علامات محبة الله


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أيها الإخوة في الله! إن الوضع الصحيح للمسلم في هذه الحياة الذي لا خيار له فيه هو أن يسير في الطريق الذي يوصله إلى الرضوان، وإلى الفوز بالجنان، والنجاة من النيران، فلا خيار، بل هو البديل الأفضل، والخيار الأكمل أن تستجيب لداعي الله؛ لأن الذي لا يستجيب لداعي الله ويستجيب لداعي الشيطان فليس بمعجز في الأرض، إن قدرة الله غالبة، والله غالب على أمره، وإنه ليملي للظالم السادر في غيه، الذي يحارب ربه، ويعاند دين الله عز وجل، ولكنه إذا قبضه أخذه أخذ عزيز مقتدر، ثم لم يفلته إلا في النار.

وأنت أيها الإنسان! ضعيف، لا حول لك ولا طول، ولو تصورت أنك قوي، وأنك تملك الإمكانيات، لكنك ضعيف أمام قوة الله، تذكر وضعك وأنت في حشرجة الموت، وفي ساعات الضعف، حينما تلتف الساق بالساق، وحينما ترتخي المفاصل، وتنخسف الأصداغ، وتميل الأنف، وتضعف القوى، وتنهار الإمكانيات، ولا تستطيع حولاً ولا طولاً، ولا يستطيع من حولك من الأولاد أو من الأفراد، أو مما تمتلك من الأموال، أو ما قد سعيت إليه من المنصب أو الجاه أو المنزلة في القبيلة أو العشيرة، لا تستطيع كل هذه الأشياء أن تغني عنك شيئاً، قال تعالى: فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [الواقعة:83-87] أتستطيعون أن تدفعوا؟! أتستطيعون أن تمنعوا؟! أتستطيعون أن تنفعوا في تلك اللحظات؟! لا. فغاية ما عند الإنسان أنه يمسك الميت ويجلس عند رأسه، أو وراء ظهره، أو عند أرجله، يبكي على قريبه.

أما ذاك فمسلم أمره إلى الله، ومنتقل إلى مولاه، إن خيراً فخيراً، وإن شراً فشراً، وهناك يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:27] ويجزي الله هذا الإنسان في الآخرة على ضوء الحصيلة التي جاء بها من الدنيا؛ لأن هذه الدنيا سوق والناس يردون هذا السوق، ثم يصدرون بأعمالهم، وتكون المحاسبة لهم في الآخرة على ضوء أرباحهم أو خسائرهم في هذه السوق، يقول الله عز وجل: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ [القصص:84] أي: من دخل سوق الحياة، ورجع إلى الله ببعض الحسنات والعمل الصالح فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا [القصص:84] ولا يعطي الله الحسنة فقط، بل يعطيه خيراً منها وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [القصص:84].

فكما تدين تدان، ومثلما تُعامِل تُعامَل، وكما كنت مع الله يكون الله معك، وفي آية أخرى في سورة النمل يقول الله عز وجل: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ [النمل:89]. اللهم إني أسألك من فضلك وإخواني المسلمين مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا [النمل:89] وأيضاً مع هذا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ * وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ [النمل:89-90].

يا إخواني! تصورنا تصور سطحي سقيم، ما دخلنا في أعماق تصور صحيح حتى نتذوق ونعرف ما في النار، فالنار شيء بسيط في حياتنا!! ولكننا لا نستطيع تحمل أبسط نتائج النار، فالماء الحار لا نستطيع أن نشربه إلا إذا بردناه، والهواء في اليوم القائظ لا نستطيع أن نجلس فيه إلا وقد عملنا مروحة أو مكيفاً، فكيف بمن طعامه النار، وفراشه النار، وشرابه النار، ودفائه النار، ومسكنه النار، لا إله إلا الله! فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [النمل:90].

فما نجزى إلا ما كنا نعمل، قال الله عز وجل: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النجم:31].. وقال تعالى: هَلْ جَزَاءُ الْأِحْسَانِ إِلَّا الْأِحْسَانُ [الرحمن:60] فهذه الآية مضمونها ومفهومها: أن الإساءة جزاؤها الإساءة، والله لا يظلم مثقال ذرة يوم القيامة، قال تعالى: وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً [النساء:40].

فالخيار الصحيح والوضع الطبيعي لك -أيها المسلم- أن تستجيب لداعي الله، وأن تعرض عن داعي الشيطان؛ لأن الله هو خالقك، وبارئك، والذي أوجدك، وأمدك بالنعم، ويتولاك، وهو الذي سوف يميتك، ويبعثك، ويجازيك ويحاسبك.

أما الشيطان فهو عدوك في الأصل، والمنشأ، وعداوته عداوة عميقة في جذور التاريخ والزمن، منذ أن كان أبوك في الجنة، فهو الذي وسوس له وأخرجه من الجنة، وهو الذي أقسم أن يغويك وأن يقعد لك الصراط المستقيم: قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ [الأعراف:16].

والصراط المستقيم هو: الإسلام، ويقسم بالله عز وجل أن يقعد لأبناء آدم، أين؟ قال: صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ [الأعراف:16] أي على الناصية .. على الطريق المستقيم .. على الإسلام، فلا يترك أحداً يدخل في دين الله: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ [الأعراف:17] أي: يأتيك أيها الإنسان من كل اتجاه، إذن أين تذهب؟ إذا أتاك العدو من كل باب وليس هناك سبيل لتجنبه، أتقعد مع العدو وهو قادر عليك؟! لا. بل تدخل من جهة الصديق، فوليك وربك وخالقك وحبيبك ومولاك هو الله تبارك وتعالى.

والشيطان لم يقل: ومن فوقهم، لأنه لا يستطيع.

فإذا جاءك من أمامك -يقول المفسرون: أنه يأتي من أمامك- أي: يكذبك ويزهدك في الآخرة، ويسوف لك ويمنيك ويعدك.

ومن خلفك يرغبك في الدنيا، ويشدك إليها، ويحرصك عليها، ويجعلك تتكالب عليها.

وعن يمينك يكرهك في الحسنات، ويزهدك فيها، فلا تريدها بشيء.

وعن يسارك يرغب لك السيئات، والمعاصي، والذنوب، ويحسنها ويزينها، ويجعلها أحب شيء إلى الإنسان، قال تعالى: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [سـبأ:20].

فيا أخي! فر إلى الله، واهرب وسابق إلى مولاك تبارك وتعالى، يفتح لك ربك بابه؛ لأن الله عز وجل يفرح بتوبة عبده كما جاء في الصحيحين ، يقول عليه الصلاة والسلام: لله أشد فرحاً بتوبة عبده من أحدكم كان في فلاة معه راحلته وعليها زاده وماؤه فضاعت الدابة، فاستيقظ وإذ به لا يجد دابة، ولا زاداً، ولا ماءً، وهو في صحراء، فبحث عنها فلم يجدها، فلما يئس منها، استسلم للموت، ونام تحت شجرة؛ لأنه لا يجد إلا الموت. فردها الله عليه ووقفت عند رأسه، فاستيقظ ورآها فلما رآها رأى الحياة، وكأنه إنسان محكوم عليه بالإعدام والموت، ثم رأى الحياة، فقام من شدة الفرح وقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك غلط من شدة الفرح، لأنه موقف يجعل الشخص يغلط رغماً عنه.

أخطأ -يقول عليه الصلاة والسلام- من شدة الفرح فالله أشد فرحاً بتوبتك أيها العبد المسلم! من فرحة هذا الرجل بعودة ناقته، والله عز وجل لا تضره معصيتك، ولا تنفعه طاعتك، كما جاء في الحديث الذي يرويه أبو ذر الغفاري رضي الله عنه، والذي فيه ثمانية نداءات يا عبادي! منها: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم؛ ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، ولو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم؛ ما زاد ذلك في ملكي شيئاً) ولكن إن أحسنتم فلكم، وإن أسأتم فعلى أنفسكم، والله تبارك وتعالى غني عن العالمين.

فيا أخي المسلم! إن ما نلحظه ونشاهده -والحمد لله- من عودة صادقة في صفوف الأمة، شيباً وشباناً، رجالاً ونساءً، وكباراً وصغاراً، هذه العودة تبشر بخير والحمد لله، ونأمل من الله المزيد فليس بغريب أن يعود الناس إلى مولاهم، بل الغريب أن يهرب الناس من الله، خصوصاً في هذا الزمن الذي أقام الله فيه علينا الحجة وأمدنا فيه بالنعم، وصرف عنا جميع النقم، وآتانا من كل ما سألناه، بل آتانا مما لم نسأله، وأقام علينا الحجة، وكان الله لنا في الدنيا كما نريد، فيجب أن نكون له كما يريد، وإلا فإن الله يقول: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الأنفال:53].

فنخشى أن نغير ما بنا من الشكر والطاعة، فيغير الله ما بنا من النعمة والأمن، وكما نحب أن يكون الله لنا، يجب أن نكون كما يحب الله عز وجل.

محبة الله عز وجل هدف كل مؤمن، وغاية كل موحد، وإذا أحبك الله، أقبلت إليك طرق الخير من كل جانب، وإذا أبغضك الله، تولت عنك طرق الخير، وأقبلت عليك طرق الشر؛ لأن من أحبه الله أحبه كل شيء، ومن أبغضه الله أبغضه كل شيء، (إذا أحب الله عبداً نادى في السماء: يا جبريل! إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، ثم يأمر الملائكة كلها في السماء أن تحبه، فتحبه وتستغفر له في السماء) قال تعالى: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ [غافر:7-9].

هذه الملائكة في السماء تدعو لك وأنت لا تعلم .. تدعو لك أن يغفر الله لك، وتدعو لك أن يدخلك الله الجنة، وتدعو الله لك أن يدخل الله معك آبائك، وأمهاتك، وزوجاتك، وذرياتك؛ لأنه لا تتم لك فرحة في الدنيا إلا وقد جمع الله لك بين آبائك وأزواجك وذرياتك، فما بالك بالآخرة: رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ [غافر:8] ومن تدخل معهم؟ وَمَنْ صَلَحَ [غافر:8] ليس كلهم، وليس حوش بقر، فمن أتى دخل، لا. هذه جنة لا يدخلها إلا أهلها وَمَنْ صَلَحَ [غافر:8] أما من طلح فليس له إلا النار.

لما قال نوح: رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي [هود:45] وكان عنده وعد من الله، قال الله: فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ [المؤمنون:27] وفهم نوح أن أهله، أي: أسرته، ومراد الله أهله أي: أهل عقيدته، أهل دينه، فالأهلية هي: أهلية العقيدة، فولدك إذا كان على دينك فهو من أهلك، وإذا لم يكن على دينك فهو ليس من أهلك.

والبعيد إذا كان على دينك فهو من أهلك، وإذا لم يكن على دينك فليس من أهلك؛ لأن الله عز وجل يقول: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة:22] ثم قال: وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ [المجادلة:22] لأن صلة العقيدة فوق كل صلة، ورابطة الإيمان والدين فوق كل رابطة، ففهم نوح عليه السلام أنه من أهله فقال: إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ [هود:45] قد قلت: أركب أهلي، وابني لم يرض أن يركب يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوي إِلَى جَبَلٍ [هود:42-43] رجل مادي، عقلية متحجرة، يقول: سوف أذهب إلى رأس جبل يمنعني من الماء قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ [هود:43] لأن الله عز وجل قال: وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ [القمر:12] .. فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ [القمر:11] فالتقى ماء السماء بماء الأرض، حتى التنور الذي هو مكان النار، والذي لا يتوقع أن يكون فيه ماء، يفور بالماء، النار والماء متضادتان، ولن يجتمع النار والماء، لكن الله جعل من موطن النار ماء حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ [هود:40] فارت كل الدنيا حتى موطن النار أصبح يصعد بالماء، قال الله عز وجل: قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ * قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ [هود:46-49].صحيح أن الفجرة والعصاة والمجرمين والمنحرفين يبدوا لهم نوع من الإمهال، ونوع من الإضلال، ونوع من المكر من الله عز وجل، ونوع من إعطائهم فرصة، لكن لمن العاقبة في كل ساعة وفي كل حين؟ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف:128].

فالله تبارك وتعالى يخبر أن الملائكة تقول: وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [غافر:8] ثم تدعو الملائكة لك وأنت في الأرض تقول: يا رب! قهم السيئات، واصرف عنهم الذنوب، واحمهم منها؛ لأن الذنوب مهلكة .. الذنوب قاطعة عن الله .. الذنوب مانعة عن الوصول إلى الله، فهي حجاب بين العبد وبين الله، فهذه الذنوب والمعاصي عقبات وموانع وحواجز فلا تستطيع أن تصل إلى الله بوجود الذنوب، فإذا أردت أن تصل فأمط الذنوب والآثام من الطريق، واركب مطية العمل الصالح تصل إلى الله بسلام، لكن حين تكون المطية معطلة، والعمل الصالح قليل، والموانع كثيرة كيف تصل؟! لا تصل.

قال الله: وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ [غافر:9] ثم قالت الملائكة: وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [غافر:9] اللهم قنا السيئات يا رب!.

ودائماً أنا أقول للإخوة الذين يشكون من سيطرة وغلبة المعاصي على قلوبهم أقول لهم: إن خير دواء للتخلص من الذنوب سؤال الله عز وجل، ليس هناك أعظم من التجائك إلى الله؛ لأن الذنوب والمعاصي من وساوس الشيطان، يقول الله: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ [البقرة:268] أي فحشاء، وأي معصية، وأي منكر في الأرض؛ كلها من الشيطان، فإذا اعتصمت بالله، ولذت بالله، وسألت الله، كفاك الشيطان وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [آل عمران:101].

وهنا مثال ذكرته أكثر من مرة وهو: إذا كنت سائراً من أمام بيت بدوي وانطلق عليك كلبه ليعضك وينبح عليك ويريد أن يعتدي عليك، فإنك إن قعدت تنابح الكلب وتراجمه أتعبك، وإن تركته سوف يعضك، لكن إذا أردت أن تسلم منه فادع راعي البيت البدوي وقل له: اكفنا من كلبك، فسيمسكه ويربطه، ولا يأتيك أبداً.

فالشيطان هو كلب هذا الإنسان، ينابحه ويعضه ويفترسه، ويريد أن يهلكه، فإذا أردت أن يمنعك الله منه، فادع الله أن يعصمك، ولهذا يقول الله: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [فصلت:36]؛ لأنك إذا نزغك الشيطان فأطعته ركبك، أما إذا نزغك فاستعذت بالله قمعه وطرده وأبلسه، والنزغ هنا كما يسميه العلماء: هو إما إيعاد بشر، أو تكذيب بخير، أو أمر بمعصية؛ لأن القلب السليم هو: القلب الذي سلم من كل شبهة تعارض خبر الله، أو من كل شهوة تعارض أمر الله، أو نهيه، فأنت -أيها المسلم- في هذه الدنيا ثلاثة أشياء: أمام أمر، ونهي، وخبر.

أمر من الله، مثل: التوحيد، الصلاة، الزكاة، الصوم، الحج، البر، هذه كلها أوامر.

أو نهي من الله مثل: لا تزنِ، لا تسرق، لا تقتل، لا تقف ما ليس لك به علم، لا تأكل مال اليتيم، هذه اسمها نواهي.

أو خبر من الله، خبر عن قضايا الإيمان: خبر عن الجنة، والنار، والبعث، وعذاب القبر، والصراط، والجزاء، والحوض، والميزان، والكتب؛ هذه أخبار ترد عليك من الله، فأنت أمام هذه الأوامر لا يسعك أمام الخبر إلا التصديق، ولا يسعك أمام النهي إلا الابتعاد، ولا يسعك أمام الأمر إلا الامتثال، فإذا سلم قلبك من شبهة تشكك في خبر الله، أو من شهوة تعارض لك أمر الله أو نهي الله سلم قلبك.

إن محبة الله تبارك وتعالى غاية كل مؤمن، والله عز وجل يلقي لك المحبة في السماء، ثم يقول جبريل: (يا ملائكة الرحمن! إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض) فيحبك كل شيء، وعلى قدر حبك لله يحبك أهل الأرض، وعلى قدر بغضك وبغض الله لك يبغضك أهل الأرض، حتى ثوبك الذي على جسدك يبغضك، كما ورد في بعض الآثار: أن تارك الصلاة إذا خرج من بيته قال له البيت: لا ردك الله من سفرك، ولا خلفك في أثرك، ولا رجعك إلى أهلك سالماً.

وورد أنه إذا رفع اللقمة إلى فمه قالت له اللقمة: لعنك الله يا عدو الله، تعرف فن البلع والهضم ما شاء الله -مثل- (الدركتر) لكن إذا أتيت إلى الصلاة أعجز من جدتك، تقول له اللقمة: لعنك الله، وبعض العصاة يأكلون في كل وقت، أي: كل لقمة فيها لعنة، فلو أكل مائة لقمة ففيها مائة لعنة، ولو أكل مائتي لقمة ففيها مائتي لعنة، فكأنه يزيد من اللقم ويزيد من اللعنات، تقول: لعنك الله يا عدو الله، تأكل من رزق الله ولا تؤدي حق الله، وإذا لبس الثوب على جسده قال الثوب له: لعنك الله، والله لولا أن الله سخرني لك لفررت منك، ثوبه لا يريده، الأرض التي يسير عليها تلعنه، الهواء الذي يتنفسه يلعنه، الوردة التي يقطفها ويحرمها الحياة ليتلذذ برائحتها تلعنه، كل شيء يبغضه؛ لأن الله قد أبغضه.

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ [البقرة:165] وإذا أردت أن تعرف هل الله يحبك؟ فاسأل نفسك أولاً: هل أنت تحب الله؟ لأن الله عز وجل يقول: في سورة المائدة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة:54] يبادلونه المحبة، فما أحبهم إلا لأنهم أحبوه، لكن إذا أبغضوه أبغضهم؛ لأنه غني ليس بحاجة إلى أن يحب من يبغضه وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ [محمد:17] ولما زاغ أولئك أزاغ الله قلوبهم.

فإذا أردت أن تعرف مقدار منزلة حب الله لك أنت، فاعرف مقدار منزلة حب الله في قلبك، هل أنت تحب الله حقيقة أم لا؟ ولكن هناك علامات للمحبة، وهناك أسباب لها، فأولاً نذكر لكم علامات المحبة، من هو المحب لله حقيقة؟ ثم بعد ذلك نذكر الأسباب الجالبة لمحبة الله، ولقد ذكرها كلها الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه إعلام الموقعين ، وهو كتاب عظيم من كتبه، أنصح كل شاب أن يقرأ كتب ابن القيم على الإجمال، أي كتاب تجده لـابن القيم فاشتره ولا تبالي.

فأما علامات حب الله عز وجل للعبد فهي خمسة:

قال تعالى: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة:54] ما صفاتهم يا رب؟! قال: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [المائدة:54] متواضعين، مخبتين، والإخبات قال الله: وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [الحج:34-35].

الإخبات: صفة من صفات أهل الإيمان، وقد ذكرها ابن القيم في مدارج السالكين على أنها منزلة من منازل السير إلى الله في الدار الآخرة، والإخبات مأخوذ من الخبت، والخبت: هي الأرض المنبسطة التي خيرها كثير وليس منها شر، والخبت هي المنطقة الموجودة في تهامة، أخذ الإخبات من الخبت؛ لأن الخبت أرض سهلة منبسطة، وبعد ذلك منخفضة متواضعة، وخيرها إذا جاءها مطر، يأتي الواحد منا فيزرع فيغرس المسافة الطويلة ومعه الحبوب في كفه والعصا في يده، فيغرس العصا في الأرض ويضع الحبة فقط -حبة مكان العصا- وبعد ذلك يخطو خطوتين ويضع غرسة وحبة، وبعد أيام إذا بالحبة هذه قد كبرت، لا يسقيها ولا يحميها، ولا يحرسها، ولا يتخولها، ولا يتعهدها، ولا شيء، إنما يضع حبة، فتنبت منها الخيرات.

فالمؤمن أولاً سهل، وبعد ذلك منبسط فليس بمعقد، وبعد ذلك متواضع ليس بمتكبر ولا متعالٍ، وبعد ذلك خيره كثير، ضع له شيئاً فترى شيئاً عظيماً، وبعد ذلك لا يتعبك في شيء، لكن المنافق والعياذ بالله عكس هذه كلها، صلب مستعلٍ متكبر، خيره قليل وشره كثير والعياذ بالله وبعد ذلك معقد، وملتوٍ، ومنافق، حين تبحث عنه لا تراه؛ لأن النفاق أُخذ من النفق، والنفق هو المكان المتلوي الذي لا ترى له اتجاهاً معيناً.

فالمؤمن متواضع ذليل، قال الله عز وجل: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [المائدة:54] أي: لا يتكبر على إخوانه المؤمنين، ويتواضع لهم، ويرحم صغيرهم، ويوقر كبيرهم، ويزور مريضهم، ويسلم على مارهم، ويتبع جنازة أخيه المسلم، يشمت أخاه المسلم، إذا دعي إلى وليمة ولم يكن له عذر جاء وأجاب، وإذا كان له عذر اعتذر من أول الأمر، وقال: لا آتي، لا كما يصنع أكثر الناس اليوم، يدعى فيقول: حسناً .. وهو ينوي ألا يأتي، حتى قال لي شخص من الناس: والله إني وزعت مائتي (كرت) ولم يأت إلا عشرين رجلاً، وذبحت ثمانية خراف، واعتبرت أن لكل خمسة وعشرين رجلاً خروفاً، وقلت: لكل مائة أربعة، فذبحت ثمانية خراف وجاءني عشرون رجلاً، وجلس كل واحد على خروف، يرون اللحم ولا يريدونه، لكن لو أن الذين أعطيتهم الكروت كلهم اعتذروا لي عن الحضور وقالوا: والله مشغول، أو أنا معزوم، أو عندي موعد أو ارتباط، لذبحت بدل الثمانية أو العشرة اثنين.

المؤمن ذليل أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [المائدة:54] ويضاد هذه الصفة العزة على أهل الإيمان، من الناس من هو متكبر متعالٍ: إما بماله، أو بسلطته، أو بوظيفته، أو بنسبه، أو بأولاده، أو بما يملك، يتعالى ويتكبر ويتعاظم، فهذا ليس من صفات أهل الإيمان.

فإذا أردت أن تعرف أن الله يحبك، فمن علامة محبة الله لك أن تكون ذليلاً على المؤمنين، وإذا كنت عزيزاً مستكبراً متعالياً متعاظماً، تنظر إلى الناس بنظرة الاحتقار، والازدراء، والتعالي، وترى أنهم تحتك وأنك أحسن منهم، وأنهم فقراء وأنت غني، وأن نسبهم وضيع وأنت رفيع، وأنهم سوُد وأنت أبيض، وأنهم ضعاف وأنت قوي، أي: تعتز وتفتخر بنعم الله التي ساقها الله لك، فاعلم أن الله يبغضك؛ لأنك تفتخر بشيء ليس منك، فالعافية والرزق والأولاد والجاه والغنى وكل شيء من الله، لماذا تتفاخر وتتمدح بحق غيرك؟!! يقول الله: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ [النحل:53].

فاشكر الله -يا أخي- وتواضع؛ لأن المؤمن متواضع (من تواضع لله رفعه، ومن تعالى على الله وضعه)، اشكر الله وكن ذليلاً على إخوانك المؤمنين، وابتسم في وجوههم، وزرهم إذا مرضوا، وحاول أن تحسن إليهم بكل وسيلة ليسعك من الناس الابتسامة، يقول عليه الصلاة والسلام: (إنكم لن تسعوا الناس بأرزاقكم) أي: لا تستطيع أن تستحوذ على الناس كلهم بالمال، ولو كان ما كان، فلا تستطيع.

من يرزق العباد إلا رب العباد (ولكن تسعوهم بأخلاقكم)، وقال عليه الصلاة والسلام: (تبسمك في وجه أخيك صدقة) وقال: (لا تحقرن من المعروف شيئاً، ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق) فأنت في الطريق تسلم فتقول: السلام عليكم، الله يصبحك بالخير، كيف حالك يا أخي؟! ولكن من الناس اليوم من إذا رأى أخاه المؤمن من هناك غير الطريق، حتى في العيد لا يتزاورون، العيد الذي سماه الله عيداً؛ لأنه يعود على الناس ليتعاودوا ولينسوا الماضي، فتقول لجارك: أنت جاري وأنا جارك، صار بيني وبينك مخاصمة، أو صار بيني وبينك سوء تفاهم من أجل الأولاد، ومن أجل -مثلاً- الحدود، ومن أجل الماء، ومن أجل أي غرض من أغراض الدنيا، انتهت المشكلة لا ينبغي ولا يجوز شرعاً أن ألقاك بعد ثلاث ليالٍ، ولا أقول: السلام عليكم، وأنت مفروض عليك وواجب بمجرد أن أقول: السلام عليكم، أن تقول: وعليك السلام، الله يمسيك بالخير؛ لأن بعض الناس إذا سمع هذا الحديث وقال: والله لا يجوز أن أهجر أخي المسلم، لابد أن ألقاه وأسلم عليه، فيلقاه، فيقول: السلام عليكم، فإذا بالآخر يتهجم ويأبى أن يرد السلام، فيأتي الشيطان فيقول: أرأيت! تلقي عليه السلام ولا يرد عليك السلام، إذن اقطعها معه.

لا يجوز يا أخي! المفروض أن تغتنم هذه المبادرة الطيبة من أخيك المسلم الذي غلب نفسه وغلب الشيطان وجاء إليك وقال: السلام عليكم، فمقابل أن قال: السلام عليكم، قل: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، ورد عليه، وأمسك رأسه وقبله، وقل: جزاك الله عني كل خير، لقد أعنتني على نفسي لو أنك ما سلمت علي كان الشيطان يريد أن يكبرها في نفسي، الله يسامحك باطناً وظاهراً، والدنيا كلها فانية.

قيل لي: إن في قرية من القرى أرحام بينهم صهر ونسب لا يدخلون بيوت بعضهم، وجاء العيد وبعضهم ما دخل على الثاني، لماذا؟ كبرت نفوسهم، ما تواضعوا، وما ذلوا؛ لأنهم لا يحبون الله، والله لو كانوا يحبون الله ويحبون رضا الله عز وجل؛ لنسوا أنفسهم ولأنكروا ذواتهم ولتواضعوا وطلبوا التسامح؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه المسلم فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام) تريد أن تكون من خيرهم أو من شرهم؟ صحيح إذا أردت أن تكون من خيرهم فإن لها ضريبة، وضريبتها أن تنكر نفسك، وتغلب هواك، وألا تستسلم لشيطانك، وتخضع نفسك: السلام عليكم ولو بالغصب أو بالقوة، لكن الله عز وجل يجعلك خيرهما (وخيرهما الذي يبدأ بالسلام) أما إذا التقيا وأعرض هذا وأعرض هذا وتباغضوا في غير ذات الله عز وجل، فإن الله عز وجل لا يرفع لهما إلى السماء عملاً، كما جاء في الحديث: (تعرض الأعمال على الله كل يوم إثنين ويوم خميس، إلا عمل رجلين متشاحين في الله، يقول الله: دعوهما حتى يصطلحا) رد عليهم أعمالهم مرفوضة حتى يتصالحوا، فإذا تصالحوا فلهم العمل، أما إذا لم يتصالحوا فليس لهم عمل، إذن ما قيمتك في الحياة؟ وما تعمل هنا؟ هل خلقك الله من أجل أن تضارب الناس، وتعمل مع هذا مشكلة ومع هذا مشكلة؟ لا يا أخي !

لما عفوت ولم أحقد على أحد     أرحت نفسي من هم العداوات

إني أحيي عدوي عند رؤيته     لأدفع الشر عني بالتحيات

وأملأ الوجه بشراً حين مقدمه     كأنما قد حشا قلبي مودات

كم من ابتسامة لقي الرجل بها أخاه المسلم دفعت هذه الابتسامة وهذا السلام شروراً عظيمة جداً كان يمكن أن تتولد ويصير فيها قتل، كثير من الناس الآن في السجون بسبب القتل؛ لأنهم طوروا القضايا وكانت (حبة) وجعلوها (قبة)، كانت كلمة فضخمها المنافقون وأعداء الله عز وجل الذي يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، يأتون إلى هذا فيقولون: ماذا قال فيك فلان أمس؟ ماذا فعلت به؟ والله قال فيك وفيك، وبعد ذلك يذهب هذا إلى ذاك، وحرش بين الناس، وهذا هو النمام الذي قال الرسول صلى الله عليه وسلم فيه: (لا يدخل الجنة نمام) والنمام هو: الذي ينقل الكلام بين الناس على جهة الإفساد، لكن الذي ينقل الكلام بين الناس على جهة الإصلاح ليس بنمام ولو حلف بالله.

لو سمعت مثلاً أن زيداً وعمرواً من الناس في القرية حصل بينهما اليوم سوء تفاهم، من أجل حدود، أو حطب، أو ماء، أو أولاد، أو أي غرض، لما سمعت قلت: والله لا يمكن أن أترك هؤلاء متباغضين، ذهبت إلى واحد منهم الذي بدأ بالشر، فتقول: يا أخي! ما الذي حصل بينكم؟ قال: والله حصل، وحصل وعمل، تقول يا أخي! أنا جئتك من عنده الآن، وهو متأسف جداً، ويريد أن يقابلك الآن، ولو الخطأ منك لكن يقول: لا. لا يمكن أبداً أن يغضب عليّ، ولو أقسمت له بالله لو قال: بالله، أو والله، فإن قسمك هذا يعتبر طاعة لله، ولا تأثم به، بل تكسب به أجراً من الله عز وجل؛ لأنه إصلاح، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ليس الكذاب الذي يصلح بين رجلين فيقول خيراً أو ينمي خيراً) ليس بكذاب هذا، ولا فاجر بل هو مصلح لله عز وجل، ثم تذهب إلى آخر فتقول: ماذا حصل؟ وتعطيه هذا الكلام، تجدهم في الصباح يلتقون، فيحاول كل منهما أن يبدأ بالسلام.

لكن أن تشحن هذا مثل الكهرباء، وتشحن هذا، وتأتي في اليوم التالي وإذا بهما يقتتلان، وتصير فتنة، لماذا؟ لأن النمام يفسد في ساعة ما لا يفسده الساحر في سنة، فأول صفة من علامات محبة الله لك أن تكون ذليلاً وأنت أعرف بنفسك، إن كنت ذليلاً على المؤمنين ومتواضعاً للمؤمنين، تحب المؤمنين.

الرسول صلى الله عليه وسلم أعرض مرة واحدة عن واحد من أهل الإيمان وهو عبد الله بن أم مكتوم ، الرجل الأعمى، ونظر نظرة إلى العظماء الوجهاء الصناديد الكبار من قريش، فلما دخل ابن أم مكتوم على النبي صلى الله عليه وسلم وكان مشغولاً بصناديد قريش يدعوهم إلى الإسلام ولا يبيع معهم ولا يشتري، ولا يفاوضهم في قضايا دنيوية ولا صفقات تجارية، وإنما كان يريد أن يكسبهم في دين الله؛ لأن دخولهم في الدين نصرة للإسلام، فكان يريد أن يعز الله الإسلام بهم، فكان يفاوضهم بالإسلام ويجادلهم، فدخل الأعمى وهو لم يعلم بالموقف، وما رأى أحداً، فقال: علمني يا رسول الله مما علمك الله! فما كان النبي صلى الله عليه وسلم يود أن يدخل في تلك اللحظة فقطب وجهه وعبس، أي: ما قال ردوه أو سكتوه، بل قطب الجبين، وهذا العبوس هو أن تقطب وجهك مغضباً، فعبس وجهه.

فالله عز وجل اطلع على الموقف، واعتبر هذا خطأ من النبي صلى الله عليه وسلم، وعاتبه فيه، فقال: عَبَسَ وَتَوَلَّى [عبس:1] وبنى الفعل هنا للماضي، ما قال: عبست يا محمد، من باب إنه في عتاب عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى [عبس:1-2] وبعد ذلك ترك الماضي، وتحول إلى المخاطب فقال: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى [عبس:3-5] أي: صاحب العظمة، والجاه، والسلطة فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى [عبس:6] تريده أن يسلم وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى [عبس:7] أي: ما لك علاقة في أن يهتدي أو لا يهتدي، هذه من شئون الله عز وجل، الهداية بيد الله، فأنت عليك أن تبلغه الدين إن استجاب واهتدى فله، وإن رفض فعليه، والله عز وجل عنده جنة ونار.. جنة للطائعين، ونار للعصاة المجرمين، أما أنت فما عليك إلا البلاغ وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى [عبس:7-8] يأتي من هناك وَهُوَ يَخْشَى [عبس:9] أي: يخاف الله عز وجل فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى [عبس:10] أي: تعرض كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ [عبس:11].

كان النبي صلى الله \عليه وسلم بعد نزول هذه الآية يكرم ابن أم مكتوم رضي الله عنه، ويحبه، ويقربه منه، وكان إذا دخل عليه فرش له رداءه، أي: رداءه الذي على كتفه، ويقول: (أهلاً وسهلاً بمن عاتبني فيه ربي) وهذا يدل على كمال النبوة في الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ لو لم يكن رسولاً لكان منذ أن يراه، يقول: اطردوه هذا الذي جاءنا بسببه عتاب من الله، أي: لو جاء خطاب في موظف من مسئول لقال: هذا أوقعنا في مشكلة والله لا أنساها له مدى الحياة، لماذا يأتيني عتاب من أجله، لكن لا، هذا رسول .. هذا نبي، يقول: (أهلاً بمن عاتبني فيه ربي) فأنت يا مسلم! تواضع لله عز وجل.

قال تعالى: أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [المائدة:54] تنظر إلى اليهود والنصارى والمنحرفين نظرة الإذلال والإهانة؛ لأنك تنظر لهم من علياء الإيمان، ومن عزة العقيدة، ومن قوة الدين، فترى أنهم أعداء لله، يكذبون على الله، وينكرون الله، ويكفرون بالله، فكيف تعزهم؟! كيف؟! أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [المائدة:54] لأنهم يقيسون الناس بمقياس العقيدة، هل هو مؤمن؟ يعزونه ويذلون له، وأما الكفار فيذلونه ويستعلون عليه، وهذه صفة أهل الإيمان.

لكن الآية انعكست اليوم، لما عشنا في زمن ضعف الدين، أصبحت القضية بالعكس، إذا جاء كافر أو خبير أو أجنبي، ترى الناس كلهم: هذا بريطاني، وهذا أمريكي، وهذا من الدول المتطورة، وهذا من الدول المتقدمة.

وإذا أتى مسلم من تهامة أو صحراء أو بادية، والله إن قدم هذا المسلم أفضل من مليون وجه من وجوه الكفار، والله إن قدمه الحرشاء المقطعة من الجبال أفضل من وجوه هؤلاء الكفرة الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، لماذا؟ لأن هذا يؤمن بالله.

لو أتيت إلى هذا الإنسان التهامي الضعيف فتقول له: من ربك؟ قال: ربي الله، قال: لا إله إلا الله! لكن تعال عند هذا الملعون وهذا الكافر تقول: من ربك؟ ما دينك؟ ديانته كافر ملعون نجس كالخنزير والكلب، وأنت تعزه، وتخاف منه، وتكرمه، لا إله إلا الله! هذا إذا أكرمته فإن الله لا يحبك، وإذا أعززته فإن الله لا يحبك، لكن إذا أهنته وأذللته ونظرت إليه بنظرة الاحتقار والازدراء؛ يحبك الله أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [المائدة:54].

قال تعالى: يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [المائدة:54]، والجهاد في سبيل الله هو: أعلى مراتب الدين، كما جاء في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه ولما قال: (وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله) والجهاد كما يقرر العلماء ينقسم إلى أربعة أقسام:

أولاً: جهاد النفس.

ثانياً: جهاد الأهل.

ثالثا: جهاد العشيرة والمجتمع.

رابعاً: جهاد الكفار.

جهاد النفس

جهاد النفس هذا دائم؛ لأنه مستمر، فأنت مع نفسك في جهاد، يقول الله: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69] فلو أنك ماليتها قالت: والله لا تذهب، أنت عندك خير وأنت في خير، والحمد لله، والشيطان يزكي هذا الموضوع ولا يريدك تأتيه، لكن لو أتيت تمالي نفسك، تقول لك: هناك سمرة عند آل فلان، وهناك لعب وهناك قالت: لا تفوتك الفرصة، وجاء الشيطان وقال: ماذا عليك يا رجل؟! لكن لا تمالي النفس ولا تستشر الشيطان، وإنما إذا جاءك أي إيحاء أو وسواس يدلك على أمر خير فاعلم أنه من الله، وإذا جاءك أي إيحاء أو أي شعور على أمر شر فاعلم أنه من الشيطان.

أضرب لك مثالاً: وأنت جالس في بيتك، والمصحف أمامك، وبعد ذلك نظرت إلى المصحف وإذا لم يكن عندك شغل فرصة أن تقرأ؛ لأن في كل حرف عشر حسنات، سطر واحد فيه عشرة حروف بكم؟ بمائة حسنة، سطر واحد فيه عشرون حرفاً بكم؟ بمائتي حسنة، وأنت تحب التجارة مع الله، فمددت يدك، فلما مددت يديك وأخذته، هذا الدافع من الله، فحين تفتح وتقرأ عشرة أسطر، أو صفحة أو صفحتين، يأتيك نوع من الضيق؛ ويأتيك دافع بأن قف، أو نم، أو تكلم، أو اضحك، أو اتصل فتلك من إبليس، لا يريدك أن تقرأ.

فعندها استعذ بالله واقرأ، وكلما شعرت بأنك تريد أن تتوقف استعذ بالله، واقرأ إلى أن يأتيك أمر لا بد لك منه، مثل ماذا؟ إما أن تقوم إلى فريضة، أو إلى نوم، أو إلى طعام، أو تذهب إلى مصلحة دينية أو دنيوية، أما أن تترك المصحف وتقعد كذا، لا قراءة ولا عمل فهذه من الشيطان، فهنا جهاد النفس، تجاهد نفسك بالليل والنهار في كل وقت، تجاهدها بصلاة المغرب والعشاء والفجر مع الجماعة، وتجاهدها إذا رأيت امرأة، فتغض بصرك، وإذا سمعت نغمة أو أغنية فتصون سمعك، وتجاهدها عندما يعرض لك ريال بالحرام فلا تأكله مهما كانت حاجتك؛ لأنك تصبر على الفقر، ولا تصبر على النار، فأنت في حاجة إلى جهاد مع النفس.

جهاد الأهل

أما جهاد الأهل، والزوجة، والأبناء، والوالد، والأم فهذا كله جهاد، لكن يلزمك أن تجاهد كل شخص بأسلوب، جهادك لزوجتك ليس مثل جهادك مع أبيك، لماذا؟ لأن زوجتك فأمرك عليها، أما أبوك فأمره عليك.

فالذي فوق تسترضيه وتستعطفه، والذي تحت تجبره، إن صلح بالطيب وإلا بالغصب، لماذا؟ لأن الله عز وجل قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6] وقال بالنسبة للوالدين: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا [لقمان:15] إذ هما كافرين وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً [لقمان:15] فإذا كان الله يأمر بمصاحبة الوالدين الكافرين بالمعروف، فإن مصاحبة الوالدين المسلمين بالمعروف أولى؛ لأن من الشباب الطيب من يعامل والديه معاملة سيئة، بل قد شكا إليّ أكثر من رجل من أولاده، يقول: أولادنا طيبون صالحون لكن عصاة عندنا والله لا يعطيني إصبعه، وإني أبحث عنه أربعاً وعشرين ساعة، أريده أن يأتي لي بماء فلا أراه، أريده أن يأتي لي بالغاز فلا أراه، أريده أن يقضي لي حاجتي في البيت فلا أراه، أريده أن يدرس إخوانه فلا يدرسهم، وإنما لا أراه إلا يأكل ثم يخرج.

فهذا فاشل ولو كان داعية، ولو كان فيه خير لكان خيره لأهله، إذا كان فاشلاً في استصلاح أبيه وأمه وإخوانه فسيكون في استصلاح غيره أفشل، وإذا أردت أن تكسب أباك، أو أمك بالدعوة أن تكسب أهلك كلهم فأولاً: يجب أن تعطيهم، حتى تأخذ منهم، أما أن تدخل البيت قائلاً: حرام، حلال، ممنوع، لا ينفع، ثم تخرج، وتصدر أوامر ثم تخرج، فهنا لا أحد سيطيعك، لكن اجلس في البيت أولاً، ولازم أباك، وكن معه، وكل عمل يريد أن يقوم به تقول: لا والله لا تسير إلا وأنا قبلك، فحين يريد أن ينزل إلى السوق ليشتري لوازم البيت تقول: لا. أنا أذهب عنك، يريد أن يأتي بغاز تقول: والله لا تحملها، أنا أحملها، يريد أن يأتي بماء، تقول: والله أنا أذهب، يذهب إلى أي عمل ليعمله هو، قل: لا. لا تعمل شيئاً، أنا خادمك، أنا قدمك تسير عليها يا أبت، إذا لم أنفعك اليوم فمتى سيكون؟ فلو أنك عملت هذا الكلام قبل أن تأمره أو تنهاه، وقبل أن تقول له شيئاً، خلال شهر أو شهرين أو ثلاثة أو أربعة أشهر، أصبحت سمعه وعينه، وقلبه، تقول: يا أبت! نذهب كذا، يقول: هيا يا ولدي! الله يبارك فيك، تقول: يا أبي! هناك ندوة في مكان كذا، فيقول لك: هيا نذهب يا ولدي، لماذا؟ لأنه يعتبر الدين الذي هداك وأصلحك له، كسب ويريد أن يكون متدين هو أيضاً، لكن عندما يراك شارداً منه ولو كنت تذهب في مجال الدين، ومع أهل الخير، ولكن لا يراك؛ يكره الدين، يقول: والله ما أفسد عليّ ولدي إلا الدين، والله ما أفسد عليّ ولدي إلا هؤلاء، يذهب معهم الليل والنهار ولا أراه، فيضطر إلى أنه يتخذ موقفاً من أهل الخير بناءً على سلوكك أنت، ففشلك في استصلاح والدك أثر حتى على دينك، وجعله يستقطب عداوته للدين، ويؤثر الأب على الإخوان، وتفشل في إصلاحهم ويؤثر الأب على الأم فتقف ضدك.

يقول لي أحد الشباب: وقد نصحته يوماً من الأيام في هذا الموضوع، فذهب إلى البيت وأمه طبعاً مسكينة عندها أولاد وعندها بنات ولكن أولادها صغار، وبناتها صغار وهي تعاني من الحمل والوضع، فقلت له: ماذا تفعل في البيت؟ قال: لا شيء، قلت: لا تتركها تغسل صحناً واحداً، منذ أن تنهوا طعامكم، لا تقم لتغسل يديك وتقعد على سريرك، بل ارفع الأواني واجمع الصحون مع بعضها وارفع السفرة، وقل: والله لا تغسلين، أنت طبختي كثر الله خيرك، لكن الغسيل ليس فيه مشكلة فأنا سأغسل الصحون والأواني، والله إن هذا العمل دين تتقرب به إلى الله.

فمارس هذا الأمر معها هي تحلف وهو يحلف، المهم انبسطت منه، وحين يقول لها أي شيء، تقول: حسناً يا ولدي الله يوفقك، لماذا؟! لأنه خدمها، أعطاها شيئاً فأخذ منها أشياء، أما كونك تريد أن تأخذ ولا تعطي، فهذه سلبية لا يمكن أن يوافقك الناس عليها.

الجهاد جهاد الأهل، بالنسبة للأم والأب، وبالنسبة للأخوة اللطف، والصبر، والحكمة، والإحسان؛ لأن أخاك مثلك إذا أتيت تأمره يقف ضدك، ولو أن أخاك اهتدى قبلك، ثم مارس عليك أسلوب القوة والقصر، وأنت قبل أن يهديك الله لرفضت، لكن الله هداك فاشعر بنعمة الله عليك لاستصلاح إخوانك، وأما زوجتك وأولادك فينبغي لك أن تمارس معهم الحكمة والوعظ والإرشاد واللطف، لكن إذا رفضوا فعليك بالقوة؛ لأن لك سلطة عليهم.

جهاد العشيرة والمجتمع

جهاد الدعوة للعشيرة وللقبيلة أو للمنطقة التي تعيش فيها، وهذه أسلوبها قد بينه الله عز وجل بقوله: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ [النحل:125] والحكمة: هي وضع الشيء في موضعه وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125] لأن عليك أن تبشر بدين الله، والمبشر بدين الله يحبب الناس لدين الله ولا يكرهم فيه، يحببه إليهم بالعبارة .. بالبسمة .. بالأسلوب .. بالكلمة، والله عز وجل يقول لموسى وهارون: فَقُولا لَهُ [طـه:44] أي: لفرعون، والله يعلم أن فرعون كافر، وأنه لم يهتد، لكنه يسن للناس سنة الدعوة فيقول: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طـه:44].

والله يقول عن محمد صلى الله عليه وسلم: وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159] فلا بد من الأسلوب الطيب والدعوة والصبر والحكمة، والدعاء لهم .. ادعهم في النهار، وادع الله لهم في الليل، حتى يستجيب الله عز وجل الدعوة.

أما من الناس من يدعو، فإذا رفض الناس، قال: هؤلاء ليس فيهم خير، ولم يعد، وانفصل عنهم، لا يا أخي! ليس عليك هدايتهم، فالهداية بيد الله.

أنت عليك البلاغ، والهداية على الله، أنت تريد أن يكون الله على كيفك بمجرد أن تدعو يستجيب الناس لك، لا. يجب أن تكون أنت على مراد الله تبارك وتعالى، عليك أن توصل ما عليك والله هو الذي يعلم النتائج، إن رأى أن هذا أهلاً للهداية هداه، وإن علم أنه ليس أهلاً للهداية لم يهده، والله يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56] فالهداية بيد الله عز وجل.

جهاد الكفار

يبقى المرتبة الرابعة والأخيرة: وهي أغلى وأعلى منزلة من مراتب الدين، وهي منزلة جهاد الكفار بالسنان والحرب والقتال، وهذه أعلى مرتبة، من استطاع عليها وذهب ليقاتل في سبيل الله فإنه شهيد، والشهادة: هي أقرب طريق إلى الجنة، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إن في الجنة مائة درجة تحت درجات الأنبياء لا يبلغها إلا الشهداء) والله يقول: وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [الزمر:69].

هذه المرتبة أو العلامة الثالثة من علامات محبتك لله، أن تكون مجاهداً في سبيل الله .. مجاهداً لنفسك .. مجاهداً لأهلك .. مجاهداً لجماعتك بالحكمة والموعظة الحسنة، في سبيل الله، تستغل كل فرصة، وتدخل على الله من كل باب، وتغتنم كل مناسبة، من أجل نصرة دين الله، ومن أجل دعوة الناس إلى الله، فأنت ممن يحب الله تبارك وتعالى.

جهاد النفس هذا دائم؛ لأنه مستمر، فأنت مع نفسك في جهاد، يقول الله: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69] فلو أنك ماليتها قالت: والله لا تذهب، أنت عندك خير وأنت في خير، والحمد لله، والشيطان يزكي هذا الموضوع ولا يريدك تأتيه، لكن لو أتيت تمالي نفسك، تقول لك: هناك سمرة عند آل فلان، وهناك لعب وهناك قالت: لا تفوتك الفرصة، وجاء الشيطان وقال: ماذا عليك يا رجل؟! لكن لا تمالي النفس ولا تستشر الشيطان، وإنما إذا جاءك أي إيحاء أو وسواس يدلك على أمر خير فاعلم أنه من الله، وإذا جاءك أي إيحاء أو أي شعور على أمر شر فاعلم أنه من الشيطان.

أضرب لك مثالاً: وأنت جالس في بيتك، والمصحف أمامك، وبعد ذلك نظرت إلى المصحف وإذا لم يكن عندك شغل فرصة أن تقرأ؛ لأن في كل حرف عشر حسنات، سطر واحد فيه عشرة حروف بكم؟ بمائة حسنة، سطر واحد فيه عشرون حرفاً بكم؟ بمائتي حسنة، وأنت تحب التجارة مع الله، فمددت يدك، فلما مددت يديك وأخذته، هذا الدافع من الله، فحين تفتح وتقرأ عشرة أسطر، أو صفحة أو صفحتين، يأتيك نوع من الضيق؛ ويأتيك دافع بأن قف، أو نم، أو تكلم، أو اضحك، أو اتصل فتلك من إبليس، لا يريدك أن تقرأ.

فعندها استعذ بالله واقرأ، وكلما شعرت بأنك تريد أن تتوقف استعذ بالله، واقرأ إلى أن يأتيك أمر لا بد لك منه، مثل ماذا؟ إما أن تقوم إلى فريضة، أو إلى نوم، أو إلى طعام، أو تذهب إلى مصلحة دينية أو دنيوية، أما أن تترك المصحف وتقعد كذا، لا قراءة ولا عمل فهذه من الشيطان، فهنا جهاد النفس، تجاهد نفسك بالليل والنهار في كل وقت، تجاهدها بصلاة المغرب والعشاء والفجر مع الجماعة، وتجاهدها إذا رأيت امرأة، فتغض بصرك، وإذا سمعت نغمة أو أغنية فتصون سمعك، وتجاهدها عندما يعرض لك ريال بالحرام فلا تأكله مهما كانت حاجتك؛ لأنك تصبر على الفقر، ولا تصبر على النار، فأنت في حاجة إلى جهاد مع النفس.

أما جهاد الأهل، والزوجة، والأبناء، والوالد، والأم فهذا كله جهاد، لكن يلزمك أن تجاهد كل شخص بأسلوب، جهادك لزوجتك ليس مثل جهادك مع أبيك، لماذا؟ لأن زوجتك فأمرك عليها، أما أبوك فأمره عليك.

فالذي فوق تسترضيه وتستعطفه، والذي تحت تجبره، إن صلح بالطيب وإلا بالغصب، لماذا؟ لأن الله عز وجل قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6] وقال بالنسبة للوالدين: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا [لقمان:15] إذ هما كافرين وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً [لقمان:15] فإذا كان الله يأمر بمصاحبة الوالدين الكافرين بالمعروف، فإن مصاحبة الوالدين المسلمين بالمعروف أولى؛ لأن من الشباب الطيب من يعامل والديه معاملة سيئة، بل قد شكا إليّ أكثر من رجل من أولاده، يقول: أولادنا طيبون صالحون لكن عصاة عندنا والله لا يعطيني إصبعه، وإني أبحث عنه أربعاً وعشرين ساعة، أريده أن يأتي لي بماء فلا أراه، أريده أن يأتي لي بالغاز فلا أراه، أريده أن يقضي لي حاجتي في البيت فلا أراه، أريده أن يدرس إخوانه فلا يدرسهم، وإنما لا أراه إلا يأكل ثم يخرج.

فهذا فاشل ولو كان داعية، ولو كان فيه خير لكان خيره لأهله، إذا كان فاشلاً في استصلاح أبيه وأمه وإخوانه فسيكون في استصلاح غيره أفشل، وإذا أردت أن تكسب أباك، أو أمك بالدعوة أن تكسب أهلك كلهم فأولاً: يجب أن تعطيهم، حتى تأخذ منهم، أما أن تدخل البيت قائلاً: حرام، حلال، ممنوع، لا ينفع، ثم تخرج، وتصدر أوامر ثم تخرج، فهنا لا أحد سيطيعك، لكن اجلس في البيت أولاً، ولازم أباك، وكن معه، وكل عمل يريد أن يقوم به تقول: لا والله لا تسير إلا وأنا قبلك، فحين يريد أن ينزل إلى السوق ليشتري لوازم البيت تقول: لا. أنا أذهب عنك، يريد أن يأتي بغاز تقول: والله لا تحملها، أنا أحملها، يريد أن يأتي بماء، تقول: والله أنا أذهب، يذهب إلى أي عمل ليعمله هو، قل: لا. لا تعمل شيئاً، أنا خادمك، أنا قدمك تسير عليها يا أبت، إذا لم أنفعك اليوم فمتى سيكون؟ فلو أنك عملت هذا الكلام قبل أن تأمره أو تنهاه، وقبل أن تقول له شيئاً، خلال شهر أو شهرين أو ثلاثة أو أربعة أشهر، أصبحت سمعه وعينه، وقلبه، تقول: يا أبت! نذهب كذا، يقول: هيا يا ولدي! الله يبارك فيك، تقول: يا أبي! هناك ندوة في مكان كذا، فيقول لك: هيا نذهب يا ولدي، لماذا؟ لأنه يعتبر الدين الذي هداك وأصلحك له، كسب ويريد أن يكون متدين هو أيضاً، لكن عندما يراك شارداً منه ولو كنت تذهب في مجال الدين، ومع أهل الخير، ولكن لا يراك؛ يكره الدين، يقول: والله ما أفسد عليّ ولدي إلا الدين، والله ما أفسد عليّ ولدي إلا هؤلاء، يذهب معهم الليل والنهار ولا أراه، فيضطر إلى أنه يتخذ موقفاً من أهل الخير بناءً على سلوكك أنت، ففشلك في استصلاح والدك أثر حتى على دينك، وجعله يستقطب عداوته للدين، ويؤثر الأب على الإخوان، وتفشل في إصلاحهم ويؤثر الأب على الأم فتقف ضدك.

يقول لي أحد الشباب: وقد نصحته يوماً من الأيام في هذا الموضوع، فذهب إلى البيت وأمه طبعاً مسكينة عندها أولاد وعندها بنات ولكن أولادها صغار، وبناتها صغار وهي تعاني من الحمل والوضع، فقلت له: ماذا تفعل في البيت؟ قال: لا شيء، قلت: لا تتركها تغسل صحناً واحداً، منذ أن تنهوا طعامكم، لا تقم لتغسل يديك وتقعد على سريرك، بل ارفع الأواني واجمع الصحون مع بعضها وارفع السفرة، وقل: والله لا تغسلين، أنت طبختي كثر الله خيرك، لكن الغسيل ليس فيه مشكلة فأنا سأغسل الصحون والأواني، والله إن هذا العمل دين تتقرب به إلى الله.

فمارس هذا الأمر معها هي تحلف وهو يحلف، المهم انبسطت منه، وحين يقول لها أي شيء، تقول: حسناً يا ولدي الله يوفقك، لماذا؟! لأنه خدمها، أعطاها شيئاً فأخذ منها أشياء، أما كونك تريد أن تأخذ ولا تعطي، فهذه سلبية لا يمكن أن يوافقك الناس عليها.

الجهاد جهاد الأهل، بالنسبة للأم والأب، وبالنسبة للأخوة اللطف، والصبر، والحكمة، والإحسان؛ لأن أخاك مثلك إذا أتيت تأمره يقف ضدك، ولو أن أخاك اهتدى قبلك، ثم مارس عليك أسلوب القوة والقصر، وأنت قبل أن يهديك الله لرفضت، لكن الله هداك فاشعر بنعمة الله عليك لاستصلاح إخوانك، وأما زوجتك وأولادك فينبغي لك أن تمارس معهم الحكمة والوعظ والإرشاد واللطف، لكن إذا رفضوا فعليك بالقوة؛ لأن لك سلطة عليهم.

جهاد الدعوة للعشيرة وللقبيلة أو للمنطقة التي تعيش فيها، وهذه أسلوبها قد بينه الله عز وجل بقوله: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ [النحل:125] والحكمة: هي وضع الشيء في موضعه وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125] لأن عليك أن تبشر بدين الله، والمبشر بدين الله يحبب الناس لدين الله ولا يكرهم فيه، يحببه إليهم بالعبارة .. بالبسمة .. بالأسلوب .. بالكلمة، والله عز وجل يقول لموسى وهارون: فَقُولا لَهُ [طـه:44] أي: لفرعون، والله يعلم أن فرعون كافر، وأنه لم يهتد، لكنه يسن للناس سنة الدعوة فيقول: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طـه:44].

والله يقول عن محمد صلى الله عليه وسلم: وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159] فلا بد من الأسلوب الطيب والدعوة والصبر والحكمة، والدعاء لهم .. ادعهم في النهار، وادع الله لهم في الليل، حتى يستجيب الله عز وجل الدعوة.

أما من الناس من يدعو، فإذا رفض الناس، قال: هؤلاء ليس فيهم خير، ولم يعد، وانفصل عنهم، لا يا أخي! ليس عليك هدايتهم، فالهداية بيد الله.

أنت عليك البلاغ، والهداية على الله، أنت تريد أن يكون الله على كيفك بمجرد أن تدعو يستجيب الناس لك، لا. يجب أن تكون أنت على مراد الله تبارك وتعالى، عليك أن توصل ما عليك والله هو الذي يعلم النتائج، إن رأى أن هذا أهلاً للهداية هداه، وإن علم أنه ليس أهلاً للهداية لم يهده، والله يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56] فالهداية بيد الله عز وجل.


استمع المزيد من الشيخ سعيد بن مسفر - عنوان الحلقة اسٌتمع
اتق المحارم تكن أعبد الناس 2930 استماع
كيف تنال محبة الله؟ 2929 استماع
وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً 2805 استماع
أمن وإيمان 2678 استماع
حال الناس في القبور 2676 استماع
توجيهات للمرأة المسلمة 2605 استماع
فرصة الرجوع إلى الله 2572 استماع
النهر الجاري 2478 استماع
دور رجل الأعمال في الدعوة إلى الله 2468 استماع
مرحباً شهر الصيام 2403 استماع