خاطرة في أنماط القراءة ومسالك القراء - إبراهيم السكران
مدة
قراءة المادة :
11 دقائق
.
القراءة وسيلة للعلم، ووسائل العلم ، بل الوسائل المحضة التابعة للاجتهاد البشري عمومًا، كالوسائل الإدارية والإجرائية والفنية و.. إلخ؛ من حصرها أو رام تحديدها فالغالب عليه أن يكون كلامه غير دقيق، لأنها متنوعة وغزيرة بحجم غنى النفس البشرية ذاتها وشدة تنوع نزعات الناس وأجناس طبائعهم، وما يذكره بعضهم من وجود "نظرية في القراءة" أو ما يسمونه القراءة الاستكشافية والنقدية و..
إلخ، مما يضعونه في مستويات القراءة، هي اجتهادات فكرية وليست حقائق، بل هي قابلة للمزيد من التنظير إلى ما هو أدق من ذلك.
وأما الذي يلفت انتباهي دومًا فهو أنماط الناس في القراءة والمطالعة، ومساراتهم التي تغلب عليهم وتستتبع أساليب تعاملهم مع العلم، ومن ذلك هذه الأنماط القرائية الخمسة: (القراءة المُلَحية، القراءة الورّاقيّة، القراءة المُستهلِكة، القراءة التحصيلية، القراءة البحثيّة) وسأعرض هاهنا توضيحًا لوجهة نظري حول هذه الأنماط والمسالك، وأُنبِّه قبل ذلك أنه ليس المقصود أن هذه الأنماط القرائية مستقلة كليًا عن بعضها، بل يجتمع في بعض القراء عدة أنماط:
1- القراءة المُلَحيّة:
المُلَح هي اللطائف التي ترعى في حمى العلم، وأكثر مواردها المواقف والأخبار الاجتماعية للمؤلِّفين، كالقرابة بين مُصنِّف وآخر مثلًا، أو مأزق وقع فيه أحد المؤلفين، وممن ميّز بين صلب العلم وملحه الشاطبي في الموافقات، فقال: "من العلم ما هو من صلبه، ومنه ما هو مُلَح العلم" وضرب الشاطبي لمُلَح العلم تسعة أمثلة، ومنها: مسائل النزاع اللفظي، والتماس الحكم في الشعائر التعبدية، والمكاثرة بطرق الأسانيد، والمنامات والرؤى، والوعظ بالأشعار، ونحوها.
والقراءة المُلَحية فيها ميزة الترويح عن النفس وتزويد المتحدث بمادة للمسامرات اللطيفة مع شركاء الاهتمام المعرفي، لكن فيها عيب ينبغي الاحتراس منه، وهو أنها إذا جاوزت حدها ترهّلت معها لياقة الدرس العلمي الجاد، فيستثقل ما كان فيه سابقًا من التحفظ وكد الذهن والتحرير والمدارسة، ويصبح غاية رصيد المرء من العلم قصص وأخبار ولطائف وغرائب.
2- القراءة الورّاقية:
هذه طائفة من القراء لديها خبرة عجيبة بخصائص الكتب في شتى الفنون، أو في فنون متعددة كثيرة، فيعرفون أسماء الكتب والمصنّفين، وإذا ذكر لهم اسم متن ذكروا كل شروحه، وربما أتبعوا ذلك بالحديث عن فروق طبعاته، ويذكرون خصيصة كل شرح وثغراته، ومراتب الكتب بحسب هذه الخصائص.
لكن طريقتهم ليست قراءة كل كتاب وشرح ومتن فإن هذا من المعلوم أن الزمن لا يجود به، وإنما طريقتهم في بناء الخبرة بخصائص الكتب هي آلية "فحص العينات"، فيأخذ الكتاب ويقرأ مقدمته وفهرسه ومواضع مُنتخبة منه، ويفتش عن تقييمات أهل الخبرة للكتاب، ثم يصدر حكمه على الكتاب ويعطيه تقييمًا بذلك، وهكذا، فيصبح لديه خبرة واسعة بأسماء الكتب وخصائص كل كتاب، لكن ليس لديه خبرة موازية بمضامينها ومحتوياتها التفصيلية. وهذا اللون من القراءة هو من جنس الوراقة، فالوراقة حرفة قديمة صاحبها له خبرة بأسماء الكتب وموضوعاتها العامة ويعمل في نشرها، لكنه ليس من أهل الاختصاص بمضامينها.
وهذه الشريحة من القراء لديها ميزة وهي أن حديثها ممتع مشوّق في الحديث عن الكتب والمصنفات والمؤلفين والطبعات، ودلالة المبتدئين إلى أسماء المصنّفات ونحو ذلك، ولذلك فإن أصحاب القراءة الورّاقية أكثر قدرة وإبهارًا في التواصل مع المتلقي العام من تواصل المتخصص العلمي الذي يتحدث عن تفاصيل دقيقة غير محببة للجمهور العام.
وأما الثغرات في هذا الباب فهي أن كثرة الحديث عن الكتب والمقارنة بينها يجر إلى استثقال نفي العلم ببعض ما تتضمنه، فتؤدي بصاحبها إلى التزيّد والتكثّر فيغتر المتلقي بذلك وتجوز عليه دعاوى العلم أو المحتويات المغلوطة بجاه العناوين، ومن ثغرات هذا الباب الاستسلام للمتداولات الشائعة في تقييم الكتب نتيجة عدم التوفر على الدراسة المكرسة لكل كتاب. وأصحاب هذا الخط من القراءة يلذ لهم التجول بالساعات بين المكتبات وبين رفوف الكتب للتعرف على المزيد من العناوين، واقتناء بعضها دون قراءة موضوعية لكل كتاب.
وهذا الخط القرائي فيه تقابل بين المكسب والضريبة، فصحيح أنه يدفع ضريبة في ضعف العلم بمحتويات الكتب والعلوم لكن يكون هذا لحساب توسيع أكبر قدر ممكن من معرفة أسماء المصنفات وأفكارها العامة في شتى الفنون والتخصصات، لذا تجد من يميل للقراءة الورّاقية أغزر بكثير في معرفة أسماء الكتب من القارئ المتخصص في علم ما، لكن القارئ المتخصص أخبر منه بتفاصيل وفروقات العلم نفسه. وبلا مماراة ولا ريب، فإن مدار آفات هذا الخط القرائي هو "التزيّد"، فمن سلم منه فسيقدم خدمة وراقية كبيرة للقراء المبتدئين.
3- القراءة المُستهلِكة:
هذا النمط من القراءة له شريحة واسعة جدًا، بل هي أوسع الشرائح القرائية، وهي طريقة يسلكها "المستهلك النهائي" للعلوم والمعارف، وهي شريحة قرائية تستخشن العودة للمصادر الأصلية في العلوم وتشعر إزاء لغتها الفنية بالإرهاق، وتبحث عن "أطروحات" خفيفة، والأطروحات يقوم بها المؤلفون المنتجون الذين يتصلون بالمصادر الأصلية في العلوم ويصنعون منها إشكالية جديدة، أو جوابًا على إشكالية حية وعصرية.
وهذه الشريحة، أعني (المستهلك النهائي للسلع الثقافية) هي التي يُطلق عليها أحيانًا: القارئ العام، ويسمى نمط قراءتها أحيانًا: القراءة الحرة. وبسبب أن هذه الشريحة القرائية في طبيعتها هي "مستهلك نهائي للسلع الثقافية" فإنها تتأثر جدًا بالدعايات الكتبية والتسويق الطباعي، وأشد أساليب التسويق التي تخلبها أسلوب الضجيج، أعني "إثارة الجدل حول الكتاب"، فترى أمثال هذه الشريحة أرتالًا أمام محاسب الكتب في غضون يومين أو ثلاثة: عندك كتاب كذا؟.
ولذا يعمد الناشر التجاري المحض إلى البحث عن المؤلفين المثيرين للجدل طلبًا لرفع الأرباح من جيوب هذه الشريحة القرائية. لكن لماذا يجذب هذه الشريحة القرائية هذا الأسلوب؟ هذا قد يكون له عدة عوامل، ومنها: تشوف النفوس وفضولها لأخبار النزاعات وهذا في النفوس البشرية من جنس لذة التجمهر حول الحوادث المرورية. ومن عوامل ذلك أن هذه الشريحة القرائية مادة أحاديثهم في مسامراتهم الثقافية هو نظير هذه الكتب، فيدفعهم توق المشاركة إلى استخبار مادة الحديث والنقاش.
4- القراءة التحصيلية:
وهذا النمط من القراءة يكون لدى الشخص الذي يريد أن يدرس علمًا من العلوم، فيبحث عن كتاب يقرب له مجامع الفن بأسلوب مرتب، إما شرح متن معتمد، أو كتاب مدرسي منظم على الهياكل العصرية. وهذه الكتب المؤلفة بغرض التعليم المنظم كانت تسمى سابقًا "شروح المتون "، وتسمى اليوم الكتب الجامعية أو المدرسية، وهي نظير ما يسمى في الثقافة الغربية (هاندبوك/تكستبوك).
وربما يدخل فيها المؤلفات التي تسمى "كتب المداخل إلى العلوم"، مثل: المدخل إلى علم الاقتصاد، المدخل إلى علم النحو ..
إلخ.
وهذه القراءة في الكتب المدرسية والجامعية والهاندبوك ونحوها فيها ميزة مهمة وهي توضيح مجامع الفن في فترة وجيزة، ولكن هناك أخطاء في تعامل بعض القراء مع هذه الكتب المدرسية، منها: العزو في البحوث المتخصصة لها بينما هي تعتبر مصادر ثانوية.
ومن أكثر الأخطاء الشائعة في التعامل مع "شروح المتون" الاستغراق والانهماك في "دوامة المقارنة بينها"، وسأضرب مثالًا عمليًا لذلك:
يضع لنفسه خطة لدراسة ألفية ابن مالك ، فتارة يبدأ بابن عقيل، ثم يرجع للمكودي إذ يريد شرحًا أخصر لا يشغله عن المتن، ثم يسأم من اختصار المكودي ويريد تصور خلفيات بعض المسائل فيذهب للأشموني، ثم يسمع محاضرة لبعض متخصصي النحو يدلق فيها مقطوعات الإطراء على شرح الشاطبي فيترك كل ما بيديه ويذهب للمكتبات من فوره يبحث عن شرح الشاطبي ليقتنيه فإذا وجده بعد بعض العناء وبدأ فيه اكتشف أن الجادّة طويلة وأنه يخوض في تفاصيل لم يعرف هو بعض بدهياتها، فربما ترك الألفية وقال: "أوضح المسالك" لابن هشام أفضل فهو ينثر أصل المسألة دون ارتباط مباشر بالنظم، فإذا بدأ بأوضح المسالك شعر بعسر العبارة، فقال سأعود له، لكنني أحتاج الآن أن أتصور العلم من كتاب معاصر مبسط ليكون مدخلًا لي للكتب الأصيلة، فترك كل هذه الكتب وبدأ يقارن بين الكتب العصرية: حفني ناصف، الجارم، الغلاييني، الأفغاني، عباس حسن،..
إلخ.
وربما تنقّل بينها نظير ما تنقّل بين شروح المتون السابقة، وهكذا تحترق "المرحلة الذهبية للتحصيل العلمي" وهو يجول في دوارات المقارنة بين الكتب التحصيلية ولم يسلك الطريق ويمضي فيه بعد.
5-القراءة البحثية:
هذا النمط من القراءة يسلكه عادة المؤلفون المعاصرون وهو الأغلب عليهم، وخصوصًا الأكاديميين، فيحددون لهم فنًا معينًا، أو ميدان اهتمام (وإن لم يكن مرسومًا بحدود فنية رسمية بل مزيج من عدة فنون)، ويجردون الكتب ذات الصلة بنطاق اهتمامهم، وينقّبون فيها عن المعلومات التي تعنيهم ويؤلفون على أساسها دراساتهم وبحوثهم، فالقراءة هاهنا هي بغرض التنقيب والتفتيش داخل الكتب عن معلومة أو سؤال أو فكرة لا للتلقي المباشر من المؤلف.
وهذه الطريقة القرائية لها مزايا وثغرات:
فأما مزاياها فإنها مفتاح أكثر التحقيقات والتحريرات للمسائل، لأن القراءة البحثية تقود لمقارنة المصادر، ومقارنة المصادر وفركها ببعضها هو الذي ينخل التصورات الدقيقة وغير الدقيقة في العلوم، ومن مزاياها أنها تبعث في كثير من النفوس النشاط للاطلاع والقراءة، فبعض الناس يستثقل قراءة التلقي من المؤلف، ويكل ذهنه ويشرد تركيزه، فأما إذا وضع أمامه إشكالية وبدأ يجرد الكتب يبحث عن جوابها فإنه يشعر بطاقة المستكشف ويذهب عنه نعاس المتلقي، وتزداد حدة تركيزه لاقتناص المطلوب.
وأما عيوب هذه الطريقة فإن من سلكها في بداية طريق العلم قبل أن يبني نفسه بشكل علمي متوازٍ سيتفاجأ أن تكوينه العلمي غير متناسق وفيه فجوات، فيعرف أدق التفاصيل عن مسألة ويجهل أظهر البدهيات عن المسألة المجاورة لها، ومن عيوبها أنه تصبح خبرته بالقدر المشترك في العلم أضعف بكثير من القدر المختلف، لأن المنطقة الجاذبة لمقارنة المصادر عنده هي نقاط الاختلاف، وأضرب مثالًا لذلك بصاحب قراءة بحثية يدرس كتاب الزكاة ، ستراه يستحضر بصورة مبهرة أدق التفاصيل في زكاة الدين بسبب قوة الخلاف فيها، ولا يستحضر بدهياتها مثل المقادير الرقمية لأنصبة زكاة الإبل والبقر والغنم، وما يجب في كل عدد منها.
هذا تأمل في بعض أنماط القراءة، وأكرر أن هذه الأنماط والمسالك الخمسة السابقة ليست أقسامًا مفترقة، بل قد يجتمع في القارئ الواحد منها نمطين أو ثلاثة أو غير ذلك، وإنما فرزتها إجرائيًا بهدف الاستيعاب والتحليل فقط. كما أكرر أن المراد هنا ليس حصر مسالك القراءة ومستوياتها، فهذه الخاطرة مبنية أصلًا على انتقاض ذلك، وأن مسالك القراءة ومناهجها لا تنحصر لاختلاف نزعات وطبائع الناس، وإنما المقصود فقط أن هذه المسالك والأنماط القرائية لفتت انتباهي في الواقع العلمي فأحببت تقييدها.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه،،