اتقوا فراسة المؤمن


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

وأسعد الله هذه الوجوه الطيبة، وأسأل الله كما جمعنا في هذا المكان الطاهر على طاعته أن يجمعنا جميعاً في دار كرامته.

أما موضوع الكلمة التي سوف أتكلم بها هذه الليلة، فهي بعنوان: " اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله " ،كل إنسان يمتلك حاسة البصر، وعنده أيضاً حاسة سادسة اسمها: البصيرة أو الفراسة، أما سائر الحيوانات والمخلوقات الأخرى فهي تمتلك حاسة البصر، وتمتلكها بقدر أكبر من امتلاك الإنسان لها، فعين الثور كبيرة، وعين الطائر ترى دقيق الحب من جو السماء، فالطائر الصغير عينه مثل حبة الذرة، ولكنه يطير في السماء ويرى حبة الذرة في الأرض، فينزل ويأخذها ففيها حدة، وعين الغراب دقيقة جداً لكنها عيون مادية تبصر في حدود مادية.

والإنسان ببصره وبمقدار الرؤية وبموازين النظر التي عنده له مثل ما عند الحيوانات مع بعض الفوارق ، أما الحاسة السادسة والنور الداخلي الذي هو البصيرة، فهذا لا يملكه إلا الإنسان المؤمن الذي فتح الله بصيرته، وبمقدار قوة البصيرة عند الإنسان وضعفها تتحدد سعادة الإنسان أو عكسها، فكلما كانت بصيرة الإنسان نافذة، وميدانها واسع، ومسافتها بعيدة، كان مردود السعادة عليه في الدنيا وفي الآخرة أعظم.

حرمان العاصي من البصيرة

وكلما كانت البصيرة قليلة أو ضعيفة، كان ذلك بمقداره، فيحرم العاصي من البصيرة، والمؤمن يعطى نوراً في قلبه، وبصيرة في عقله، تجعله يرتب الأمور بحسب أولوياتها في الترتيب، تقديماً وتأخيراً، وتعظيماً، مهماً وأهم، هل البصر يرتب هذه القضايا.

لا. إن الذي يرتبها هي البصيرة.

النور يقذفه الله عز وجل في قلب المؤمن. والذي لا يملك هذه البصيرة يعيش أعمى ولو كانت عيونه كعيون الثور، والله يقول: وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً [الإسراء:72] ويقول عز وجل: إِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46] ويقول عز وجل: وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ * وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ * إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ [فاطر:19-23] .

فالذي ليس معه نور الإيمان فهو أعمى، ولا يعرف كيف يسير في هذه الحياة، ولا يعرف كيف يرتب نفسه، ترتيباته ترتيبات مادية، فيقدم شهوة البطن فيأكل، أو يقدم شهوة الفرج فيبحث عن مواطنها ، أو يقدم شهوة الملابس فيظهر في ملبس فاخر، أو يقدم شهوة السكن فيريد عمارة، أوشهوة السيارات فيريد سيارة جديدة... فهذه ترتيباته وأولويات حياته كلها محصورة في نطاق مادي، في شهوات البطن والفرج والسيارة والنوم والعمارة وتمشية وأكل، لكن شيء غير هذا.لا. أهم شيء في حياته الذي خلق من أجله، ومصيره كالموت والقبر والحشر والنشر والصراط والحوض والكتب والجنة والنار، هذه مشطوب عليها في ميادينه، ما لها كرت أو ميزان! لماذا؟

لأنه أعمى لا يرى الطريق، وليس لديه البصيرة، لكن لو كان عنده بصر لرفع بصره ونظر إلى الآخرة، ثم نظر إلى الدنيا، بشهواتها، وملذاتها، ومتاعها، وما فيها من اللذائذ كلها إذا وضعتها في موضعها الطبيعي تراها، لكن إذا قربتها إلى قلبك، إلى أن تغطيه فلن ترى إلا هي، ولن تبصر إلا هي، مثل إصبعي هذه، إذا وضعتها أمامي أرى مساحتها (4×3×1 سم) لكن لو قربتها من عيني إلى أن أغطي بها عيني فلا أرى شيئاً إلا هي، ولا أرى أن وراءها مسجد، أو أناس، أو عمارات وأراضٍ، ما أرى إلا هي؛ لأني لصقتها لصقاً كاملاً بعيني، فحجبت مجال الرؤية، والناس حين يلصقون الدنيا وشهواتها بقلوبهم، حتى تحجب عنهم كل شيء يرونه فلا يرون إلا الدنيا، ولهذا رب العالمين يقول: أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ [الشورى:18] ويقول عز وجل: وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً [الأحقاف:26] وجعلنا لهم سمعاً من أجل أن يسمعوا، وأبصاراً من أجل أن يبصروا، يسمعون ماذا؟

يسمعون كلام الله، ودينه، وخطابه، يبصرون طريق الله، وأفئدة يعقلون عن الله أسرار خلق البشر، فهم ليسوا كالبقر، الآن هؤلاء أهل الشهوات، وأهل الكفر والمعاصي، الواقعين فيها والبعيدون عن الله، اسأل: ما الفارق بينهم وبين حياة البهائم؟ لا شيء!! اسأل الحمار، قل له ماذا تريد يا حمار؟

يقول: أريد حمارة. فقط تراه يمشي، فإذا رأى حمارة رفع رأسه وجرى وراءها، نعم هل عند الحمار غير هذا الاهتمام؟ وماذا تريد غير الحمارة؟

قال: أريد علفاً آكله، حتى أشبع، وبعد ذلك؟ قال: أرقد.

فهذه هي حياة البهائم، والذين يعيشون هذه الحياة. من البشر هم بهائم يعيشون في مسلاخ بشر، والله سماهم بهائماً في القرآن قال تعالى: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان:44] يعني: كالبقر والحمير، فالبقر، والبهائم أفضل منزلة؛ لأن الله تعالى سخرها وسارت فيما سخرها الله فيه، أما الإنسان خلقه وميزه وكرمه وفضله، وأعطاه العقل من أجل أن يعرف طريق الحق فيختاره ويعرف طريق الباطل فيجتنبه، فاختار طريقاً ليست حتى من مراتب الحيوانات، قال الله: بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان:44].

فالله زودهم بهذه الإمكانيات، فاختاروا الخيار الأسوأ والعياذ بالله، وعاشوا لا يعرفون حقيقة الحياة التي هي عندهم ما تراه عيونهم وشهواتهم، أما الحقائق فإذا جئت تكلمه في يوم من الأيام تقول له: يا أخي! الموت قادم؛ فلأنه لا يرى إلا الدنيا، يتضايق من ذكر الموت، يقول لك: أنت تريد أن تميتنا قبل وقتنا دعنا نتمتع الآن، تقول له: أمامك الجنة والنار والقبر، أما ترى أباك من يضعونه في القبر بعد الفراش الوثير، والنور والزوجة فيجعلونه في ثوب ويهيلون عليه التراب ويتركونه؟ هناك عالم آخر.

أما المغالطون فيقولون: لا شيء هناك، تضعونه في القبر فحسب، من قال لكم: لا يوجد شيء؟ من هو الذي مات، ونزل القبر وذهب الآخرة وما نظر شيئاً ورجع يقول: لا يوجد شيء؟ هل هناك من رأي ذلك؟ لا. حسناً.. من قال لنا: لا يوجد لا أحد قال لنا ذلك، ومن قال:إن هناك شيئاً بعد الموت؟ الأنبياء والرسل أخبروا عن الله بإجماع منهم منذ نوح إلى محمد صلى الله عليهم وسلم، ما من نبي إلا ويعلن أن البشر مبعوثون، وأن الناس سوف يحاسبون.

وأيضاً هناك دليل عقلي منطقي: لا بد من الحساب، فالذي يقول: لا يوجد بعثاً ولا حساباً، هذا يلغي عقله؛ لأن العدل ما تحقق في الدنيا فلا بد من تحققه في الآخرة جزماً، فالآن ترى الواحد يعيش وهو مؤمن بر تقي صالح ومن أحسن الناس ولكن لا يجد له جزاءً على هذا الصلاح، لكنه قد يؤاخذ، وربما يسجن، أو يؤذى، أو يقتل أو يمرض ويعيش فقيراً، بينما تجد الآخر فاجراً، مجنوناً، مجرماً، خبيثاً، هتاكاً للأعراض، يلغ في الدماء.. يكذب.. يسفك.. يبيع الشعوب.. يمارس كل أنواع الجرائم، وبعد ذلك يموت، ويموت ذلك البر المؤمن، ولم تصل يد العدالة إلى ذلك المؤمن فتجازيه على عمله الطيب، ولا إلى ذلك الفاجر فتجازيه على عمله السيئ، أتنتهي الحياة بهذا؟ هل يتصور ذلك؟

كلا. يقول الله عز وجل: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [القلم:35-36] ويقول: أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص:28] ويقول: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ * وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [الجاثية:21-22] فالذي يقول: لا يوجد شيء بعد الموت، نقول له: من قال لك؟ يقول: أنا ما رأيت شيئاً، وكونك ما رأيت شيئاً هل يعني أنه ليس هناك شيء؟ الآن هذا الجدار من يراه يقول: ليس وراءه شيء، لكن افتح الباب وانظر، وسوف ترى أن وراءه أشياء، يقول صلى الله عليه وسلم: (ما منكم إلا ويرى مقعده من الجنة أو النار وهو في بيت أهله) في ساعات الاحتضار تزول الحواجز والحجب، ويرى المؤمن وهو جالس في بيته ملائكة الرحمة، ويرى الفاجر ملائكة العذاب، فيفرح المؤمن ويتمنى لقاء الله، ويحزن الفاجر والكافر ويكره لقاء الله، فهنا يحب الله لقاء المؤمن، ويكره لقاء الفاجر.

فهذا الذي يعيش في سجن المادة الذي غطى على قلبه بالدنيا والشهوات، حتى لم يعد يرى شيئاً مما يجب أن يراه في هذه الدنيا، إذا حدثته تقول له: الآخرة! يقول لك: لا. لماذا؟

لأن الران قد كسا قلبه، واستحوذ عليه الشيطان فأنساه ذكر الله.

مفهوم الولاية عند أهل الأتباع وأهل السنة

وهذه البصيرة التي يرزقها المؤمن لها أسباب: ففي صحيح البخاري في الحديث القدسي فيما يرويه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل يقول: (من آذى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) التعرض لأولياء الله من العلماء، ومن الدعاة الفضلاء، والصالحين والمصلين المؤمنين، فالإيذاء والتحرش بهم، وتشويه سمعتهم، والنيل منهم، وتضخيم أخطائهم إذا كان لهم أخطاء فهم ليسوا بمعصومين؛ فتكبير أخطائهم وتشويه السمعة لهم هذا حرب على الله. لماذا؟

لأنهم أولياء الله، والله يقول: (من آذى لي ولياً) والولاية هنا ضد العداوة؛ لأنه لا يوجد في الدنيا إلا ولي أو عدو: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62] من هم؟ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63].

فكل مؤمن تقي فهو ولي لله.

أما الولي عند أهل البدعة والضلال: هو الذي على قبره ضريح، وعلى الضريح قبة، ويذبح حوله ويطاف، هذا هو الولي عندهم! ذاك الذي يلبس عمامة كبيرة، وله مسبحة طويلة، وله أذكار وهمهمات، وتجليات وتكشفات، ويذهب إلى الحرم ويصلي فيه، كما يقول أهل البدعة مثل الصوفية .

يقول أحد الشباب: زرت شخصاً من الصوفية في بلد من البلدان العربية بعد صلاة المغرب، يقول: فأعطانا من الخزعبلات، والكلام الفارغ عن شخصيته، ومكانته عند الله، وأن الكرسي والقلم في يده، والعرش تحت رجله، وأن الدنيا تحت قدمه، يقول: والمساكين المضللين فهموا هذا الكلام، فلما حان وقت صلاة العشاء قلنا له: قم صل معنا يا شيخ، قال: لا، سأصلي في الحرم -وهو في بلد بعيد عن الحرم- فخرجنا وقال الناس: هنيئاً له يصلي في الحرم، يقول: ولما أقيمت الصلاة، رجعت وذهبت إلى بيته، ونظرت من شق في الباب، وإذا به راقد على السرير؛ لأنه لا يريد أن يصلي أصلاً، فمثل هذا ليس عليه صلاة! فالذي يدعي كل هذه الأشياء هذا طاغوت وفاجر، فيدعي أنه يصلي في الحرم حتى لا يلزمه أحد بالصلاة مع المسلمين يقول: فرقد الرجل وأنا ذهبت أصلي وبعد الصلاة أتينا، فلما دخلوا قالوا: له هنيئاً يا شيخ صليت في الحرم، يقول: نعم. صليت في الحرم، يقول فقلت له: يا شيخ أنا دخلت عليك قبل الصلاة، وأتيت ورأيتك من شق الباب وأنت نائم على السرير، قال: قد رجعت، فهم يصلون مبكراً في الحرم.

الولاية بهذا المعنى هي ولاية الشيطان، هذه ولاية باطلة مرفوضة يداس عليها بالأقدام؛ لأنها ولاية شيطانية. أما الولاية الربانية، فهي أن تكون مع الله، كيف مع الله؟ أي على كتاب الله وسنة رسول الله، تقوم بأوامر الله، وتنتهي عما نهى عنه، تكون ولياً من أولياء الله، من آذاك أو تعرض لك؛ فإنه يقع تحت وعيد الله، يقول العلماء: بأي إيذاء، لو أن أحدهم في الحمام يتوضأ وأنت تنتظره، وطرقت عليه الباب يعد هذا إيذاء للمسلم، هل أحد في الدنيا يقعد في الحمام مسروراً، لا يوجد أحد يبقى في الحمام إلا من يقضي حاجته، فلماذا تزعجه وتستعجله بالخروج، تريده يقطع قضاء الحاجة، هو لا يعقد إلا لأجل أن يكمل حاجته، ما في أحد يأخذ له وسادة ومسنداً ويقعد في الحمام إلا طائفة واحدة من الناس يرتاحون في الحمام، وهم أهل الدخان!

نعم. بعض أهل الدخان إذا منعوا منه في الدوائر الحكومية ذهبوا إلى الحمام؛ لأنهم يجدون في الحمام رائحة دخان آخر.

أما العقلاء فيبقون في الحمام بمقدار الحاجة ويخرجون، فإذا طرقت الباب على شخص منهم فيكون هذا إيذاءً له، وإذا كنت تقف عند إشارة المرور، ووقف بجانبك ومعه عائلته لا تنظر إليه، فهذا إيذاء له؛ لأن الذي أوقفه هو مصلحة المسلمين، بحيث لا يتجاوز أنظمة السير، فلو تجاوز الإشارة ومشى من أجل أن يحمي عرضه من هؤلاء الفضوليين لقطع السير وجوزي، وربما تسبب في حادث، فلا يجوز لك النظر إليه بحال من الأحوال، فهذا إيذاء للمسلم، وغيرها من أوجه الإيذاء، قال تعالى: (من آذى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) يعني: أعلنت عليه الحرب، وإعلان الحرب من الله عز وجل، عاقبته التدمير؛ لأن الله غالب على أمره، ومن ذا يغلب الله يا إخوان لا إله إلا الله!

من أنت -أيها الإنسان- حتى تقف في مواجهة رب العالمين؟ كم حجمك؟

متران في نصف متر، يعني متر مربع.

وكم حجمك بالنسبة لـأبها وبالنسبة للمملكة ، وبالنسبة لـآسيا وللكرة الأرضية؟

وما الأرض بالنسبة للشمس؟

فالشمس أكبر من الأرض بمليون مرة، وما الشمس بالنسبة للمجرة؟!

وما المجرة بالنسبة للمجرات الأخرى؟!

وما المجرات كلها بالنسبة للكرسي؟!

وما الكرسي بالنسبة للعرش؟!

وما العرش بالنسبة لله؟!

لا إله إلا الله الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وأنت تقف في مواجهته!!

أتظن أن الله غافل عنك عندما يمهلك؟ نعم. إن الله يمهل ولكن لا يهمل، يقول الله عز وجل: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [القلم:44-45].. الآن الصياد عندما يأتي إلى البحر يأتي بالخطاف والشبكة ويصنع فيها لحماً أو خبزاً أو أي شيء، ويرميه ويمهله، وتأتي السمكة فتقول ما هذه المناسبة الضخمة، ما هذه الأكلة الفاضلة وتلتهمها، فإذا رأى الصياد أن هذه اللحمة أصبحت في فم السمكة، ماذا يفعل؟

يشد الخطاف بسرعة ثم يخرجها ويأكلها، فالله يمهل.. ويملي.. ويضع لك الطعم من منصب أو وظيفة.. شباب.. بسطة في الجسم ثم لا تدري إلا وقد خطفك، فلا يفلتك إلا في النار، قال تعالى وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102] وقال صلى الله عليه وسلم (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته) فلا تغتر بإملاء الله عز وجل -أيها الإنسان- عنك، فإملاء الله للإنسان في هذه الدنيا من أجل أن يرجع إلى الله، فإذا لم يرجع فهذه مصيبة الإنسان، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من آذى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه).

أيها -المحارب لله- أنك ستموت، ولا تغتر بما أنت فيه من الجاه أو المنصب، أو المال، أو العافية، أو الشباب، فإنها كلها أشياء مؤقتة سوف تزول، لم تبق لمن قبلك حتى تبقى لك، ولو بقيت للذي قبلك لما وصلت إليك، لكن هذه المفاهيم والموازين تنتقل من إنسان إلى آخر، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، تذكر أنك ستموت، وأنك في ساعات الاحتضار ستكون أضعف ما تكون، وقد لاحظت وربما لاحظتم وحضرتم جنائز وتصورتم وضع الميت وهو في حالات الاحتضار، الله يقول: كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ [القيامة:26-27] راق: يعني قارئ يقرأ أو طبيب يعالج وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ [القيامة:28] أي: تيقن أنه الموت وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ [القيامة:29] والتفاف الساقين كناية عن الضعف المنقطع النظير؛ لأنه لا تلتف السيقان إلا من ضعف؛ لأنه لو كان متعافٍ لما التفت ساقاه، المريض في ساعات الاحتضار تلتف ساقاه ، وتبرد أطرافه، وتتفصل مفاصله، وتنخسف أصداغه وتصير مثل الحفر، وتميل أنفه؛ لأن الأنف هذه تخرج منها الحياة، وهي أصلها غضروف، فإذا خرجت منها الحياة مالت الأنف، هذا هو الإنسان في هذه الحياة، تذكر أنك ستكون في هذا الموقف، متى؟

يمكن أن يكون ذلك في هذه الليلة، أو غداً وأنت لا تعلم، إذاً كيف تحارب الله وهذا موقفك؟

وقل لي بأي سلاح، وبأي صواريخ تقابل الله عز وجل؟

ثم تذّكر أنك ستوضع في الحفرة المظلمة، وسيوضع معك عملك، وسيأتي معك منكر ونكير يسألانك عن عملت في هذه الحياة، وتذّكر أن الله سيبعثك، وأنك ستقف بين يدي الله حافياً عارياً ليس معك أحد، ينجيك عدلك، ويوبقك ظلمك، وتذّكر أنه سيؤمر بك إلى الجنة أو إلى النار، فماذا تقول؟

فلا تؤذ عباد الله، لا تعادي أولياء الله، وقد سمعت عن رجل من الصالحين -وأسأل الله أن يهديه- وهو من عامة الناس، لكن عنده غيرة وحرقة على الإيمان والدين، ومع هذا محسوب من العاديين وليس من الملتزمين أو من الذين لهم شارة كبيرة في الدين، ففي أحد المجالس نال أحد الجالسين من أحد العلماء في المنطقة وتكلم فيه، وقال: إنه لما صافحني في وليمة مدّ رءوس أصابعه فقط، كناية عن الاستهزاء والسخرية من هذا العالم! فقال ذلك الرجل الطيب الموفق: يا أخي! لا تنل منه، والله حرام أنك تمسه بيدك؛ لأنك تنجس يده، ، ولو علم الشيخ بك لكف يده؛ لأنك أنجس من الكلب، لسانك هذا تنال به من العلماء، وبدأ يدافع عن الشيخ دفاع المستميت، هذا هو الذي يريد أن يكون عند الله في منزلة عظيمة، عندما تسمع من ينال من عباد الله، أو أولياء الله، أو العلماء أوقفه عند حده، قل: لا يجوز. والثاني يقول معك: لا يجوز.. والثالث..وهكذا فإذا سمع أهل الشر والفساد أن أهل الإيمان يد واحدة يذبون عن عرض بعضهم بعضاً، لا يستطيعون الكلام بكلمة، لكن إذا تكلم هذا وسكت أهل الخير كلهم، بل بعضهم قال: صحيح، لا يفتح فمه بكلمة واحدة، أين الإيمان، وأين الدين؟!

البصر والبصيرة الربانية

يقول الله عز وجل: (من آذى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بعمل أحب إلي مما افترضته عليه) فأحب شيء عند الله أن تعمل الفريضة: (وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه) فهذا العمل محبوب عند الله، لكن أنت غير محبوب عند الله بالعمل فقط، انظروا إلى التفريق في الحديث (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه) يعني: أفضل عمل تتقرب به إلى الله وهي: الفريضة، لكن لا تكفي لنيل محبة الله لك، فأنت، لا تنال محبة الله إلا بشيء ثانٍ مع الفريضة وهو النافلة قال: (وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه) فأنت تقدم العمل المحبوب عند الله ثم تزيد العمل الثاني حتى يحبك الله... فإذا أحبك الله، قال: (فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به) تصبح هذه الأذن ليست سمعك، أنت تسمع بالله، فهل يمكن أن تسمع حراماً وأنت تسمع بالله، فبمجرد أن تسمع أغنية تضطرب أذنك وتهتز؛ لماذا؟

لأنك تسمع بالله، أذن ربانية لا يمكن أن تسمع كلمة تسخط الله (كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به) عينك لا يمكن أن ترى حراماً، إذا رأت امرأة كأنما ترى شيطاناً لم يعلم أين الآخرة والجنة؟ بينما ذاك المؤمن يغض بصره لماذا؟

لأنه بصر رباني لا يمكن أن يرى ما حرم الله، كونك ترى امرأة منظر جميل، لكن ماذا يغنيك النظر إذا رأيت حراماً؟ ما هي المصلحة؟

الله يقول: ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ [النور:30] يعني: غض البصر، لكن النظر ليس أزكى، لماذا؟

لأنك تنظر إلى شيء لا تقدر ولا تصبر عليه، وإذا قدرت عليه فهو حرام، والحرام لا يحل مشكلتك، هب أن أحداً من الناس لم يخف الله ولم يراقبه، واستطاع بعد أن نظر أن يتصل بها ويزني، هل يحل الزنا مشكلته؟! لا. إن الحاجة إلى الجنس كالحاجة إلى الطعام، إذا تغدى لابد أن يتعشى، وإذا تعشى لابد أن يفطر، وإذا أفطر لابد أن يتغدى.

هب أنه زنى مرة، هل يستطيع أن يزني كل يوم ؟

وهب أنه استطاع أن يزني كل يوم، هل يزني في كل حياته؟

هل يعيش زانياً ملعوناً مطروداً عن الله عز وجل؟ ما هو الحل؟

الحل من أول الطريق: لا تنظر. (باب تأتيك منه الريح سدّهُ واستريح) هذه عينك التي يأتيك منها ريح الزنا ماذا تفعل؟ أغلقها، فإذا رأيت امرأة غض بصرك، نعم هناك تعب، لكنه أقل مائة مرة من تعب النظر.

يقول الناظم:

وأنا الذي جلب المنية طرفـه      فمن المطالب والقتيل القاتل

إذا أنا نظرت إلى الحرام فماذا يحصل؟ الذي يحصل أن مردود الحرام يرجع على قلبي فيكسره ويحطمه، فمن مصلحتي أن أغض بصري ابتداء،ولكن لماذا أشعر بالتعب حين أغض بصري؟

لأن الشيطان يزين النظر أمامي، ولكن حين أحتسب هذا عند الله عز وجل يحصل لي منه ثواب كثير.

فيقول صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: (كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض روح عبدي المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته، ولا بد له منه) فلا بد من الموت -أيها الإنسان- فالشاهد في الحديث: (كنت بصره الذي يبصر به) فمتى يكون الله بصرك؟

ومتى تبصر بالله؟ ومتى يكون بصرك ربانياً؟ تقدم المواضيع وتؤخرها على ضوء أولويات دينك وعقيدتك، ترى القرآن فتألفه، وترى المجلات فترفضها، ترى المساجد فتحبها، وترى الملاعب والمقاهي والمنتزهات التي فيها المعاصي فتنفر منها، ترى النساء فتغض بصرك ولا تنظر إليهن، ترى زوجتك أجمل ما يمكن أن ترى إن كنت متزوجاً، وإذا لم تكن متزوجاً فاستعفف (ومن يستعفف يعفه الله..) والله تعالى يقول: وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:33] ما هي العفة؟ هي استعلاء، وتطهر وتنزه وترفع عن هذه القاذورات إلى أن تتزوج حلالاً، ثم تسير في طريق الحلال الذي شرعه الله لك.

وكلما كانت البصيرة قليلة أو ضعيفة، كان ذلك بمقداره، فيحرم العاصي من البصيرة، والمؤمن يعطى نوراً في قلبه، وبصيرة في عقله، تجعله يرتب الأمور بحسب أولوياتها في الترتيب، تقديماً وتأخيراً، وتعظيماً، مهماً وأهم، هل البصر يرتب هذه القضايا.

لا. إن الذي يرتبها هي البصيرة.

النور يقذفه الله عز وجل في قلب المؤمن. والذي لا يملك هذه البصيرة يعيش أعمى ولو كانت عيونه كعيون الثور، والله يقول: وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً [الإسراء:72] ويقول عز وجل: إِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46] ويقول عز وجل: وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ * وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ * إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ [فاطر:19-23] .

فالذي ليس معه نور الإيمان فهو أعمى، ولا يعرف كيف يسير في هذه الحياة، ولا يعرف كيف يرتب نفسه، ترتيباته ترتيبات مادية، فيقدم شهوة البطن فيأكل، أو يقدم شهوة الفرج فيبحث عن مواطنها ، أو يقدم شهوة الملابس فيظهر في ملبس فاخر، أو يقدم شهوة السكن فيريد عمارة، أوشهوة السيارات فيريد سيارة جديدة... فهذه ترتيباته وأولويات حياته كلها محصورة في نطاق مادي، في شهوات البطن والفرج والسيارة والنوم والعمارة وتمشية وأكل، لكن شيء غير هذا.لا. أهم شيء في حياته الذي خلق من أجله، ومصيره كالموت والقبر والحشر والنشر والصراط والحوض والكتب والجنة والنار، هذه مشطوب عليها في ميادينه، ما لها كرت أو ميزان! لماذا؟

لأنه أعمى لا يرى الطريق، وليس لديه البصيرة، لكن لو كان عنده بصر لرفع بصره ونظر إلى الآخرة، ثم نظر إلى الدنيا، بشهواتها، وملذاتها، ومتاعها، وما فيها من اللذائذ كلها إذا وضعتها في موضعها الطبيعي تراها، لكن إذا قربتها إلى قلبك، إلى أن تغطيه فلن ترى إلا هي، ولن تبصر إلا هي، مثل إصبعي هذه، إذا وضعتها أمامي أرى مساحتها (4×3×1 سم) لكن لو قربتها من عيني إلى أن أغطي بها عيني فلا أرى شيئاً إلا هي، ولا أرى أن وراءها مسجد، أو أناس، أو عمارات وأراضٍ، ما أرى إلا هي؛ لأني لصقتها لصقاً كاملاً بعيني، فحجبت مجال الرؤية، والناس حين يلصقون الدنيا وشهواتها بقلوبهم، حتى تحجب عنهم كل شيء يرونه فلا يرون إلا الدنيا، ولهذا رب العالمين يقول: أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ [الشورى:18] ويقول عز وجل: وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً [الأحقاف:26] وجعلنا لهم سمعاً من أجل أن يسمعوا، وأبصاراً من أجل أن يبصروا، يسمعون ماذا؟

يسمعون كلام الله، ودينه، وخطابه، يبصرون طريق الله، وأفئدة يعقلون عن الله أسرار خلق البشر، فهم ليسوا كالبقر، الآن هؤلاء أهل الشهوات، وأهل الكفر والمعاصي، الواقعين فيها والبعيدون عن الله، اسأل: ما الفارق بينهم وبين حياة البهائم؟ لا شيء!! اسأل الحمار، قل له ماذا تريد يا حمار؟

يقول: أريد حمارة. فقط تراه يمشي، فإذا رأى حمارة رفع رأسه وجرى وراءها، نعم هل عند الحمار غير هذا الاهتمام؟ وماذا تريد غير الحمارة؟

قال: أريد علفاً آكله، حتى أشبع، وبعد ذلك؟ قال: أرقد.

فهذه هي حياة البهائم، والذين يعيشون هذه الحياة. من البشر هم بهائم يعيشون في مسلاخ بشر، والله سماهم بهائماً في القرآن قال تعالى: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان:44] يعني: كالبقر والحمير، فالبقر، والبهائم أفضل منزلة؛ لأن الله تعالى سخرها وسارت فيما سخرها الله فيه، أما الإنسان خلقه وميزه وكرمه وفضله، وأعطاه العقل من أجل أن يعرف طريق الحق فيختاره ويعرف طريق الباطل فيجتنبه، فاختار طريقاً ليست حتى من مراتب الحيوانات، قال الله: بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان:44].

فالله زودهم بهذه الإمكانيات، فاختاروا الخيار الأسوأ والعياذ بالله، وعاشوا لا يعرفون حقيقة الحياة التي هي عندهم ما تراه عيونهم وشهواتهم، أما الحقائق فإذا جئت تكلمه في يوم من الأيام تقول له: يا أخي! الموت قادم؛ فلأنه لا يرى إلا الدنيا، يتضايق من ذكر الموت، يقول لك: أنت تريد أن تميتنا قبل وقتنا دعنا نتمتع الآن، تقول له: أمامك الجنة والنار والقبر، أما ترى أباك من يضعونه في القبر بعد الفراش الوثير، والنور والزوجة فيجعلونه في ثوب ويهيلون عليه التراب ويتركونه؟ هناك عالم آخر.

أما المغالطون فيقولون: لا شيء هناك، تضعونه في القبر فحسب، من قال لكم: لا يوجد شيء؟ من هو الذي مات، ونزل القبر وذهب الآخرة وما نظر شيئاً ورجع يقول: لا يوجد شيء؟ هل هناك من رأي ذلك؟ لا. حسناً.. من قال لنا: لا يوجد لا أحد قال لنا ذلك، ومن قال:إن هناك شيئاً بعد الموت؟ الأنبياء والرسل أخبروا عن الله بإجماع منهم منذ نوح إلى محمد صلى الله عليهم وسلم، ما من نبي إلا ويعلن أن البشر مبعوثون، وأن الناس سوف يحاسبون.

وأيضاً هناك دليل عقلي منطقي: لا بد من الحساب، فالذي يقول: لا يوجد بعثاً ولا حساباً، هذا يلغي عقله؛ لأن العدل ما تحقق في الدنيا فلا بد من تحققه في الآخرة جزماً، فالآن ترى الواحد يعيش وهو مؤمن بر تقي صالح ومن أحسن الناس ولكن لا يجد له جزاءً على هذا الصلاح، لكنه قد يؤاخذ، وربما يسجن، أو يؤذى، أو يقتل أو يمرض ويعيش فقيراً، بينما تجد الآخر فاجراً، مجنوناً، مجرماً، خبيثاً، هتاكاً للأعراض، يلغ في الدماء.. يكذب.. يسفك.. يبيع الشعوب.. يمارس كل أنواع الجرائم، وبعد ذلك يموت، ويموت ذلك البر المؤمن، ولم تصل يد العدالة إلى ذلك المؤمن فتجازيه على عمله الطيب، ولا إلى ذلك الفاجر فتجازيه على عمله السيئ، أتنتهي الحياة بهذا؟ هل يتصور ذلك؟

كلا. يقول الله عز وجل: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [القلم:35-36] ويقول: أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص:28] ويقول: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ * وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [الجاثية:21-22] فالذي يقول: لا يوجد شيء بعد الموت، نقول له: من قال لك؟ يقول: أنا ما رأيت شيئاً، وكونك ما رأيت شيئاً هل يعني أنه ليس هناك شيء؟ الآن هذا الجدار من يراه يقول: ليس وراءه شيء، لكن افتح الباب وانظر، وسوف ترى أن وراءه أشياء، يقول صلى الله عليه وسلم: (ما منكم إلا ويرى مقعده من الجنة أو النار وهو في بيت أهله) في ساعات الاحتضار تزول الحواجز والحجب، ويرى المؤمن وهو جالس في بيته ملائكة الرحمة، ويرى الفاجر ملائكة العذاب، فيفرح المؤمن ويتمنى لقاء الله، ويحزن الفاجر والكافر ويكره لقاء الله، فهنا يحب الله لقاء المؤمن، ويكره لقاء الفاجر.

فهذا الذي يعيش في سجن المادة الذي غطى على قلبه بالدنيا والشهوات، حتى لم يعد يرى شيئاً مما يجب أن يراه في هذه الدنيا، إذا حدثته تقول له: الآخرة! يقول لك: لا. لماذا؟

لأن الران قد كسا قلبه، واستحوذ عليه الشيطان فأنساه ذكر الله.

وهذه البصيرة التي يرزقها المؤمن لها أسباب: ففي صحيح البخاري في الحديث القدسي فيما يرويه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل يقول: (من آذى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) التعرض لأولياء الله من العلماء، ومن الدعاة الفضلاء، والصالحين والمصلين المؤمنين، فالإيذاء والتحرش بهم، وتشويه سمعتهم، والنيل منهم، وتضخيم أخطائهم إذا كان لهم أخطاء فهم ليسوا بمعصومين؛ فتكبير أخطائهم وتشويه السمعة لهم هذا حرب على الله. لماذا؟

لأنهم أولياء الله، والله يقول: (من آذى لي ولياً) والولاية هنا ضد العداوة؛ لأنه لا يوجد في الدنيا إلا ولي أو عدو: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62] من هم؟ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63].

فكل مؤمن تقي فهو ولي لله.

أما الولي عند أهل البدعة والضلال: هو الذي على قبره ضريح، وعلى الضريح قبة، ويذبح حوله ويطاف، هذا هو الولي عندهم! ذاك الذي يلبس عمامة كبيرة، وله مسبحة طويلة، وله أذكار وهمهمات، وتجليات وتكشفات، ويذهب إلى الحرم ويصلي فيه، كما يقول أهل البدعة مثل الصوفية .

يقول أحد الشباب: زرت شخصاً من الصوفية في بلد من البلدان العربية بعد صلاة المغرب، يقول: فأعطانا من الخزعبلات، والكلام الفارغ عن شخصيته، ومكانته عند الله، وأن الكرسي والقلم في يده، والعرش تحت رجله، وأن الدنيا تحت قدمه، يقول: والمساكين المضللين فهموا هذا الكلام، فلما حان وقت صلاة العشاء قلنا له: قم صل معنا يا شيخ، قال: لا، سأصلي في الحرم -وهو في بلد بعيد عن الحرم- فخرجنا وقال الناس: هنيئاً له يصلي في الحرم، يقول: ولما أقيمت الصلاة، رجعت وذهبت إلى بيته، ونظرت من شق في الباب، وإذا به راقد على السرير؛ لأنه لا يريد أن يصلي أصلاً، فمثل هذا ليس عليه صلاة! فالذي يدعي كل هذه الأشياء هذا طاغوت وفاجر، فيدعي أنه يصلي في الحرم حتى لا يلزمه أحد بالصلاة مع المسلمين يقول: فرقد الرجل وأنا ذهبت أصلي وبعد الصلاة أتينا، فلما دخلوا قالوا: له هنيئاً يا شيخ صليت في الحرم، يقول: نعم. صليت في الحرم، يقول فقلت له: يا شيخ أنا دخلت عليك قبل الصلاة، وأتيت ورأيتك من شق الباب وأنت نائم على السرير، قال: قد رجعت، فهم يصلون مبكراً في الحرم.

الولاية بهذا المعنى هي ولاية الشيطان، هذه ولاية باطلة مرفوضة يداس عليها بالأقدام؛ لأنها ولاية شيطانية. أما الولاية الربانية، فهي أن تكون مع الله، كيف مع الله؟ أي على كتاب الله وسنة رسول الله، تقوم بأوامر الله، وتنتهي عما نهى عنه، تكون ولياً من أولياء الله، من آذاك أو تعرض لك؛ فإنه يقع تحت وعيد الله، يقول العلماء: بأي إيذاء، لو أن أحدهم في الحمام يتوضأ وأنت تنتظره، وطرقت عليه الباب يعد هذا إيذاء للمسلم، هل أحد في الدنيا يقعد في الحمام مسروراً، لا يوجد أحد يبقى في الحمام إلا من يقضي حاجته، فلماذا تزعجه وتستعجله بالخروج، تريده يقطع قضاء الحاجة، هو لا يعقد إلا لأجل أن يكمل حاجته، ما في أحد يأخذ له وسادة ومسنداً ويقعد في الحمام إلا طائفة واحدة من الناس يرتاحون في الحمام، وهم أهل الدخان!

نعم. بعض أهل الدخان إذا منعوا منه في الدوائر الحكومية ذهبوا إلى الحمام؛ لأنهم يجدون في الحمام رائحة دخان آخر.

أما العقلاء فيبقون في الحمام بمقدار الحاجة ويخرجون، فإذا طرقت الباب على شخص منهم فيكون هذا إيذاءً له، وإذا كنت تقف عند إشارة المرور، ووقف بجانبك ومعه عائلته لا تنظر إليه، فهذا إيذاء له؛ لأن الذي أوقفه هو مصلحة المسلمين، بحيث لا يتجاوز أنظمة السير، فلو تجاوز الإشارة ومشى من أجل أن يحمي عرضه من هؤلاء الفضوليين لقطع السير وجوزي، وربما تسبب في حادث، فلا يجوز لك النظر إليه بحال من الأحوال، فهذا إيذاء للمسلم، وغيرها من أوجه الإيذاء، قال تعالى: (من آذى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) يعني: أعلنت عليه الحرب، وإعلان الحرب من الله عز وجل، عاقبته التدمير؛ لأن الله غالب على أمره، ومن ذا يغلب الله يا إخوان لا إله إلا الله!

من أنت -أيها الإنسان- حتى تقف في مواجهة رب العالمين؟ كم حجمك؟

متران في نصف متر، يعني متر مربع.

وكم حجمك بالنسبة لـأبها وبالنسبة للمملكة ، وبالنسبة لـآسيا وللكرة الأرضية؟

وما الأرض بالنسبة للشمس؟

فالشمس أكبر من الأرض بمليون مرة، وما الشمس بالنسبة للمجرة؟!

وما المجرة بالنسبة للمجرات الأخرى؟!

وما المجرات كلها بالنسبة للكرسي؟!

وما الكرسي بالنسبة للعرش؟!

وما العرش بالنسبة لله؟!

لا إله إلا الله الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وأنت تقف في مواجهته!!

أتظن أن الله غافل عنك عندما يمهلك؟ نعم. إن الله يمهل ولكن لا يهمل، يقول الله عز وجل: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [القلم:44-45].. الآن الصياد عندما يأتي إلى البحر يأتي بالخطاف والشبكة ويصنع فيها لحماً أو خبزاً أو أي شيء، ويرميه ويمهله، وتأتي السمكة فتقول ما هذه المناسبة الضخمة، ما هذه الأكلة الفاضلة وتلتهمها، فإذا رأى الصياد أن هذه اللحمة أصبحت في فم السمكة، ماذا يفعل؟

يشد الخطاف بسرعة ثم يخرجها ويأكلها، فالله يمهل.. ويملي.. ويضع لك الطعم من منصب أو وظيفة.. شباب.. بسطة في الجسم ثم لا تدري إلا وقد خطفك، فلا يفلتك إلا في النار، قال تعالى وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102] وقال صلى الله عليه وسلم (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته) فلا تغتر بإملاء الله عز وجل -أيها الإنسان- عنك، فإملاء الله للإنسان في هذه الدنيا من أجل أن يرجع إلى الله، فإذا لم يرجع فهذه مصيبة الإنسان، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من آذى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه).

أيها -المحارب لله- أنك ستموت، ولا تغتر بما أنت فيه من الجاه أو المنصب، أو المال، أو العافية، أو الشباب، فإنها كلها أشياء مؤقتة سوف تزول، لم تبق لمن قبلك حتى تبقى لك، ولو بقيت للذي قبلك لما وصلت إليك، لكن هذه المفاهيم والموازين تنتقل من إنسان إلى آخر، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، تذكر أنك ستموت، وأنك في ساعات الاحتضار ستكون أضعف ما تكون، وقد لاحظت وربما لاحظتم وحضرتم جنائز وتصورتم وضع الميت وهو في حالات الاحتضار، الله يقول: كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ [القيامة:26-27] راق: يعني قارئ يقرأ أو طبيب يعالج وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ [القيامة:28] أي: تيقن أنه الموت وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ [القيامة:29] والتفاف الساقين كناية عن الضعف المنقطع النظير؛ لأنه لا تلتف السيقان إلا من ضعف؛ لأنه لو كان متعافٍ لما التفت ساقاه، المريض في ساعات الاحتضار تلتف ساقاه ، وتبرد أطرافه، وتتفصل مفاصله، وتنخسف أصداغه وتصير مثل الحفر، وتميل أنفه؛ لأن الأنف هذه تخرج منها الحياة، وهي أصلها غضروف، فإذا خرجت منها الحياة مالت الأنف، هذا هو الإنسان في هذه الحياة، تذكر أنك ستكون في هذا الموقف، متى؟

يمكن أن يكون ذلك في هذه الليلة، أو غداً وأنت لا تعلم، إذاً كيف تحارب الله وهذا موقفك؟

وقل لي بأي سلاح، وبأي صواريخ تقابل الله عز وجل؟

ثم تذّكر أنك ستوضع في الحفرة المظلمة، وسيوضع معك عملك، وسيأتي معك منكر ونكير يسألانك عن عملت في هذه الحياة، وتذّكر أن الله سيبعثك، وأنك ستقف بين يدي الله حافياً عارياً ليس معك أحد، ينجيك عدلك، ويوبقك ظلمك، وتذّكر أنه سيؤمر بك إلى الجنة أو إلى النار، فماذا تقول؟

فلا تؤذ عباد الله، لا تعادي أولياء الله، وقد سمعت عن رجل من الصالحين -وأسأل الله أن يهديه- وهو من عامة الناس، لكن عنده غيرة وحرقة على الإيمان والدين، ومع هذا محسوب من العاديين وليس من الملتزمين أو من الذين لهم شارة كبيرة في الدين، ففي أحد المجالس نال أحد الجالسين من أحد العلماء في المنطقة وتكلم فيه، وقال: إنه لما صافحني في وليمة مدّ رءوس أصابعه فقط، كناية عن الاستهزاء والسخرية من هذا العالم! فقال ذلك الرجل الطيب الموفق: يا أخي! لا تنل منه، والله حرام أنك تمسه بيدك؛ لأنك تنجس يده، ، ولو علم الشيخ بك لكف يده؛ لأنك أنجس من الكلب، لسانك هذا تنال به من العلماء، وبدأ يدافع عن الشيخ دفاع المستميت، هذا هو الذي يريد أن يكون عند الله في منزلة عظيمة، عندما تسمع من ينال من عباد الله، أو أولياء الله، أو العلماء أوقفه عند حده، قل: لا يجوز. والثاني يقول معك: لا يجوز.. والثالث..وهكذا فإذا سمع أهل الشر والفساد أن أهل الإيمان يد واحدة يذبون عن عرض بعضهم بعضاً، لا يستطيعون الكلام بكلمة، لكن إذا تكلم هذا وسكت أهل الخير كلهم، بل بعضهم قال: صحيح، لا يفتح فمه بكلمة واحدة، أين الإيمان، وأين الدين؟!




استمع المزيد من الشيخ سعيد بن مسفر - عنوان الحلقة اسٌتمع
اتق المحارم تكن أعبد الناس 2929 استماع
كيف تنال محبة الله؟ 2928 استماع
وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً 2805 استماع
أمن وإيمان 2680 استماع
حال الناس في القبور 2678 استماع
توجيهات للمرأة المسلمة 2604 استماع
فرصة الرجوع إلى الله 2572 استماع
النهر الجاري 2477 استماع
دور رجل الأعمال في الدعوة إلى الله 2471 استماع
مرحباً شهر الصيام 2400 استماع