الإيمان بالبعث


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:102-103]

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119]

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].

ثم أما بعد:

أيها الإخوة في الله! كم هو جميل وعظيم عند الله أن نجتمع على ذكر الله، في روضة من رياض الجنة، تحفنا فيها الملائكة، وتغشانا فيها الرحمة، وتنزل علينا السكينة، ويذكرنا الله عز وجل فيمن عنده.

إن هذا المجلس المبارك المجلس الإيماني، القرآني، النوراني هو الرصيد الذي سوف يبقى للإنسان بعد أن يغادر هذه الحياة، وسوف يتحسر ويتألم ويتندم أن أوقاته لم تكن كلها مثل هذه الجلسة، لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ما جلس قوم في مجلس لم يذكروا الله عز وجل فيه، إلا كان عليهم من الله ترة يوم القيامة) أي: عهدة ومؤاخذة عن كل مجلس وعن كل ساعة قضيتها -أيها الإنسان- في غفلة عن ذكر الله.

أما هذا المجلس فإن الغنيمة التي تحصل عليها بجلوسك فيه هذه الساعة أو هذه الدقائق غنيمة غالية، وثمرة عالية، يقول صلى الله عليه وسلم: (ما جلس قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا ناداهم مناد من السماء: أن قوموا مغفوراً لكم، قد بدلت سيئاتكم حسنات) ويقول صلى الله عليه وسلم: (إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا، قالوا: وما رياض الجنة؟ قال: حِلق الذكر).

والله يخبر أن من يعرض عن هذه المجالس فإن الشيطان يتسلط عليه، فيكون له قريناً في الدنيا، وقريناً في النار في الآخرة، قال عز وجل: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف:36] وقال عز وجل وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنْ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ [الزخرف:37-38] قال الله عز وجل: وَلَنْ يَنفَعَكُمْ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ [الزخرف:39].

ويخبر ربنا تبارك وتعالى أن من أعرض عن ذكر الله، وترك مجالس الذكر، ولم يحرص على الجلوس فيها؛ فإن الشيطان -والعياذ بالله- يتسلط عليه، وأن الله عز وجل يعرض عنه، فقال عز وجل: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى [طه:124-127].

ويخبر ربنا تبارك وتعالى أن الذي يعرض عن ذكر الله ولا يحرص على مجالس الذكر فإن الشيطان يتسلط عليه، فيقول عز وجل وهو يضرب لنا مثلاً ممن كان في الأمم السابقة قبلنا: آتاه الله العلم، والدين، والآيات، والدلالات، ولكنه انسلخ منها وأخلد إلى الأرض واتبع هواه، قال عز وجل: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ [الأعراف:175-176].

وبئس هذا المثل يا عباد الله! من يؤت القرآن والدين، وتعرض عليه السلعة الغالية ويرفضها، انظر إلى التعبير قال الله عز وجل: فَانسَلَخَ مِنْهَا [الأعراف:175] والانسلاخ: هو ترك الشيء مع عدم الرغبة في العودة إليه، أنت عندما تخلع ثوبك من أجل أن تنظفه وتزيل ما فيه من الأوساخ والأقذار ما تقول: سلخت ثوبي، بل تقول: خلعت ثوبي أو وضعت ثوبي، لكن إذا سلخت جلد الشاة، ما تقول: خلعت جلدها، بل تقول: سلخت جلدها؛ لأنه لا يوجد أمل أن يرجع جلدها إليها، فهذا الذي انسلخ من الدين كأنه لم يعد يريده، يرفض الآيات، قال الله تعالى: فَانسَلَخَ مِنْهَا [الأعراف:175] فماذا حصل له بعد الانسلاخ؟ فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ [الأعراف:175] لأنه كان في حصن، وحرز، وحماية، ووقاية بأسباب الآيات، والقرآن، والدين، كان محروساً بدين الله، ومحفوظاً بآيات الله، ومحاطاً بعناية الله، فلما انسلخ منها أصبح خلواً، مكشوفاً، عارياً، قال الله تعالى: فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ [الأعراف:175] فماذا حصل عندما أتبعه الشيطان؟ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ [الأعراف:175].

ومن كان الشيطان تابعه ومتبوعه كان من الغاوين، قال عز وجل: فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ [الأعراف:175-176] انغمس في الحمأة الوبيئة، وتلطخ بالتراب القذر، فأخلد إلى الأرض واتبع هواه ولم يتبع مولاه، اتبع هواه ولم يتبع رسوله صلى الله عليه وسلم، اتبع هواه ولم يتبع كتاب الله وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ [الأعراف:176].

فهنيئاً لكم -أيها الإخوة- هذا المجلس، وجزى الله كل خير من ساهم فيه ودل عليه وسار في أسبابه، ونسأل الله جل وعلا أن ينفعنا بما نقول وما نسمع، وأن يجعل ما نسمع وما نقول حجة لنا لا علينا.

أما موضوع الكلمة التي اختارها الإخوة فهي: "الإيمان بالبعث".

وقضية الإيمان بالبعث بعد الموت قضية مهمة ورئيسة، ومن قضايا الإيمان الكبرى، بل لقد كادت أن تكون نداً لقضية التوحيد في القرآن الكريم؛ لأن القرآن الذي نزل على النبي صلى الله عليه وسلم في مكة المكرمة عالج أمور العقيدة، وأكد على أمرين:

الأمر الأول: أمر الوحدانية.

الأمر الثاني: الإيمان بالبعث.

إذا استقرت عقيدة الإيمان بوحدانية الله لم يعبد إلا هو، وإذا استقرت عقيدة الإيمان بالبعث استقام سلوك المكلف؛ لأنه إذا علم أنه مؤاخذ بعد هذه الحياة، ومبعوث بعد الموت، ومجزي على عمله، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر .. إذا استقرت العقيدة في قلبه استقام سلوكه، أما إذا كانت العقيدة مهزوزة، والإيمان بالبعث ضعيفاً، فإن هذا ينعكس رأساً على سلوكه، فيضيع فرائض الله، ويتساهل في أوامره، ويقع في محارمه، ولا يخافه؛ لأنه ليس مؤمناً بالعقوبة؛ لأن من أمن العقوبة أساء العمل.

ولهذا يذكر الله عز وجل أن أهل النار يقولون بأنهم ما كانوا مستيقنين بالبعث، قال عز وجل: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ [الجاثية:27] تنكشف حساباتهم، وتتعرى أوراقهم، فيرون أن تجارتهم خاسرة، وأرباحهم بائرة، وأنهم خاسرون، قال: وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ * وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ * وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً [الجاثية:28-32] أي: ليسوا مكذبين على الإطلاق ولا مصدقين على اليقين، بل عندهم ظنون، قال: إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنَّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ * وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون * وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ * ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمْ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ * فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الجاثية:32-37].

فقضية الإيمان بالبعث قضية مهمة لا بد من التأكيد عليها، ولا بد من تأصيلها؛ لأنه باستقامتها وثباتها تصلح حياتك، وبزعزعتها وضعفها تخرب حياتك.

وفد الأزد وخصال الإيمان .. والبعث

يقول سويد بن الحارث رضي الله عنه وهو صحابي جليل من هذه الديار من بلاد الأزد -بلاد الأزد يعني جنوب المملكة - قال فيما يرويه أبو نعيم في الحلية قال: (قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سابع سبعة من أصحابي في وفد الأزد -في سنة الوفود- قال: فلما دخلنا عليه سلمنا، فرد السلام، ثم أعجبه ما رأى من سمتنا) أي: لباسهم وهيئتهم، أعجب النبي صلى الله عليه وسلم هيئة هؤلاء الرجال، كانوا يلبسون العمائم، وكان لهم لحى، وكان معهم عصي، ويلبسون (الجنابي)، ولهم أزر، فكان منظرهم منظراً رجولياً يبعث على الارتياح، فأعجب النبي صلى الله عليه وسلم هذا المنظر.

(فقال: من القوم؟ قالوا: مؤمنون يا رسول الله!) انتسبوا إلى العقيدة، ما انتسبوا إلى العرقية، ولا القبيلة، ولا اللون، ولا الجهة، ولم يقولوا عدنانيون ولا قحطانيون ولا سعوديون، بل قالوا: (مؤمنون يا رسول الله! فقال صلى الله عليه وسلم: إن لكل قول حقيقة فما حقيقة إيمانكم؟) لأن دعوى الإيمان لا تثبت إلا بالدلائل والبراهين، فما حقيقة الإيمان الذي تدعونه. (قالوا: يا رسول الله! حقيقة إيماننا خمس عشرة خصلة، خمس أمرتنا رسلك أن نؤمن بها، وخمس أمرتنا رسلك أن نعمل بها، وخمس تخلقنا بها في الجاهلية -أي: عندنا عادات من قبل الإسلام- ونحن عليها اليوم، إلا أن تكره منها شيئاً تركناه) انظروا إلى الرجولة، لم يقولوا لا نستطيع، نحن على عادة الآباء والأجداد، قالوا: إن كان يوافق ما عندك يا رسول الله! عملنا بها، وإن كنت تكره منها شيئاً يرده الدين ويكرهه الإسلام تركناه.

(قال: ما الخمس التي أمرتكم بها رسلي؟ قالوا: أمرتنا رسلك أن نؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وبالبعث بعد الموت -وهذا هو الشاهد في هذا الحديث: وبالبعث بعد الموت- قال: وما الخمس التي أمرتكم رسلي أن تعملوا بها؟ قالوا: أمرتنا رسلك أن نشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وأن نقيم الصلاة، وأن نؤتي الزكاة، وأن نصوم رمضان، وأن نحج البيت الحرام إن استطعنا إليه سبيلا، قال: وما الخمس التي عندكم في الجاهلية -أي: ما هي العادات التي عندكم في الجاهلية ولا تزالون عليها- قالوا: خمس خصال، الأولى: الشكر عند النعماء) إذا أنعم الله علينا شكرنا، فلا نبطر، ولا نتكبر، ولا نتنكر، ولا ننس الماضي، وبعض الناس كان فقيراً يتسول على الأبواب واليوم صار غنياً يتاجر بالملايين، وإذا قيل له: تذكر حالتك الأولى، قال: هذا مال ورثته كابراً عن كابر، لماذا؟ لأنه نسي ما كان عليه، وما كان فيه.

قالوا: (الشكر عند النعماء)؛ لأن المؤمن إذا أنعم الله عليه شكر الله على النعمة، واستعمل النعمة فيما يرضي الله، وتزود بالنعمة في مراضي الله عز وجل، ولم يبطر بها ولم يتكبر، ولم يتعال على الناس من أجلها، وإنما يعرف أن النعمة من الله وأن الله يقول: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ [النحل:53] فهو المنعم تبارك وتعالى، فإن من شكر نعمة الله أن أشكر الله أولاً، ثم أصرفها في مرضاة مسديها وموليها تبارك وتعالى، لكن الفاجر إذا جاءت النعمة فجر واستعلى بها، وصرفها في مساخط الله، واستعان بها على كل ما يبغضه الله تبارك وتعالى.

(قالوا: الشكر عند النعماء، والصبر عند البلاء) لأن المسلم والإنسان في الدنيا بصفة عامة يتقلب بين النعماء وبين الضراء، الحياة ليست على وتيرة واحدة، الحياة كل يوم لها وضع، والله كل يوم هو في شأن، والناس يتقلبون بين نعم الله وبين مصائبه، والله تعالى يقول: وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140] تجده اليوم معافى وغداً مريضاً، واليوم مريضاً وغداً معافى، واليوم فقيراً وغداً غنياً، واليوم غنياً وغداً فقيراً، واليوم بيت فيه عزاء وبيت آخر فيه زواج وفرح، وبعد أيام تجد العكس فالبيت الذي كان فيه فرح أصبح فيه عزاء، والذي كان فيه عزاء صار فيه فرح وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140].

فيقولون: نحن عندنا هذه الخصلة أننا نصبر عند البلاء، لا نتضجر، ولا نتذمر من قضاء الله، وكلما ابتلانا الله بشيء قلنا: الحمد لله على ما كتب الله، يتمثلون قول الله عز وجل: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ [البقرة:155] من هم؟ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:156-157]. (قالوا: والرضى بمر القضاء) لا نصبر فقط، وإنما نصبر ونرضى، وفرق بين الصابر اضطراراً والصابر اختياراً، فالمصيبة تنزل ولكن الواحد يتقبلها بصدر رحب، ويعلم أنها من اختيار الله عز وجل فيثيبه الله، وآخر تنزل عليه المصيبة فيصبر صبر المضطر، فليس له إلا أن يصبر وإلا ماذا يصنع؟! فيصبر رغماً عنه! فهؤلاء يقولون: (نصبر على البلاء ونرضى بمر القضاء)، أي: نعلم أن هذا هو اختيار الله فنرضى باختيار الله عن اختيارنا. (قالوا: والصدق في مواطن اللقاء) أي: يقولون: إذا قابلنا أعداءنا لا نعرف إلا المضي إلى الأمام، لا نعرف شيئاً اسمه انسحاب ولا نرجع إلى الوراء، لا نعرف إلا إلى الأمام، إما النصر أو الموت.

قالوا: هذه من شيم الرجال ومن شيم أهل المروءة.

(قالوا: وترك الشماتة بالأعداء) أي: لا تشمت على أحد تكرهه فيعافيه الله ويبتليك؛ لأن الشماتة ليست بيدك؛ فإن ما أصابه قدر والأقدار بيد الله، فإذا ابتلاه الله تأتي أنت وتشمت به، هل أنت الذي قضى عليه؟ هل أنت الذي قدر عليه؟ يا أخي: حتى ولو أنك تكرهه، وكان عدوك، لا تفرح لما أصابه، لا تقل يستحق ما به، لا -يا أخي- بل قل: اللهم عافه يا رب ولا تبتلنا، ولو كان عدوك فلا تشمت به؛ لأنك إذا شمت بعدوك عافاه الله وابتلاك، ونزلت المصيبة عليك أنت، لكن إذا رأيته وقلت: اللهم عافه ولا تبتلنا، عافاه الله ولم يبتلك. هذه هي الخمس التي عندهم في الجاهلية.

فقال صلى الله عليه وسلم لما سمع خمسهم: (حكماء علماء؛ كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء) فهذه هي شهادة النبي صلى الله عليه وسلم لهؤلاء الرجال: (حكماء علماء؛ كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء).

ثم قال: (وأنا أزيدكم خمساً: إن كنتم كما تقولون فلا تبنوا ما لا تسكنون) أي: أنه يزيدهم خمساً بعد الخمس عشرة، والأولى متحققه فينا كلنا، خصوصاً بعد انسكاب الدنيا علينا، ولكن ما المخرج؟ المخرج أن تسكن فيما بنيت، وإذا وسع الله عليك وزودك بالسكن فاستعمل ما يدخل عليك من هذا السكن في طاعة مولاك جل وعلا، واستعن بما يفتح الله عليك في طاعة الله؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ [الأعراف:32] ويقول: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [المؤمنون:51] ويقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:172].

فإذا وسع الله عليك بالمساكن، أو بالمآكل، أو بالملابس، أو بالمراكز، أو بالمناكح، أو بالمشارب، أو بأي شيء مما منَّ الله تعالى به عليك فتمتع به، فإن الله لا يريد أن يحرمك منه، بل أنت أولى الناس بالطيبات في الدنيا ولكن بشرط: أن تستعين بهذا المتاع على طاعة الله.

فإذا بنيت عمارة تعمرها بذكر الله فلا تعمرها بمعصية الله، وإذا أعطاك الله جسداً معافى فاستخدمه في طاعة الله، وإذا أعطاك الله منصباً وجاهاً فسخره فيما يرضي الله جل وعلا، حتى تتحول أمورك كلها إلى عبادة، فإذا كنت موظفاً أو مديراً أو مسئولاً ولكنك تتقي الله في عملك فكأنك تعبد الله بهذا العمل؛ لأن بصلاح النية تتحول عادات المسلم إلى عبادات، وبفساد النية تتحول عبادات المسلم إلى عادات، مثل أكثر الناس اليوم يصلي ولكن عادة، يصلي ويخرج ليشهد الزور، يصلي ويفكر كيف يقول شهادة الزور، لماذا؟

لأن صاحباً له قد جاءه وقال: عندي دعوى في الزرع أو المبنى أو المكان وتعرف أنني بحثت عن شهود ولم أجد، وأنت تعرف أن الدنيا يوم لك ويوم عليك، فأنا اليوم أحتاجك وأنت غداً قد تحتاجني، وتعلم أنه لا يوجد زرع ولا غير ذلك لا يوجد إلا وجهي، أريد أن أظهر على هذا الإنسان وأكسب هذه الدعوى، وأنت صاحبي وما ترضى أن تخذلني فتأتي تشهد معي قال: آتي أشهد، ولو أنت كبير في السن؛ لأن كبار السن يعرفون الأماكن والبقاع والحدود، ولو جاء شخص صغير في السن -شاب- لقالوا: أنت صغير ولا تعرف الحدود والأماكن، ولهذا دائماً يقولون: ابحث لك عن شيخ كبير قد تجهز للآخرة فيختم حياته بشهادة الزور والعياذ بالله.

ويقول: أبشر! ويأتي يصلي هذا الشيخ ولا يفارق المسجد ولكنه يشهد الزور، كيف تشهد الزور وقد قرن الله تعالى شهادة الزور بالشرك بالله؟ حيث قال الله تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ [الحج:30] مثل الشرك بالله، وفي صحيح البخاري وصحيح مسلم عن أبي بكر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله! قال: الشرك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس! وقال: ألا وقول الزور، ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور قال الصحابة: فما زال يرددها حتى قلنا: ليته سكت!).

فشهادة الزور ليست سهلة، وقد جاء في الحديث أن شاهد الزور لا تزول قدمه من مجلس الحكم حتى تجب له النار، يعطي صاحبه صكاً بالأرضية ويأخذ هو صكاً بجهنم، لا حول ولا قوة إلا بالله!

وبعضهم يكتم الشهادة يقولون له: اشهد؛ الحق سوف يضيع فيقول: والله إني لا أستطيع لأني أستحي من الخصم، ؛ لأن بيني وبينه رحماً، وبيني وبينه سراً، ونحن جيران، فأخاف أن أشهد عليه فيغضب، لا أشهد عليه وليس لي شأن، وهو يعرف الشهادة والله تعالى يقول: وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [البقرة:283].

مبتدع الشهادة ملعون، وكاتمها ملعون، وطريق السلامة من اللعنتين أن تشهد على مثل الشمس، فإذا كان عندك شيء تشهد به فاشهد ولا تخف إلا الله؛ لأن الذي يكتم الشهادة يترتب عليه أربع جرائم:

الجريمة الأولى: أنه يكذب: فما ينطق بأول كلمة إلا واستحق اللعنة، والله تعالى يقول: ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ [آل عمران:61] من أراد أن يلعن نفسه فليكذب، فقط يكذب فيستحق اللعنة.

الجريمة الثانية: أنه غرر بالقاضي وجعله يحكم بغير حق: والقاضي لا يعلم الغيب، القاضي يحكم وفق قواعد شرعية، بينة أو يمين، فهذا جاء بالبينة وعدلت البينة، فيحكم بغير حق وليس عليه فيه مؤاخذة، بل المؤاخذة على شاهد الزور.

الجريمة الثالثة: أنه أدخل على الذي شهد له مالاً حراماً فأفسد عليه مالاً حلالاً، ويأتي يوم القيامة يلقاه في عرصات القيامة وهو يلعنه ويقول له: لعنك الله يا عدو الله، والله لولا شهادتك لكنت في الجنة، ولكن الله حال بيني وبين الجنة بسبب الزرع الذي أدخلته علي، قال: وأنت لعنك الله يا عدو الله، والله لولاك لكنت في الجنة لكن بشهادتي لك دخلت النار، ولهذا قال الله تعالى: كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا [الأعراف:38].

الجريمة الرابعة: أحرم صاحب الحق من حقه: وفي الحديث: (من حرم وارثاً من إرثه حرم الله تعالى عليه رائحة الجنة).

فقال صلى الله عليه وسلم: (فلا تبنوا ما لا تسكنون، ولا تجمعوا ما لا تأكلون، ولا تشتغلوا بدار أنتم غداً عنها راحلون، واعملوا بدار أنتم إليها غداً نازلون، واذكروا اليوم الذي فيه على ربكم تعرضون، قال الراوي: فرجع القوم وقد تمت لهم عشرون خصلة).

الشاهد في هذا الحديث قولهم: (أن نؤمن بالبعث بعد الموت).

حديث جبريل .. والإيمان بالبعث

وفي حديث جبريل الصحيح، الذي جاء يعلم فيه الصحابة أمور دينهم حينما كانوا جالسين كما يروي عمر قال: (بينما نحن جلوس عند رسول الله إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه من القوم أحد) وكان السفر في الماضي ليس كالآن، يجلس في الطائرة كأنه في البيت، لا بل يأتي من السفر أغبر جائع أشعث تعبان يقطع الطريق ويمضي فيها شهوراً، فهذا جاء من سفر ولكن ثيابه نظيفة وليست مغبرة، وشعره غاية في السواد، وثوبه أبيض جداً وليس أشعث، وما عليه أثر سفر ولا يعرفه أحد من الصحابة، فمن أين أتى هذا؟ ليس بمسافر ولا من المعروفين من الناس! نعم. جاء من السماء. (فجلس أمام النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام؟ قال: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً، قال صدقت، قال الصحابة: فعجبنا له يسأله ويصدقه!) معناه أنه أعلم منه، حين تسأل شخصاً ويجيب، فتقول: صدقت! فمعناه: أنك تعلم الجواب، فسؤاله ليس سؤال المستفهم بل سؤال المؤكد والمعلم.

(قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره من الله، قال صدقت، ثم قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، قال: صدقت، ثم قال: فأخبرني عن الساعة؟ قال صلى الله عليه وسلم: ما المسئول عنها بأعلم من السائل) يقول: أنا والله ما أعلمها أكثر منك، إن كان هناك علم عنها فهو عندك؛ لأنك أتيت ومعك علم من السماء.

فما المسئول عن الساعة بأعلم من السائل، فهذا سؤال ولكن السائل والمسئول لا يعلمان عنها شيئاً، يقول الله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ [الأعراف:187] فعنده علم الساعة، لا يعلمها ملك في السماء ولا نبي في الأرض، وإنما اختص الله نفسه بعلم الساعة.

قال: (فأخبرني عن أماراتها) أي: أعطني دلالات أو إشارات تدل على قرب وقوعها، فأخبره عن بعض أماراتها، قال: (أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان) وقد حصل في هذا الزمان، فالذين كانوا يسكنون في القفار والصحاري والربع الخالي وفي البادية ما كانوا يعرفون المدنية كانوا يبنون بيوت الشعر، فإذا انقطع المطر في أرض ذهبوا إلى أرض أخرى، فأصبح لديهم فلل وعمارات، قال: وأن ترى العالة أي: الفقراء، الحفاة أي: الذين لا يعرفون الأحذية، العراة: الذين ما معهم ملابس يلبسونها، تراهم يتطاولون في البنيان، كل شخص يقول: عمارتي أحسن من العمارة الثانية، وتنسيق عمارتي أحسن من تنسيق العمارة الثانية، وهذا الحديث فيه ذكر البعث بعد الموت.

يقول سويد بن الحارث رضي الله عنه وهو صحابي جليل من هذه الديار من بلاد الأزد -بلاد الأزد يعني جنوب المملكة - قال فيما يرويه أبو نعيم في الحلية قال: (قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سابع سبعة من أصحابي في وفد الأزد -في سنة الوفود- قال: فلما دخلنا عليه سلمنا، فرد السلام، ثم أعجبه ما رأى من سمتنا) أي: لباسهم وهيئتهم، أعجب النبي صلى الله عليه وسلم هيئة هؤلاء الرجال، كانوا يلبسون العمائم، وكان لهم لحى، وكان معهم عصي، ويلبسون (الجنابي)، ولهم أزر، فكان منظرهم منظراً رجولياً يبعث على الارتياح، فأعجب النبي صلى الله عليه وسلم هذا المنظر.

(فقال: من القوم؟ قالوا: مؤمنون يا رسول الله!) انتسبوا إلى العقيدة، ما انتسبوا إلى العرقية، ولا القبيلة، ولا اللون، ولا الجهة، ولم يقولوا عدنانيون ولا قحطانيون ولا سعوديون، بل قالوا: (مؤمنون يا رسول الله! فقال صلى الله عليه وسلم: إن لكل قول حقيقة فما حقيقة إيمانكم؟) لأن دعوى الإيمان لا تثبت إلا بالدلائل والبراهين، فما حقيقة الإيمان الذي تدعونه. (قالوا: يا رسول الله! حقيقة إيماننا خمس عشرة خصلة، خمس أمرتنا رسلك أن نؤمن بها، وخمس أمرتنا رسلك أن نعمل بها، وخمس تخلقنا بها في الجاهلية -أي: عندنا عادات من قبل الإسلام- ونحن عليها اليوم، إلا أن تكره منها شيئاً تركناه) انظروا إلى الرجولة، لم يقولوا لا نستطيع، نحن على عادة الآباء والأجداد، قالوا: إن كان يوافق ما عندك يا رسول الله! عملنا بها، وإن كنت تكره منها شيئاً يرده الدين ويكرهه الإسلام تركناه.

(قال: ما الخمس التي أمرتكم بها رسلي؟ قالوا: أمرتنا رسلك أن نؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وبالبعث بعد الموت -وهذا هو الشاهد في هذا الحديث: وبالبعث بعد الموت- قال: وما الخمس التي أمرتكم رسلي أن تعملوا بها؟ قالوا: أمرتنا رسلك أن نشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وأن نقيم الصلاة، وأن نؤتي الزكاة، وأن نصوم رمضان، وأن نحج البيت الحرام إن استطعنا إليه سبيلا، قال: وما الخمس التي عندكم في الجاهلية -أي: ما هي العادات التي عندكم في الجاهلية ولا تزالون عليها- قالوا: خمس خصال، الأولى: الشكر عند النعماء) إذا أنعم الله علينا شكرنا، فلا نبطر، ولا نتكبر، ولا نتنكر، ولا ننس الماضي، وبعض الناس كان فقيراً يتسول على الأبواب واليوم صار غنياً يتاجر بالملايين، وإذا قيل له: تذكر حالتك الأولى، قال: هذا مال ورثته كابراً عن كابر، لماذا؟ لأنه نسي ما كان عليه، وما كان فيه.

قالوا: (الشكر عند النعماء)؛ لأن المؤمن إذا أنعم الله عليه شكر الله على النعمة، واستعمل النعمة فيما يرضي الله، وتزود بالنعمة في مراضي الله عز وجل، ولم يبطر بها ولم يتكبر، ولم يتعال على الناس من أجلها، وإنما يعرف أن النعمة من الله وأن الله يقول: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ [النحل:53] فهو المنعم تبارك وتعالى، فإن من شكر نعمة الله أن أشكر الله أولاً، ثم أصرفها في مرضاة مسديها وموليها تبارك وتعالى، لكن الفاجر إذا جاءت النعمة فجر واستعلى بها، وصرفها في مساخط الله، واستعان بها على كل ما يبغضه الله تبارك وتعالى.

(قالوا: الشكر عند النعماء، والصبر عند البلاء) لأن المسلم والإنسان في الدنيا بصفة عامة يتقلب بين النعماء وبين الضراء، الحياة ليست على وتيرة واحدة، الحياة كل يوم لها وضع، والله كل يوم هو في شأن، والناس يتقلبون بين نعم الله وبين مصائبه، والله تعالى يقول: وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140] تجده اليوم معافى وغداً مريضاً، واليوم مريضاً وغداً معافى، واليوم فقيراً وغداً غنياً، واليوم غنياً وغداً فقيراً، واليوم بيت فيه عزاء وبيت آخر فيه زواج وفرح، وبعد أيام تجد العكس فالبيت الذي كان فيه فرح أصبح فيه عزاء، والذي كان فيه عزاء صار فيه فرح وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140].

فيقولون: نحن عندنا هذه الخصلة أننا نصبر عند البلاء، لا نتضجر، ولا نتذمر من قضاء الله، وكلما ابتلانا الله بشيء قلنا: الحمد لله على ما كتب الله، يتمثلون قول الله عز وجل: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ [البقرة:155] من هم؟ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:156-157]. (قالوا: والرضى بمر القضاء) لا نصبر فقط، وإنما نصبر ونرضى، وفرق بين الصابر اضطراراً والصابر اختياراً، فالمصيبة تنزل ولكن الواحد يتقبلها بصدر رحب، ويعلم أنها من اختيار الله عز وجل فيثيبه الله، وآخر تنزل عليه المصيبة فيصبر صبر المضطر، فليس له إلا أن يصبر وإلا ماذا يصنع؟! فيصبر رغماً عنه! فهؤلاء يقولون: (نصبر على البلاء ونرضى بمر القضاء)، أي: نعلم أن هذا هو اختيار الله فنرضى باختيار الله عن اختيارنا. (قالوا: والصدق في مواطن اللقاء) أي: يقولون: إذا قابلنا أعداءنا لا نعرف إلا المضي إلى الأمام، لا نعرف شيئاً اسمه انسحاب ولا نرجع إلى الوراء، لا نعرف إلا إلى الأمام، إما النصر أو الموت.

قالوا: هذه من شيم الرجال ومن شيم أهل المروءة.

(قالوا: وترك الشماتة بالأعداء) أي: لا تشمت على أحد تكرهه فيعافيه الله ويبتليك؛ لأن الشماتة ليست بيدك؛ فإن ما أصابه قدر والأقدار بيد الله، فإذا ابتلاه الله تأتي أنت وتشمت به، هل أنت الذي قضى عليه؟ هل أنت الذي قدر عليه؟ يا أخي: حتى ولو أنك تكرهه، وكان عدوك، لا تفرح لما أصابه، لا تقل يستحق ما به، لا -يا أخي- بل قل: اللهم عافه يا رب ولا تبتلنا، ولو كان عدوك فلا تشمت به؛ لأنك إذا شمت بعدوك عافاه الله وابتلاك، ونزلت المصيبة عليك أنت، لكن إذا رأيته وقلت: اللهم عافه ولا تبتلنا، عافاه الله ولم يبتلك. هذه هي الخمس التي عندهم في الجاهلية.

فقال صلى الله عليه وسلم لما سمع خمسهم: (حكماء علماء؛ كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء) فهذه هي شهادة النبي صلى الله عليه وسلم لهؤلاء الرجال: (حكماء علماء؛ كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء).

ثم قال: (وأنا أزيدكم خمساً: إن كنتم كما تقولون فلا تبنوا ما لا تسكنون) أي: أنه يزيدهم خمساً بعد الخمس عشرة، والأولى متحققه فينا كلنا، خصوصاً بعد انسكاب الدنيا علينا، ولكن ما المخرج؟ المخرج أن تسكن فيما بنيت، وإذا وسع الله عليك وزودك بالسكن فاستعمل ما يدخل عليك من هذا السكن في طاعة مولاك جل وعلا، واستعن بما يفتح الله عليك في طاعة الله؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ [الأعراف:32] ويقول: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [المؤمنون:51] ويقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:172].

فإذا وسع الله عليك بالمساكن، أو بالمآكل، أو بالملابس، أو بالمراكز، أو بالمناكح، أو بالمشارب، أو بأي شيء مما منَّ الله تعالى به عليك فتمتع به، فإن الله لا يريد أن يحرمك منه، بل أنت أولى الناس بالطيبات في الدنيا ولكن بشرط: أن تستعين بهذا المتاع على طاعة الله.

فإذا بنيت عمارة تعمرها بذكر الله فلا تعمرها بمعصية الله، وإذا أعطاك الله جسداً معافى فاستخدمه في طاعة الله، وإذا أعطاك الله منصباً وجاهاً فسخره فيما يرضي الله جل وعلا، حتى تتحول أمورك كلها إلى عبادة، فإذا كنت موظفاً أو مديراً أو مسئولاً ولكنك تتقي الله في عملك فكأنك تعبد الله بهذا العمل؛ لأن بصلاح النية تتحول عادات المسلم إلى عبادات، وبفساد النية تتحول عبادات المسلم إلى عادات، مثل أكثر الناس اليوم يصلي ولكن عادة، يصلي ويخرج ليشهد الزور، يصلي ويفكر كيف يقول شهادة الزور، لماذا؟

لأن صاحباً له قد جاءه وقال: عندي دعوى في الزرع أو المبنى أو المكان وتعرف أنني بحثت عن شهود ولم أجد، وأنت تعرف أن الدنيا يوم لك ويوم عليك، فأنا اليوم أحتاجك وأنت غداً قد تحتاجني، وتعلم أنه لا يوجد زرع ولا غير ذلك لا يوجد إلا وجهي، أريد أن أظهر على هذا الإنسان وأكسب هذه الدعوى، وأنت صاحبي وما ترضى أن تخذلني فتأتي تشهد معي قال: آتي أشهد، ولو أنت كبير في السن؛ لأن كبار السن يعرفون الأماكن والبقاع والحدود، ولو جاء شخص صغير في السن -شاب- لقالوا: أنت صغير ولا تعرف الحدود والأماكن، ولهذا دائماً يقولون: ابحث لك عن شيخ كبير قد تجهز للآخرة فيختم حياته بشهادة الزور والعياذ بالله.

ويقول: أبشر! ويأتي يصلي هذا الشيخ ولا يفارق المسجد ولكنه يشهد الزور، كيف تشهد الزور وقد قرن الله تعالى شهادة الزور بالشرك بالله؟ حيث قال الله تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ [الحج:30] مثل الشرك بالله، وفي صحيح البخاري وصحيح مسلم عن أبي بكر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله! قال: الشرك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس! وقال: ألا وقول الزور، ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور قال الصحابة: فما زال يرددها حتى قلنا: ليته سكت!).

فشهادة الزور ليست سهلة، وقد جاء في الحديث أن شاهد الزور لا تزول قدمه من مجلس الحكم حتى تجب له النار، يعطي صاحبه صكاً بالأرضية ويأخذ هو صكاً بجهنم، لا حول ولا قوة إلا بالله!

وبعضهم يكتم الشهادة يقولون له: اشهد؛ الحق سوف يضيع فيقول: والله إني لا أستطيع لأني أستحي من الخصم، ؛ لأن بيني وبينه رحماً، وبيني وبينه سراً، ونحن جيران، فأخاف أن أشهد عليه فيغضب، لا أشهد عليه وليس لي شأن، وهو يعرف الشهادة والله تعالى يقول: وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [البقرة:283].

مبتدع الشهادة ملعون، وكاتمها ملعون، وطريق السلامة من اللعنتين أن تشهد على مثل الشمس، فإذا كان عندك شيء تشهد به فاشهد ولا تخف إلا الله؛ لأن الذي يكتم الشهادة يترتب عليه أربع جرائم:

الجريمة الأولى: أنه يكذب: فما ينطق بأول كلمة إلا واستحق اللعنة، والله تعالى يقول: ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ [آل عمران:61] من أراد أن يلعن نفسه فليكذب، فقط يكذب فيستحق اللعنة.

الجريمة الثانية: أنه غرر بالقاضي وجعله يحكم بغير حق: والقاضي لا يعلم الغيب، القاضي يحكم وفق قواعد شرعية، بينة أو يمين، فهذا جاء بالبينة وعدلت البينة، فيحكم بغير حق وليس عليه فيه مؤاخذة، بل المؤاخذة على شاهد الزور.

الجريمة الثالثة: أنه أدخل على الذي شهد له مالاً حراماً فأفسد عليه مالاً حلالاً، ويأتي يوم القيامة يلقاه في عرصات القيامة وهو يلعنه ويقول له: لعنك الله يا عدو الله، والله لولا شهادتك لكنت في الجنة، ولكن الله حال بيني وبين الجنة بسبب الزرع الذي أدخلته علي، قال: وأنت لعنك الله يا عدو الله، والله لولاك لكنت في الجنة لكن بشهادتي لك دخلت النار، ولهذا قال الله تعالى: كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا [الأعراف:38].

الجريمة الرابعة: أحرم صاحب الحق من حقه: وفي الحديث: (من حرم وارثاً من إرثه حرم الله تعالى عليه رائحة الجنة).

فقال صلى الله عليه وسلم: (فلا تبنوا ما لا تسكنون، ولا تجمعوا ما لا تأكلون، ولا تشتغلوا بدار أنتم غداً عنها راحلون، واعملوا بدار أنتم إليها غداً نازلون، واذكروا اليوم الذي فيه على ربكم تعرضون، قال الراوي: فرجع القوم وقد تمت لهم عشرون خصلة).

الشاهد في هذا الحديث قولهم: (أن نؤمن بالبعث بعد الموت).

وفي حديث جبريل الصحيح، الذي جاء يعلم فيه الصحابة أمور دينهم حينما كانوا جالسين كما يروي عمر قال: (بينما نحن جلوس عند رسول الله إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه من القوم أحد) وكان السفر في الماضي ليس كالآن، يجلس في الطائرة كأنه في البيت، لا بل يأتي من السفر أغبر جائع أشعث تعبان يقطع الطريق ويمضي فيها شهوراً، فهذا جاء من سفر ولكن ثيابه نظيفة وليست مغبرة، وشعره غاية في السواد، وثوبه أبيض جداً وليس أشعث، وما عليه أثر سفر ولا يعرفه أحد من الصحابة، فمن أين أتى هذا؟ ليس بمسافر ولا من المعروفين من الناس! نعم. جاء من السماء. (فجلس أمام النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام؟ قال: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً، قال صدقت، قال الصحابة: فعجبنا له يسأله ويصدقه!) معناه أنه أعلم منه، حين تسأل شخصاً ويجيب، فتقول: صدقت! فمعناه: أنك تعلم الجواب، فسؤاله ليس سؤال المستفهم بل سؤال المؤكد والمعلم.

(قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره من الله، قال صدقت، ثم قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، قال: صدقت، ثم قال: فأخبرني عن الساعة؟ قال صلى الله عليه وسلم: ما المسئول عنها بأعلم من السائل) يقول: أنا والله ما أعلمها أكثر منك، إن كان هناك علم عنها فهو عندك؛ لأنك أتيت ومعك علم من السماء.

فما المسئول عن الساعة بأعلم من السائل، فهذا سؤال ولكن السائل والمسئول لا يعلمان عنها شيئاً، يقول الله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ [الأعراف:187] فعنده علم الساعة، لا يعلمها ملك في السماء ولا نبي في الأرض، وإنما اختص الله نفسه بعلم الساعة.

قال: (فأخبرني عن أماراتها) أي: أعطني دلالات أو إشارات تدل على قرب وقوعها، فأخبره عن بعض أماراتها، قال: (أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان) وقد حصل في هذا الزمان، فالذين كانوا يسكنون في القفار والصحاري والربع الخالي وفي البادية ما كانوا يعرفون المدنية كانوا يبنون بيوت الشعر، فإذا انقطع المطر في أرض ذهبوا إلى أرض أخرى، فأصبح لديهم فلل وعمارات، قال: وأن ترى العالة أي: الفقراء، الحفاة أي: الذين لا يعرفون الأحذية، العراة: الذين ما معهم ملابس يلبسونها، تراهم يتطاولون في البنيان، كل شخص يقول: عمارتي أحسن من العمارة الثانية، وتنسيق عمارتي أحسن من تنسيق العمارة الثانية، وهذا الحديث فيه ذكر البعث بعد الموت.


استمع المزيد من الشيخ سعيد بن مسفر - عنوان الحلقة اسٌتمع
اتق المحارم تكن أعبد الناس 2930 استماع
كيف تنال محبة الله؟ 2929 استماع
وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً 2805 استماع
أمن وإيمان 2678 استماع
حال الناس في القبور 2676 استماع
توجيهات للمرأة المسلمة 2605 استماع
فرصة الرجوع إلى الله 2572 استماع
النهر الجاري 2478 استماع
دور رجل الأعمال في الدعوة إلى الله 2468 استماع
مرحباً شهر الصيام 2403 استماع