هل لحياتنا معنى؟


الحلقة مفرغة

فقد استخلف الله البشر ليعمروا الأرض، وأنزل عليهم شرائعه ليحكموا بها، فكان دين الله وشرعه شاملاً لجميع أمور الناس ومنظماً لجميع شئونهم، ومن ذلك أمور السياسة والحكم، ولنا في رسول الله والخلفاء الراشدين من بعده في ذلك أسوة حسنة، نستهدي بها في واقعنا المعاصر.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

أيها الإخوة في الله: قبل البدء في المحاضرة أود أن أشير في هذه المناسبة الطيبة التي نصلي فيها في هذا المسجد لأول مرة بذكر لمحةٍ عن فضل بناء المساجد؛ لأنها بيوت الله، ومشاعل النور، ومنطلق الدعوات، ومهابط السكينة، وأماكن الذكر والعبادة، والبقاع الطاهرة التي يحبها الله عز وجل، فهذه البيوت يكفيها شرفاً أن الله أضافها إلى نفسه، فهي بيوت الله عز وجل، أذن أن ترفع، وأن تبجل وتعظم وتقدس وتطهر، وأخبر أنها محطات لتزويد الناس بالإيمان، وذكر في سورة النور بعد أن ذكر أنه نور السماوات والأرض أن هذه الأنور توجد في هذه المساجد، فقال عز وجل: اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ [النور:35] أي: في قلب عبده المؤمن: مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ [النور:35] أي: هذا المصباح: مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ [النور:35] نور المشكاة، على نور المصباح، على نور الزجاجة، على نور الزيت الصافي، نور على نور، هذا مثل نور الله في قلب عبده المؤمن، نور الله، مع نور القرآن، مع نور الرسالة، مع نور العبادة، مع أنوار الملائكة: نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ [النور:35].

وكأن سائلاً يسأل ويقول: يا ربِّ أين هذا النور؟ قال بعدها: فِي بُيُوتٍ [النور:36] هذه الأنوار في محطات الإيمان والنور: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [النور:36-38].

فهذا الزيت يوقد من شجرة، أي من زيت شجرة مباركة، وهي شجر الزيتون: زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يعني الشمس تضربها في الشروق والغروب، وهذا يؤثر على صفاء زيتها، فيأتي زيتها أصفى من الشمس يكاد يضيء: يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ [النور:35].

فهذه المساجد -أيها الإخوة!- يبشر الرسول صلى الله عليه وسلم من وفقه الله لبنائها بالجنة.

ويقول العلماء: إن من بنى مسجداً لله فإنه من المبشرين بالجنة، لحديثٍ في الصحيحين يقول فيه عليه الصلاة والسلام: (من بنى لله مسجداً يبتغي به وجه الله، بنى الله له به بيتاً في الجنة) قال العلماء: لا يمكن أن يبني الله لك بيتاً في الجنة ويدخلك النار، فمعنى أن يبنى لك بيتاً في الجنة أن يدخلك الجنة، وإلا فما قيمة بيت وأنت لا تسكنه؟! وما معنى بيت لا تدخل فيه؟!

وقال العلماء: إن هذا من المبشرات بالجنة، لكن بشرط: (يبتغي به وجه الله)، قال العلماء: هذا قيد يخرج به من يبني مسجداً للرياء أو للضرار، أو للمباهاة، لأن هذا لم يُبن لله؛ ولكن من بنى مسجداً خالصاً لوجه الله يبتغي به ما عند الله، بنى الله له به بيتاً في الجنة، فنسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يجزي من بنى هذا المسجد خيراً، وأن يجعل له بيتاً في الجنة، هو ومن أعانه، ومن ساهم معه، ومن أشار عليه، ومن جعله باسمه، ومن صلى فيه، ومن عمل فيه صالحاً إلى يوم القيامة فإن فضل الله واسع.

أيها الإخوة في الله! ما معنى أن يعيش الإنسان؟

وما قيمة حياة الإنسان إذا لم يكن لهذه الحياة غاية وهدف؟

وما غاية الإنسان وهدفه من هذه الحياة؟

لنضع المسألة على طاولة البحث، ونقول: هل هذه غاية أن تأكل، وتشرب، وتتمتع، وتنام، وتنكح، وتصبح، وتمسي، وتتوظف، وتعيش؟

هل خلقك الله لكي تأكل، وتشرب، وتتوظف، وتبني، وتتزوج، وتذهب للعمل، وترجع، وتتمشى، وتسهر، وتنام... كما هو برنامج أكثر الناس الآن؟!

في الوقت الحاضر أصبحت برامج أكثر الناس لا تتجاوز هذه الأمور، يبدأ برنامجه من الساعة الثامنة -ولا يصلي الفجر- يغسل وجهه، ويركب سيارته، ويذهب إلى العمل، ويفطر أثناء العمل، ويتغدى في البيت، وينام إلى الساعة الخامسة، ويقوم يتمشى إلى المغرب، ومن المغرب إلى العشاء في السوق، ومن العشاء إلى الساعة الثانية عشرة أو الواحدة أو الثانية بعد منتصف الليل يلعب أو يشاهد أفلاماً، أو يطالع قنوات، ثم ينام إلى الساعة السابعة. هذا برنامج أكثر الناس.

فهل خلقك الله لهذا؟

إننا إذا قلنا: إن الله خلق الإنسان لهذا، فكأننا نقول: إن الإنسان نوع من القطيع الحيواني؛ لأن الحيوانات لا تمارس إلا هذه الأعمال، ويبقى هناك فروق نوعية، يعني: كون الحمار يعيش في (زريبة)، أو البقرة تعيش في حظيرة، وأنت تعيش في عمارة أو شقة، أما الهدف فواحد، أنت تنام وهي تنام .. أنت تأكل وتشرب وهي تأكل وتشرب، ولا فرق في الأهداف والأفكار والاهتمامات.

لكن ليس هدفك من الحياة أن تعيش لتأكل، ولهذا عاب الله عز وجل على الكفار هذا الهدف، وقال: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ [محمد:12] هؤلاء يأكلون ويتمتعون كالبقر، ثم قال: وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ [محمد:12] ويقول عز وجل للرسول صلى الله عليه وسلم: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان:44].

يا ليت أنهم كالأنعام، فالبقر تذبحه أو تحلبه أو تحرث عليه، والحمار تركب عليه، والجمل تشد على ظهره، لكن العاصي ماذا تعمل به؟ ليس حماراً تركبه، ولا بقرةً تحلبها، ولا جملاً تشد عليه، ليس فيه خير إلا فساد في فساد، قال عز وجل: بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان:44] فليست الغاية من خلقك أن تعيش وتأكل وتشرب، وإنما هذه غاية البهائم.

إذاً: ما الغاية؟

بعد النظر والتأمل وجد أن الغاية هو أن يموت الإنسان؛ لأن كل واحد يعيش ولا بد أن يموت، فهل خلقك الله لكي تموت؟ فأنت كنت ميتاً أصلاً، ولو أن الله أوجدك لكي تموت لما خلقك، ولجعلك ميتاً، ولما جعلك تمر عبر هذه الأطوار تسعة أشهر حملاً في بطن أمك، ومعاناة وتعب، ثم وضع في كره وتعب، ثم في تربية ورضاع، ومعاناة، ومكابدة للحياة: لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي كَبَدٍ [البلد:4] لكي تموت في النهاية وتنتهي المسألة؟! لا. هذا عبث، والله منزه عن العبث يقول الله: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115] أي: أتظنون أن الله خلقكم عبثاً، وأنكم لا ترجعون إلى الله؟! ثم قال عز وجل: (فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ [المؤمنون:116] تعالى الله، وتنزه، وتقدس عن العبث: لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [المؤمنون:116].

ويقول في آية أخرى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً [ص:27] أي: عبثاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [ص:27]، ويقول عز وجل: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ [الأنبياء:16] لاعبين: أي عابثين. لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ [الأنبياء:17-18]. نعم. ليس لحياتنا معنى -أيها الإخوة!- إذا كنا نظن أننا خلقنا من أجل أن نأكل ونشرب، أو خلقنا من أجل أن نموت.

من أجل أن يكون لحياتنا معنى، ويكون لوجودنا قيمة، وتكون لحياتنا أهدافاً لا بد من معرفة أمرين رئيسيين:

الأمر الأول: أن تعرف -أيها الإنسان!- من أنت.

والأمر الثاني: أن تعرف -أيها الإنسان!- لماذا خلقك الله، وما الغرض من خلقك.

أولاً: تعرف من أنت أصلاً، والمصيبة أيها الإخوة! أن البشرية اليوم رغم التطور العلمي، وثورة المعلومات، وزمن الاتصالات، وتفجير الذرة، والسباحة في الفضاء، والغوص في الماء، وتطويع المادة، إلا أن البشرية لا تعرف من الإنسان إلا جزءاً بسيطاً من أجزائه، تعرف الجسد فقط، وهل الإنسان هو الجسد؟! الإنسان أشياء، والجسد هو أقل أجزاء الإنسان شأناً وقيمةً، ولا قيمة له إذا تجرد عن الأشياء الأخرى الرئيسية فيه، لكن البشرية لا تعرف إلا هذا الجزء البسيط، ولهذا إذا مرض الجسد عالجوه، وإذا عطش سقوه، وإذا جاع أطعموه، وإذا أصابه الحر بردوه، وإذا برد أدفئوه، فالحياة لديهم جسد في جسد، وعنايتهم به فقط.

يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته      أتطلب الربح مما فيه خسرانُ

أقبل على الروح واستكمل فضائلها      فأنت بالروح لا بالجسم إنسانُ

فأنت لن تكتسب إنسانيتك ولا كرامتك من جسدك، ففي البهائم من هو أقوى منك، الأسد أشد عضلات، والجمل أكبر جسماً، والفيل أضخم حجماً من الإنسان.

إذاً أنت لست إنساناً بهذا الجسد، أنت إنسان بأشياء أخرى، ما هي هذه الأشياء؟ لقد جهل الإنسان نفسه، حتى قال الشاعر:

دواؤك فيك وما تبصر      وداؤك منك وما تشعر

وتحسب أنك جرم صغير      وفيك انطوى العالم الأكبر

أنت خلق مميز، يقول الله فيك: ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون:14] خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وأنزل عليك كتبه، وبعث إليك رسله، وأعد لك جنته إن أطعته، وتوعدك بناره إن عصيته، هذه كلها سبل تكريم لك أيها الإنسان! ثم تظن أن الله خلقك لكي تأكل وتشرب، مثل البقرة أو الحمار!! لا. أنت مخلوقٌ مميز، لكن المصيبة أن الإنسان لا يعرف نفسه.

أجل. من هو الإنسان أيها الإخوة؟! وحتى نعرف الإنسان.. الإنسان مكون من خمسة أجزاء رئيسية:

الجسد

الجزء الأول -وهو المعروف عند الناس الجسد-: وهو: عبارة عن هيكل عظمي مربط بعضلات وغضاريف وأعصاب، ومغطى بجلد، ومركب عليه أجهزة: جهاز بصري لرؤية الأجزاء والأجسام، وجهاز سمعي لمعرفة الأصوات، وجهاز تنفسي لاستنشاق الهواء، وجهاز هضمي، وجهاز دموي، وجهاز تناسلي وغيرها.

هذا الذي يسمى الجسد جزء واحد فقط من الأجزاء وهو غير مهم كأهمية بقية الأجزاء؛ لأنه لم يتعلق به ذم ولا مدح في كتاب الله، ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يأت في القرآن مدح أهل الأجساد بناءً على أجسادهم، لا. بل جاء الذم، قال الله في سورة المنافقين: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المنافقون:4] أي: لعنهم الله؛ لأن الذي يهب الأجساد هو الله سبحانه وتعالى، الذي أعطاك الجسد القوي أو الضعيف، الجسد الأبيض أو الأسود، الجسد المتين أو النحيف، الجسد الطويل أو القصير؛ هو الله، فكيف نلومك أو نمدحك أو نذمك أو نثني عليك بشيء ليس منك أصلاً، فالجسد هو من خلق الله، ولم يتعلق به مدح ولا ذم؛ بل يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح من حديثه يقول: (إن الله لا ينظر صوركم ولا إلى أجسامكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وإلى أعمالكم) ولم يأتِ في القرآن ولا في السنة مدح للجسد إلا في حالة واحدة جاءت تبعاً للعلم والإيمان والدين في سورة البقرة، يقول عز وجل في طالوت: وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ [البقرة:247] فهذا خير أن يعطيك الله علماً وإيماناً مع جسم قوي، لكن الجسم بلا دين ولا إيمان يذم ولا يمدح، فهذه أجسام المنافقين والكفار، وأنتم ترون بعض الكفار فيهم قوة وعضلات، لكن قوة إلى النار، وعضلات إلى جهنم والعياذ بالله، فهذا هو الجسد الجزء الأول من الإنسان، ولسنا أيها الإخوة! بحاجة إلى التطويل فيه فإن الناس يعرفونه ويهتمون به، وبالتالي لا يحتاجون إلى مزيد توصية، لكن التوصية والتأكيد على الأجزاء الأربعة الباقية.

الروح

الجزء الثاني من أجزاء الجسد الرئيسية: الروح. والروح بمنزلة الطاقة المشغلة للجسد، مثل الميكرفون، الميكرفون مكون من أجهزة: لاقط، وعصا، وجهاز (إمبرفاير) و(هورن)، هذا الجهاز يكبر الصوت، لكن الذي يشغله الطاقة الكهربائية، إذا فصلنا الطاقة الكهربائية، هل يشتغل ويكبر الصوت؟ لا. لأن المشغل له الكهرباء، والجسد المشغل له الروح، إذا فصلنا الروح فهل يشتغل الجسد؟ وإذا مات الإنسان والجهاز السمعي موجود لكنه لا يسمع، والجهاز البصري -عينيه ستة على ستة- موجود لكنه لا يرى، والقلب موجود لكنه لا ينبض، والكلية موجودة لكنها لا تصفي الدم، والرئة موجودة لكن عملية الشهيق والزفير لا تعمل، لماذا كل الأجهزة توقفت؟ لأن الروح معزولة.

إذاً: ما هي الروح؟ قف! إنها شيء استأثر الله بعلمه، وحجبه عن البشر، حتى الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقل فيها شيئاً، بل لما سأله اليهود عن الروح قال الله له: وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً [الإسراء:85] ولم يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم في سنته عن شيءٍ من أسرار الروح إلا بخبر واحد وهو أن الميت إذا مات تبعها البصر، ولهذا أي ميت تأتي وتراه بعد الموت ترى عينيه شاخصتين إلى الأعلى، لماذا؟ لأن الروح خرجت وصعدت إلى الله فيتبعه البصر، ولهذا يشرع لمن حضر الميت أن يغمض عينيه؛ لأن عينيه شاخصتان إلى السماء، ولن تغمض إلا إذا أغمضتها أنت؛ لأن المشغل للتغميض خرج.

تساءل من الذي يجعل عينك تغمض كل لحظة؟ ولماذا تغمض عينك كل لحظة؟ لأن عدسة العين عليها غطاء وفيها مادة ملحية، وتتعرض العدسة لعوامل الجو فتنشفها، فلا بد من عملية تمسيح لها، وفي نفس الوقت إعطاءها مسحة من الدمع لكي تظل دائماً مصقولة، فلو أن الله جعل عينك مفتوحة، وجعل عملك أنك تمسح عينك، فلن يكون لديك عمل إلا تمسيحها، كل لحظة تقفل وتمسح، لكن الله ركب لك على عينيك جفنين يعملان تلقائياً (أوتوماتيك)، بل بعضهم يدخل (مباراة) فيمن يفتح عينه لا يغمضها، ويقول: عينك في عيني، لا تغمض، فمن يغمض فعليه كذا! ولن يطبق؛ لأن عينه احتاجت أن يغمض غصباً عنه لكي يمسح العدسة، لكن عندما تموت أنت، وتفتح عينك، وتخرج الروح، فلا توجد روح تطبق جفنيك، بل تحتاج إلى شخص من الموجودين لكي يغمض عينك، ويغلق فمك، لكي لا تبقى فاغر الفم، شاخص العين.

فالروح لا يعرفها أحد، بل استأثر الله بعلمها، وما دمنا لا نعرفها فلا يجوز لنا الخوض فيها، ولو أن الروح شيءٌ مادي يمكن معرفته لكان الناس قد وصلوا إليها، خاصة في هذا العصر -عصر العلم- فعندهم أجهزة دقيقة تكبر الأشياء، وأنا رأيت (مجهراً إلكترونياً) يكبر ثلاثة ملايين مرة، يعني المليمتر الواحد -الذي هو واحد على عشرة من السنتيمتر- يجعله ثلاثة (كيلو). فلو أن الروح شيء مادي لرأيناها تحت المجهر، لكن اسأل في الشرق، واسأل في الغرب، واسأل في الجامعات عن الروح، الجميع لا يدري.

وقد قرأت قبل فترة بحثاً لعالم أمريكي أجرى أبحاثاً على الروح، ورصد حالة مريض يحتضر وركَّب عليه أجهزة ترصد أي حركة تدخل فيه أو تخرج منه، في صندوق زجاجي، وفجأة يموت الإنسان ولا تسجل جميع الأجهزة شيئاً، بمعنى: أن الروح شيء لا يعرفه البشر، ولا يعلمه إلا الله: وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً [الإسراء:85].

فعلاقة الروح بالجسد علاقة تشغيل، وتنفصل من الجسد في حالتين:

الحالة الأولى: حالة النوم.

الحالة الثانية: حالة الموت.

ففي حالة النوم تنفصل، ولكنه انفصال قريب، وتترك الجسد بدليل أنك لو أتيت إلى النائم ووضعت عند أنفه عطراً هل يشم وهو نائم؟ لا. وإذا فتحت عينيه ووضعت أمامه منظراً أو يديك وهو نائم هل يراك؟ لا يراك، تتكلمون في المجلس وهو نائم لا يسمعكم، رغم أن الأذن التي تسمع موجودة، والعين التي ترى موجودة، والأنف الذي يشم موجود، لكن الروح التي تجعلك تشم، وترى، وتسمع غير موجودة، أين هي؟! خارج الجسد، قريبة أم بعيدة؟ قريبة، فإذا أردتها أن تعود، توقظه وتقول: يا فلان يا فلان! فيقول: نعم، نعم. أين كانت؟ لا تدري، أعطه العطر، يشم، ولماذا شم الآن، ولم يشم حال النوم؟ لأن الذي يشم كان غير موجود... أين تذهب الروح عندما تنام أنت؟ لا تدري، قال العلماء: تبقى قريباً من الجسد بحيث إذا دعيتها تعود، ولهذا قال الله وهو يسمي النوم وفاة: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً [الزمر:42] يتوفى الأنفس: أي يميتها، حين موتها: أي: عند الموت.

وقال عليه الصلاة والسلام في حديث الاستيقاظ من النوم: (إذا قمت تقول: الحمد لله الذي أحياني بعدما أماتني وإليه النشور).

لكن لماذا النوم لا يمكن أن يكون إلا بخروج الروح؟ قالوا: لأن الروح راكب، والبدن مركوب، ولا يمكن أن يرتاح المركوب والراكب عليه، فهل يمكن أن ينام حصانك وأنت راكب عليه، طبعاً لا؛ بل لا بد أن تنزل عنه، ولهذا إذا دخلت بيتك الآن وأنت آتٍ من سفر، أو آتٍ من العمل متعب، مثقل، محطم، وقلت لزوجتك: دعوني أنَمْ، لا أريد أكلاً، لا أريد أن أرى أحداً، أريد أن أنام، أريد أن أرتاح فقط، فقالت لك زوجتك: تفضل، ادخل على السرير والمكيف والغرفة هادئة لكن استرح ولا تنم.. تمدد لكن لا تنم، وكلما غمضت عينك دقت الباب لئلا تنام، ما رأيك هل ترتاح؟ ولو تقعد أربعين ساعة لن ترتاح، لكن نَمْ أربع ساعات -وأنت نائم ينزل الروح الذي هو الراكب- ثم توقظك زوجتك، ستجد أنه قد ارتاح جسدك، تقوم وأنت تقول: ما شاء الله لا إله إلا الله، الحمد لله، أصبح جسمك قوياً، لماذا؟ لأن الراكب نزل، فالله عز وجل يُبعد الروح عن الجسد في النوم لكي يرتاح هذا الجسد.

يا إخوان! النوم آية من آيات الله، يقول الله: وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ [الروم:23] فلو أن النوم غير موجود ما كان الناس ليعيشوا، وتصوروا حالة الطلاب أيام الامتحانات كيف بهم إذا سهروا، وكذلك السائقين أيام المواسم، كيف تتحطم قوتهم؛ لأنه سهران ليلتين أو ثلاث، وبعضهم يتناول هذه الحبوب لكي يسهر ويدمر نفسه لكن الله جعل النوم سباتاً، (سباتاً) أي: قاطعاً لنا من دنيانا لكي ننام حتى نستطيع أن نعيش وأن نواصل السعي في حياتنا ونحن بأجسام طيبة، هذه -أيها الإخوة- هي الروح.

النفس

الجزء الثالث من أجزاء الإنسان: النفس.

والنفس يقول العلماء: إنها مستشار أول للقلب، فإذا أراد القلب أن يعمل شيئاً استشارها، فإذا كانت النفس أمارة بالسوء أشارت عليه بالسوء، والنفس في طبيعتها وأصلها أمارة بالسوء، كما قال الله: إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ [يوسف:53] ولهذا مقاييس هذه النفس هي: الشهوات، الملذات، المتع، الراحة، النوم، الفسحة، الرحلة، السهرة، اللعب، هذه كلها تحبها النفس، وهناك أشياء أخرى لا تحبها النفس: القيود، التكاليف، الصلاة، الزكاة، الصيام، قراءة القرآن... لا تحبها النفس، مع أن الجهد المبذول في هذه الطاعات بسيط قياساً على الجهد المبذول في تلك الغفلات، لكن النفس هذه طبيعتها، لا تحب هذا، وانظروا الطالب أيام الامتحان يكره الكتاب، ويحب الجرائد بالرغم من أنه ليس عنده امتحان في الجريدة، بل عنده امتحان في الكتاب؛ لكن الكتاب كأنه حيات وعقارب لا يريد أن يراه، وإذا به إذا رأى مجلة أو جريدة قرأها وانبسط معها، لماذا؟ لأن النفس لا تحب القيود، تحب الدعة والانفلات.

فهذه النفس أيها الإخوة! يقول العلماء: إنها هي المجال الأول للإصلاح الإنساني، فالله يقول في كتابه الكريم: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس:7-8] أي: كل نفسٍ لديها القدرة على أن تكون تقية أو فاجرة، ثم يأتي دورك أنت في تربية نفسك، قال عز وجل: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10] قالوا: تزكيتها بطاعتها الله وببعدها عن معصيته، وتدسيتها بوقوعها في معصية الله وحرمانها من طاعة الله عز وجل.

دورك أيها الإنسان! هو إصلاح هذه النفس، كيف الإصلاح؟ بالمجاهدة، قال عز وجل: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:40-41] جاهد النفس وعاندها، إن كانت تريد النوم عن صلاة الفجر فلا تدعها، أو كانت تريد الغفلة عن الذكر فلا تدعها، أو تريد الجريدة وتترك القرآن؛ لا. بل لا تترك القرآن، وإذا كانت تريد أن تنظر إلى الحرام؛ لا. وقل لها: والله لا تنظرين، أو كانت تريد أن تسمع الأغاني؛ فقل لها: لا لن تسمعي!

الله أكبر! أنت ضد نفسك، جهاد في جهاد، فإذا رأت هذه النفس أنها مع إنسان قوي فستستسلم، وترتقي من درجة الأمارة بالسوء حتى تصبح -كما قال العلماء- نفساً لوامةً.

فما معنى اللوامة؟ هي المعبر عنها في علم النفس الحديث بـ(الضمير)، يقولون: رجل عنده ضمير حي، وآخر ضميره ميت، الذي ضميره ميت؛ هذا هو الذي نفسه أمارة بالسوء، يزني ويسكر ويعمل كل جريمة؛ لأن قلبه ميت لا يحس، أما الذي ضميره حي هذا فيه خير، وإذا عمل جريمة تلومه نفسه تقول: لماذا عملت؟ هذه اسمها لوامة، تأمره بالشر ثم تلومه عليه. فيردها الإنسان ويؤدبها ويهذبها مرة أخرى، ويعاندها مرة أخرى إلى أن ترتقي إلى المرتبة النهائية؛ وهي: النفس المطمئنة.

والنفس المطمئنة: وهي التي سكنت إلى أمر الله، واطمأنت إلى طاعة الله، فلا تحب إلا الله، ولا تحب إلا رسول الله، ولا تحب إلا شريعة الله، ولا تحب إلا بيوت الله، إذا دعيت إلى طاعة الله فرحت، وإذا عرضت عليها معصية الله نفرت، هذه نفس مطمئنة، لماذا؟ رضيت عن الله، ورضي الله عنها، يقول الله لها يوم القيامة: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً [الفجر:27-28] راضية في ذاتها، مرضيٌ عنها من قبل خالقها وبارئها: فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي [الفجر:29-30] هذه النفس هي الجزء الثالث وهذه مهمتها، يقول العلماء: إن النفس مثل الدابة، إما أن تركب عليها، وإلا ركبت عليك، فإن ركبت عليها وقصرتها على أمر الله سرت بها إلى الله، وإن ضعفت أمامها ركبت عليك نفسك، وأوردتك إلى النار والعياذ بالله.

العقل

الجزء الرابع من الأجزاء: العقل.

والعقل يقول العلماء: إنه مستشار ثانٍ للقلب، لكن مقاييس العقل غير مقاييس النفس، استشارة النفس منطلقها الشهوات والمتع والملذات، أما العقل فلا، استشاراته تنطلق من المصالح.. المفاسد.. النتائج.. الآثار.. فالعقل يفكر! فإذا قالت النفس فكرة للقلب، فإن كانت قوية أثرت في القلب، والقلب مريض لا يستطيع أن يحمل هذه الفكرة ويردها فيأتي العقل ليقول: لا هذا خطأً، فتقول له النفس: هذا ليس خطأً، فيطيع الإنسان نفسه.

وأضرب لكم على هذا أمثلة:

شرب الدخان، فالذي يدخن أليس في قرارة نفسه قناعة أن الدخان مضر، وهل يوجد شخص في الدنيا يدخن وهو لا يعرف أنه ضار؟ لا. الجميع يعرف أنه ضار، ويقرأ على علبة الدخان (التدخين يضر بصحتك) جميع الشركات المصنعة في العالم تصنع مصنوعاتها وتكتب عليها دعاية لها إلا الدخان، فإن شركاته تصنعه وتكتب عليه دعاية ضده، وأيضاً فإن جميع المأكولات والمشروبات في الدنيا إذا صنعت كتب عليها تاريخ صلاحية بداية ونهاية، إلا الدخان من يوم صنعوه كتبوا عليه أنه يضرك من ذاك اليوم.

إذاً لماذا الإنسان يدخن؟ يفكر في عقله يقول: الدخان والله ضار، الدخان يسبب لك مرضاً، الدخان يتلف مالك، فيأتي القلب يريد أن يطيع العقل، فتقول النفس: دعك من هذا الكلام، الناس كلهم يدخنون، لو أنه حرام لم تسمح الدولة بدخوله، فيقول القلب: صدقتِ، لماذا يلغي عقله؟ لأن نفسه أمارة بالسوء. متى يكون للعقل هيمنة؟ قالوا: لا يكون للعقل هيمنة إلا في ظل سلامة القلب وضعف النفس -أي: صلاح النفس- فيأتي العقل ليقول: هذا حلال نواصل فيه، وهذا حرام نبعده، لكن إذا قال: هذا حرام قالت النفس: لا. ليس حراماً، الله غفور رحيم.

أيضاً من الأمثلة: الزنا جريمة موبقة، وكل إنسان يعرف أنها حرام، فيأتي القلب ليستشير النفس في الزنا، فتقول: فرصة لا تفوتك، ويشاور العقل فيقول: احذر! هذه جريمة، إذا ضُبطت تفصل من وظيفتك، ويسقط اعتبارك، وتصبح من أهل السوابق، تسجن ويجلد ظهرك بالسوط، احذر! وأتى إلى النفس، قال: يقول العقل كذا وكذا وكذا، قالت: هذا إذا ضبطوك لكن من يضبطك كن رجلاً حذراً، لا أحد يراك، قال القلب للعقل: النفس تقول كذا، قال العقل: وإذا لم تضبط في الدنيا، سيضبطك الله في الآخرة، فالله عز وجل يراك، قال عند النفس: يقول العقل: كذا، قالت: الله غفور رحيم، تب بعدها، الناس كلهم يتوبون: (ولو لم تذنبوا فتستغفروا...) وتأتيك بالأدلة، فيقع الإنسان في الجريمة بسبب قوة النفس وضعف القلب، والضعيف لا يصنع شيئاً، صحيح أن القلب ملك الجوارح، لكن إذا كان ملك الجوارح مريضاً، كما لو كنت رب أسرة وأنت مريض، هل تستطيع أن تسيطر على أولادك؟ فالولد الذي يأتي الساعة الثانية عشر وأنت مريض لا تقدر أن تتحرك من فوق السرير ماذا تفعل به؟ تتوعده إلى أن تتعاف من المرض، وإذا لم تتعاف فلن تستطيع أن تعمل شيئاً، والمرأة تخرج بغير إذنك، فتقول: أنا مريض الآن ما عليكِ، انتظري حتى أتعافى والله لأكسرنَّ ظهركِ، لكن هل تستطيع أن تكسر ظهرها وأنت مريض؟ لا. فلو قمت تضربها ضربتك، والولد إذا كنت مريضاً وتقوم لتمسكه أزاحك عن الباب وتركك.

فالقلب إذا كان مريضاً فإن الأعضاء تتمرد، فالعين تنظر ولا تبالي بالقلب، والأذن تسمع ولا تبالي بالقلب، والنفس تأمر بالسوء ولا تبالي بالقلب، وكل الجوارح تتمرد، لماذا؟ لأن هذا القلب مريض.

القلب

القلب: هو العضو الخامس والأخير، ويسمى ملك الجوارح، وسيد الأعضاء، وكما جاء الحديث في الصحيحين : (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب) إذا صلح القلب صلحت العين، والأذن، وصلح اللسان والفرج، وصلحت اليد والرجل، وصلحت الحياة كلها؛ الآن الشباب الملتزمون -نسأل الله أن يبارك فيهم- ما الذي تغير في حياتهم؟ تغير القلب، حصل عند أحدهم قناعة في قلبه أن الطريق الذي كان فيه غير صحيح، وأن الطريق الصحيح هو الدين والإيمان فالتزم، ولما أن التزم، أصبحت عينه لا تنظر إلى النساء، لم يركباً عين جديدة؛ بل هي عينه الأولى لكن!- من حين يرى امرأة يغض بصره! لماذا تغض الآن ومن قبل ما كنت تغض؟ لأن القلب صلح، وأذنه التي كانت تتابع الأغاني في الإذاعات من يوم يسمع نغمة يغلقها، هل غير أذنه في السوق واشترى أذناً جديدة؟ لا. هي نفسها، لكن الذي تغير هو قلبه، أما يده التي كانت تبطش بالحرام، وبطنه التي كانت تأكل الحرام، وفرجه الذي كان يقع في الحرام، ورجله التي كانت تمشي في الحرام هي نفسها، فما الذي تغير؟ تغير القلب: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب) هكذا يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم.

فهذا القلب لا يسيطر على النفس، ولا يقبل تأشيرات العقل إلا إذا كان سليماً معافىً.

فإذا سلم القلب قبل نصائح العقل، ورفض أوامر النفس، وصلحت حياة الإنسان كلها. معنى هذا أن القلب يمرض، نعم، القلب يمرض، وتعتريه العلل، وتصيبه الآفات كما تصيب أي جارحة من الإنسان، وعلامة مرضه عدم قيامه بواجبه، فمثلاً هذه اليد دورها في الجسم العمل، فإذا تعطلت، تقول يدي مريضة، والعين دورها النظر، فإذا عميت تقول: عيني مريضة، والأذن دورها السماع، وإذا لم تسمع تقول: أذني مريضة، والقلب ما هو دوره؟ معرفة الله، معرفة دين الله، معرفة رسول الله، محبة الله، وإذا لم يعرف الله ولا عرف الدين فهو مريض لا يقوم بدوره، فمتى يقوم بدوره؟ إذا كان سليماً، وهل ينتفع الإنسان بقلبه إذا كان مريضاً؟ لا. قال الله عز وجل في كتابه الكريم: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89] ويثني الله على إبراهيم فيقول: إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الصافات:84] سليم من ماذا؟ ما هي الأمراض التي تصيب القلب حتى نتجنبها؟ قال العلماء: أولاً القلب يصاب بالعمى -نعوذ بالله وإياكم من عمى القلب- قال الله: فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46] قلبك الذي في صدرك هو عبارة عن مضخة، تضخ الدماء، وهذه وظيفة مادية ليس لنا علاقة بها، لكن القلب الذي نعني به: اللطيفة الروحية التي أودعها الله في هذه المضغة، والتي بها نعرف الحياة كلها.

فالقلب يضخ الدماء كوظيفة مادية، لكن له وظيفة أخرى، وهي: حب الله ومعرفته، ولذا تنظر إذا فرحت ما الذي يتأثر فيك؟ قلبك، يكاد قلبك يطير من جوفك من الفرح، وإذا حزنت يكاد يموت قلبك تقول: والله كأنه والله طعنني في قلبي، وإذا سمعت خبراً سيئاً كموت حبيب أو قريب، أو حادث، تقول: امسك قلبي، قلبك مضخة الدم لم يصبه أذى، لكن قلبك المعنوي اللطيف الذي أودعه الله في صدرك، فالقلب يسلم ويمرض، ويبصر ويعمى.

إذاً: ما علامة عماه؟ قالوا: ألا يرى طريق الله، يقول الله عز وجل: وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ [الأحقاف:26] أفئدة: قلوب، ويقول: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل:78] وقال الله عز وجل: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا [الأعراف:179] كيف لا يسمعون؟ هم يسمعون لكن لا يسمعون ما يحب الله، هم يرون لكن لا يرون طريق الله، هم يفقهون لكن لا يفقهون دين الله، كأن هذه الأجهزة ليست موجودة عندهم؛ لأن الله يقول: فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ [الأحقاف:26] لماذا؟ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ [الأحقاف:26] فجحودهم عطل هذه الجوارح، ما فقهوا بأعينهم إلا ما تفقهه البهائم، ولا سمعوا بآذانهم إلا ما تسمعه البهائم، ولا فكروا بقلوبهم إلا في شهواتهم كما تفكر البهائم، لكن ما تفكروا فيما هو مطلوب منهم، وما هو المطلوب منك أيها الإنسان؟ مطلوب منك أن تعرف الله، وتعرف دينه، ونبيه، وأن تسير على منهجه، وأن تعبده حق عبادته، فإذا تعطل القلب عن هذا فهو مريض.

الجزء الأول -وهو المعروف عند الناس الجسد-: وهو: عبارة عن هيكل عظمي مربط بعضلات وغضاريف وأعصاب، ومغطى بجلد، ومركب عليه أجهزة: جهاز بصري لرؤية الأجزاء والأجسام، وجهاز سمعي لمعرفة الأصوات، وجهاز تنفسي لاستنشاق الهواء، وجهاز هضمي، وجهاز دموي، وجهاز تناسلي وغيرها.

هذا الذي يسمى الجسد جزء واحد فقط من الأجزاء وهو غير مهم كأهمية بقية الأجزاء؛ لأنه لم يتعلق به ذم ولا مدح في كتاب الله، ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يأت في القرآن مدح أهل الأجساد بناءً على أجسادهم، لا. بل جاء الذم، قال الله في سورة المنافقين: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المنافقون:4] أي: لعنهم الله؛ لأن الذي يهب الأجساد هو الله سبحانه وتعالى، الذي أعطاك الجسد القوي أو الضعيف، الجسد الأبيض أو الأسود، الجسد المتين أو النحيف، الجسد الطويل أو القصير؛ هو الله، فكيف نلومك أو نمدحك أو نذمك أو نثني عليك بشيء ليس منك أصلاً، فالجسد هو من خلق الله، ولم يتعلق به مدح ولا ذم؛ بل يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح من حديثه يقول: (إن الله لا ينظر صوركم ولا إلى أجسامكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وإلى أعمالكم) ولم يأتِ في القرآن ولا في السنة مدح للجسد إلا في حالة واحدة جاءت تبعاً للعلم والإيمان والدين في سورة البقرة، يقول عز وجل في طالوت: وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ [البقرة:247] فهذا خير أن يعطيك الله علماً وإيماناً مع جسم قوي، لكن الجسم بلا دين ولا إيمان يذم ولا يمدح، فهذه أجسام المنافقين والكفار، وأنتم ترون بعض الكفار فيهم قوة وعضلات، لكن قوة إلى النار، وعضلات إلى جهنم والعياذ بالله، فهذا هو الجسد الجزء الأول من الإنسان، ولسنا أيها الإخوة! بحاجة إلى التطويل فيه فإن الناس يعرفونه ويهتمون به، وبالتالي لا يحتاجون إلى مزيد توصية، لكن التوصية والتأكيد على الأجزاء الأربعة الباقية.

الجزء الثاني من أجزاء الجسد الرئيسية: الروح. والروح بمنزلة الطاقة المشغلة للجسد، مثل الميكرفون، الميكرفون مكون من أجهزة: لاقط، وعصا، وجهاز (إمبرفاير) و(هورن)، هذا الجهاز يكبر الصوت، لكن الذي يشغله الطاقة الكهربائية، إذا فصلنا الطاقة الكهربائية، هل يشتغل ويكبر الصوت؟ لا. لأن المشغل له الكهرباء، والجسد المشغل له الروح، إذا فصلنا الروح فهل يشتغل الجسد؟ وإذا مات الإنسان والجهاز السمعي موجود لكنه لا يسمع، والجهاز البصري -عينيه ستة على ستة- موجود لكنه لا يرى، والقلب موجود لكنه لا ينبض، والكلية موجودة لكنها لا تصفي الدم، والرئة موجودة لكن عملية الشهيق والزفير لا تعمل، لماذا كل الأجهزة توقفت؟ لأن الروح معزولة.

إذاً: ما هي الروح؟ قف! إنها شيء استأثر الله بعلمه، وحجبه عن البشر، حتى الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقل فيها شيئاً، بل لما سأله اليهود عن الروح قال الله له: وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً [الإسراء:85] ولم يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم في سنته عن شيءٍ من أسرار الروح إلا بخبر واحد وهو أن الميت إذا مات تبعها البصر، ولهذا أي ميت تأتي وتراه بعد الموت ترى عينيه شاخصتين إلى الأعلى، لماذا؟ لأن الروح خرجت وصعدت إلى الله فيتبعه البصر، ولهذا يشرع لمن حضر الميت أن يغمض عينيه؛ لأن عينيه شاخصتان إلى السماء، ولن تغمض إلا إذا أغمضتها أنت؛ لأن المشغل للتغميض خرج.

تساءل من الذي يجعل عينك تغمض كل لحظة؟ ولماذا تغمض عينك كل لحظة؟ لأن عدسة العين عليها غطاء وفيها مادة ملحية، وتتعرض العدسة لعوامل الجو فتنشفها، فلا بد من عملية تمسيح لها، وفي نفس الوقت إعطاءها مسحة من الدمع لكي تظل دائماً مصقولة، فلو أن الله جعل عينك مفتوحة، وجعل عملك أنك تمسح عينك، فلن يكون لديك عمل إلا تمسيحها، كل لحظة تقفل وتمسح، لكن الله ركب لك على عينيك جفنين يعملان تلقائياً (أوتوماتيك)، بل بعضهم يدخل (مباراة) فيمن يفتح عينه لا يغمضها، ويقول: عينك في عيني، لا تغمض، فمن يغمض فعليه كذا! ولن يطبق؛ لأن عينه احتاجت أن يغمض غصباً عنه لكي يمسح العدسة، لكن عندما تموت أنت، وتفتح عينك، وتخرج الروح، فلا توجد روح تطبق جفنيك، بل تحتاج إلى شخص من الموجودين لكي يغمض عينك، ويغلق فمك، لكي لا تبقى فاغر الفم، شاخص العين.

فالروح لا يعرفها أحد، بل استأثر الله بعلمها، وما دمنا لا نعرفها فلا يجوز لنا الخوض فيها، ولو أن الروح شيءٌ مادي يمكن معرفته لكان الناس قد وصلوا إليها، خاصة في هذا العصر -عصر العلم- فعندهم أجهزة دقيقة تكبر الأشياء، وأنا رأيت (مجهراً إلكترونياً) يكبر ثلاثة ملايين مرة، يعني المليمتر الواحد -الذي هو واحد على عشرة من السنتيمتر- يجعله ثلاثة (كيلو). فلو أن الروح شيء مادي لرأيناها تحت المجهر، لكن اسأل في الشرق، واسأل في الغرب، واسأل في الجامعات عن الروح، الجميع لا يدري.

وقد قرأت قبل فترة بحثاً لعالم أمريكي أجرى أبحاثاً على الروح، ورصد حالة مريض يحتضر وركَّب عليه أجهزة ترصد أي حركة تدخل فيه أو تخرج منه، في صندوق زجاجي، وفجأة يموت الإنسان ولا تسجل جميع الأجهزة شيئاً، بمعنى: أن الروح شيء لا يعرفه البشر، ولا يعلمه إلا الله: وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً [الإسراء:85].

فعلاقة الروح بالجسد علاقة تشغيل، وتنفصل من الجسد في حالتين:

الحالة الأولى: حالة النوم.

الحالة الثانية: حالة الموت.

ففي حالة النوم تنفصل، ولكنه انفصال قريب، وتترك الجسد بدليل أنك لو أتيت إلى النائم ووضعت عند أنفه عطراً هل يشم وهو نائم؟ لا. وإذا فتحت عينيه ووضعت أمامه منظراً أو يديك وهو نائم هل يراك؟ لا يراك، تتكلمون في المجلس وهو نائم لا يسمعكم، رغم أن الأذن التي تسمع موجودة، والعين التي ترى موجودة، والأنف الذي يشم موجود، لكن الروح التي تجعلك تشم، وترى، وتسمع غير موجودة، أين هي؟! خارج الجسد، قريبة أم بعيدة؟ قريبة، فإذا أردتها أن تعود، توقظه وتقول: يا فلان يا فلان! فيقول: نعم، نعم. أين كانت؟ لا تدري، أعطه العطر، يشم، ولماذا شم الآن، ولم يشم حال النوم؟ لأن الذي يشم كان غير موجود... أين تذهب الروح عندما تنام أنت؟ لا تدري، قال العلماء: تبقى قريباً من الجسد بحيث إذا دعيتها تعود، ولهذا قال الله وهو يسمي النوم وفاة: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً [الزمر:42] يتوفى الأنفس: أي يميتها، حين موتها: أي: عند الموت.

وقال عليه الصلاة والسلام في حديث الاستيقاظ من النوم: (إذا قمت تقول: الحمد لله الذي أحياني بعدما أماتني وإليه النشور).

لكن لماذا النوم لا يمكن أن يكون إلا بخروج الروح؟ قالوا: لأن الروح راكب، والبدن مركوب، ولا يمكن أن يرتاح المركوب والراكب عليه، فهل يمكن أن ينام حصانك وأنت راكب عليه، طبعاً لا؛ بل لا بد أن تنزل عنه، ولهذا إذا دخلت بيتك الآن وأنت آتٍ من سفر، أو آتٍ من العمل متعب، مثقل، محطم، وقلت لزوجتك: دعوني أنَمْ، لا أريد أكلاً، لا أريد أن أرى أحداً، أريد أن أنام، أريد أن أرتاح فقط، فقالت لك زوجتك: تفضل، ادخل على السرير والمكيف والغرفة هادئة لكن استرح ولا تنم.. تمدد لكن لا تنم، وكلما غمضت عينك دقت الباب لئلا تنام، ما رأيك هل ترتاح؟ ولو تقعد أربعين ساعة لن ترتاح، لكن نَمْ أربع ساعات -وأنت نائم ينزل الروح الذي هو الراكب- ثم توقظك زوجتك، ستجد أنه قد ارتاح جسدك، تقوم وأنت تقول: ما شاء الله لا إله إلا الله، الحمد لله، أصبح جسمك قوياً، لماذا؟ لأن الراكب نزل، فالله عز وجل يُبعد الروح عن الجسد في النوم لكي يرتاح هذا الجسد.

يا إخوان! النوم آية من آيات الله، يقول الله: وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ [الروم:23] فلو أن النوم غير موجود ما كان الناس ليعيشوا، وتصوروا حالة الطلاب أيام الامتحانات كيف بهم إذا سهروا، وكذلك السائقين أيام المواسم، كيف تتحطم قوتهم؛ لأنه سهران ليلتين أو ثلاث، وبعضهم يتناول هذه الحبوب لكي يسهر ويدمر نفسه لكن الله جعل النوم سباتاً، (سباتاً) أي: قاطعاً لنا من دنيانا لكي ننام حتى نستطيع أن نعيش وأن نواصل السعي في حياتنا ونحن بأجسام طيبة، هذه -أيها الإخوة- هي الروح.

الجزء الثالث من أجزاء الإنسان: النفس.

والنفس يقول العلماء: إنها مستشار أول للقلب، فإذا أراد القلب أن يعمل شيئاً استشارها، فإذا كانت النفس أمارة بالسوء أشارت عليه بالسوء، والنفس في طبيعتها وأصلها أمارة بالسوء، كما قال الله: إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ [يوسف:53] ولهذا مقاييس هذه النفس هي: الشهوات، الملذات، المتع، الراحة، النوم، الفسحة، الرحلة، السهرة، اللعب، هذه كلها تحبها النفس، وهناك أشياء أخرى لا تحبها النفس: القيود، التكاليف، الصلاة، الزكاة، الصيام، قراءة القرآن... لا تحبها النفس، مع أن الجهد المبذول في هذه الطاعات بسيط قياساً على الجهد المبذول في تلك الغفلات، لكن النفس هذه طبيعتها، لا تحب هذا، وانظروا الطالب أيام الامتحان يكره الكتاب، ويحب الجرائد بالرغم من أنه ليس عنده امتحان في الجريدة، بل عنده امتحان في الكتاب؛ لكن الكتاب كأنه حيات وعقارب لا يريد أن يراه، وإذا به إذا رأى مجلة أو جريدة قرأها وانبسط معها، لماذا؟ لأن النفس لا تحب القيود، تحب الدعة والانفلات.

فهذه النفس أيها الإخوة! يقول العلماء: إنها هي المجال الأول للإصلاح الإنساني، فالله يقول في كتابه الكريم: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس:7-8] أي: كل نفسٍ لديها القدرة على أن تكون تقية أو فاجرة، ثم يأتي دورك أنت في تربية نفسك، قال عز وجل: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10] قالوا: تزكيتها بطاعتها الله وببعدها عن معصيته، وتدسيتها بوقوعها في معصية الله وحرمانها من طاعة الله عز وجل.

دورك أيها الإنسان! هو إصلاح هذه النفس، كيف الإصلاح؟ بالمجاهدة، قال عز وجل: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:40-41] جاهد النفس وعاندها، إن كانت تريد النوم عن صلاة الفجر فلا تدعها، أو كانت تريد الغفلة عن الذكر فلا تدعها، أو تريد الجريدة وتترك القرآن؛ لا. بل لا تترك القرآن، وإذا كانت تريد أن تنظر إلى الحرام؛ لا. وقل لها: والله لا تنظرين، أو كانت تريد أن تسمع الأغاني؛ فقل لها: لا لن تسمعي!

الله أكبر! أنت ضد نفسك، جهاد في جهاد، فإذا رأت هذه النفس أنها مع إنسان قوي فستستسلم، وترتقي من درجة الأمارة بالسوء حتى تصبح -كما قال العلماء- نفساً لوامةً.

فما معنى اللوامة؟ هي المعبر عنها في علم النفس الحديث بـ(الضمير)، يقولون: رجل عنده ضمير حي، وآخر ضميره ميت، الذي ضميره ميت؛ هذا هو الذي نفسه أمارة بالسوء، يزني ويسكر ويعمل كل جريمة؛ لأن قلبه ميت لا يحس، أما الذي ضميره حي هذا فيه خير، وإذا عمل جريمة تلومه نفسه تقول: لماذا عملت؟ هذه اسمها لوامة، تأمره بالشر ثم تلومه عليه. فيردها الإنسان ويؤدبها ويهذبها مرة أخرى، ويعاندها مرة أخرى إلى أن ترتقي إلى المرتبة النهائية؛ وهي: النفس المطمئنة.

والنفس المطمئنة: وهي التي سكنت إلى أمر الله، واطمأنت إلى طاعة الله، فلا تحب إلا الله، ولا تحب إلا رسول الله، ولا تحب إلا شريعة الله، ولا تحب إلا بيوت الله، إذا دعيت إلى طاعة الله فرحت، وإذا عرضت عليها معصية الله نفرت، هذه نفس مطمئنة، لماذا؟ رضيت عن الله، ورضي الله عنها، يقول الله لها يوم القيامة: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً [الفجر:27-28] راضية في ذاتها، مرضيٌ عنها من قبل خالقها وبارئها: فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي [الفجر:29-30] هذه النفس هي الجزء الثالث وهذه مهمتها، يقول العلماء: إن النفس مثل الدابة، إما أن تركب عليها، وإلا ركبت عليك، فإن ركبت عليها وقصرتها على أمر الله سرت بها إلى الله، وإن ضعفت أمامها ركبت عليك نفسك، وأوردتك إلى النار والعياذ بالله.




استمع المزيد من الشيخ سعيد بن مسفر - عنوان الحلقة اسٌتمع
كيف تنال محبة الله؟ 2924 استماع
اتق المحارم تكن أعبد الناس 2921 استماع
وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً 2800 استماع
أمن وإيمان 2672 استماع
حال الناس في القبور 2671 استماع
توجيهات للمرأة المسلمة 2596 استماع
فرصة الرجوع إلى الله 2568 استماع
النهر الجاري 2472 استماع
دور رجل الأعمال في الدعوة إلى الله 2464 استماع
مرحباً شهر الصيام 2394 استماع