابتليتم بمرضٍ خارجٍ عن إرادتكم، أو ابتليتم بسفرٍ تحتاجونه لتحقيق مصالحكم؛ لأن مصالح البشر قائمة على التبادل والمعاوضات، والسفر والذهاب والمجيء، ويحتاج الإنسان للسفر؛ والسفر قطعة من العذاب، ولذا قد يحتاج إلى الإفطار، قال تعالى: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184] هذه حكمة الصوم.

ثم جاء التبرير والتوضيح لهدف الصيام، والحكمة من فرضيته فقال: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183] ليس الغرض تعذيبكم أو تجويعكم، فليس لله حاجة في ترككم طعامكم وشرابكم، ولكن الغرض تربيتكم ورفع درجاتكم، والهدف تعويدكم على الانتصار على النفس وشهواتها وملذاتها، تعويدكم على الانتصار على كل المباحات، فالغرض هو التقوى: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]، وإذا صرتم متقين حصلت لكم الخيرات من كل جانب، إذا صرتم متقين فإن الله وليكم في الدنيا والآخرة، يقول تعالى: وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ [الجاثية:19].

إذا صرتم متقين فيقول الله: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62] .. الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63] .. إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ [المرسلات:41] .. إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ [الدخان:51] .. إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ [الطور:17] .. إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر:54-55].

لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183] حتى تتقوا، فإذا وصلتم إلى درجة التقوى وهي: الشعور بالمراقبة لله الذي لا إله إلا هو، إذ أن الصوم هو العبادة الوحيدة التي لا يطلع عليها إلا الله؛ بإمكان كل واحدٍ أن يتظاهر أنه صائم، وبإمكانه بالخفية أن يفطر، من يعرفك؟! من يلازمك أربعاً وعشرين ساعة؟! من يراقب تصرفاتك؟!

ولهذا جاء في الحديث أن الله عز وجل يقول: (كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلا الصوم؛ فإنه لي وأنا أجزي به)، لم كان الصوم لله خالصاً من بين الأعمال؟ لأنه لا يمكن أن يعرف حقيقته أحد إلا الله.

ذكرت قصة حصلت لي في الجنوب في أبها : فقد كنت في معهد علمي ألقي محاضرة، وبعد المحاضرة وانفضاض الناس أمسك بي شاب تشرق أنوار الإيمان من وجهه، عليه بهاء الإيمان والدين، وقال لي: يا شيخ! عندي سؤال على انفراد، قلت: تفضل، قال: أنا شاب تائه تبت ورجعت إلى الله منذ تسعة أشهر، وسبق وأن مضى عليَّ سبعة رمضانات لم أصم لله فيها يوماً واحداً، ولم يسجل لي في صحيفتي حسنة واحدة من أول عمري؛ لا صلاة، ولا صيام، ولا أي عمل، قلت له: أين تعيش؟ قال: في هذا البلد، قلت: وأبوك وأمك لا يدرون أنك لا تصوم ولا تصلي؟ قال: أقول لهم: إني أصوم ولكني آكل في الخفية، وأقول لهم: إني أصلي ولكني أخرج من البيت ثم أعود وأقول لهم: قد صليت، قلت: وماذا بعد هذا؟

قال: حتى أراد الله أن يهديني، قلت: وكيف كانت الهداية؟ قال: خرجت من بيتنا في القرية لأذهب إلى منطقة محائل من أجل حضور مباراة بين ناديين كبيرين في المنطقة، يقول: فلما انطلقت في الخط تسرب الهواء من إطار السيارة، والحمد لله أنه حين تسرب الهواء من الإطار تسرب معه الشر من تلك اللحظة، وبدأت الحياة الإيمانية بتسرب الهواء من إطار السيارة.

يقول: السيارة فيها إطار احتياطي، لكن سوف تفوتني المباراة إن قمت بتركيبه، يقول: فقمت بإيقافها على حافة الطريق، وأوقفت أول سيارة، وركبت حتى أحضر المباراة من أولها، وما إن ركبت في السيارة إلا وصاحبها يضع يده على الشريط، ثم قام بتشغيل شريط إيماني لم أسمع في حياتي مثله، يقول: إنه لم يحضر صلاة جمعة ولا خطبة ولا ندوة ولا محاضرة، يقول: أنا معزول عن الله أعيش مع الشيطان أربعاً وعشرين ساعة، يقول: فسمعت هذا الكلام فدخل أذني واستقر في قلبي، وبدأت أراجع نفسي وأضرب حساباً مع نفسي، وأقول: أين أنا من هذا الكلام؟ وماذا لو مت الآن ودخلت النار؟ كيف أصحح الغلطة؟! لماذا لا أتوب؟! يقول: وصلت إلى محائل وقررت التوبة.

والتوبة والهداية -أيها الإخوة- ليست أمراً معجزاً للإنسان، هي قضية سهلة ما عليك إلا أن تقلع عن المعاصي، وتعلن التوبة والرجوع إلى الله، وإما أن تستمر على ما أنت عليه من المعاصي، فتعيش في ظلمات الكفر -والعياذ بالله!- والنفاق والمعاصي.

يقول: وعندما وصلت إلى مدينة محائل نزلت من السيارة ولم أذهب إلى المباراة، فركبت سيارة غيرها ورجعت إلى سيارتي، ومن ذلك اليوم رجعت إلى الله.

يقول: وقد مرت عليَّ سبعة رمضانات لم أصمها فماذا أصنع؟

قلت له: لو قلنا لك: بأن تصوم سبعة رمضانات فهل تصوم؟

قال: والله أصومها حتى لو كان سبعين رمضان. عندما دخل الإيمان انفتح القلب، وانشرح الصدر وتلألأ، وبدأت الهداية والخشوع والخضوع لله عزوجل.

قلت له: ليس عليك صوم؛ لأنك كنت في حكم الكافر، ما دمت لا تصلي ولا تصوم، فإن الله عز وجل يعفو عنك إن شاء الله، والتوبة تجب ما قبلها، والإسلام يهدم ما قبله، ولكن العبرة والمعول على المستقبل، فاستمر واثبت حتى تلقى الله، لا تتذبذب ولا تتردد ولا ترجع، فإن الذي يرجع وينتكس عن طريق الحق، هذا خائب لا خير فيه ولا يصلح للجنة؛ وهذه مشكلة يشكو منها بعض الشباب، يقول: أنا التزمت قليلاً ثم تظهر علامات الانتكاسة فيه يريد أن يرجع، تعرفون ما هو السبب؟

السبب: أنه لما سار في طريق الإيمان لم يخلِ قلبه وجوراحه من الآفات والشوائب والأخلاط، ثم جعل الخير على هذه الشوائب فما انتفع به، فإذا كان عندك كأس مملوء بالتراب والقذر، وجاءك شخص وأعطاك لبناً وقال: هات كوبك أصب لك فيه لبناً، هل تصب اللبن والحليب في هذا الكوب؟!! لا. وإذا صببته هل تستفيد من الكوب مع وجود هذه القذارة فيه؟! بل يفسد عليك هذا اللبن.

إن العقل يفرض عليك أن تغسل هذا الإناء، وتعقمه وتطهره، ثم تضع فيه اللبن لتستفيد منه، بعض الناس الآن يريد أن يجمع بين الخير والشر، يريد أن يصير طالباً مهتدياً ومنتظماً، ولكنه يحب الأغاني والنظر المحرم، والأفلام والربا والزنا، ويقول: أنا أحسن من غيري، أنا أصلي وأصوم لكن هل أكون ملتزماً دائماً؟!

ففرضية الصيام سببها وحكمتها وعلتها: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183] ثم يقول عز وجل بعد هذا: أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ [البقرة:184] يسهلها رب العالمين، يقول: لماذا الخوف؟ ولماذا لا تصومون، هل هو كثير؟ أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ [البقرة:184] العام فيه (360) يوماً، فرضنا عليكم فيها صيام (30) يوماً فقط، و(330) يوماً تأكلون فيها، ثم إن نسبة الصيام قليلة وسهلة، لو فرض الله علينا الصيام طوال العام أفي إمكاننا أن نرفض؟! لا نرفض والله، بل نصوم، لو فرض الله رمضان طوال العام لكنا صائمين، وما كنا مفطرين، لماذا؟ لأن الذي يفطر له النار، ولكن من رحمة الله أن جعل لك صيام شهر واحد، ثم جعل الشهر يعدل عشرة أشهر، وجعل ستة أيام في شهر شوال تعدل شهرين، بمعنى: أنك إذا صمت رمضان وأتبعته ستاً من شوال كأنك صمت العام كله، كما جاء في صحيح مسلم : (من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال كان كمن صام الدهر كله).

أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ [البقرة:184] ثم جاء الفرج من الله، وقال: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184] إذا ابتليتم بمرضٍ خارجٍ عن إرادتكم، أو ابتليتم بسفرٍ تحتاجونه لتحقيق مصالحكم؛ لأن مصالح البشر قائمة على التبادل والمعاوضات، والسفر والذهاب والمجيء، ويحتاج الإنسان للسفر؛ والسفر قطعة من العذاب، ولذا قد يحتاج إلى الإفطار، قال تعالى: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184] هذه حكمة الصوم.

ورمضان -أيها الإخوة- له ميزات في شريعة الله:

أولاً: فرض في السنة الثانية، فهو من أوائل ما فرض.

ثانياً: صام صلى الله عليه وسلم تسعة رمضانات.

ثالثاً: أنزل فيه القرآن.

رابعاً: فيه: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [القدر:3].

خامساً: تفتح في أول ليلة من لياليه جميع أبواب الجنة، فلا يبقى منها باب مغلق، وتغلق أبواب النيران فلا يبقى منها باب مفتوح، وتُغلُّ فيه مردة الشياطين والجن، وينادي منادٍ: يا باغي الخير أقبل! ويا باغي الشر أقصر! وكتب الله صيامه، وسن رسول الله صلى الله عليه وسلم قيامه، وقال في الصحيحين : (من صام رمضان -وقامه- إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) تخرج من رمضان وليس عليك من الذنوب ذنب واحد كيوم ولدتك أمك، تخرج إلى المصلى لصلاة العيد والملائكة على أفواه السكك والطرقات تقول للمسلمين: اخرجوا إلى رب كريم يغفر الذنب العظيم، وتوزع الجوائز والهبات والهدايا على الطرقات، ولا يرجعون من المصلى إلا وقد غفر الله لهم ذنوبهم بإذن الله، يغفر الله في كل ليلة لألف ألف، كلهم قد استوجبوا النار، ويغفر في آخر ليلة لثلاثين ألف ألف، كلهم قد استوجبوا دخول النار؛ هذا شهر رمضان المبارك، ولكن وما أمر لكن! لكن وما أشدها! ماذا فهم المسلمون من رمضان؟! هل تحققت في قلوبهم هذه المعاني؟! هل استلهموا هذه الإيحاءات؟! هل أدركوا هذه الأعطيات من الله؟!

إن الألم ليعصر قلوب المؤمنين، حينما يرون أن الناس -إلا من رحم الله- لم يفهموا من رمضان إلا معاني ضد أهداف رمضان؛ معاني عكسية، فرمضان يريد شيئاً وهم يعملون أعمالاً ضد أهداف رمضان.

سأتكلم لكم عن خمسة إيحاءات، مما نستوحيه من رمضان والناس على خلاف ذلك:

رمضان شهر الصيام والقيام لا شهر الشراب والطعام

الإيحاء الأول: إن كثيراً من المسلمين -إن لم نقل جلهم وأغلبهم ومعظمهم- شعروا أو فهموا أن رمضان شهر الطعام، وبرهنوا على هذا بتصرفاتهم؛ فتراهم في آخر يومٍ من شعبان أو قبله بيومين أو ثلاثة يتوجهون إلى الأسواق، وكأنهم لا يأكلون إلا في رمضان، كأنهم طوال السنة جائعون، ودخل رمضان شهر الأكل، ويملئون بيوتهم بشتى أصناف الطعام، وتقوم النساء بتقديم البيانات وكشوف الأطعمة للأزواج وتقول: هذه حاجيات رمضان، وشوال أليس له حاجيات؟! وشعبان ورجب أليس لها حاجيات؟! لكن رمضان له حاجيات، لماذا؟ لأنه شهر الأكل، بينما هو شهر الصوم، فقد فرضه الله لكي نعطل جزءاً كبيراً من وقتنا عن الطعام، وبالتالي يحصل توفير في أموالنا، وندخره لننفق به على إخواننا الفقراء والمساكين، لكننا غيَّرنا هذا المفهوم وجعلنا شهر رمضان شهر الأكل والطعام فينهال الناس على الأسواق، ولا يشترون بقدر الحاجة، ولكنهم يشترون بغير مقدار (بالكراتين) المرأة تقدم له قائمة، وتقول: (كرتون) شعيرية، و(كرتون) مكرونة، و(تطلي)، وشربة، وكريمة، و(قمر الدين)، ووقطر الموز؛ وقطر الموز هذا العلبة منه تكفي لشهر؛ لأنها قطرات فقط، وإذا لم يأت (بكرتون) يا ويله! لأن الحياة كلها أصبحت (كراتين) الله المستعان!! وبعدها يذهب هذا الرجل ويحمِّل سيارته بشتى أنواع الطعام ويخزنها في البيت، ثم يملأ الثلاجة، وفي أول يوم من رمضان في الصباح يتنقل في المحلات وفي الأسواق، ثم يأتي بكل شيء، ثم تقوم ربة البيت من بعد صلاة الظهر وهي في حالة استنفارٍ كامل؛ تستنفر كافة القوى في البيت؛ الخادمات والأولاد والبنات، وحتى الرجل يشغلونه ويقولون له: تعال تعاون معنا، ثم توقد النيران على الأطعمة، وتتعدد إلى خمسة عشر أو عشرين نوعاً من أنواع الأطعمة، ومن بعد الظهر إلى المغرب وهي مشغولة بالطبخ من أجل ماذا؟ قالوا: من أجل أن رمضان كريم، وبعدها يأتون ليفطروا على سبع تمرات وفنجان قهوة وفنجان الماء وشبعوا، ألستم تشبعون من هذا أيها الإخوان؟! والله كل المسلمين يشبعون من التمرات ومن كوب الماء والقهوة، ولو اكتفوا بهذا وصلّوا لكانت صلاتهم مريحة، ولعاشوا عيشة هنيئة، ثم إنهم لا يكتفون بهذا عند الإفطار، وإنما يأكل مع التمرات والسنبوسة، واللقمة، والشربة، والعصائر، والمهضمات، هذا هو الفطور الذي ينهي معدة جمل، أما العشاء فلا يبلعه إلا فيل، ويذهب ليصلي المغرب ثم يعود بعد صلاة المغرب وأمامه عشرات الأصناف، ويجلس ولا بد أن يأكل من كل صنف منها، والويل له إن لم يمد يده على كل صنف منها؛ لأن المرأة سوف تغضب وترفع صوتها عليه، وتقول: وأنا أشتغل لمن؟ وأنا أصلحته من أجل من؟ وأنا واقفة على رجلي طوال اليوم من أجل من؟ والله لا بد أن تأكل من هذا، ومن هذا، والله .. والله .. وذلك الرجل يقول: حسناً! حسناً! حسناً! حسناً! ويأكل ويأكل! وإذا امتلأ بطنه فلا يبقى له نفس، إن المعدة تقسم ثلاثة أثلاث؛ ثلثٌ للطعام، وثلث للشراب، وثلث للنفس، لكن الناس يملئون الثلاثة الأثلاث طعاماً، والماء يحشونه حشواً، وأما النفس فلم يعد هناك نفس، بعدها لم يستطع أن يتكلم، أما وقت التراويح، فإنهم لا يأتون للصلاة إلا متأخرين، الآن بين أذان المغرب وأذان العشاء مقدار ساعتين، وتراهم يأتون والإمام يصلي وهم هناك خلف المصلين، حسناً! أين هم من بعد المغرب؟

قالوا: كنا نأكل، ولو أنهم ملئوا سيارة خلال تلك المدة لملئوها! لا إله إلا الله! ثم بعد ذلك يذهب ليصلي وهو متعب مريض الجسم، مثقل بالأحمال التي قد ملأ بها بطنه، فيرى التراويح هذه من أعظم المهمات، وإذا وجد إماماً خاشعاً تالياً لكتاب الله، أي: يؤدي الصلاة بطمأنينة غضب عليه، وضاقت أخلاقه، وصلى ركعتين وخرج، وإن كان شجاعاً صلى ثلاثاً أو أربعاً، وإن صلى إلى آخر الصلاة تنظر إليه بين الصلاة وهو يراوح بين رجل ورجل، يقدم هذه ويؤخر هذه، وإذا دخل في الصلاة دخل كأنه واقع في قدر، من أجل المعدة المرهقة المتعبة المثقلة بشتى أنواع الطعام، ثم يخرج وبعدها يرجع ليأكل إلى السحور، طوال الليل مكسرات، وفواكه، ومشروبات، ومهضمات، ثم إذا جاء السحور قال: نريد سحوراً جامداً انتبهي! نريد شيئاً يبقى في بطوننا إلى المغرب، ثم يأكل إلى أن يؤذن، بل إن شخصاً سألني البارحة، يقول لي: هل أنا أتوقف من الأكل مع بداية الأذان، أو مع آخر الأذان؟ لا يريد أن يتوقف ولا دقيقة، قلت له: إذا أذن للمغرب هل أنت تأكل مع بداية الأذان، أو مع نهاية الأذان؟ قال: مع بداية الأذان، قلت له: لماذا لم تنتظر حتى يكمل الأذان؟! لماذا في السحور تأكل حتى ينتهي الأذان؟ فعليك أن تتوقف عند أول كلمة من أذان الفجر، كما أنك تبدأ بالفطور عند أول كلمة من أذان المغرب، لا عليك يا أخي! لو توقفت عن الأكل في السحور قبل عشر دقائق، لماذا تأخذ بنفسك إلى آخر درجة، لماذا؟ يقول: لا أريد أن أفوت دقيقة لا آكل فيها.

قولوا لي بربكم -أيها الإخوة- هل تحقق مفهوم الصيام من هذا الصائم؟

لقد شرع الله الصوم من أجل أن يشعر الإنسان بمرارة الجوع وشدة الألم، فيحس أن هناك مسلمين في العالم الإسلامي يموتون جوعاً، ويعيشون رمضان طوال العام لا يذوقون الأكل.

يقول لي أحد قادة المجاهدين: إن ثلاثة عشر مليون مسلم في أفغانستان من اللاجئين يتعرضون الآن للموت والمجاعة، والمجاهدون الأفغان الآن يبيعون أسلحتهم ليشتروا لأولادهم طعاماً، ومائتا طفل يموتون يومياً من الجفاف، ونحن نموت تخمةً وشبعاً، وبعد ذلك يذهب إلى (المستشفى)، فترى صفوف البشر بعد صلاة التراويح وهم ذاهبون إلى (المستشفيات) ونرى الأطباء في العيادات الخارجية؛ طبيب الأذن لا يوجد أحد عنده! وطبيب العين لا يوجد أحد عنده! وطبيب الأرجل والعظام لا أحد يأتيه! والناس كلهم مثل النحل على طبيب الباطنية، وكلهم باطنية، وكل شخص يشتكي: بطني يا (دكتور)! بطنك من عمل يدك، أوقف يدك، بعضهم مملوءة بالحبوب يأكل ويقول: هذا يهضم، وهذا شراب يهضم، لا تهضم ولا تكظم، دع الطعام في الثلاجة، وبعدها اعمل برنامجاً إسلامياً للغذاء، فهناك برنامج إسلامي للغذاء في رمضان، بعض النساء تتصور أن زوجها بخيل، وعليه أن ينفي عنه هذه التهمة، ويأتي إليها ويقول: يا فلانة! تقول: نعم، يقول: كم صرفنا في شعبان؟ مصاريفنا إلى كم تصل؟ تقول: تصل إلى ألفي ريال، ورمضان كريم نريد أن نصرف فيه ستة آلاف ريال، لكن بطريقة تختلف عن طريقة الناس، ما هي هذه الطريقة؟

الطريقة: أن نضع خمسة آلاف صدقة في يد الله، نرسلها لإخواننا الفقراء والمساكين في أفغانستان ، لنفطّر بها الصائمين هناك، وألف ريال نشتري بها طعاماً خفيفاً نفطر على تمرات فقط، ونرجع نتعشى ونأتي لنا بقرصين من العيش، أو ثلاثة أقراص من العيش نأتدم بحساء شربة، أو قطعة لحم بسيطة في مرق، أو قليل من الأرز ثم أذهب لأصلي، وبعد الصلاة نأتي لننام، وقبل الفجر نتسحر على تمرات؛ لأنه خير سحور المؤمن التمر، وإذا وجد عليه شيء من الفاكهة فلا مانع، ماذا تقول المرأة؟

إن كانت مؤمنة تقول: جزاك الله خيراً ما دام هذا فعلك، هذا صحيح ليس ببخل؛ فلو أنك بخيل لم تدفع خمسة آلاف ريال، لكن بعض النساء -والعياذ بالله- شبيهة بالسائمة لا تريد إلا أن تأكل وترقد، ولهذا إذا لم يأت لها بهذه الطلبات يا ويله! سوف تأكل عرضه، وقد تسبه عند الجيران وأقاربه وأهله وتقول: فلان أجاعنا، الناس في رمضان يأكلون ونحن نموت جوعاً بسبب هذا الرجل.

لا، وأنا أهمس -أيها الإخوة- همسة، في أذن أخواتي المؤمنات الموجودات في هذا المسجد، والسامعات لهذا الشريط أن يتقين الله في رمضان، نريد أن نحدث تغييراً في حياتنا، وفي طريقة غذائنا في رمضان، وبقي معنا خمسة عشر يوماً -أيها الإخوان- نحن الآن في النصف وبقي معنا خمسة عشر يوماً بإمكاننا أن نغير، وأن نضع برامج خفيفة سهلة للطعام، بحيث لا توقد نار، ثم أرجع إلى المرأة التي كانت تقف من بعد الظهر إلى المغرب على النيران أقول: تعالي من بعد الظهر إلى المغرب واقرئي القرآن، فبعض النساء الآن دخل رمضان وقد انتصف ولم تختم القرآن مرة واحدة، مشغولة (بالسنبوسة) تقليبها وتقريصها وتقطيعها وقليها وأخذها، هذه ليست مهمة في رمضان: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة:185] ما هو للأكل ولا للأقراص، تعالي لا نريد اليوم (سنبوسة) تعالي نقرأ القرآن، من بعد الظهر إلى المغرب ونحن نقرأ القرآن، وإذا جاء المغرب سهل ماذا سيحصل لنا، ليس هناك مشكلة، هذه البطن ليست مشكلة، فالأمر سهل، فضع في معدتك تمرتين وامتلأت، وبعدها والله ليس هناك أحسن من قلة الطعام، يقول الإمام الغزالي : سألت الأطباء فقلت لهم: ما سر طبكم؟ قالوا: في قلة الطعام، وسألت العلماء وقلت لهم: ما حكمة علمكم؟ قالوا: في قلة الطعام، وسألت الفقهاء فقلت لهم: ما علة فقهكم؟ قالوا: في قلة الطعام، وسألت الزاهدين في الدنيا فقلت لهم: ما سر زهدكم؟ قالوا: في قلة الطعام، فوجدت قلة الطعام فيه كل خير في الدنيا والآخرة، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما ملأ ابن آدم وعاءً شرٌ من بطنه) أي وعاء تملؤه ليس هناك أشر من بطنك (وبحسب ابن آدم لقيمات) ليس (لقمات) بل (لقيمات) تصغير أي: اثنتان أو ثلاث أو أربع (وكان صلى الله عليه وسلم يربط على بطنه الحجر والحجرين والثلاثة) من الجوع، وكان بإمكانه أن يأكل، لكن يقول: أريد أن أجوع يوماً وأشبع يوماً، فإذا جعت سألت الله، وإذا شبعت شكرت الله تبارك وتعالى.

فالإيحاء الأول من رمضان: أن نعتبره شهر الصيام والمعاناة والتعب، لا شهر الطعام والشراب، هل بإمكاننا أن نحقق هذا البرنامج؟

نعم بإمكاننا، وأن نوفر المبالغ الزائدة التي نصرفها في شتى أنواع الطعام ثم نرميه، فيا ليت الناس يطبخون الطعام ثم يأكلونه، لكنهم يصنعون هذه الأصناف، ثم ينتهون من أكل ما قدروا عليه، ثم يصبون الباقي على السفرة، يفتح البرتقالة ويأكل منها جزءاً فقط، وثلاثة أرباعها ترمى، ويفتح التفاحة ويأكل منها الربع وثلاثة أرباعها يدعها، ويأخذ حبة الموز ويقطع منها ربعها ويدع ثلاثة أرباعها، وصحن (المحلبية) يأكل منه ملعقتين ويترك أكثره، والأرز يأكل منه قليلاً ويترك أكثره، واللحم يأكل منه قطعة ويترك الباقي، وبعدها قرص العيش يكسره ويأخذ منه لقمتين ويترك الباقي، وبعدها هذه الأطعمة هل تؤكل بعد أن يؤخذ منها شيء؟

لا. بل تصب كلها على السفرة، ثم تجمعها المرأة أو الخادمة، وتريد أن تحملها فلا تستطيع حملها، بعض السفر تتمزق لكثرة ما فيها من النعم، وأين يذهب بها أيها الإخوة؟!

إنهم يذهبون بها إلى صناديق القمامة، ترمى مع القاذورات وهي نعمة من نعم الله، ولقد ورد في بعض الآثار الإلهية أن الله تعالى يقول: (إني أنا الله لا إله إلا أنا أغدق حتى يطئونه، ثم أمنع حتى يشتهونه) فالآن وصلت الأولى لقد أغدق الله علينا حتى وطئناه، ورميناه في القمامات أفنريد أن يمنعنا الله هذه النعم حتى نشتهيها؟!

انظروا فأكثر هذه النعم ليست من إنتاجنا -يا إخوان- لا يوجد عندنا برتقال أبو سرة، ولا موز أبو نقطة، ولا تفاح أبو لمعة، ولا يوجد عندنا أرز بسمتي ولا بشاوري ولا أمريكي، ليس عندنا إلا التراب والطين، لكن الله فجر لنا خيرات الأرض رحمة منه ونعمة، فله الفضل والمنة، وعلينا أن نشكر الله على هذه النعمة وأن نستغلها فيما نحتاج، والزائد لا نرميه -يا إخواني- نقول للمرأة: اطبخي وليكن من كل شيء قليلاً قليلاً، وبعد هذا القليل عندما تضع المرأة الطعام نأخذ قرصَ عيشٍ، ونمزقه بيننا كسرة كسرة، فإذا أكملناه نأتي بقرص ثانٍ، لكن تراهم يضعون عشرة أقراص عيش، وكل شخص يأخذ من كل قرص قطعة، ثم يرمون الباقي كله، سبحان الله! أين الخوف من الله؟!

والله يقول: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [النحل:112] أنريد أن يبدل الله هذه النعمة؟! يقول المثل عندنا: (ماذا بك تصيح وأنت الأعلى، قال: أخاف من الانقلاب)، نعم. نحن الآن نصيح ونحن فرحون، لماذا نصيح؟ نخشى من الانقلاب؛ لأن سنة الله لا تتبدل: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الأنفال:53] نخشى أن يغار الله على هذه النعم فيمنعها عنا، وبعدها نتمناها فلا نجدها في الأسواق، نتمناها فلا نشم رائحتها، بعد أن كنا نطؤها ونرميها في صناديق القمامة.

فعودة إلى المنهج الإسلامي الصحيح في الغذاء أن يكون هناك توفير اقتصادي بقدر الحاجة والزيادة من المبالغ؛ فبدلاً من أن تجعل عشرين صنفاً اجعل صنفين، والباقي أرسله لإخوانك المساكين، لا نقول: وفروا الأموال، لا. أرسلوا الأموال لإخوانكم المستحقين، ضعوها في ميادين الخير حتى تجدوا ثوابها وعاقبتها عند الله يوم القيامة، يربي ربكم تبارك وتعالى لأحدكم صدقته كما يربي أحدكم فلوه، ويأتي الرجل يوم القيامة فيجد حسناته كالجبال فيقول: ما هذه؟ قال: هذه صدقاتك رباها الله وضاعفها، مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً [البقرة:245] قد رأيتم وسمعتم ما حدث من المجاعة في أفريقيا، حتى كانوا يعطون الطفل الحليب يشربه فلا يريد أن يشرب؛ لأنه لم يذقه من يوم خلق، قد نشفت أمعاؤه ومعدته، لا يعرف كيف يشرب الحليب، لا يعرف كيف يمسكه، لا يدري أن هذا حليب وغذاء، يموتون من الجوع، وفي إندونيسيا وأفريقيا وأفغانستان وفي كثير من بلدان المسلمين مجاعة وفقر شديد لا يعلمه إلا الله، ونحن في هذا الخير الذي بين أيدينا، فلا بد من مراعاة النعمة والمواساة لإخواننا، وصيانة وتكريم النعمة بعدم وضعها في صناديق القمامة.

رمضان شهر التهذيب والانتصار على النفس

الإيحاء الثاني من رمضان: أن من أهدافه الانتصار على النفس، والاستعلاء على النزوات، بحيث تتهذب أخلاق المسلم، ويصبح خلقه خلقاً إسلامياً رفيعاً لا يغضب ولو استثير نعم. ولو استثير لماذا؟ لأنه صائم، ولهذا جاء في الحديث: (فإن سابه أحد فليقل: إني صائم) أي: أنا صائم وأستطيع أن أنتصر على الشهوات، وأن أرتفع عن كل هذه الأشياء، وبعد ذلك أهتم بنفسي فأهذبها، فبالتالي لو أن شخصاً أتاني يريد أن أغضب وأنا صائم، لا، بل أقول له: أنا صائم، والله لا أقدر أن أنزل معك في الإساءة، وأنا أتدرب على الخلق الرفيع لِمَ؟ لأني متحرر عن شهوات النفس، مستعلٍ على الأخلاق الرديئة، لكن الذي حصل اليوم أن أخلاق الناس -إلا من رحم الله- تسوء وتفسد في رمضان، فلا تسمع المضاربات والمشاكل والخصومات، وثوران الأعصاب وحدة التصرفات إلا في رمضان، وإذا جئت إليه وجدته غضبان ومتلفعاً بعمامته، وإذا جئت تقول له: ماذا فيك؟ قال لك: اذهب امش من عندي، ابحث لك عن عمل، رمضان كريم هي منتهية إلى هنا، لماذا هي منتهية؟ من أجل أن بطنه فارغة، سبحان الله! مسكين هذا، هذا عبد بطنه؛ إذا امتلأت بطنه ضحك واستراح وتخلق مع الناس، وإذا فرغت بطنه ثار وغضب، لا يا أخي! لست عبد بطنك، ولا عبد شهوتك، إنك عبد مولاك وخالقك، والذي خلقك يريد منك أن تتهذب بالأخلاق الإسلامية، وأن تستعلي على النفس وشهواتها وآفاتها، ومن أعظم آفاتها الغضب، فلا تغضب وأنت صائم، حتى ولو استثارك شخص، نعم. قد تكون مديراً أو موظفاً أو رئيس قسم، ويأتيك مراجع من المراجعين وهو غضبان بسبب أن معاملته تأخرت، فيقول: أنتم ليس فيكم خير، موظفوكم يلعبون، لا يأتون إلا الساعة الحادية عشرة، يبدأ العمل من الساعة العاشرة وهم يأتون الساعة الحادية عشرة، ويأتون ليناموا على المنضدة، ومعاملتي ضائعة، وأنا لي أسبوع وأنا آتي، فماذا عليك أن تقول لهذا المراجع؟: صدقت بارك الله فيك جزاك الله خيراً أبشر ولا يهمك هل عندك رقم؟ لا. ليس عندي رقم، أعطيتموني سبعين رقماً وضيعتها من كثرة الأرقام، أبشر أنا أعطيك الرقم، وتقوم معه إلى (الإرشيف) أو الوارد وتخرج له المعاملة، وتذهب إلى غير واحد حتى تقضي حاجته وأنت تبتسم، لماذا؟ لأن الإسلام والصيام هذب أخلاقك، لكن الذي يحصل الآن أنه لو أتى شخص بهذا الأسلوب فيا ويله! يقول له: لا تدخل عندي، وشخص ثان يقول: لا تدخل بعد الصلاة أيضاً، لماذا؟ قال: إني صائم، واعلم أني في قمة الغضب، سألقيها في وجهك، إذا أردت أن تعطيها فتعال في الفطر إن شاء الله، عندما يكون الشخص مفطراً يأكل ويشرب ويدخن وهو مستريح، أما الآن فليس عنده دخان ولا عنده شاهي، فالغضب قد بلغ الذروة، لا، ليس هذا مراد الإسلام من الصيام، إن هدف الصيام تهذيب الأخلاق، حتى ولو أن شخصاً أراد منك أن تغضب، فإنك تترفع وتقول: إني صائم. هذا الإيحاء الثاني.

رمضان شهر الجهاد لا شهر الدعة والقعود

الإيحاء الثالث: قضية السهر في رمضان؛ وهذه مشكلة المشاكل، وعقدة العقد عند المسلمين.

فقد شرع الله صيام رمضان، وشرع رسول الله صلى الله عليه وسلم قيام ليله، وبعد القيام ينصرف الناس إلى بيوتهم، وينامون ليستيقظوا، فيتسحروا ويصلوا الفجر، ثم يباشروا أعمالهم بقوة ونشاط، ولكن الذي يحدث الآن أن رمضان تصبح لياليه كلها سهراً، لا ينام الإنسان في رمضان إلى الفجر، ثم يأتي في الصباح وهو متعب، إما أن يأخذ إجازة، وأكثر الناس يأخذ إجازة في رمضان يقول: رمضان شهر النوم، نريد أن نأكل في الليل ونرقد في النهار، فهذا لم يقصر!! النهار نوم والليل أكل هذا هو رمضان، بينما الصحابة والسلف في النهار جهاد، والليل صلاة وقيام، رهبانٌ بالليل فرسانٌ في النهار، ولهذا كانت معارك الإسلام كلها تقوم في رمضان؛ غزوة بدر في رمضان، فتح مكة في رمضان، معارك التتار في رمضان، فكل الغزوات الإسلامية الفاصلة كانت تقوم في رمضان، لماذا؟ لأن المسلمين كانوا أكثر قوة ونشاطاً وإقداماً؛ لأنهم انتصروا على شهوات البطن فهم أقوياء، لكن الآن عندما سهر الناس في الليل تعطلت قواهم وخارت إمكاناتهم في رمضان، فنجد الموظف نائماً على مكتبه، ونجد الطالب نائماً على كرسيه، ونجد المدرس نائماً في المدرسة، ونجد البنت نائمة؛ كلهم نائمون، ماذا هناك؟ يقول أحد مدراء المدارس: دخلت على مدرس فصل في نهار رمضان، وحين دخلت وإذا بالطلاب نيام والمدرس نائم، يقول: فأخذت الكرسي وجلست بجانبهم، أريد أن أنتظر حتى يستيقظ، وينظر أني جالس أراقبه، وأني وجدته وهو نائم، يقول: فقعدت قليلاً فإذا بهم كلهم (يخطون) وبعدها رقدت معهم، رقد المدير والمدرس والطلاب في نهار رمضان، لا إله إلا الله! لماذا؟ لأن نوم النهار لا يحقق حاجة الجسم كنوم الليل، لو نمت في النهار من الفجر إلى المغرب، فإنك تقوم وأنت مريض، لكنك لو نمت في الليل ساعة أو ساعتين تقوم وأنت نشيط، لماذا؟ يقول العلماء: هذه آية من آيات الله؛ فقد قال الله في القرآن الكريم: يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ [القصص:72] وقال: وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً [الأنعام:96] قال العلماء: إن الناس ينامون في النهار، فلماذا خصص الله السكن في الليل؟

فبعد البحث والتشريح والدراسة والتأمل، وجدوا أن في مخ الإنسان خلايا، وأن هذه الخلايا إذا نام الإنسان في الليل سكنت، وإذا نام الإنسان في النهار بقيت مفتوحة، فيقوم الإنسان من نوم النهار وكأنه لم ينم،تنظر إليه ينام من الصباح ويقوم وهو ضعيف ومتعب، يريد أن ينام طوال اليوم، لكن دعه ينام ساعة أو ساعتين في الليل فإنه يقوم ما شاء الله والحمد لله! ذهب النوم، لماذا؟ لأن هذه الخلايا نامت.

فنوم الليل ضروري -أيها الإخوة- ولا داعي للسهر، خصوصاً السهر المحرم، حين يسهر الناس في ليالي رمضان المبارك على معصية الله؛ يسهرون على الأفلام، ومجالس الغيبة والنميمة وأكل لحوم البشر، أو السهر في الذي هو أشبه بلعب الأطفال، كلعب الورق الذي يعني ابتلي به كثير من الناس، حتى العقلاء منهم وكبار السن يلعبون الورق (البلوت)، وهذا شيء يستغرب من العقلاء، ولا ينبغي لهم أن ينزلوا إلى هذا المستوى، فهذا الورق أصله لعبة للأطفال، أنت لو جئت إلى مجموعة من الأطفال وهم يلعبون الورق لم تنكر عليهم، ولو جئت إلى مجموعة من الأطفال يلعبون المكعبات، تعرفون المكعبات البلاستيكية التي يلعب بها الطفل ويعمل منها بيوتاً؟ فإنك لا تنكر عليه، أو رأيته يلعب بسيارته أو بطائرته أو بدبابته أو ببندقيته، لكن ما ظنك إذا جئت إلى رجل كبير عمره أربعون سنة، ومعه كيس من المكعبات ويبني منها عمارة، تقول: ماذا تعمل؟ يقول: والله أبني لي عمارة من المكعبات، أو يكون معه سيارة صغيرة يلعب بها، تقول له: ماذا بك؟ قال: ألا تنظر الموديل الجديد، ما رأيك في عقلية هذا الرجل؟ أما تحكم عليه بأنه مجنون وعقليته عقلية الأطفال؟! نعم.

بالله هل هذا عمل العقلاء أيها الإخوة؟! إنه عمل أطفال، وبعدها يقضي الواحد الساعة والساعتين والثلاث والأربع والخمس والست إلى الفجر وهم يلعبون، لا يكلون ولا يملون، وهم مع ذلك يقامرون بأوقاتهم وحياتهم، وهذا يقوم وذاك يقعد، وبعد ذلك زوجته في البيت تنتظره ولا يأتي، ومن حين يدخل يقول لها: اعلمي أني سوف أتأخر الليلة، وهذه القاصمة على المرأة، تقول: لماذا تتأخر الليلة أين ستذهب؟ وماذا بقي عندها إلا أنت؟ تريد منك أن تؤانسها وتسامرها، وأنت تقول: لا. (البلوت) الليلة عند فلان وفلان وفلان، وإذا جاءت ليلته قال: اعلمي أن اللعب الليلة عندي، يا ويل تلك المرأة من الليلة! فإنها تحضر الشاهي و(النسكافية) والحليب والقهوة، كأنها (مكينة) طالعة نازلة طوال الليلة، والعصائر والفواكه، إلى الفجر وهم يلعبون الورق، وبعدها إذا قالت لهم: اتقوا الله يا جماعة! هذا لا يرضي الله، قالوا لها: ماذا تريدين أن نعمل؟ هل نذهب لنأكل لحوم الناس؟ ومن قال لكم: أن تأكلوا لحوم الناس، إذا لم تأكلوا لحوم الناس رجعتم إلى الورق! لا. إن المسلم ليس في حياته فراغ -أيها الإخوة- المؤمن مشغول، وكل دقيقة من دقائقه يجب أن يستغلها، في أي مصلحة له في الدنيا أو في الآخرة، أما إذا شعر أن عنده فراغاً فليعلم أنه فارغ من الإيمان، ما من ساعة تمر من ابن آدم إلا كانت عليه حسرة وندامة يوم القيامة، إذا لم يذكر الله فيها: (ما جلس قوم في مجلس لم يذكروا الله تعالى فيه إلا تفرقوا عن مثل جيفة حمار).

نحن نخاطب العقلاء والمنصفين ونقول لهم: اتقوا الله، إن مجالس (البلوت) هذه مجالس قمار بالوقت، والله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [المائدة:90-91] نعم. يجب على المؤمن أن يقول: انتهينا؛ لأنه يلعب (البلوت) ويوجِد في قلبه البغضاء والعداوة بينه وبين من يلعب أمامه، وبينه وبين الذي يغلبه، وبعدها يصده عن ذكر الله، لا يذكر الله طوال الوقت إلا بالأيمان الفاجرة فتمر عليهم الساعات والدقائق ولا يذكرون الله، والعياذ بالله.

فنقول أيها الإخوة: ليس هناك مانع من السهر المحدود المباح إذا كان على ما يرضي الله؛ إما أن تسهر مع زوجتك؛ وهذا من أعظم الأشياء، أو تسهر مع قريبك تزوره، أو مع رحمك تزورها، أو مع جارك تصله، أو مع مصالحك الدنيوية، كأن يكون عندك مكتب أو مؤسسة أو دكان، فليس هناك مانع، لكن إلى مستوى معين من الليل إلى منتصف الليل وهذا طويل، ثم تعود بعد منتصف الليل إلى بيتك وتنام، وتربي أولادك على النوم إلى السحور، ثم تقوم في السحور وتتسحر وتذهب إلى المسجد؛ هذا هو البرنامج الإيماني بالنسبة للسهر، أما من يقضي ليله في السهر الفارغ، ثم ينام سائر اليوم، هذا لم يعرف رمضان حقيقةً.

رمضان شهر القرآن والدعوة إلى الله

الإيحاء الرابع من إيحاءات رمضان: أنه شهر القرآن: والله يقول فيه: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَان [البقرة:185] يقول العلماء: إن تخصيص الذكر بنزول القرآن في رمضان، فيه إشارة ودعوة للمسلم على أن يجعل رمضان كله للقرآن، ولهذا كان السلف إذا دخل رمضان عطلوا حلقات العلم؛ التفسير .. الفقه .. الحديث .. التوحيد، جميع الحلقات تؤجل، وتبدأ كل حلقاتهم قرآناً في قرآن، يختمون بالليل والنهار، حتى روي أن الإمام الشافعي كان يختم في كل رمضان ستون ختمة، ختمةً بالليل وختمةً بالنهار، لا يُرى إلا قارئاً، لا يفتر لسانه من قراءة القرآن، لكن اليوم كم نقرأ من القرآن؟ الله المستعان! يمكن في أول رمضان ينشط بعض الناس وتكون عنده همة ويأخذ المصحف ويقرأ، لكن انتظر إلى اليوم الثاني تجد بعضهم لا زال في البقرة لم يكملها، يمر عليه خمسة عشر يوماً وهو لا زال فيها، وهناك بعض المؤمنين يختمون في كل يومين مرة، أو في كل ثلاثة أيام مرة، أو في كل أربعة أيام مرة، أو في كل خمسة أيام مرة، فشهر رمضان شهر القرآن.

اتل الـكتاب وسبح فيه مجتهداً     فإنه شهر تسبيح وقرآن

لا بد من تلاوة كلام الله في كل أوقاتك، ليكن مصحفك في جيبك، وفي مكتبك، وعند سرير نومك، وفي سيارتك، وكلما وجدت فرصة للتلاوة، حتى في العمل فاقرأ، إنك إذا كنت في وظيفتك فالمطلوب منك أن تصرف وقتك للوظيفة؛ لأن الوظيفة واجب والتلاوة نافلة، لكن إذا انتهيت من المعاملات ولم يبق عندك أي معاملة على مكتبك فاجلس وخذ المصحف واقرأ، وإذا جاءت المعاملات فضع المصحف وأنجز المعاملات، وبعد ذلك إذا أتيت لتنام فاقرأ، ومن حين يؤذن لكل صلاة أنت الأول، إذا كنت في الدوام عندما يؤذن فانزل الأول، من حين يؤذن تأتي لتصلي وترجع، تتعشى عشاءً خفيفاً وكن الأول، ولا تتأخر واذهب إلى المسجد مبكراً كي تقرأ القرآن، الفجر تتسحر وتأتي المسجد وتقرأ، تصلي الفجر وتقرأ، فاجعل كل حياتك في رمضان للقرآن.

وبعدها تقرأ بتدبر، لا تهذرم: (لا تهذوا القرآن هذَّ الشعر، ولا تنثروه نثر الدقل، ولكن قفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب) إذا رأيت آية من أوامر الله قف عندها واسأل نفسك، أين أنت منها؟

إذا رأيت نهياً من نواهي الله اسأل نفسك أين أنت من هذا النهي؟ اسأل نفسك أين أنت من هذا الخبر؟

قف عند القرآن وعجائبه وخذ العبر منه فهو هُدىً لِلنَّاسِ [البقرة:185] تأخذ من القرآن فكرة ومعنى الدعوة، لماذا؟

لأن الله يقول: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [البقرة:185] فتحمل أنت مشعل الهدى والبينات، وتسير به بين الناس، فتدعو نفسك وزوجتك وأولادك وجيرانك وإخوانك، وتدعو زملاءك في العمل، وجلساءك في المكتب، وكل من تعرف، لماذا؟ لأن الدعوة هي تركة النبي صلى الله عليه وسلم، التركة التي خلفها لنا النبي صلى الله عليه وسلم: الدين والدعوة، يقول الله عزوجل: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108] .. وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33].

إن مسئولية الدعوة مسئولية كل مسلم، فكل مسلم يجب أن يدعو بحسبه وليست الدعوة هي علو المنابر وحضور المحاضرات وإلقاؤها، لا. هذه جزء من الدعوة، لكن الاستقامة على الدين دعوة، تأييدك لرجل يأمر بمعروف ووقفتَ معه وقفة الحق دعوة، إذا رأيت صاحب منكر تقول له: يا أخي! هذا منكر لا يجوز لك. هذه دعوة، كل أساليب الدعوة يجب أن تسلكها انطلاقاً من قراءتك للقرآن، فمصيبة الأمة اليوم أنها صامتة، بل متفرجة، لو جئت إلى اثنين في الشارع وقد رأيت أنا هذا بعيني، وليس من أهل البلد وإنما هو من إخواننا الوافدين، خرج رجل مواطن من المسجد، وبيده (سيجارة) على باب المسجد وأشعلها، خرج وأنا أصلي في المسجد، عندما خرج هذا الرجل اعترضه أخٌ آخر في الطريق وسلم عليه وقال له: يا أخي أما كنت تصلي الآن؟ قال: نعم، قال: يا أخي! لا ينبغي لك بعد الصلاة أن تعصي الله (بالدخان)، تب إلى الله منه، فهذا الرجل المسكين المواطن غضب، ورأى أنها إهانة له أن يوجه له شخص نصيحة، لا سيما وأنه يرى أن هذا الأخ ليس من المقيمين، فغضب عليه وزمجر وصاح فيه صيحة عنيفة، وقال: أصلك (ملقوف) وماذا دخلك فيَّ؟ وهل أنت وحدك الذي تعرف الدين؟! نحن أهل الدين، وبدأ يشتمه، وسمعت الصياح وأنا في المسجد، فخرجت وإذا بالناس كلهم واقفون، والله ليس فيهم واحد ينصر هذا الأخ المسكين، إلا أنهم كلهم متفرجون، فجئت فقلت: ما الذي حصل؟ قال: هذا الذي لا يفهم وهذا .. قلت: وماذا هناك؟ قال: ينصحني ويقول لي: لا أدخن -والدخان في يده- قلت: وما المانع أن ينصحك؟ هل الدين لك فقط؟ لو أن فيك ديناً وخيراً لم تدخن يا أخي! نعم ينصحك: (الدين النصيحة) يا أخي! فنظر إلي وقام يطفئ (السيجارة)، قال: النصيحة ليست بهذا الأسلوب؟ قلت: ماذا قال لك: هل ضربك أو شتمك؟ قال: يقول لي: المفروض ألا أدخن، حسناً! فقط المفروض ألا تدخن يا أخي! اتق الله يا أخي! الحق ضالة المؤمن، أو لأنه من دولة أخرى، أو من جنسية أخرى، فأنت لا تقبل الحق؟ قال: لا. فقط أنا لا أرضى أن أحداً يقول لي، قلت: لا بد أن ترضى، ويجب أن تخضع للحق إذا كنت مسلماً، والذي لا يرضى بالحق فالله يقول: فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ [يونس:32] بعدها قام الناس قلت: يا جماعة! لماذا أنتم ساكتون؟ أليس هذا على حق؟ قالوا: نعم على حق. قلت: لماذا تسكتون؟ لماذا لا تناصرونه؟ أو من أجل أن هذا أجنبي وهذا من أهل البلد، الحق يا أخي! ضالة المؤمن، يجب أن تناصر الحق من أيٍ كان مصدره، ومع أي إنسان يحمله، الدين ليس وقفاً لأحد، الدين دين المسلمين من شتى بقاع الأرض.

فيجب أيها الإخوة: أن نكون ألسنة ناطقة بالحق، ولكن بحكمة ورأفة وحب وشفقة، ليس بسب وشتيمة وانفعال، مثل هذا الأخ، قال له: يا أخي! الله يجزيك خيراً، أنت خارج من المسجد المفروض ألا تدخن، فقط، فهذا نعرفه من ماذا؟ من قراءة القرآن يقول الله: هُدىً لِلنَّاسِ [البقرة:185] ليس هدىً لك أنت، بل هدى للناس كلهم ومن أين تجيء؟

يقول الله: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107] فالدين رحمة للعالم كله، ونحن -أيها الإخوة- ما دام عندنا إمكانية أن نبلغ دين الله فلنبلغ عن الله ولو آية، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو حديثاً واحداً. هذا الإيحاء الرابع: وهو تلاوة القرآن.

رمضان شهر التدرب على الأعمال الصالحة

الإيحاء الخامس وهو مهم جداً: وهو أن شهر رمضان بمنزلة الدورة التدريبية التي يعقدها الله للمؤمنين شهراً في كل عام، للتدرب على العمل الصالح، يتدرب المسلم فيها على القيام والصيام، والإنفاق والبذل والعطاء، وغض البصر، وصيانة السمع، وكف اللسان، وحفظ الفرج، المهم من أول رمضان إلى آخره وهو متعبد لله، سائر في طريق الله في الإيجابيات وهي الطاعات ويبتعد عن السلبيات وهي المعاصي، حسناً وبعد أن تنتهي هذه الدورة ماذا يراد منك أيها المسلم؟!

يراد منك أن تستمر على نفس الأداء، تستمر على تدريباتك التي أخذتها في رمضان، فكنت تصوم في رمضان فصم ستاً من شوال، كنت تقوم في التراويح فقم جزءاً من الليل في بيتك، كنت تغض بصرك في رمضان فغض بصرك في شوال، كنت قد هداك الله من المخدرات والدخان والمفترات والخبائث فاتركها في شوال، عرفت المساجد في رمضان، يجب أن تستمر على صلاتك في المساجد في شوال، وكنت تنفق من مالك في رمضان يجب -أيضاً- أن تنفق من مالك في شوال، فقد تدربت على الأعمال الصالحة.

لكن الذي يؤلم القلب أن كثيراً من المسلمين إذا انتهى رمضان انتهت علاقتهم بالعمل الصالح، إذا انتهت آخر ليلة من رمضان تراهم يودعون فيها المساجد، وترون في ليلة العيد، في صلاة الفجر من يوم العيد، كم يصلي في المسجد الذي فيه عشرة صفوف؟ ترون فيه صفاً واحداً، أما الآخرون انتهى رمضان وانتهت العبادة، لا إله إلا الله! إن أصحاب العبادات الموسمية هؤلاء لا تنفعهم يوم القيامة؛ لأن الله عزوجل يطلب منا أن نعبده حتى نلقاه، يقول الله: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99] أي: الموت، وليس حتى يأتي شوال، والذي يعبد الله عزوجل يجب أن يعبده في كل وقت وحين، والذي يعبد رمضان، فرمضان شهر لا ينفع ولا يضر، وافرض -مثلاً- أنك عبدت الله في رمضان ثم تركت في شوال، ومت في شوال ماذا ينفعك رمضان؟ العبرة بالخواتيم -اللهم اجعل خير أعمالنا خواتمها.

فينبغي للمسلم أن يكون هكذا، أنك إذا صليت العشاء ثم انتقض وضوءك قبل السلام، فما حكم صلاتك؟ باطلة، وإذا صمت نهار رمضان وأفطرت قبل الغروب بدقيقة واحدة، فما حكم صيامك؟ باطل، وكذلك إذا عبدت الله ثم تركت قبل الموت، لا ينفع شيء من عمرك الأول.

فلا بد -أيها الإخوة- من الاستمرار في العمل الصالح، وهذا الإيحاء نعرفه من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان وأتبعه بستٍ من شوال كان كمن صام الدهر كله) وأحد السلف يقول: [بئس القوم لا يعرفون الله إلا في رمضان] ولا يعني هذا أن يكون الناس في شوال على مقدار العبادة في رمضان، لا. فرمضان مميز بالصيام الدائم، مميز بالقيام الدائم، مميز بالإنفاق الكثير، لكن المستوى الأدنى في شوال حفظ الفرائض والرواتب في المساجد، المستوى الأدنى في شوال أن تصوم ثلاثة أيام، أو تصوم الست من شوال، المستوى الأدنى أن تتصدق ولو بخمسة ريالات يومياً من جيبك لإخوانك المجاهدين، أو الفقراء والمساكين، المستوى الأدنى أن تكون ذاكراً لله، أما المعاصي فالمستوى فيها أنك لا تعصِ الله لا في رمضان ولا في شوال، فإن الله يغضب إذا عصي في شوال كما يغضب إذا عصي في رمضان، والله حرم المعصية في كل زمان ومكان، وعلى أي أرض، وتحت أي سماء، يقول الله في الأثر الإلهي: (إني إذا أطعت رضيت، وإذا رضيت باركت، وليس لبركتي نهاية، وإني إذا عصيت غضبت، وإذا غضبت لعنت، ولعنتي تبلغ السابع من الولد).

هذه -أيها الإخوة- خمسة إيحاءات من رمضان:

الإيحاء الأول: الطعام وبرنامج الغذاء الإسلامي.

الإيحاء الثاني: الغضب والتوتر.

الإيحاء الثالث: السهر.

الإيحاء الرابع: قراءة القرآن والدعوة إلى الله.

الإيحاء الخامس: الاستمرار والثبات بعد رمضان على الإيمان والعمل الصالح حتى يلقى العبد ربه.

فإذا أخذنا هذه المعاني من رمضان، وفهمناها على المراد الشرعي منه، أما إذا فهمنا أن رمضان هو شهر الأكل في الليل، والسهر والنوم في النهار، فلم نعرف رمضان وستمر علينا جميع الرمضانات، ونخرج منها مثلما دخلنا فيها، ولهذا يقول أحد السلف: علامة قبول رمضان أن تكون في شوال أحسن منك حالاً قبل رمضان.

أما الذي تنظر إليه وهو في شعبان وشوال سواء، معنى ذلك أنه لم يقبل منه رمضان، ما علامة قبول رمضان ونجاحك في رمضان؟

أن تكون في شوال إنساناً جديداً، تختلف عما كنت عليه في شعبان، أما إذا كنت في شعبان تغني وفي شوال تغني، في شعبان يزني، وفي شوال قد يزني، في شعبان يرابي وفي شوال -أيضاً- يرابي، في شعبان لا يصلي في المسجد، وفي شوال ترك الصلاة في المسجد، إذاً ما قيمة رمضان عند هذا؟ رمضان دخل وخرج وما زدت فيه إلا أن أكلت وسهرت ونمت ولعبت، وانتهى رمضان دون أن تحصل منه على المعاني التي شرعها الله، والتي قال الله فيها: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183].

أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يتقبل منا ومنكم الصيام والقيام، وأن يعيننا وإياكم على الطاعة والعمل الصالح، إنه ولي ذلك والقادر عليه.


استمع المزيد من الشيخ سعيد بن مسفر - عنوان الحلقة اسٌتمع
اتق المحارم تكن أعبد الناس 2930 استماع
كيف تنال محبة الله؟ 2929 استماع
وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً 2805 استماع
أمن وإيمان 2678 استماع
حال الناس في القبور 2676 استماع
توجيهات للمرأة المسلمة 2605 استماع
فرصة الرجوع إلى الله 2572 استماع
النهر الجاري 2478 استماع
دور رجل الأعمال في الدعوة إلى الله 2468 استماع
مرحباً شهر الصيام 2403 استماع