حوار مع منتكس


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.

وبعد:

أيها الأحبة في الله: تلقيت قبل موعد أذان المغرب بنصف ساعة فقط، وبالتحديد في الساعة السادسة إلا ربع، مكالمة هاتفية من الشيخ/ جابر المدخلي الأمين العام للتوعية الإسلامية بـمكة ، يطلب مني أن ألقي هذه المحاضرة بديلاً عن الشيخ/ محمد المختار الشنقيطي وذلك لظروف مرضه، نسأل الله عز وجل أن يكتب له الشفاء العاجل.

والحقيقة لقد ترددت -بل اعتذرت- والسبب أن البديل دائماً يكون ثقيلاً مهما كان، الناس جاءوا وهم متهيئون لسماع رجل بعينه، فإذا جاء الغير كان هذا الغير ثقيلاً لا يريد أحد أن يسمعه، وما أود أن أكون ثقيلاً على إخواني.

فقلت للشيخ: سوف آتي وأشاورهم فإن رأوا أنني سأصبح ثقيلاً عليهم اعتذرت، وخرجنا وذهب كلٌ إلى بيته، والسلامة كرامة كما يقولون، وإن قبلوا بشرط ألا أكون ثقيلاً عليهم فلا مانع من الاستمرار معهم إلى العشاء، وأنا أعرض عليكم هذا الرأي فما رأيكم، هل تودون الاستمرار ولا أكون ثقيلاً عليكم؟ بارك الله فيكم.

البديل ثقيل لماذا؟

هناك حكاية: رجل جاءه ضيوف ولا يود أن يكرمهم -يعني: ضيوف ثقلاء- ولكن لابد له من أن يقدم لهم وجبة الطعام، فنزل إلى المرعى الذي فيه الأغنام وأخذ واحدة من الأغنام وأخذ السكين وبدأ يذبح الذبيحة، فصاحت الذبيحة من ألم حرارة الموت، فقال لها يخاطبها يقول: اصبري فوالله إنكِ مغصوبة وأنا مغصوب، يقول: أنتِ مغصوبة لا تريدين الموت وأنا مغصوب لا أريد أن أذبح، وأنا أقول لكم: أنتم مغصوبون وأنا مغصوب فاصبروا على ما واجهتم.

موضوع المحاضرة: "الانتكاسة أو الانتكاس أسبابه وعلاجه"، كنت قبل فترة ألقي درساً في جدة ووعدت أهل جدة بمحاضرة بعنوان: "حوار مع منتكس" ولما كان هذا الموضوع هو موضوع هذا الدرس فأنا أقدم هذا الموضوع الذي كنت سألقيه في جدة بعد أيام وليالي؛ لأنه موضوع جاهز.

الانتكاسة: حالة مرضية تصيب بعض الملتزمين الذين وفقهم الله عز وجل للاستقامة على دين الله، وهي والحمد لله في مجتمعنا لا تشكل ظاهرة عامة، بحيث نخاف منها أو ننظر إليها بنظرة شؤم، لا. هي حالة نادرة تقع في أفراد بسطاء بدليل استقامة الآلاف المؤلفة، واستمرارية العاملين والحمد لله في سلك استقامتهم، فهذه ليست مثار خوف عندنا، ولكننا ننبه عليها للتحذير منها من باب الوقاية؛ لأن مسألة الثبات على الدين حتى الممات شيء لابد منه، إذ أن العبرة والمعوَّل على الخواتيم -الخاتمة- إنما الأعمال بالخواتيم، وأنت يقاس لك عملك على آخر أداء تؤديه قبل الوفاة، فلو ثبتَّ طوال حياتك وزللت قبل الوفاة بلحظات، لم تعد لك كل سابقة حياتك، ولو انحرفت طوال الحياة ثم ثبتَّ عند الممات لختم الله لك على هذا الثبات وهذا معنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (منكم من يعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، ومنكم من يعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)هذا الحديث له مغزى وله هدف، والمثبطون والمنهزمون أمام شهواتهم يستدلون به على غير وجهه الشرعي فيقول أحدهم وهو منغمس في الذنوب، يقول: أنا أعمل بعمل أهل النار حتى إذا كان بيني وبين النار ذراع عملت بعمل أهل الجنة، هذا كلام غير صحيح؛ لأنك لا تملك الهداية، لا. ليس هذا هو مقصد الحديث.

مقصد الحديث: بيان أن على المسلم الذي يلتزم بالدين أن يتمسك ويثبت إلى أن يموت، حتى لا يعمل عملاً من عمل أهل النار فيختم عليه به ويدخل النار.

والثاني: أن على العاصي الفاجر البعيد عن الله أن يسارع بالتوبة وألا يؤجل ولا يسوف، حتى يعمل عملاً صالحاً؛ لأنه قد يموت بعد هذا العمل الصالح فيدخله الله الجنة، هذا هو هدف الحديث؛ لأن العبرة بالخواتيم.

ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل الله الثبات ويقول: (يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك) ويخبر الله عز وجل عن عباده المؤمنين بأنهم يقولون: رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران:8] يدعون الله عز وجل أن يثبتهم وألا يزيغ قلوبهم بعد أن هداها، ويطلبون من الله رحمة وهذه الرحمة يقول عنها المفسرون: هي رحمة التثبيت. اللهم ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.

وقبل ذكر أسباب الانتكاس هناك وسائل للوقاية من الانتكاس -وسائل للثبات- أبدأ بها؛ لأنها المهمة:

الاعتصام بكتاب الله

يقول الله عز وجل: فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ [الزخرف:43-44] فالله عز وجل أمر الرسول صلى الله عليه وسلم والأمر عام للأمة بالتمسك بل: (استمسك) الفعل هنا مبني بالمزيد ليس مبنياً من الثلاثي ولا من السداسي (استمسك) والزيادة في المبنى تدل على الأصالة والعمق والقوة في المعنى: (استمسك) أي: بكل ما أوتيت (بالذي أوحي إليك) أي: بالقرآن الكريم.

والله عز وجل يقول في القرآن الكريم أنه مثبت، يقول: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً [الفرقان:32] فهو مثبت لفؤاد النبي صلى الله عليه وسلم، ومثبت لفؤاد كل مسلم من بعده إلى يوم القيامة، وما علمنا أن رجلاً اعتصم بكتاب الله وعاش مع القرآن وأضله الله أبداً، اعتصم بالقرآن والله عز وجل يحميك من الضلال، وتثبت على الإيمان حتى تلقى الله تبارك وتعالى، هذا أعظم مثبِّت، والاعتصام بكتاب الله يكون بالتالي:

أولاً: تلاوةً، ثم تدبراً، ثم عملاً وتطبيقاً؛ لأن التلاوة هي سبيل التدبر، والتدبر هو طريق العمل، والعمل هو الهدف من القرآن، فالله لم ينزل القرآن ليتلى وإنما أنزله ليطبق في عالم الناس: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص:29] فتتلو كتاب الله كما أنزل تلاوة شرعية: وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً [المزمل:4] الترتيل يقول فيه علي رضي الله عنه هو: [إخراج الحروف ومعرفة الوقوف] يعني: أحكام التجويد، إذا ضبطت أحكام التجويد صرت تالياً مع السفرة الكرام البررة مع الملائكة، لك فضل عظيم عند الله عز وجل.

تلاوة ثم تدبر أي: تفهم لمراد الله عز وجل من هذا الكلام الذي وجهه إليك، وهذا بالرجوع إلى كتب التفسير المعتبرة، وأفضل ما ندل الشباب عليه خصوصاً المبتدئين كتاب أيسر التفاسير للشيخ/ أبي بكر الجزائري ، وهو كتاب عظيم ألِّف بأسلوب عصري يشتمل على الآيات، ثم يأتي بعدها بمعاني الكلمات، ثم يأتي بالمعنى الإجمالي للآيات، ثم يأتي بالهداية التي هدت إليها هذه الآية -أي: الأحكام المستفادة من هذه الآيات- بأسلوب موجز فيه صفاء ووضوح ورقة وجذب للقارئ، وهذا من أعظم الكتب، وقد قرأت فيه وسررت كثيراً بما فيه.

وبعد التدبر يأتي العمل. وهذا هو معنى الاعتصام بكتاب الله عز وجل.

فعل طاعة الله وترك معصيته

كل ما وعظك الله به، وكل ما أمرك الله به، وكل ما نهاك الله عنه، احرص على أن تطبقه لماذا؟ حتى تثبت، لماذا يكون عدم تنفيذ الأوامر سبيلاً إلى التراخي والرجوع والضعف والانتكاس ثم الردة؟ لأنك تسير إلى الله وسيرك حثيث، يقول الله عز وجل: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ [الذاريات:50] ويقول عز وجل: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [آل عمران:133] ويقول: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [الحديد:21] وسرعتك ومسابقتك وفرارك تقتضي منك أن تكون جاداً، لكن ما رأيكم برجل مسرع ويتلفت يريد أن يرجع، أو يقف؟ هل يستمر إن وقف أمام معصية من المعاصي؟ أو أمام نظرة إلى امرأة، أو أمام أغنية يستمعها، أو أمام شهوة محرمة يقع فيها، أو أمام صلاة ينام عنها، أو أمام واجب شرعي يتركه؟ هذه معوقات تعيقك عن السير في سبيل الله، وبالتالي إذا وقفت يصعب عليك السير مرة أخرى، لكن ما دمت جاداً وتمشي بقوة فإنه يصعب على الشيطان إرجاعك.

يقول ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين : لابد أن تسير إلى الله ولا تلتفت؛ لأن الالتفات يوهن القوى، يقول: انظر إلى الضبي -الضبي من الصيد الذي أوتي قدرة على السرعة في المشي، تجد بطنه لاصقة بظهره وأقدامه خفيفة، يعني: إذا مشى على الرمال يقفز قفزات كأنه ريح- يُرسل عليه الكلب المعلم، وقوته ليست كقوة الضبي وسرعته ليست كسرعة الضبي، لكن الكلب يدركه ويأتي به لماذا؟ قالوا: لأن الضبي يجري ويتلفت -عينه في الكلب- والكلب يجري ولا يلتفت، الكلب عينه أمامه يريد أن يأتي بالضبي، ولو أن الضبي استمر ولم يلتفت لما وصل إليه، لكن كلما تلفت رأى الكلب فيظن أنه قريب فيضعف، فينظر المرة الثانية فيقول: قد قرب وسوف يعضني فيضعف فيمسكه الكلب.

كذلك أنت في طريقك إلى الله وفي فرارك وراءك كلب اسمه: إبليس يريد أن يمسك بك، فلا تلتفت؛ لأن التفاتتك تعني وقوفك عند المعاصي، تسمع أغنية كنت قد سمعتها في الماضي فتقول: أسمعها قليلاً، هذه التفاتة تنظر إلى امرأة، غض بصرك واستغفر الله لكن إذا طولتها قليلاً أو كررتها فهذه التفاتة يصيدك بها الشيطان.

فعليك أولاً أن تنفذ كل ما أمر الله عز وجل به، وتبتعد عن كل ما نهاك الله عنه، حتى تثبت، ويقول الله في هذا المعنى في القرآن الكريم: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً [النساء:66] أشد تثبيتاً، أعظم مثبت لك أن تفعل ما أمرك الله، وتنتهي عما نهاك الله، (ما يوعظون به) ما جاء في كتاب الله، وأنا أعرف كثيراً من الشباب أوصلته انتكاسته إلى الردة، وإلى الكفر بالله، والخروج من الإسلام، وسببها: أنه وقف عند الأغاني بإيحاء من شيطان من شياطين الإنس، ولهذا العنوان قصة:

شاب من شباب الصحوة التزم بالدين وتمسك به تمسكاً قوياً، بل غالى فيه وشدد على نفسه، وكنت أنصحه بالاعتدال والوسطية، حتى أنه كفر أهله في البيت وكفر أباه وقام بأعمال غير سليمة، وكنت أحاول أن أسدده، ثم لما زاد عليه الأمر خرج من بيت أهله وذهب إلى الجهاد الأفغاني، ومكث مع المجاهدين قرابة شهرين، ورجع وكان في استمراريته في العمل حماس ودعوة وانقطاع وأعباء، ليله ونهاره كله للدعوة، وبعد ذلك حصل له الموقف أن ركب مع زميل وكان هذا الزميل يستمع الأغاني، فمد يده إلى المسجل وأقفل، فقال له زميله: لماذا أقفلت؟ قال: حرام، قال: من قال أنه حرام؟ -زميله شيطان رجيم، شيطان ناطق- ثم قال له: العلماء والمشايخ وكل الناس والكتاب والسنة يقولون: لا. ليست حراماً الدين في القلوب، والأغاني هي كلمات تدخل من هنا وتخرج من هنا، تسمعها لتروح عن نفسك ومن الذي قال لك أنها حرام؟ قال: الشيخ/ سعيد بن مسفر ، قال: ما عرفت إلا هذا الإنسان المعقد؟ لا تأخذ الدين منه، فأصابت الشاب المسكين هزة؛ لأن الرجل يحب الأغاني ويود أن يجد عليها طريقاً ويجد من يسول له ويرخص له فيها فأخذه ذلك الشيطان وذهب به إلى البيت، وقام أخرج له كتباً من الكتب التي تبيح السماع، وهناك بعض الأئمة مثل ابن حزم الظاهري يرى أن الغناء ليس الغناء بالآلة. والغناء بالعود والآلة والطنبور والكمان، جميع هذه الوسائل محرمة عند أهل العلم كلهم، لكن بعض أهل العلم يرى أن الغناء بالكلام الذي نسميه أناشيد إسلامية، يقول: إنها حلال، فهذا الذي يعنيه ابن حزم، وقد حملها على أنها الأغاني كلها، ورجع الشاب إلى البيت ليسمع الأغاني سماعاً صحيحاً بقوة وبإعجاب وبتركيز؛ لأنه قد منع نفسه منها ودخل الشيطان إلى قلبه من هذا الباب، وبرد في عبادته، ثم ترك الصلاة في المسجد، وصار يصلي في البيت، وبعد فترة ترك الصلاة بالكلية وارتد عن دين الله، وجاءني خبر أنه ترك الصلاة وأصبح له فكر آخر عن الحياة كلها.

فذهبت إليه في بيته لزيارته وكنت حينما أزوره في بيته يفرح كثيراً بي، وينزل مثل الخيل ويستقبلني ويذهب معي، لكن ذهبت يوماً من الأيام وسيارته عند الباب فقلت: فلان موجود؟ قالوا: من نقول له، قلت: قولوا له فلان، فقالوا: ليس موجوداً فعلمت أنه لا يريدني، وذهبت وعدت مرة أخرى فقالوا: ليس موجوداً. ثم حاصرته إلى أن أمسكته، ويوم أمسكته وهو واقف بالسيارة أوقفت سيارتي ونزل من السيارة وكان يخجل مني كثيراً، فعانقته عناقاً حاراً وقلت له: ماذا بك هل عملت بك شيئاً؟ لماذا لا تريد أن تقابلني؟ قال: لا. وإنما أنا مقصر وأنا خجلان منك، قلت: لا. كلنا مقصرون تعال اركب معي، فركب وذهب معي في السيارة وأخذته إلى البيت وجلست معه.

قلت له: بلغني أنك تركت الطريق وتنكبته ورجعت عن الإسلام؟ قال: نعم. قلت: الآن أريد أن أناقشك مناقشة جريئة وجادة ولا تجامل، المجاملة لا تصلح في هذا الموضوع، أنت تركت هذا الطريق فإما أن تقنعني أن هذا الطريق غير صحيح وأرجع معك، أو أقنعك أنه طريق صحيح وترجع معي، قال: تفضل، قلت لـه: أسألك بالله هل تركت طريق الالتزام والدين، ورجعت إلى طريق الانسلاخ والكفر؛ لأن طريق الإسلام والالتزام غير صحيح، والطريق الذي أنت فيه الآن صحيح؟ أريد أن ترد من قلبك، قال: من قلبي؟ قلت: نعم. قال: والله إني أعلم من قرارة نفسي أن طريق الدين والالتزام هو الصحيح، وطريق الكفر الذي أنا فيه هو الخطأ.

قلت له: سؤال آخر: هل في الدنيا رجل عاقل يترك الطريق الصحيح ويرجع إلى الطريق الخطأ؟ قال: لا. قلت: إذاً أنت غير عاقل، قال: لا. أنا عاقل لكن أخبرك لماذا تركت الطريق، قلت: لماذا؟ قال: لأن الطريق الصحيح صعب، والطريق الخاطئ بسيط وسهل، قلت: الآن عرفنا النقطة، أمسكنا رأس الحبل الآن.

قلت لـه: أنا معك أن طريق الالتزام وطريق الدين صعب، لكن هل تركت الصعب إلى السهل أم إلى الأصعب، قال: إلى السهل، قلت: لا. أنت مخطئ، تركت الصعب إلى الكارثة وإلى المصيبة والدمار، وإلى الهلاك في الدنيا والآخرة، قال: كيف؟ قلت: أليس غض نظرك عن الحرام صعب؟ قال: نعم. وهذا الذي أتعبني -يقول: بصره أتعبه، كل ساعة وهو يغض بصره مما أدى إلى أن تعب- قلت: لم تركت غض البصر وأطلقت لبصرك العنان للنظر إلى وجوه النساء وقعت في الأصعب؟ قال: ما هو الأصعب؟ قلت: أن يملأ الله عينيك من جمر جهنم، فانتبه الرجل.

قلت: ما هو الأسهل أن تغض عينك وتصبر قليلاً أو يملأها الله جمراً من نار جهنم؟ قال: جمر جهنم أصعب، قلت: الأغنية التي تسمعها الآن، صون سمعك عنها صعب أليس كذلك؟ قال: نعم. قلت: وإذا سمعت الأغاني وقعت في الأصعب؟ قال: لماذا؟ قلت: من استمع إلى مغنٍ أو مغنية صب الله في أذنيه يوم القيامة الرصاص المذاب، هل الأسهل لك أن تصون سمعك عن الأغنية وتعاني معاناة بسيطة، أم أن تغني وتسمع الغناء ويصب الله عليك الرصاص المذاب؟ قال: لا. والله هذه أصعب.

قلت: قيامك لصلاة الفجر صعب أليس كذلك؟ قال: نعم. قلت: القيام أصعب أم أن يرضخ رأسك بالصخر في النار؟ قال: هذه أصعب، قلت: إذًا أنت تركت الصعب إلى ما هو أصعب، أنا معك في أن طريق الاستقامة والدين صعب؛ لأن الصعوبة هذه توصلك إلى الجنة، وضربت له مثالاً قلت: هل الدراسة سهلة أم صعبة؟ قال: صعبة، قلت: نعم. صعبة من كل صورها، صعبة من النهوض مبكراً، أنت خلال الفترة الصيفية تنام إلى الظهر، لكن في الدراسة من الساعة السادسة والنصف وأنت تجمع كتبك وتركب وتذهب، وقد تتأخر فتجد المدير أو المراقب على الباب والعصا بيده، يصيبك واحدة منها على ظهرك، فتهرب منه، وتدخل على المدرس فيقال لك: أين الواجب؟ أين الدرس؟ حصة وامتحانات وبلاء ومشاكل، فيها صعوبة، قال: نعم. فيها صعوبة، قلت: لماذا يصبر الناس على صعوبة الدراسة؟ من أجل تأمين المستقبل، ونحن لماذا نصبر على صعوبة الإسلام وصعوبة الالتزام والدين؟ من أجل تأمين.. مستقبل ستين سنة، ومن أجل تأمين وظيفة وبيت وبعدها قبر. لا. بل من أجل تأمين مستقبل أبدي سرمدي إلى آخر الزمان، في جنة عرضها السماوات والأرض، نؤمن مستقبلنا في الدنيا والآخرة بهذا الالتزام بهذه الصعوبة.

فقلت: يا أخي! أنا معك أن طريق الالتزام والدين صعب، ولكن الأصعب والأهم والكارثة والمصيبة يوم أن تترك هذا الطريق، وتسير في الطريق الخطأ، وبعد ذلك تمشي فيه يعني: معجباً ومخدوعاً بما فيه من اللذات والمتع البسيطة، ثم تقف عند جدار الموت وتنزل وتدخل النار وتقول بعد ذلك كما قال الله عز وجل: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ [المؤمنون:99].

فتقول الملائكة: لماذا تريد أن ترجع؟ فيقول: لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ [المؤمنون:100] فلا تستطيع؛ لديك فرصة واحدة، الآن الطالب المهمل إذا أهمل طوال العام الدراسي ودخل القاعة وسلموا له أوراق الأسئلة فقرأ الأسئلة ولم يستطع أن يجيب على سؤال واحد، فقال للمدير: من فضلك نصف ساعة أخرج خارج القاعة أقرأ الإجابة وأعود، هل يطيعونه؟ هذا مثل ذاك لما دخل القبر قال: يا رب! ردني أعمل صالحاً، قال الله: كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا [المؤمنون:100] يعني: لا تنفعه ولا تغني عنه شيئاً وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:100].

ويقول الله عز وجل: وَلَوْ تَرَى إِذْ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ [السجدة:12] يقولون: رأينا بعيوننا الآن وسمعنا فارجعنا، لكن ما عاد ينفع، ويقول عز وجل أنهم يقولون: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ [فاطر:37] قال الله: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [فاطر:37].

فقلت لـه: يا أخي! إن الخيار الأفضل لك أن تجلس في الصعوبة التي نحن عليها الآن، لا تترك الصعوبة التي نحن فيها فوالله ما هي بصعوبة إنها ليسيرة على من يسرها الله عليه، الرسول صلى الله عليه وسلم سماها صعوبة، قال: (لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير) عظمته في كونه يوصل إلى الجنة، وكونه يسير أن الله يحبب إليك الإيمان، الآن الصعوبة في طريق الالتزام تكون فقط في البدايات، ولكنها بعد مرور الإنسان فيها وسيره وقطعه للطريق تصبح هي حياته، بل يقول عليه الصلاة والسلام في حديث في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه يقول: (ثلاث من كن في قلبه وجد بهن حلاوة الإيمان -من ضمنها-: أن يكره أن يعود إلى الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار).

هذه تمثل قاعدة الثبات المطلق بحيث لو خيِّر بين أن يقطع أو يلقى في النار، وبين أن يكفر ويرجع إلى الردة والكفر لا يرجع، ويختار الموت.

وفي صحيح مسلم قصة المرأة في الأخدود لما أقدمت على النار وهي تضطرم، وولدها في يدها، ترددت إشفاقاً على ولدها، فترك الثدي وقال لها: تقدمي يا أماه! فإنك على الحق، فقدمت على النار وتقطعت في النار واحترقت، هذه قصتي مع هذا الشاب، جاءت من طريق وقوعه في المعصية وسببت له الانتكاس.

وبعد ذلك قال لي: اقتنعت، قلت: ترجع معي الآن، قال: أرجع، قلت: سل الله الثبات، ورجع منذ فترة طويلة وأبشركم أنه الآن من خيار الناس والحمد لله، وأسأل الله لي وله الثبات حتى الممات.

قراءة قصص الأنبياء وأخذ العبر من القصص القرآني

يقول الله عز وجل: وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ [هود:120] قصص الأنبياء في القرآن ليست كقصص الإسرائيليات أو التسالي أو للقضاء على الأوقات لا. قصص وعبر ودروس عملية وقعت في عالم الواقع، يقول الله عز وجل: مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى [يوسف:111] يعني: ما كانت روايات كاذبة، وقال: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ [يوسف:3].. لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ [يوسف:111] هذه القصص القرآنية يجب أن تمر عليه باعتبار وبتدبر وبتأمل وبأخذ فائدة منه، حتى تثبت على دين الله تبارك وتعالى.

الدعاء

المثبت الرابع: الدعاء في كل وقت وفي كل لحظة وفي سجودك وفي ليلك وفي نهارك: يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك، هذا من أعظم وسائل التثبيت حتى تثبت على دين الله تبارك وتعالى، وهذه هي أسباب الوقاية من المرض.

يقول الله عز وجل: فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ [الزخرف:43-44] فالله عز وجل أمر الرسول صلى الله عليه وسلم والأمر عام للأمة بالتمسك بل: (استمسك) الفعل هنا مبني بالمزيد ليس مبنياً من الثلاثي ولا من السداسي (استمسك) والزيادة في المبنى تدل على الأصالة والعمق والقوة في المعنى: (استمسك) أي: بكل ما أوتيت (بالذي أوحي إليك) أي: بالقرآن الكريم.

والله عز وجل يقول في القرآن الكريم أنه مثبت، يقول: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً [الفرقان:32] فهو مثبت لفؤاد النبي صلى الله عليه وسلم، ومثبت لفؤاد كل مسلم من بعده إلى يوم القيامة، وما علمنا أن رجلاً اعتصم بكتاب الله وعاش مع القرآن وأضله الله أبداً، اعتصم بالقرآن والله عز وجل يحميك من الضلال، وتثبت على الإيمان حتى تلقى الله تبارك وتعالى، هذا أعظم مثبِّت، والاعتصام بكتاب الله يكون بالتالي:

أولاً: تلاوةً، ثم تدبراً، ثم عملاً وتطبيقاً؛ لأن التلاوة هي سبيل التدبر، والتدبر هو طريق العمل، والعمل هو الهدف من القرآن، فالله لم ينزل القرآن ليتلى وإنما أنزله ليطبق في عالم الناس: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص:29] فتتلو كتاب الله كما أنزل تلاوة شرعية: وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً [المزمل:4] الترتيل يقول فيه علي رضي الله عنه هو: [إخراج الحروف ومعرفة الوقوف] يعني: أحكام التجويد، إذا ضبطت أحكام التجويد صرت تالياً مع السفرة الكرام البررة مع الملائكة، لك فضل عظيم عند الله عز وجل.

تلاوة ثم تدبر أي: تفهم لمراد الله عز وجل من هذا الكلام الذي وجهه إليك، وهذا بالرجوع إلى كتب التفسير المعتبرة، وأفضل ما ندل الشباب عليه خصوصاً المبتدئين كتاب أيسر التفاسير للشيخ/ أبي بكر الجزائري ، وهو كتاب عظيم ألِّف بأسلوب عصري يشتمل على الآيات، ثم يأتي بعدها بمعاني الكلمات، ثم يأتي بالمعنى الإجمالي للآيات، ثم يأتي بالهداية التي هدت إليها هذه الآية -أي: الأحكام المستفادة من هذه الآيات- بأسلوب موجز فيه صفاء ووضوح ورقة وجذب للقارئ، وهذا من أعظم الكتب، وقد قرأت فيه وسررت كثيراً بما فيه.

وبعد التدبر يأتي العمل. وهذا هو معنى الاعتصام بكتاب الله عز وجل.

كل ما وعظك الله به، وكل ما أمرك الله به، وكل ما نهاك الله عنه، احرص على أن تطبقه لماذا؟ حتى تثبت، لماذا يكون عدم تنفيذ الأوامر سبيلاً إلى التراخي والرجوع والضعف والانتكاس ثم الردة؟ لأنك تسير إلى الله وسيرك حثيث، يقول الله عز وجل: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ [الذاريات:50] ويقول عز وجل: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [آل عمران:133] ويقول: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [الحديد:21] وسرعتك ومسابقتك وفرارك تقتضي منك أن تكون جاداً، لكن ما رأيكم برجل مسرع ويتلفت يريد أن يرجع، أو يقف؟ هل يستمر إن وقف أمام معصية من المعاصي؟ أو أمام نظرة إلى امرأة، أو أمام أغنية يستمعها، أو أمام شهوة محرمة يقع فيها، أو أمام صلاة ينام عنها، أو أمام واجب شرعي يتركه؟ هذه معوقات تعيقك عن السير في سبيل الله، وبالتالي إذا وقفت يصعب عليك السير مرة أخرى، لكن ما دمت جاداً وتمشي بقوة فإنه يصعب على الشيطان إرجاعك.

يقول ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين : لابد أن تسير إلى الله ولا تلتفت؛ لأن الالتفات يوهن القوى، يقول: انظر إلى الضبي -الضبي من الصيد الذي أوتي قدرة على السرعة في المشي، تجد بطنه لاصقة بظهره وأقدامه خفيفة، يعني: إذا مشى على الرمال يقفز قفزات كأنه ريح- يُرسل عليه الكلب المعلم، وقوته ليست كقوة الضبي وسرعته ليست كسرعة الضبي، لكن الكلب يدركه ويأتي به لماذا؟ قالوا: لأن الضبي يجري ويتلفت -عينه في الكلب- والكلب يجري ولا يلتفت، الكلب عينه أمامه يريد أن يأتي بالضبي، ولو أن الضبي استمر ولم يلتفت لما وصل إليه، لكن كلما تلفت رأى الكلب فيظن أنه قريب فيضعف، فينظر المرة الثانية فيقول: قد قرب وسوف يعضني فيضعف فيمسكه الكلب.

كذلك أنت في طريقك إلى الله وفي فرارك وراءك كلب اسمه: إبليس يريد أن يمسك بك، فلا تلتفت؛ لأن التفاتتك تعني وقوفك عند المعاصي، تسمع أغنية كنت قد سمعتها في الماضي فتقول: أسمعها قليلاً، هذه التفاتة تنظر إلى امرأة، غض بصرك واستغفر الله لكن إذا طولتها قليلاً أو كررتها فهذه التفاتة يصيدك بها الشيطان.

فعليك أولاً أن تنفذ كل ما أمر الله عز وجل به، وتبتعد عن كل ما نهاك الله عنه، حتى تثبت، ويقول الله في هذا المعنى في القرآن الكريم: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً [النساء:66] أشد تثبيتاً، أعظم مثبت لك أن تفعل ما أمرك الله، وتنتهي عما نهاك الله، (ما يوعظون به) ما جاء في كتاب الله، وأنا أعرف كثيراً من الشباب أوصلته انتكاسته إلى الردة، وإلى الكفر بالله، والخروج من الإسلام، وسببها: أنه وقف عند الأغاني بإيحاء من شيطان من شياطين الإنس، ولهذا العنوان قصة:

شاب من شباب الصحوة التزم بالدين وتمسك به تمسكاً قوياً، بل غالى فيه وشدد على نفسه، وكنت أنصحه بالاعتدال والوسطية، حتى أنه كفر أهله في البيت وكفر أباه وقام بأعمال غير سليمة، وكنت أحاول أن أسدده، ثم لما زاد عليه الأمر خرج من بيت أهله وذهب إلى الجهاد الأفغاني، ومكث مع المجاهدين قرابة شهرين، ورجع وكان في استمراريته في العمل حماس ودعوة وانقطاع وأعباء، ليله ونهاره كله للدعوة، وبعد ذلك حصل له الموقف أن ركب مع زميل وكان هذا الزميل يستمع الأغاني، فمد يده إلى المسجل وأقفل، فقال له زميله: لماذا أقفلت؟ قال: حرام، قال: من قال أنه حرام؟ -زميله شيطان رجيم، شيطان ناطق- ثم قال له: العلماء والمشايخ وكل الناس والكتاب والسنة يقولون: لا. ليست حراماً الدين في القلوب، والأغاني هي كلمات تدخل من هنا وتخرج من هنا، تسمعها لتروح عن نفسك ومن الذي قال لك أنها حرام؟ قال: الشيخ/ سعيد بن مسفر ، قال: ما عرفت إلا هذا الإنسان المعقد؟ لا تأخذ الدين منه، فأصابت الشاب المسكين هزة؛ لأن الرجل يحب الأغاني ويود أن يجد عليها طريقاً ويجد من يسول له ويرخص له فيها فأخذه ذلك الشيطان وذهب به إلى البيت، وقام أخرج له كتباً من الكتب التي تبيح السماع، وهناك بعض الأئمة مثل ابن حزم الظاهري يرى أن الغناء ليس الغناء بالآلة. والغناء بالعود والآلة والطنبور والكمان، جميع هذه الوسائل محرمة عند أهل العلم كلهم، لكن بعض أهل العلم يرى أن الغناء بالكلام الذي نسميه أناشيد إسلامية، يقول: إنها حلال، فهذا الذي يعنيه ابن حزم، وقد حملها على أنها الأغاني كلها، ورجع الشاب إلى البيت ليسمع الأغاني سماعاً صحيحاً بقوة وبإعجاب وبتركيز؛ لأنه قد منع نفسه منها ودخل الشيطان إلى قلبه من هذا الباب، وبرد في عبادته، ثم ترك الصلاة في المسجد، وصار يصلي في البيت، وبعد فترة ترك الصلاة بالكلية وارتد عن دين الله، وجاءني خبر أنه ترك الصلاة وأصبح له فكر آخر عن الحياة كلها.

فذهبت إليه في بيته لزيارته وكنت حينما أزوره في بيته يفرح كثيراً بي، وينزل مثل الخيل ويستقبلني ويذهب معي، لكن ذهبت يوماً من الأيام وسيارته عند الباب فقلت: فلان موجود؟ قالوا: من نقول له، قلت: قولوا له فلان، فقالوا: ليس موجوداً فعلمت أنه لا يريدني، وذهبت وعدت مرة أخرى فقالوا: ليس موجوداً. ثم حاصرته إلى أن أمسكته، ويوم أمسكته وهو واقف بالسيارة أوقفت سيارتي ونزل من السيارة وكان يخجل مني كثيراً، فعانقته عناقاً حاراً وقلت له: ماذا بك هل عملت بك شيئاً؟ لماذا لا تريد أن تقابلني؟ قال: لا. وإنما أنا مقصر وأنا خجلان منك، قلت: لا. كلنا مقصرون تعال اركب معي، فركب وذهب معي في السيارة وأخذته إلى البيت وجلست معه.

قلت له: بلغني أنك تركت الطريق وتنكبته ورجعت عن الإسلام؟ قال: نعم. قلت: الآن أريد أن أناقشك مناقشة جريئة وجادة ولا تجامل، المجاملة لا تصلح في هذا الموضوع، أنت تركت هذا الطريق فإما أن تقنعني أن هذا الطريق غير صحيح وأرجع معك، أو أقنعك أنه طريق صحيح وترجع معي، قال: تفضل، قلت لـه: أسألك بالله هل تركت طريق الالتزام والدين، ورجعت إلى طريق الانسلاخ والكفر؛ لأن طريق الإسلام والالتزام غير صحيح، والطريق الذي أنت فيه الآن صحيح؟ أريد أن ترد من قلبك، قال: من قلبي؟ قلت: نعم. قال: والله إني أعلم من قرارة نفسي أن طريق الدين والالتزام هو الصحيح، وطريق الكفر الذي أنا فيه هو الخطأ.

قلت له: سؤال آخر: هل في الدنيا رجل عاقل يترك الطريق الصحيح ويرجع إلى الطريق الخطأ؟ قال: لا. قلت: إذاً أنت غير عاقل، قال: لا. أنا عاقل لكن أخبرك لماذا تركت الطريق، قلت: لماذا؟ قال: لأن الطريق الصحيح صعب، والطريق الخاطئ بسيط وسهل، قلت: الآن عرفنا النقطة، أمسكنا رأس الحبل الآن.

قلت لـه: أنا معك أن طريق الالتزام وطريق الدين صعب، لكن هل تركت الصعب إلى السهل أم إلى الأصعب، قال: إلى السهل، قلت: لا. أنت مخطئ، تركت الصعب إلى الكارثة وإلى المصيبة والدمار، وإلى الهلاك في الدنيا والآخرة، قال: كيف؟ قلت: أليس غض نظرك عن الحرام صعب؟ قال: نعم. وهذا الذي أتعبني -يقول: بصره أتعبه، كل ساعة وهو يغض بصره مما أدى إلى أن تعب- قلت: لم تركت غض البصر وأطلقت لبصرك العنان للنظر إلى وجوه النساء وقعت في الأصعب؟ قال: ما هو الأصعب؟ قلت: أن يملأ الله عينيك من جمر جهنم، فانتبه الرجل.

قلت: ما هو الأسهل أن تغض عينك وتصبر قليلاً أو يملأها الله جمراً من نار جهنم؟ قال: جمر جهنم أصعب، قلت: الأغنية التي تسمعها الآن، صون سمعك عنها صعب أليس كذلك؟ قال: نعم. قلت: وإذا سمعت الأغاني وقعت في الأصعب؟ قال: لماذا؟ قلت: من استمع إلى مغنٍ أو مغنية صب الله في أذنيه يوم القيامة الرصاص المذاب، هل الأسهل لك أن تصون سمعك عن الأغنية وتعاني معاناة بسيطة، أم أن تغني وتسمع الغناء ويصب الله عليك الرصاص المذاب؟ قال: لا. والله هذه أصعب.

قلت: قيامك لصلاة الفجر صعب أليس كذلك؟ قال: نعم. قلت: القيام أصعب أم أن يرضخ رأسك بالصخر في النار؟ قال: هذه أصعب، قلت: إذًا أنت تركت الصعب إلى ما هو أصعب، أنا معك في أن طريق الاستقامة والدين صعب؛ لأن الصعوبة هذه توصلك إلى الجنة، وضربت له مثالاً قلت: هل الدراسة سهلة أم صعبة؟ قال: صعبة، قلت: نعم. صعبة من كل صورها، صعبة من النهوض مبكراً، أنت خلال الفترة الصيفية تنام إلى الظهر، لكن في الدراسة من الساعة السادسة والنصف وأنت تجمع كتبك وتركب وتذهب، وقد تتأخر فتجد المدير أو المراقب على الباب والعصا بيده، يصيبك واحدة منها على ظهرك، فتهرب منه، وتدخل على المدرس فيقال لك: أين الواجب؟ أين الدرس؟ حصة وامتحانات وبلاء ومشاكل، فيها صعوبة، قال: نعم. فيها صعوبة، قلت: لماذا يصبر الناس على صعوبة الدراسة؟ من أجل تأمين المستقبل، ونحن لماذا نصبر على صعوبة الإسلام وصعوبة الالتزام والدين؟ من أجل تأمين.. مستقبل ستين سنة، ومن أجل تأمين وظيفة وبيت وبعدها قبر. لا. بل من أجل تأمين مستقبل أبدي سرمدي إلى آخر الزمان، في جنة عرضها السماوات والأرض، نؤمن مستقبلنا في الدنيا والآخرة بهذا الالتزام بهذه الصعوبة.

فقلت: يا أخي! أنا معك أن طريق الالتزام والدين صعب، ولكن الأصعب والأهم والكارثة والمصيبة يوم أن تترك هذا الطريق، وتسير في الطريق الخطأ، وبعد ذلك تمشي فيه يعني: معجباً ومخدوعاً بما فيه من اللذات والمتع البسيطة، ثم تقف عند جدار الموت وتنزل وتدخل النار وتقول بعد ذلك كما قال الله عز وجل: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ [المؤمنون:99].

فتقول الملائكة: لماذا تريد أن ترجع؟ فيقول: لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ [المؤمنون:100] فلا تستطيع؛ لديك فرصة واحدة، الآن الطالب المهمل إذا أهمل طوال العام الدراسي ودخل القاعة وسلموا له أوراق الأسئلة فقرأ الأسئلة ولم يستطع أن يجيب على سؤال واحد، فقال للمدير: من فضلك نصف ساعة أخرج خارج القاعة أقرأ الإجابة وأعود، هل يطيعونه؟ هذا مثل ذاك لما دخل القبر قال: يا رب! ردني أعمل صالحاً، قال الله: كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا [المؤمنون:100] يعني: لا تنفعه ولا تغني عنه شيئاً وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:100].

ويقول الله عز وجل: وَلَوْ تَرَى إِذْ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ [السجدة:12] يقولون: رأينا بعيوننا الآن وسمعنا فارجعنا، لكن ما عاد ينفع، ويقول عز وجل أنهم يقولون: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ [فاطر:37] قال الله: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [فاطر:37].

فقلت لـه: يا أخي! إن الخيار الأفضل لك أن تجلس في الصعوبة التي نحن عليها الآن، لا تترك الصعوبة التي نحن فيها فوالله ما هي بصعوبة إنها ليسيرة على من يسرها الله عليه، الرسول صلى الله عليه وسلم سماها صعوبة، قال: (لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير) عظمته في كونه يوصل إلى الجنة، وكونه يسير أن الله يحبب إليك الإيمان، الآن الصعوبة في طريق الالتزام تكون فقط في البدايات، ولكنها بعد مرور الإنسان فيها وسيره وقطعه للطريق تصبح هي حياته، بل يقول عليه الصلاة والسلام في حديث في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه يقول: (ثلاث من كن في قلبه وجد بهن حلاوة الإيمان -من ضمنها-: أن يكره أن يعود إلى الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار).

هذه تمثل قاعدة الثبات المطلق بحيث لو خيِّر بين أن يقطع أو يلقى في النار، وبين أن يكفر ويرجع إلى الردة والكفر لا يرجع، ويختار الموت.

وفي صحيح مسلم قصة المرأة في الأخدود لما أقدمت على النار وهي تضطرم، وولدها في يدها، ترددت إشفاقاً على ولدها، فترك الثدي وقال لها: تقدمي يا أماه! فإنك على الحق، فقدمت على النار وتقطعت في النار واحترقت، هذه قصتي مع هذا الشاب، جاءت من طريق وقوعه في المعصية وسببت له الانتكاس.

وبعد ذلك قال لي: اقتنعت، قلت: ترجع معي الآن، قال: أرجع، قلت: سل الله الثبات، ورجع منذ فترة طويلة وأبشركم أنه الآن من خيار الناس والحمد لله، وأسأل الله لي وله الثبات حتى الممات.


استمع المزيد من الشيخ سعيد بن مسفر - عنوان الحلقة اسٌتمع
كيف تنال محبة الله؟ 2926 استماع
اتق المحارم تكن أعبد الناس 2925 استماع
وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً 2803 استماع
أمن وإيمان 2674 استماع
حال الناس في القبور 2674 استماع
توجيهات للمرأة المسلمة 2602 استماع
فرصة الرجوع إلى الله 2570 استماع
النهر الجاري 2474 استماع
دور رجل الأعمال في الدعوة إلى الله 2465 استماع
مرحباً شهر الصيام 2397 استماع