مداخل الشيطان [2،1]


الحلقة مفرغة

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسعد الله هذه الوجوه الطيبة، وجمعنا الله وإياكم في الدنيا على طاعته وفي الآخرة في دار كرامته ومستقر رحمته، اللهم آمين.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.

وبعد:

أولاً: أشكر شباب هذه البلدة المباركة، الذين وفقهم الله وهداهم إلى الصراط المستقيم، وأدركوا المسئولية الملقاة على عاتقهم تجاه ذويهم وأهليهم، فبادروا إلى مثل هذه الندوات الإيمانية، والجلسات العلمية التي تحيي القلوب، وتبارك النفوس، وترضي الله تبارك وتعالى، وهذا من توفيق الله عز وجل لهم ولأهل هذه المنطقة الذين أحسبهم صالحين يستحقون مثل هذا الخير وهذا الفضل، فإن النعمة الكبرى على الناس ليست نعمة الأكل والشرب، ولا نعمة المال والوظائف، والسيارات، هذه نعم لكنها نعم تزول، إن النعمة الكبرى هي نعمة الإيمان، نعمة الدين، فمن أوتي الدين فقد أنعم الله عليه بأعظم نعمة على وجه الأرض، يقول الله عز وجل: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [المائدة:3] أي: ديني، ويقول عز وجل: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ [الفتح:1-2] أي: دينه، فليس بمنعم على من يتقلب في النعم المادية وهو عدو لله عز وجل، ليس بُمنعم عليه من يتوعده الله بأن يسجنه في نار جهنم إذا مات وهو على طريق الشيطان، هذا ليس في نعمة، ولهذا يقول الله عز وجل للرسول صلى الله عليه وسلم: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ [التوبة:55] لا تتصور أن من عنده مال وأولاد وبيوت ومساكن ومؤسسات ومزارع ولكنه بعيد عن الله، وعدو لله؛ هاجرٌ لكتاب الله .. هاجرٌ لبيوت الله .. قاطعٌ لرحمه .. عاقٌ لوالديه والعياذ بالله .. سبَّاب .. شتَّام .. مغتاب .. نمام .. شاهد زور .. حالف فجور .. عدو لله.. لا تجده في موقع إلا وهو في الشر، وعنده ثراء ونعمة ولكنها ملغمة بسم، متى تنفجر؟ يوم أن يموت، وإذا بها تقطعه قطعة قطعة في جهنم، فيتمنى أنه ما عرف هذه النعم، يقول الله تعالى: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة:55].

فالنعمة الحقيقية -أيها الإخوة في الله- في مثل هذه المجالس، ووالله! للحظة يقضيها الإنسان في هذه الندوات، وساعة يقضيها في هذه الأماكن خير من الدنيا وما عليها وسوف يموت، وسوف يجد يوم القيامة الساعات والدقائق مسجلة، إما في ديوان الحسنات وإما في ديوان السيئات، ويتمنى أنه قضى كل حياته في مثل هذه المجالس، فهنيئاً لكم، وبارك الله فيكم، وبارك الله في شبابكم، ونطلب منكم المزيد، ونطلب منكم العون والتأييد، والدعم والجلوس معهم؛ لأنهم إذا وجدوا الإقبال ووجدوا الانصباب والانكباب على العلم استطاعوا أن يذهبوا إلى العلماء، وإلى الدعاة، وأن يجلبوهم لكم، فهم أطباء القلوب.

لكن إذا رأوا الإعراض، فيأتي الداعية أو العالم ولا يجد أحداً .. من يكلم؟! يقول: كفى..الله المستعان! وهنا تحصل النكبة، ويحصل الدمار والإعراض عن الله، ومن أعرض عنه الله عز وجل دمره الله في الدنيا والآخرة، ومن أقبل على الله بقلبه وقالبه، فإن الله عز وجل يبارك له في حياته وماله، ورزقه وأولاده، وزوجاته .. وفي كل شئونه.

حال المقبل على الدنيا المعرض عن الآخرة

قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أصبح والدنيا همه) ككثير من الناس، ينسى الموت وينسى الآخرة، وكأنه لن يموت؛ قلبه مفتوح على مصراعيه للدنيا والعياذ بالله، (من أصبح والدنيا همه، فرق الله عليه شمله) فالعمل الواحد يصبح مائة عمل، أي: بدل أن يجمعها ربي يفرقها، ولا تتجمع في أي حالة من الأحوال (فرق الله عليه شمله، وجعل فقره بين عينيه) ولا يرى إلا الفقر ولو كان معه عشرون مليوناً، فالملايين في البنك لكن الفقر أمام عينيه، فكلما تلفت إذا بالفقر بين عينيه والعياذ بالله! فيطرد ولا يلحق، مثل شارب البحر: كلما ازداد شربه ازداد عطشه والعياذ بالله، حتى لو أتيت تسأله وهو ثري وغني وفي خير، كيف أنت؟ كيف الأمور؟ قال: والله! الأمور صعبة هذه الأيام، الأمور تعبانة، والميزانية متدهورة، والسيولة النقدية غير متوفرة، والأزمات قائمة، والعياذ بالله! كأنه لا يملك ريالاً .. لماذا؟! الفقر بين عينيه؛ الأموال وراء ظهره والفقر بين عينيه، فلا يرى إلا الفقر، فقير حتى على نفسه، فقير حتى على أولاده، وجماعته، ما منه خير والعياذ بالله! (جعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له)؛ المكتوب له لا بد أن يأتي ولا يحول دونه أحد.

ثم يقول عليه الصلاة والسلام: (ومن أصبح والآخرة همه)؛ أصبح وهو يفكر في يوم الآخرة: يفكر في القبر وضغطته، واللحد وظلمته، والصراط وحِدَّته، والموقف وشدته .. يفكر في عمله .. يفكر في صلاته .. وقراءته للقرآن، ورضا والديه عليه؛ هل أصبحا يدعوان له أم يدعوان عليه .. يفكر في رحمه؛ هل أصبحت رحمه راضية عنه فهي تدعو له؛ كلما ذكرته قالت: مدَّ الله في أجله، الله يوفقه، الله يوسع له في رزقه، أم أنها تقطعه وهو يقطعها وهي تدعو عليه؛ تقول: الله يقطعه كما قطعني، ألهب الله عظامه .. فكثير من الناس موجه ظهره إلى الدنيا .. بل قامت العداوة بينه وبين جميع أقاربه وأرحامه من أجل الدنيا، والعياذ بالله! وتسبب في نكبة نفسه بلعنة الله وسخطه في الدنيا والآخرة .. فيفكر المؤمن في هذا .. وبعد ذلك يصحح الغلطات، كلما رأى في نفسه قصوراً أو خللاً تاب واستغفر ورجع وأصلح حاله مع الله عز وجل.

(ومن أصبح والآخرة همه جمع الله له شمله) أي: يسر الله أموره، كلما أراد شيئاً إذا به يتيسر؛ إن جاء ليراجع تسهلت، وإن جاء ليشتري اتسعت، وإذا أراد أي شيء إذا به ميسر؛ يرى اليسر في كل طريق؛ لأن الله يسر له الموقف (جمع الله له شمله، وجعل غناه في قلبه) وليس فقره بين عينيه؛ غناه في قلبه ولو كان فقيراً تجده غنياً، لو لم يكن عنده شيء، كيف أنت؟ قال: الحمد لله؛ في ألف نعمة، أبشرك،.. آمنين .. سالمين .. آكلين .. شاربين .. راكبين .. ساكنين .. مستورين، من هو الذي في مثل نعمتنا في هذا الزمان، كيف كنا نتمنى قبل خمسين سنة، لو أتينا بالآباء والأجداد وقلنا لهم: تمنوا النعم كلها، لانتهت بهم الأماني دون أن يبلغوا ما نحن فيه من النعم، من كان يحلم أننا نعيش فيما نحن فيه اليوم، تغير كل شيء في حياتنا: تغيرت المساكن، والملابس، والمآكل والمشارب والمراكب والأواني، وتغير كل شيء .. هل بقي شي من الماضي في بيوتنا الآن؟ ما بقي شيء، أين هي؟ في المتاحف والآثار، إذا دخلت الآثار، يقولون: هذه آثار الماضي، وما هي؟ الملحف والنطع، والجاعد، والجلة، والفنجان الحيسي، والبرمة، والقدر ذاك، كل هذه آثار، آثار من؟ قال: هذه من العصور القديمة، وما عرف أنها من قبل ثلاثين سنة.

أبي وأبوك وجدي وجدك عاشوا عليها وغير الله حالتنا كلها؛ تدخل على الرجل الآن في بيته فتجد المفارش والملابس والأشياء التي لم يحلم بها، يقول الواحد منا: أنا في الدنيا أم في الجنة؟ كان الناس في الماضي إذا جاء مطر وجاءت السيول، يخافون من المطر في الليل؛ لأنهم يخشون من (الغادي) من يستطيع أن يصعد ليسد تسرب الماء من السقف في الليل، فيتجمعون ويضعون الأواني تحت هذا (الغادي) كأس هنا، وتحت ذاك صحن، وتحت ذاك قدر، وتحت ذاك فنجال، وتبدأ النواقيط، طن .. طن .. تسمعها مثل الموسيقى طوال الليل، وأحياناً لا يبقى في البيت مكان، فيتجمعون في زاوية أو في ركن أو في (الريشة)، ويضعون عليهم (نطعاً) أو ملحفاً حتى لا يأتيهم (الغادي).

واليوم .. من هو الذي لا يفرح بالمطر في الليل؟ وبيوتنا مسلح، لو يهطل بالليل والنهار لا نشعر به.

وسياراتنا .. وجميع نعمنا، هذه نعم! فإذا أصبح الإنسان فيها آمناً وشعر بنعمة الله، وقيل له: كيف أنت؟ قال: الحمد لله، أنا في نعمة ما بعدها نعمة، قال عليه الصلاة والسلام: (وجعل غناه في قلبه).

توفر الدروس الوعظية نعمة وحجة

فأنتم أيها الإخوة! في جميع النعم؛ النعم المادية، والنعم الدينية؛ المادية هي ما تعرفون، والدينية هي هذه الندوة، هذه الجلسة، لا يوجد في كل قرى عسير وشهران وقحطان مثل هذا الدرس، ففي المدن نعم؛ في أبها والخميس، لكن البلدان الأخرى لا يوجد، ويسر الله لكم من أبنائكم من يأتون ويطلبون من العلماء، ووالله لقد خجلت كثيراً من كثرة إلحاحهم عليّ حتى خفت من الله، وأنا لا أرفض المجيء لأني مستغن عن الله؛ ولكن لأني مشغول ومرتبط كثيراً، حتى إن صوتي انقطع في بعض الظروف، ولكن من خجلي من هؤلاء الشباب وهم يأتون، كأنه يطلبني صدقة! يلح عليّ يقول: اتق الله، اتق الله، لابد أن تأتي .. فأخجل وآتي، وأقول: بارك الله في هؤلاء الشباب، وجزاهم الله عنا وعنكم وعن الإسلام خيراً، ونسأل الله أن يزيدهم؛ لأنهم نور، هؤلاء أنوار في قريتكم، والنور ما يسير بعده إلا النور.

لكن ما ظنكم لو أن هؤلاء الشباب في المخدرات، أو في الزنا والخمور واللواط وفي الشرور، وجلبوا عليكم الشر والفساد، وأصبح الواحد في المجلس إذا جلس لا يريد أن يقال له: يا أبا فلان، لماذا؟ لأن فلاناً في السجن والمخدرات أو خمار، أو زاني، أو قليل دين، والآن كثير منكم يفرح إذا كان في المجلس، وقالوا: يا أبا فلان، قال: نعم. لماذا؟ لأن ولده كان على المنبر يخطب، ويدعو إلى الله، يبشر بدين الله، ما من هداية تحصل على يد هذا الولد إلا وكما هي في ديوان ولده فهي في ديوان أبيه مثله، لماذا؟ لأنه سبب فيه وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم:39] قال العلماء: إن الولد من سعي أبيه، وإن جميع حسنات الولد مثلها لأبيه إذا رباه على الدين، فلتفرحوا بهذا الخير، ولتؤيدوهم وتناصروهم وتأتون، ماذا يوجد من المغرب إلى العشاء؟ ماذا نعمل في البيوت إذا لم نأت؟ بعض الناس يقول: أقعد من المغرب إلى العشاء؟! وأين تذهب، إذا لم تجلس هنا أين تذهب؟ ما الذي يشغلك؟ لقد أراحك الله يا أخي!

كان الناس في الماضي فعلاً لا يدخلون بيوتهم بعد المغرب إلا وقد تكسروا؛ الذي يرعى من وقت شروق الشمس إلى غروبها، أو على البئر من شروق الشمس إلى غروبها، أو يقطع أو يحطب، والآن ماذا معك من شغل؟ نائم من وقت شروق الشمس إلى غروبها، وإذا كنت موظفاً تأتيك النقود من الدولة وأنت جالس على كرسي، إذا تعبت وقعت وانصرفت. بعض الناس يقول: متعب، من ماذا؟! قال: من التوقيع، أو من كتابة معاملة، ويلف الورق ويضعها فوق بعضها، وبعضهم ريحه الله بأولاد صالحين وموظفين وليس عنده وظيفة فيأتونه بالخيرات وهو راقد، لا يرعى ولا يعمر ولا أي شيء؛ بل جالس، لماذا لا تستغل هذه النعمة؟ وإذا رأيت أنه يوجد درس مثل هذا الدرس وكان حتى في القرية الثانية فاذهب إليه، فكيف وقد جاء الله به إليك وأنت تترك ولا تأتي، هذا إعراض يا إخواني! الذي لا يأتي إلى مجالس الذكر خصوصاً مجلس الذكر في القرية فهو معرض، يجب أن تخصص هذا اليوم؛ ليلة الأحد من كل أسبوع لله، لا تعزم فيها ولا تنعزم، ولا تسافر فيها، ولو أن أحداً عزمك فقل له: معزوم، عند من؟ عند رب العزة والجلال، عند رب السماوات والأرض.

إذا أردت أن تعزم أحداً، لا والله! إن كنتم ستأتون فلتأتوا بعد العشاء؛ لأن عندنا ندوة، وإذا ربطت نفسك ببيت الله وبالذكر خلال حياتك -كل أسبوع تأتي هنا لتسمع- فاعلم بأن هذه حياة قلبك بإذن الله، لكن إذا أعرضت عن الله: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا [طه:124-126] أتتك آيتنا إلى قريتك، وجئناك بالعلماء من كل وادٍ ومن كل مدينة، شرفوهم طلابكم ثم تركتم المجيء، ما ظنكم لو جاء أمر في ليلة الإثنين أن من حضر الندوة يصرف له بعدها مائة ريال، هل أحد يترك ولا يأتي؟! والله إنهم سيأتون من العصر، والذي لا يستطيع فسيأتي بالعصا، كل يدق الثاني: أنا الأول ..أنا الأول .. لماذا؟ لأن الصرف بالصف الأول؛ مائة ريال.

لكن ليس فيها مائة ريال، هل تدرون ماذا يوجد في هذه الجلسة؟ أعطيكم حديثاً في البخاري ، يقول عليه الصلاة والسلام: (إن لله ملائكة سيارة -أي: متجولة، تطوف حلق الذكر، أي: مهمتها البحث عن أماكن الذكر- فإذا وجدوا قوماً يذكرون الله -مثل جلستكم هذه- حفوهم إلى عنان السماء، ثم يصعدون إلى الله عز وجل فيسألهم الله وهو أعلم: كيف وجدتم عبادي؟ قالوا: وجدناهم يذكرونك ويسبحونك ويهللونك ويحمدونك، فيقول الله: ما وجدتموهم يسألونني؟ قالوا: يسألونك الجنة) نسأل الله وإياكم الجنة، والآن، ماذا تريدون في هذا المجلس؟ ما تريدون إلا رضا الله، من الذي قادكم بالعصا، أو أخذكم بالقوة، ومن الذي سيعطيكم نقوداً بعد هذه الجلسة؟ ما جئتم إلا لله، وعملكم بإذن الله خالص لوجه الله، ترجون رحمة الله وتخشون عذابه، كل منكم يقول: اللهم إني أسألك الجنة وأعوذ بك من النار. (فيقول الله: وهل رأوا الجنة؟ قالوا: لا، ما رأوها، قال: كيف لو رأوها؟ قالوا: لكانوا لها أشد طلباً وفيها رغبة، فقال الله: فما وجدتموهم يستعيذون بي، قالوا: وجدناهم يستعيذون بك من النار، فيقول الله: وهل رأوها؟ -هل رأوا النار وما فيها من الأغلال والأنكال والسلاسل والحميم والسموم واليحموم- هل رأوا ما بها من العذاب؟ قالوا: لا، قال: فكيف لو رأوها؟ قالوا: لازدادوا منها هرباً ولها خوفاً، قال الله عز وجل: أشهدكم أني قد غفرت لهم) اللهم إني أسألك من فضلك في هذه الساعة أن تغفر لنا ذنوبنا وذنوب آبائنا وأمهاتنا، وإخواننا وأخواتنا، وجميع المسلمين.

يا إخواني: إن الله لا يعجزه شيء؛ الله كريم وفضله عظيم .. الله عز وجل يقول في الحديث القدسي: (لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فطلبوني فأعطيت كل واحد مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر) إذا أدخلت الإبرة في البحر وأخرجتها كم ينقص البحر؟ أينقص شيء؟ هل يدري البحر أنك أخرجت الإبرة؟ اذهب من طرفه وانظر ما نقص هذا البحر .. إن خزائن رحمة الله واسعة! فنحن إذا طلبنا الله عز وجل في مجلس يقول الله عز وجل -والحديث في صحيح البخاري : (أشهدكم أني قد غفرت لهم، قال أحد الملائكة: رب! فيهم فلان بن فلان كثير الذنوب والمعاصي -ليس منهم؛ ليس من الصالحين والذاكرين لله- ولكن مر لحاجة فجلس، عرض قلبه لذكر الله- قال: رب! فيهم عبدك الفلاني ليس منهم، ولكن أتى لحاجة فجلس، قال الله عز وجل: وله غفرت، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم) حتى هذا الذي ليس من أهل الذكر، لكن لما لان قلبه لذكر الله وجلس غفر الله له، فهنيئاً لكم، وأرجو الله تبارك وتعالى أن يوفقكم للمحافظة والمداومة وأن يوفق شبابكم للمداومة ولو لم يجلس معهم أحد، ليس ضرورياً أن يمتلئ المسجد، حتى لا يقول أحد: ما جاء أحد، اجلس ولو لم يجلس معك إلا الأربعة العمدان هذه، اجلس واذكر الله في هذه الليلة، لو لم تكونوا إلا أربعة أو خمسة من الشباب، افتحوا كتاب رياض الصالحين ، وتفسير ابن كثير ، وصحيح البخاري ، أو اقرءوا من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وكتب الفقه الإسلامي، تعلموا أمور دينكم ليلة في الأسبوع من بعد المغرب إلى العشاء، هذه ساعة تضيع على أكثر الناس، وكثير من الناس يضيعها في غير مصلحة؛ إما في كلام، أو علوم، أو جلسة، أو منادمة مع المرأة، أو عشاء، أو مشاهدة ما لا يرضي الله، أو سماع شيء مما لا يرضي الله .. لكن ساعة تقضيها في بيت من بيوت الله، وتخرج وقد غفر الله ذنبك، ورفع درجتك، وأعلى منزلتك خير لك من الدنيا وما فيها، هذه مقدمة.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أصبح والدنيا همه) ككثير من الناس، ينسى الموت وينسى الآخرة، وكأنه لن يموت؛ قلبه مفتوح على مصراعيه للدنيا والعياذ بالله، (من أصبح والدنيا همه، فرق الله عليه شمله) فالعمل الواحد يصبح مائة عمل، أي: بدل أن يجمعها ربي يفرقها، ولا تتجمع في أي حالة من الأحوال (فرق الله عليه شمله، وجعل فقره بين عينيه) ولا يرى إلا الفقر ولو كان معه عشرون مليوناً، فالملايين في البنك لكن الفقر أمام عينيه، فكلما تلفت إذا بالفقر بين عينيه والعياذ بالله! فيطرد ولا يلحق، مثل شارب البحر: كلما ازداد شربه ازداد عطشه والعياذ بالله، حتى لو أتيت تسأله وهو ثري وغني وفي خير، كيف أنت؟ كيف الأمور؟ قال: والله! الأمور صعبة هذه الأيام، الأمور تعبانة، والميزانية متدهورة، والسيولة النقدية غير متوفرة، والأزمات قائمة، والعياذ بالله! كأنه لا يملك ريالاً .. لماذا؟! الفقر بين عينيه؛ الأموال وراء ظهره والفقر بين عينيه، فلا يرى إلا الفقر، فقير حتى على نفسه، فقير حتى على أولاده، وجماعته، ما منه خير والعياذ بالله! (جعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له)؛ المكتوب له لا بد أن يأتي ولا يحول دونه أحد.

ثم يقول عليه الصلاة والسلام: (ومن أصبح والآخرة همه)؛ أصبح وهو يفكر في يوم الآخرة: يفكر في القبر وضغطته، واللحد وظلمته، والصراط وحِدَّته، والموقف وشدته .. يفكر في عمله .. يفكر في صلاته .. وقراءته للقرآن، ورضا والديه عليه؛ هل أصبحا يدعوان له أم يدعوان عليه .. يفكر في رحمه؛ هل أصبحت رحمه راضية عنه فهي تدعو له؛ كلما ذكرته قالت: مدَّ الله في أجله، الله يوفقه، الله يوسع له في رزقه، أم أنها تقطعه وهو يقطعها وهي تدعو عليه؛ تقول: الله يقطعه كما قطعني، ألهب الله عظامه .. فكثير من الناس موجه ظهره إلى الدنيا .. بل قامت العداوة بينه وبين جميع أقاربه وأرحامه من أجل الدنيا، والعياذ بالله! وتسبب في نكبة نفسه بلعنة الله وسخطه في الدنيا والآخرة .. فيفكر المؤمن في هذا .. وبعد ذلك يصحح الغلطات، كلما رأى في نفسه قصوراً أو خللاً تاب واستغفر ورجع وأصلح حاله مع الله عز وجل.

(ومن أصبح والآخرة همه جمع الله له شمله) أي: يسر الله أموره، كلما أراد شيئاً إذا به يتيسر؛ إن جاء ليراجع تسهلت، وإن جاء ليشتري اتسعت، وإذا أراد أي شيء إذا به ميسر؛ يرى اليسر في كل طريق؛ لأن الله يسر له الموقف (جمع الله له شمله، وجعل غناه في قلبه) وليس فقره بين عينيه؛ غناه في قلبه ولو كان فقيراً تجده غنياً، لو لم يكن عنده شيء، كيف أنت؟ قال: الحمد لله؛ في ألف نعمة، أبشرك،.. آمنين .. سالمين .. آكلين .. شاربين .. راكبين .. ساكنين .. مستورين، من هو الذي في مثل نعمتنا في هذا الزمان، كيف كنا نتمنى قبل خمسين سنة، لو أتينا بالآباء والأجداد وقلنا لهم: تمنوا النعم كلها، لانتهت بهم الأماني دون أن يبلغوا ما نحن فيه من النعم، من كان يحلم أننا نعيش فيما نحن فيه اليوم، تغير كل شيء في حياتنا: تغيرت المساكن، والملابس، والمآكل والمشارب والمراكب والأواني، وتغير كل شيء .. هل بقي شي من الماضي في بيوتنا الآن؟ ما بقي شيء، أين هي؟ في المتاحف والآثار، إذا دخلت الآثار، يقولون: هذه آثار الماضي، وما هي؟ الملحف والنطع، والجاعد، والجلة، والفنجان الحيسي، والبرمة، والقدر ذاك، كل هذه آثار، آثار من؟ قال: هذه من العصور القديمة، وما عرف أنها من قبل ثلاثين سنة.

أبي وأبوك وجدي وجدك عاشوا عليها وغير الله حالتنا كلها؛ تدخل على الرجل الآن في بيته فتجد المفارش والملابس والأشياء التي لم يحلم بها، يقول الواحد منا: أنا في الدنيا أم في الجنة؟ كان الناس في الماضي إذا جاء مطر وجاءت السيول، يخافون من المطر في الليل؛ لأنهم يخشون من (الغادي) من يستطيع أن يصعد ليسد تسرب الماء من السقف في الليل، فيتجمعون ويضعون الأواني تحت هذا (الغادي) كأس هنا، وتحت ذاك صحن، وتحت ذاك قدر، وتحت ذاك فنجال، وتبدأ النواقيط، طن .. طن .. تسمعها مثل الموسيقى طوال الليل، وأحياناً لا يبقى في البيت مكان، فيتجمعون في زاوية أو في ركن أو في (الريشة)، ويضعون عليهم (نطعاً) أو ملحفاً حتى لا يأتيهم (الغادي).

واليوم .. من هو الذي لا يفرح بالمطر في الليل؟ وبيوتنا مسلح، لو يهطل بالليل والنهار لا نشعر به.

وسياراتنا .. وجميع نعمنا، هذه نعم! فإذا أصبح الإنسان فيها آمناً وشعر بنعمة الله، وقيل له: كيف أنت؟ قال: الحمد لله، أنا في نعمة ما بعدها نعمة، قال عليه الصلاة والسلام: (وجعل غناه في قلبه).

فأنتم أيها الإخوة! في جميع النعم؛ النعم المادية، والنعم الدينية؛ المادية هي ما تعرفون، والدينية هي هذه الندوة، هذه الجلسة، لا يوجد في كل قرى عسير وشهران وقحطان مثل هذا الدرس، ففي المدن نعم؛ في أبها والخميس، لكن البلدان الأخرى لا يوجد، ويسر الله لكم من أبنائكم من يأتون ويطلبون من العلماء، ووالله لقد خجلت كثيراً من كثرة إلحاحهم عليّ حتى خفت من الله، وأنا لا أرفض المجيء لأني مستغن عن الله؛ ولكن لأني مشغول ومرتبط كثيراً، حتى إن صوتي انقطع في بعض الظروف، ولكن من خجلي من هؤلاء الشباب وهم يأتون، كأنه يطلبني صدقة! يلح عليّ يقول: اتق الله، اتق الله، لابد أن تأتي .. فأخجل وآتي، وأقول: بارك الله في هؤلاء الشباب، وجزاهم الله عنا وعنكم وعن الإسلام خيراً، ونسأل الله أن يزيدهم؛ لأنهم نور، هؤلاء أنوار في قريتكم، والنور ما يسير بعده إلا النور.

لكن ما ظنكم لو أن هؤلاء الشباب في المخدرات، أو في الزنا والخمور واللواط وفي الشرور، وجلبوا عليكم الشر والفساد، وأصبح الواحد في المجلس إذا جلس لا يريد أن يقال له: يا أبا فلان، لماذا؟ لأن فلاناً في السجن والمخدرات أو خمار، أو زاني، أو قليل دين، والآن كثير منكم يفرح إذا كان في المجلس، وقالوا: يا أبا فلان، قال: نعم. لماذا؟ لأن ولده كان على المنبر يخطب، ويدعو إلى الله، يبشر بدين الله، ما من هداية تحصل على يد هذا الولد إلا وكما هي في ديوان ولده فهي في ديوان أبيه مثله، لماذا؟ لأنه سبب فيه وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم:39] قال العلماء: إن الولد من سعي أبيه، وإن جميع حسنات الولد مثلها لأبيه إذا رباه على الدين، فلتفرحوا بهذا الخير، ولتؤيدوهم وتناصروهم وتأتون، ماذا يوجد من المغرب إلى العشاء؟ ماذا نعمل في البيوت إذا لم نأت؟ بعض الناس يقول: أقعد من المغرب إلى العشاء؟! وأين تذهب، إذا لم تجلس هنا أين تذهب؟ ما الذي يشغلك؟ لقد أراحك الله يا أخي!

كان الناس في الماضي فعلاً لا يدخلون بيوتهم بعد المغرب إلا وقد تكسروا؛ الذي يرعى من وقت شروق الشمس إلى غروبها، أو على البئر من شروق الشمس إلى غروبها، أو يقطع أو يحطب، والآن ماذا معك من شغل؟ نائم من وقت شروق الشمس إلى غروبها، وإذا كنت موظفاً تأتيك النقود من الدولة وأنت جالس على كرسي، إذا تعبت وقعت وانصرفت. بعض الناس يقول: متعب، من ماذا؟! قال: من التوقيع، أو من كتابة معاملة، ويلف الورق ويضعها فوق بعضها، وبعضهم ريحه الله بأولاد صالحين وموظفين وليس عنده وظيفة فيأتونه بالخيرات وهو راقد، لا يرعى ولا يعمر ولا أي شيء؛ بل جالس، لماذا لا تستغل هذه النعمة؟ وإذا رأيت أنه يوجد درس مثل هذا الدرس وكان حتى في القرية الثانية فاذهب إليه، فكيف وقد جاء الله به إليك وأنت تترك ولا تأتي، هذا إعراض يا إخواني! الذي لا يأتي إلى مجالس الذكر خصوصاً مجلس الذكر في القرية فهو معرض، يجب أن تخصص هذا اليوم؛ ليلة الأحد من كل أسبوع لله، لا تعزم فيها ولا تنعزم، ولا تسافر فيها، ولو أن أحداً عزمك فقل له: معزوم، عند من؟ عند رب العزة والجلال، عند رب السماوات والأرض.

إذا أردت أن تعزم أحداً، لا والله! إن كنتم ستأتون فلتأتوا بعد العشاء؛ لأن عندنا ندوة، وإذا ربطت نفسك ببيت الله وبالذكر خلال حياتك -كل أسبوع تأتي هنا لتسمع- فاعلم بأن هذه حياة قلبك بإذن الله، لكن إذا أعرضت عن الله: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا [طه:124-126] أتتك آيتنا إلى قريتك، وجئناك بالعلماء من كل وادٍ ومن كل مدينة، شرفوهم طلابكم ثم تركتم المجيء، ما ظنكم لو جاء أمر في ليلة الإثنين أن من حضر الندوة يصرف له بعدها مائة ريال، هل أحد يترك ولا يأتي؟! والله إنهم سيأتون من العصر، والذي لا يستطيع فسيأتي بالعصا، كل يدق الثاني: أنا الأول ..أنا الأول .. لماذا؟ لأن الصرف بالصف الأول؛ مائة ريال.

لكن ليس فيها مائة ريال، هل تدرون ماذا يوجد في هذه الجلسة؟ أعطيكم حديثاً في البخاري ، يقول عليه الصلاة والسلام: (إن لله ملائكة سيارة -أي: متجولة، تطوف حلق الذكر، أي: مهمتها البحث عن أماكن الذكر- فإذا وجدوا قوماً يذكرون الله -مثل جلستكم هذه- حفوهم إلى عنان السماء، ثم يصعدون إلى الله عز وجل فيسألهم الله وهو أعلم: كيف وجدتم عبادي؟ قالوا: وجدناهم يذكرونك ويسبحونك ويهللونك ويحمدونك، فيقول الله: ما وجدتموهم يسألونني؟ قالوا: يسألونك الجنة) نسأل الله وإياكم الجنة، والآن، ماذا تريدون في هذا المجلس؟ ما تريدون إلا رضا الله، من الذي قادكم بالعصا، أو أخذكم بالقوة، ومن الذي سيعطيكم نقوداً بعد هذه الجلسة؟ ما جئتم إلا لله، وعملكم بإذن الله خالص لوجه الله، ترجون رحمة الله وتخشون عذابه، كل منكم يقول: اللهم إني أسألك الجنة وأعوذ بك من النار. (فيقول الله: وهل رأوا الجنة؟ قالوا: لا، ما رأوها، قال: كيف لو رأوها؟ قالوا: لكانوا لها أشد طلباً وفيها رغبة، فقال الله: فما وجدتموهم يستعيذون بي، قالوا: وجدناهم يستعيذون بك من النار، فيقول الله: وهل رأوها؟ -هل رأوا النار وما فيها من الأغلال والأنكال والسلاسل والحميم والسموم واليحموم- هل رأوا ما بها من العذاب؟ قالوا: لا، قال: فكيف لو رأوها؟ قالوا: لازدادوا منها هرباً ولها خوفاً، قال الله عز وجل: أشهدكم أني قد غفرت لهم) اللهم إني أسألك من فضلك في هذه الساعة أن تغفر لنا ذنوبنا وذنوب آبائنا وأمهاتنا، وإخواننا وأخواتنا، وجميع المسلمين.

يا إخواني: إن الله لا يعجزه شيء؛ الله كريم وفضله عظيم .. الله عز وجل يقول في الحديث القدسي: (لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فطلبوني فأعطيت كل واحد مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر) إذا أدخلت الإبرة في البحر وأخرجتها كم ينقص البحر؟ أينقص شيء؟ هل يدري البحر أنك أخرجت الإبرة؟ اذهب من طرفه وانظر ما نقص هذا البحر .. إن خزائن رحمة الله واسعة! فنحن إذا طلبنا الله عز وجل في مجلس يقول الله عز وجل -والحديث في صحيح البخاري : (أشهدكم أني قد غفرت لهم، قال أحد الملائكة: رب! فيهم فلان بن فلان كثير الذنوب والمعاصي -ليس منهم؛ ليس من الصالحين والذاكرين لله- ولكن مر لحاجة فجلس، عرض قلبه لذكر الله- قال: رب! فيهم عبدك الفلاني ليس منهم، ولكن أتى لحاجة فجلس، قال الله عز وجل: وله غفرت، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم) حتى هذا الذي ليس من أهل الذكر، لكن لما لان قلبه لذكر الله وجلس غفر الله له، فهنيئاً لكم، وأرجو الله تبارك وتعالى أن يوفقكم للمحافظة والمداومة وأن يوفق شبابكم للمداومة ولو لم يجلس معهم أحد، ليس ضرورياً أن يمتلئ المسجد، حتى لا يقول أحد: ما جاء أحد، اجلس ولو لم يجلس معك إلا الأربعة العمدان هذه، اجلس واذكر الله في هذه الليلة، لو لم تكونوا إلا أربعة أو خمسة من الشباب، افتحوا كتاب رياض الصالحين ، وتفسير ابن كثير ، وصحيح البخاري ، أو اقرءوا من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وكتب الفقه الإسلامي، تعلموا أمور دينكم ليلة في الأسبوع من بعد المغرب إلى العشاء، هذه ساعة تضيع على أكثر الناس، وكثير من الناس يضيعها في غير مصلحة؛ إما في كلام، أو علوم، أو جلسة، أو منادمة مع المرأة، أو عشاء، أو مشاهدة ما لا يرضي الله، أو سماع شيء مما لا يرضي الله .. لكن ساعة تقضيها في بيت من بيوت الله، وتخرج وقد غفر الله ذنبك، ورفع درجتك، وأعلى منزلتك خير لك من الدنيا وما فيها، هذه مقدمة.

أما موضوع المحاضرة فهو بعنوان: (مداخل الشيطان) نعوذ بالله جميعاً من الشيطان.

الشيطان العدو اللدود لهذا الإنسان، والعداوة قديمة قدم التاريخ، ضاربة في جذور الزمن، فمنذ بدء الخليقة حصلت العداوة بين الشيطان وبين أبينا آدم، وهي معركة ضارية، قامت وستستمر إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، وهناك تنتهي، فريق في الجنة وفريق في السعير، هذه العداوة بدأت بدافع الحقد والحسد والاستكبار والإباء، وهي من أمراض إبليس. لما خلق الله آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، اعتبر إبليس هذا تكريماً أكثر من اللازم، ونظر إلى عنصره ومادة تكوينه فوجد بعقله المقلوب أنه أحسن حالاً من آدم، فرفض السجود، قال الله عز وجل حينما قال للملائكة: إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ [ص:71-72] قال الله: فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ [ص:73].

امتثال الملائكة لأمر الله

إن الملائكة لا تعصي الله؛ الملائكة الغلاظ الشداد لا يعصون الله ما أمرهم، يقول عليه الصلاة والسلام والحديث في صحيح الجامع : (أذن لي أن أتحدث عن ملك من حملة العرش ما بين شحمة أذنه وعاتقه مسيرة سبعمائة عام) هذه رقبته، يا أيها الإنسان! وتعصي ربك، وهذا من حملة العرش: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ [الحاقة:17] رقبته مسيرة سبعمائة عام، وفي بعض ألفاظ الحديث: (خفق الطير) أي: سرعة الطير، لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ [التحريم:6] وإسرافيل؛ نافخ الصور، يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (كيف أنعم وصاحب الصور قد التقم الصور، وأصغى ليتاً) أي: أنصت بأذنيه لأمر الله، رجلاه تحت تخوم الأرض السابعة، وركبتاه في السماء السابعة، ورقبته ملوية تحت العرش، والعرش على كاهله.

جبريل عليه السلام له ستمائة جناح، لما أوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (فرد اثنين من أجنحته فسد ما بين الخافقين) ما بين المشرق والمغرب، اثنين! وكم بقي؟ خمسمائة وثمانية وتسعون جناحاً، أرسل الله جبريل مع الملائكة على قوم لوط، الذين كانوا يعملون باللوطية، وهو أن يأتي الذكر الذكر، وهذه معصية ما عملها أحد من العالمين إلا قوم لوط ومن سار على شاكلتهم، حتى الحمير والكلاب والقردة والخنازير لا تعملها؛ ما رأينا كلباً يركب كلباً، ولا حماراً يركب حماراً، ولا خنزيراً يركب خنزيراً، لكن سمعنا أن هناك من البشر من هو ألعن من الخنازير والكلاب والقردة والحمير، يركب الرجل الرجل، فعذب الله هذه الأمة بأن أرسل عليهم جبريل، قال: فغرس جناحه إلى أن بلغ تخوم الأرض ثم قلبها عليهم وكانوا أربع مدن، في كل مدينة أربعمائة ألف نسمة، وما هو بقليل، أربعمائة ألف نسمة؛ نصف مليون إلا قليلاً، قال: ثم حملهم على جناحه، جبالهم وزروعهم وثمارهم ودوابهم وبيوتهم وذكورهم وإناثهم، كلهم سواء، إلى أن سمعت الملائكة في السماء عواء الكلاب ونواء القطط! رفعهم إلى السماء، ثم قلبها عليهم، قال الله عز وجل: فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [هود:82-83] هذا جبريل، ملك من الملائكة، وهذا خلقه وهذا شأنه وهذا تكوين الله لخلقته، يطيعه ولا يعصيه.

وكذلك كل الملائكة، قال الله تعالى: فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ [ص:74] ولهذا فالعاصي قدوته إبليس، أتريد أن تكون كإبليس؟ أتريد أن تكون شيطاناً رجيماً ولا تكون من الملائكة؟ تخلَّق بأخلاق الملائكة وأطع الله ولا تعصه، فلا يعصي الله إلا إبليس ومن سار على دربه واتبع طريقته من ذريته؛ أعوان الشياطين -والعياذ بالله- فهم الذين يعصون الله تعالى: إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [ص:74].

خطوات الشيطان في إخراج آدم من الجنة

لما سأله الله تعالى: لماذا لا تسجد يا إبليس؟ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [ص:76] وهذا خطأ، فإنه كان يتصور أن النار أفضل من الطين، وهذا خطأ، إذ الطين أفضل من النار؛ لأن النار وسيلة إحراق وتدمير، والطين وسيلة حياة وتعمير، إذ كيف تخرج حياة الناس كلها إلا من الطين؛ الثمار، والفواكه، والخيرات .. كلها من الطين، فغير صحيح أن النار أفضل من الطين، قال الله عز وجل بعدها: فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ [ص:77-78].نعم. لعنه الله، وطرده .. وقال لآدم وهو في الجنة: يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ [طـه:117] بين الله له، كشف الله له الأمر: إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى [طـه:117] انتبه! اجلس في الجنة، لا تطع عدوك إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى [طـه:118-119] نعيم في نعيم، وبعد ذلك: وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ [البقرة:35] هذه الشجرة يقول عنها المفسرون: إن جميع ثمار الجنة التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، كانت كافية لكل مطامع آدم، لكن هذه الشجرة؛ لأن كل من أكل من ثمار الجنة يخرج منه مسك؛ العرق ريحته ريحة المسك إلا هذه الشجرة، من أكل منها يخرج منه أذى، وما في الجنة مكان للأذى، فالله حرمها عليه وقال: لا تأكل من هذه الشجرة، وجاء الشيطان إلى آدم ليخرجه من الجنة، بعد أن بين الله له عداوته وقال: إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ [طه:117] انتبه. لا تطعه.

وجاء إليه بالمكر والحيلة، وقال له: يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى [طـه:120] وهذه الشجرة في الحقيقة هي شجرة الخروج؛ الذي يأكلها يخرج من الجنة، لكن جاءه بغير الموضوع وقال له: (شجرة الخلد) أي: الذي يأكلها يصير خالداً في الجنة، وهذه هي لغة الشيطان وأعوانه، وكثير من الشباب الآن يقع في حبائل الشر والفتن والجرائم عن طريق المكر؛ يأتي واحد ويقول: تريد أن تذهب إلى خارج البلد وتذهب عنك الهموم وترى مصر وأنت هنا؟ قال: نعم. قال: دخن واحدة فقط، فتبدأ السقطة بدخانة .. تريد أن ترتاح وتذهب منك المشاكل؟ تريد أن تذاكر الدروس وأنت منبسط؟ قال: نعم، قال: خذ حبة من المخدرات، فيبدأ الانزلاق بأول حبة .. تريد أن ينشرح صدرك؟ ابحث فقط عن فتاة تتكلم معها في التلفون، أو ترسل لها رسالة، أو تقابلها في مكان، أو أي شيء. حتى يورطه في جريمة الزنا والعياذ بالله، من أين هذه الأفكار؟ من الشيطان، كما أضل آدم يريد أن يضل أبناءه إلى يوم القيامة، فجاء إلى أبينا آدم وقال له: هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى [طـه:120] لأن آدم كما يقول المفسرون: ليس من أهل الجنة في الأصالة، أهل الجنة بالأصالة هم الملائكة، أما آدم هو من أهل الجنة بالتبعية، أي: أصله من الأرض وجاء به الله عز وجل، فهو ليس من أهل الجنة بالأصالة؛ فهو خائف، ودائماً الغريب الذي يقيم في أرض طيبة .. أرض أمن .. أرض خيرات .. وهو ليس من أهل هذه الأرض، يخاف أن يخرج منها، فهو يريد أن يحصل على إقامة دائمة، لا يخرج منها، من أجل ما في هذه الجنة، فجاءه إبليس من هذا الجانب وقال له: مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ [الأعراف:20] يقول: إذا أكلتما من هذه الشجرة سوف تصبحان من الملائكة، وتصبحان من الخالدين في الجنة، ثم قال: وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ [الأعراف:21] حلف لهم بالله إنه لهم ناصح وهو كذاب، ولهذا لا تصدق الذي ينصحك بالباطل ولو حلف لك، لا تصدقه، فإن الشيطان قد حلف لأبينا آدم، وأخرجه من الجنة وهو كذاب، قال الله تعالى: فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ [الأعراف:22] أي: دلاهما بكيد ومكر فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ [الأعراف:22] بمجرد أن أكل الشجرة أبونا آدم بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا [الأعراف:22].

أوجد الله لهما مخارج لهذا الأذى وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ [الأعراف:22] بدءوا يتسترون وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ * قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:23] قال الله عز وجل: قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [طـه:123] أخرج الله آدم، وأخرج الله إبليس، أخرجهم إلى الأرض اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً [طه:123] يا آدم ويا إبليس كلكم بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [طه:123] انتبه، لا تتخذ الشيطان صديقاً لك وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً [النساء:119].

سمعتم الآية: بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى [طـه:123] يقول ابن عباس: [تكفل الله لمن اتبع القرآن والسنة ألا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة] لكن من أعرض عن الدين والقرآن وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، قال: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي [طه:124] يتولاه الشيطان رأساً فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى [طـه:124-127].

عداوة الشيطان وحزبه للإسلام

بين الله عز وجل عداوة الشيطان لنا وقال: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر:6] هل في الدنيا أحد يريد أن ينصح عدوه بخير؟ لا أحد أبداً، فعدوك لا يمكن أبداً أن يأمرك بخير، أو يدلك على خير، عدوك عدوك؛ الآن اليهود أليسوا أعداء العرب؟ إسرائيل عدوة العرب الآن، وعدوة المسلمين الأولى، هل يمكن أن نثق في إسرائيل؟ هل يمكن أن تعطينا شيئاً فيه خير؟ لا، لماذا؟ لأنها عدوة، فإذا وثقنا فيها وصدقناها وأخذنا صادراتها، وتعاملنا معها، هل يمكن أن تدلنا على خير؟ لا. كثير من الناس الآن يقول الله تعالى لهم: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً [فاطر:6] لكن اتخذوه ولياً، وصادقوه، وصادقوا جماعته وربعه، يرقص وهو في الجيب!

وكثير من الناس أبغض شيء عنده بيت الله، يداوم كل يوم ولكن لا يدخل إلى المسجد إلا يوم الجمعة، يستمع الأغاني في الصباح والمساء وفي السيارة والمكتب .. وفي كل مكان، ولا يمكن أن يفتح المصحف إلا في رمضان، أو يوم الجمعة إن كان نشيطاً، هذا عدو لله ولي للشيطان؛ لأن القرآن كلام الله، والأغاني كلام الشياطين، وكثير من الناس الآن كرسيه محجوز في القهوة، كل ليلة وهو يخرج من بيته، يترك زوجته وأولاده، وأين تذهب؟ قال: أذهب أعمّر، ماذا تعمر؟ يعمر شيشة وهو يدمر ولا يعمر -والعياذ بالله- يدمر نفسه وأخلاقه وماله، يخرج ويترك زوجته وأولاده ويأتي ليقرقر، كما يقول أحد الإخوة، يقول: إن المقاهي مساجد الشيطان، وبعد ذلك المؤذنون فيها هم المغنون، وما دخلت أبداً ولا سمعت عن قهوة إلا وفيها سماعات ومسجلة وأشرطة وأغاني، هل سمعتم مقهى قرآن أو موعظة؟ هل دخل أحد مقهى وسمع فيها شريطاً للشيخ ابن باز أو للشيخ محمد بن عثيمين أو للشيخ عائض القرني ؟ لا. ليس فيها إلا أشرطة الشياطين والمغنين، وبعد ذلك المرجانة -أي: الشيشة- مجالس إبليس! وكل واحد عند رأسه مرجانة وفي رأس المرجانة نار، النار هي نار الشيطان؛ لأنه مخلوق من النار، ولا تتزين شيشته إلا بالنار، يقرقرون ويكبرون للشيطان .. فإذا انتهى مسحها وأعطاها لزميله، وخرج بريحته الكريهة، إذا مررت من عنده تكاد تتقيأ من ريحة فمه والعياذ بالله! ورجع إلى بيته بريحته .. هذا عبد للشيطان، يقول الله عز وجل: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً [الكهف:50] بئس أن تستبدل ربك بالشيطان الرجيم، بئس للظالمين بدلا، ربك الذي خلقك ورزقك وغذاك ورباك وسترك وهداك ووفقك، تتركه وتأخذ عدوك الذي أخرجك وطردك ولعنك ويريد أن يوصلك جهنم، أتطيعه؟! أين عقلك أيها الإنسان؟!

الشيطان وتخويفه للإنسان بالفقر

وبعد ذلك يسير كثير من الناس في ركاب الشيطان، كيف؟ بعض الناس يقول: كيف يدخل الواحد في ركاب الشيطان؟ نقول له: إن الله قد بين ذلك في القرآن، يقول الله تعالى: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:268].

كل أمر تجده في نفسك رغبة في الشر فاعلم أنه من الشيطان، وكل أمر تجده في نفسك تقاعساً عن الخير فاعلم أنه من الشيطان؛ فإذا جئت لتخرج من جيبك نقوداً لتتصدق بها، اعتراك نوع البخل فمن هو الذي أمرك بهذا؟ الشيطان؛ لأنه يعدك الفقر، يقول: اغلق الشنطة!! تخرج منها خمسة أو عشرة!! فيغلق الشنطة، لكن قيمة الدخان! إذا جئت لتشتري دخاناً، يقول الشيطان لك: اشترِ هذا. ريال الدخان مخلوف، يقول إبليس: الذي يقع في يد الشيطان مخلوف، ولو جاءك فقير في صباح يوم من الأيام وطرقت عليك الباب امرأة وقالت المرأة: انقطعت بي السبل، ولم أجد بلاغاً إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي رزقك أن تعطيني خمسة ريالات لآخذ لأولادي شيئاً، أبونا ميت وأنا في حالة من الفقر، أريد بريال خبزاً وبريالين جبناً وبريالين طحينية، أفطر أولادي، أسألك بالله الذي رزقك! ربما يحن قلبك عليها وتقول: تفضلي هذه خمسة ريالات، ثم في اليوم الثاني جاءت، ودقت الباب: قالت: أسألك بالله، خمسة ريالات ثانية، فستقول لها: أنت جئت بالأمس؟ نعم جئت بالأمس، ما معي إلا الله ثم أنت، قال: طيب إن شاء الله، وإذا جاءت اليوم الثالث: هل تعطيها؟ ستغلق الباب، وإذا دقت الجرس تقول للمرأة: انظري فإن كانت تلك فاطرديها، أنا حكومة هنا كل يوم خمسة ريالات؟! وإذا خرجت عليها رأيتها وأصرت إلا أن تدق الباب فربما تأخذها بالعصا، وتقول: أعطيناك خمسة وثاني مرة خمسة وكل يوم خمسة خمسة، مائة وخمسين في الشهر، والله لا أفتح لك الباب، فلو أعطيتها خمسة، ففي الشهر ماذا يكون رصيدك عند الله يوم القيامة، ورد في الحديث: (إن الصدقة لتقع في يد الله قبل أن تقع في يد الفقير، وإن الله ليربي لأحدكم صدقته كما يربي أحدكم فلوه) ويأتي الرجل يوم القيامة فيجد حسنات كأمثال الجبال، يقول: يا رب! من أين هذه؟ ليس عندي شيء، قال: هذه صدقاتك رباها الله عز وجل وضاعفها لأن الله تعالى يقول: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ [البقرة:276] .. وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ [سـبأ:39].

خمسة ريالات قدرت عليها، وفي اليوم الثالث تطردها، لكن أربعة ريالات قيمة الدخان؟ هل جاءك الشيطان وثبطك عن شراء الدخان؟ وبعضهم يستلفها، ولو يجعل أولاده يموتون جوعاً، وبعض الرجال ليس عنده أو عند أولاده نقود ويشتري دخاناً، لماذا؟ لأنه حق الشيطان، لمن يدعها؟ هذه مسواك إبليس؛ لأن الشيطان مخلوق من النار أليس كذلك؟ ومسواكه من أين؟ من النار، ولهذا أبى الشيطان إلا أن يمسوك أتباعه وأصحابه بمسواكه، إن مسواك النبي صلى الله عليه وسلم ثمنه ريال، يكفيك من يوم الجمعة إلى الجمعة، وقد يستمر معك جمعتين، وبعد ذلك (مطهرة للفم، مرضاة للرب)، يقول عليه الصلاة والسلام: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة) والحديث في الصحيحين ، ويقول الإمام الصنعاني في كتابه سبل السلام : يا عجباً لأمة تضيع سنة يقول فيها نبيها أكثر من مائة حديث.

ورد في فضل السواك أكثر من مائة حديث، وجاء الشيطان عند أهل الدخان وأقنعهم بمسواك آخر من النار، ما هو؟ من الدخان، وبعد ذلك كم؟ هذا يكفيك عشرة أيام، أو خمسة عشر يوماً بريال، ومرضاة للرب ومطهرة للفم، ومن أعظم شيء يتقرب به العبد إلى الله، فجاء الشيطان إلى الناس، وأقنعهم بترك السواك، وأخذ سواكاً آخر لكن من مادة الشيطان، من خلق وتكوين وتركيب الشيطان، وبعد ذلك كم؟ مسواك يكفي في الأسبوع؟ لا. في اليوم عشرون مسواكاً (باكت) وبعد ذلك من مسواك إلى مسواك، وبعضهم أربعين مسواكاً.

وهذا المسواك يطيب فم الإنسان أم يخبثه؟ يخبثه، فلو مررت من عند شارب الدخان وشممت رائحة فمه كأنك تشم رائحة بيارة والعياذ بالله، حتى إن من الرجال من يعذب امرأته؛ مدخن ويريد أن يسلم على امرأته وهي تتمنى أن تسلم عليه، لكن إذا قرب منها جاءت الريحة إليها، فغمضت، أو قبلته قبلة واحدة بسرعة ولفت، لماذا؟ لأنها لا تريد أن تشم رائحته والعياذ بالله!

لقد أكرم الله الإنسان بفتحة طاهرة عليا وهي الفم، فجاء الشيطان وحول الفتحة العليا إلى رائحة كريهة والعياذ بالله، حتى إن بعض المدخنين إذا كان في إدارة حكومية أو محكمة أو مع رجال فيهم خير، ويريد أن يدخن لا يعرف أين يدخن، ممنوع التدخين في الدوائر الحكومية، فأين يدخن؟ في الحمام؛ فتجتمع له رائحتان فينبسط! والله لو أنه ليس في الدخان إلا هذا، هل سمعتم أن واحداً يستطيع أن يأكل سندويتشاً في الحمام؟ يستطيع أن يشرب شاياً في الحمام؟ لماذا؟ لأنه ليس مكانها .. لا تطيب لي نفس أن آكل في الحمام حتى ولو كنت في حد الموت.

لكن يقدر أن يشرب الواحد الدخان في الحمام، لماذا؟ لأنه المكان الصحيح للدخان، لكن يشربه في المسجد، يشربه بين يدي العلماء؟ لا يقدر؛ لأنه خبيث، ولذا يا إخواني! نقول لشارب الدخان: اتق الله في نفسك، اتق الله، راجع نفسك من الآن وقرر، إذا كنت رجلاً وشهماً وصاحب إرادة قوية قرر من الآن التوبة، لتكون طيباً، لأن الله تعالى يقول: وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ [النور:26].

هل الدخان طيب أم خبيث؟ خبيث، والذي يدخن كذلك، لأن الله تعالى يقول: وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ [النور:26] هل ترضى أن يقال لك خبيث يا شارب الدخان؟ لماذا تقبل الخبيث؟ لماذا تضعه في فمك؟ لماذا تشربه؟ لماذا تنفخه؟ لماذا تضعه في جيبك؟ لماذا تشتريه؟ لماذا تبيعه؟ لماذا تروجه؟ إنه خبيث، وقد حرم الله الخبيث وقال: وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ [الأعراف:157].

أقسام العمل من حيث الخير والشر

كثير من الناس سار في ركاب الشيطان، وأطاع الشيطان وترك الله عز وجل، وطبيعي أن من عاش مع الشيطان أهلكه الله في الدنيا والآخرة، ثم يموتون كلهم، أولياء الله وأولياء الشيطان، ويقابلون ربهم على ضوء الأعمال التي سلكوها، والأعمال عملان:

عمل صالح، وعمل سيئ.

العمل الصالح: ما أمر الله به، وما أمر به رسوله صلى الله عليه وسلم.

والعمل السيئ: ما أمر الشيطان به؛ لأن الله تعالى يقول: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ [البقرة:268] كل سوء وكل شر هو من الشيطان الرجيم، وتجد حساباتك عند الموت، ويقدم لك كشف الحساب، يقال لك: هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثـية:29].هذا كتابك، اقرأ كتابك، اقرأ ملفك، هذه درجاتك وعلاماتك التي كنت عملتها في الدنيا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً * مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء:14-15].ويقوم الناس من قبورهم بعد أن يكون أهل الإيمان وعباد الرحمن، ليسوا عباد الشيطان والشهوات، بل عباد الله الذين نزعوا أيديهم من الشيطان وسلموا أنفسهم لله؛ سلموا أعينهم لله فلا ينظرون بها إلى حرام، وسلموا آذانهم لله فلا يستمعون بها إلى حرام، وسلموا ألسنتهم لله فلا يتكلمون بها في غيبة أو نميمة أو لعن أو سب أو شتم أو شهادة زور أو يمين فجور أو حرام، وسلموا أيديهم لله فلا يمدونها إلا إلى ما أحبه الله، وسلموا أرجلهم إلى الله فلا تحملهم ولا يسيرون عليها خطوة واحدة إلا فيما يرضي الله، وسلموا فروجهم فلا يمكن أن يطئوا بها إلا فيما أباح الله، وسلموا بطونهم فلا يمكن أن ينزل بها لقمة إلا مما أحل الله عز وجل ... هؤلاء هم عباد الرحمن؛ رضخوا لله، وأذعنوا لشريعة الله، هؤلاء يوم القيامة يموتون ويقال لهم عند الموت: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي [الفجر:27-30].

وفي القبر يثبتهم الله، يقول الله تعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ [إبراهيم:27] ويحول القبر إلى روضة من رياض الجنة، وتأتيهم أعمالهم على أحسن عمل، أنا عملك الصالح حفظتني حفظك الله، ويوم القيامة يبعثون من قبورهم لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62].

يمرون على الصراط كالبرق الخاطف، يأخذون كتبهم بأيمانهم، هذه شهادتك: ناجح، يردون الحوض فيشربون شربة واحدة، من شرب منه شربة واحد لم يظمأ بعدها أبداً، يوزنون وإذا بهم موازينهم راجحة ثقيلة، عمل صالح وتقوى، وخوف من الله ورجاء .. ودعوة .. وبر .. وقرآن.

لكن ذلك ماذا عنده: دخان، وأغان، وحلق لحية، ومشعاب، وكذب، ومسجل، ويا ليل ويا عين .. هذه رجولته، وإذا خرج لعنه الله وطرده على أساس هذا العمل، والعياذ بالله!

فالمؤمن له ميزان وله ثقل عند الله، وبعد ذلك يدخل الجنة، يقال لهم: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [الزخرف:70-71].

أما أتباع الشيطان، عبيد إبليس؛ لأن الله تبارك وتعالى سماهم عبيداً للشيطان؛ لأن العبودية ليست سجوداً وركوعاً، بل العبودية طاعة، فإذا أطعت الله فأنت عبد الله، وإذا أطعت الشيطان فأنت عبد الشيطان، ولهذا فهؤلاء يعيشون في الدنيا على طاعة الشيطان.

حرص الشيطان ومقابلته لأوامر الله بأوامره

واعلموا أيها الإخوة! أنه ما من أمر لله إلا ويقابله أمر للشيطان، فمن وقع في أمر الله فهو عبد الله، ومن ترك أمر الله وقع في أمر الشيطان شاء أم أبى؛ أمر الله بالصلاة والشيطان أمر بالنوم، فإذا كنت مع الله فإنك تقوم لتصلي، وإذا كنت مع الشيطان راقداً على الفراش في صلاة الفجر، هذا ميزانك؛ أمر بالصلاة في ذلك الوقت والشيطان أمر بالنوم في ذلك الوقت، أنت مع من؟ الله أمر بالقرآن، والشيطان أمر بالأغاني، أنت مع من؟ الله أمر بالنظر إلى الحلال، والشيطان أمر بالنظر إلى الحرام، أنت مع من؟ الله أمر بأكل الحلال، والشيطان أمر بأكل الحرام، الله أمر بالبيع والشيطان أمر بالربا، أين أنت؟ الله أمر بالعسل والطيبات والشيطان أمر بالدخان والخبائث والخمر والمخدرات، أين أنت؟ لا يمكن أن تقع بأمر لله عز وجل إلا وأنت متحرر من أمر الشيطان، ولا يمكن أن تقع في أمر من الشيطان إلا وأنت متحرر من أوامر الله، شئت أم أبيت، وقد يقول واحد من الناس: أنا لا أطيع الله ولا أطيع الشيطان، معقول؟! أنت لابد أن تنظر، وليس هناك شخص لا ينظر، لكن هناك من ينظر فيما يحبه الله ويرضاه، وآخر يتلفت إلى النساء، هذا عبد للشيطان، ولابد أن تسمع، فهناك من يسمع القرآن وآخر يسمع الأغاني، لا يوجد أحد يقول: لا والله، أنا لن أتلفت وسأغلق عيني. ولا أسمع، فسوف أسد مسامعي، ولا آكل ولا أشرب، ولا أقوم ولا أجلس، ولا أخرج ولا أجلس، من هذا؟ هذا الميت الذي مات، هذا نذهب به إلى القبر.

أما الحي فلابد أن يسمع ويتلفت، وينظر ويتكلم، ولكن إما بما يرضي الله فهو عبد الله، أو بما يرضي الشيطان فهو عبد للشيطان.

وهؤلاء الذين يعيشون في الدنيا على هذا الوضع هم عند الموت خبثاء، جاء في الحديث تقول لهم الملائكة: (يا أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وغضب) اخرجي الآن للحساب، كنت خبيثة ومفلوتة، والآن اخرجي للحساب، إلى سخط من الله وغضب، وفي القبر يسأل: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ يقول: هاه، هاه، هاه، لا أدري؛ لأن الله يضله، يقول: وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:27].

وبعد ذلك يأتي عمله على أخس صورة، عمله دخان، وقطع لرحمه، وعقوق لوالديه، وإساءة لجيرانه وجماعته ومشاكله وتحريشه، وغيبته ونميمته، وإفساده، مثل قطة أبو عريش ، فقد أحرقت أبو عريش بذيلها، احترق ذيلها في عشة وخرجت وذهبت إلى العشة الثانية وخرجت وأحرقت الثالثة، حتى أحرقت مدينة.

وكذلك من الناس من دوره مثل دور قطة أبو عريش، يحرق القرية كلها بلسانه، يأتي عند فلان، ويقول: هاه سمعت ماذا قال فلان؟ قال: والله يقول: فيك وفيك، وأعطى وأخذ منه كلاماً، وراح عند ذاك حتى يفسد، يشعل النار والفتنة بين الجماعة والعياذ بالله.

إن الملائكة لا تعصي الله؛ الملائكة الغلاظ الشداد لا يعصون الله ما أمرهم، يقول عليه الصلاة والسلام والحديث في صحيح الجامع : (أذن لي أن أتحدث عن ملك من حملة العرش ما بين شحمة أذنه وعاتقه مسيرة سبعمائة عام) هذه رقبته، يا أيها الإنسان! وتعصي ربك، وهذا من حملة العرش: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ [الحاقة:17] رقبته مسيرة سبعمائة عام، وفي بعض ألفاظ الحديث: (خفق الطير) أي: سرعة الطير، لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ [التحريم:6] وإسرافيل؛ نافخ الصور، يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (كيف أنعم وصاحب الصور قد التقم الصور، وأصغى ليتاً) أي: أنصت بأذنيه لأمر الله، رجلاه تحت تخوم الأرض السابعة، وركبتاه في السماء السابعة، ورقبته ملوية تحت العرش، والعرش على كاهله.

جبريل عليه السلام له ستمائة جناح، لما أوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (فرد اثنين من أجنحته فسد ما بين الخافقين) ما بين المشرق والمغرب، اثنين! وكم بقي؟ خمسمائة وثمانية وتسعون جناحاً، أرسل الله جبريل مع الملائكة على قوم لوط، الذين كانوا يعملون باللوطية، وهو أن يأتي الذكر الذكر، وهذه معصية ما عملها أحد من العالمين إلا قوم لوط ومن سار على شاكلتهم، حتى الحمير والكلاب والقردة والخنازير لا تعملها؛ ما رأينا كلباً يركب كلباً، ولا حماراً يركب حماراً، ولا خنزيراً يركب خنزيراً، لكن سمعنا أن هناك من البشر من هو ألعن من الخنازير والكلاب والقردة والحمير، يركب الرجل الرجل، فعذب الله هذه الأمة بأن أرسل عليهم جبريل، قال: فغرس جناحه إلى أن بلغ تخوم الأرض ثم قلبها عليهم وكانوا أربع مدن، في كل مدينة أربعمائة ألف نسمة، وما هو بقليل، أربعمائة ألف نسمة؛ نصف مليون إلا قليلاً، قال: ثم حملهم على جناحه، جبالهم وزروعهم وثمارهم ودوابهم وبيوتهم وذكورهم وإناثهم، كلهم سواء، إلى أن سمعت الملائكة في السماء عواء الكلاب ونواء القطط! رفعهم إلى السماء، ثم قلبها عليهم، قال الله عز وجل: فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [هود:82-83] هذا جبريل، ملك من الملائكة، وهذا خلقه وهذا شأنه وهذا تكوين الله لخلقته، يطيعه ولا يعصيه.

وكذلك كل الملائكة، قال الله تعالى: فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ [ص:74] ولهذا فالعاصي قدوته إبليس، أتريد أن تكون كإبليس؟ أتريد أن تكون شيطاناً رجيماً ولا تكون من الملائكة؟ تخلَّق بأخلاق الملائكة وأطع الله ولا تعصه، فلا يعصي الله إلا إبليس ومن سار على دربه واتبع طريقته من ذريته؛ أعوان الشياطين -والعياذ بالله- فهم الذين يعصون الله تعالى: إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [ص:74].

لما سأله الله تعالى: لماذا لا تسجد يا إبليس؟ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [ص:76] وهذا خطأ، فإنه كان يتصور أن النار أفضل من الطين، وهذا خطأ، إذ الطين أفضل من النار؛ لأن النار وسيلة إحراق وتدمير، والطين وسيلة حياة وتعمير، إذ كيف تخرج حياة الناس كلها إلا من الطين؛ الثمار، والفواكه، والخيرات .. كلها من الطين، فغير صحيح أن النار أفضل من الطين، قال الله عز وجل بعدها: فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ [ص:77-78].نعم. لعنه الله، وطرده .. وقال لآدم وهو في الجنة: يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ [طـه:117] بين الله له، كشف الله له الأمر: إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى [طـه:117] انتبه! اجلس في الجنة، لا تطع عدوك إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى [طـه:118-119] نعيم في نعيم، وبعد ذلك: وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ [البقرة:35] هذه الشجرة يقول عنها المفسرون: إن جميع ثمار الجنة التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، كانت كافية لكل مطامع آدم، لكن هذه الشجرة؛ لأن كل من أكل من ثمار الجنة يخرج منه مسك؛ العرق ريحته ريحة المسك إلا هذه الشجرة، من أكل منها يخرج منه أذى، وما في الجنة مكان للأذى، فالله حرمها عليه وقال: لا تأكل من هذه الشجرة، وجاء الشيطان إلى آدم ليخرجه من الجنة، بعد أن بين الله له عداوته وقال: إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ [طه:117] انتبه. لا تطعه.

وجاء إليه بالمكر والحيلة، وقال له: يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى [طـه:120] وهذه الشجرة في الحقيقة هي شجرة الخروج؛ الذي يأكلها يخرج من الجنة، لكن جاءه بغير الموضوع وقال له: (شجرة الخلد) أي: الذي يأكلها يصير خالداً في الجنة، وهذه هي لغة الشيطان وأعوانه، وكثير من الشباب الآن يقع في حبائل الشر والفتن والجرائم عن طريق المكر؛ يأتي واحد ويقول: تريد أن تذهب إلى خارج البلد وتذهب عنك الهموم وترى مصر وأنت هنا؟ قال: نعم. قال: دخن واحدة فقط، فتبدأ السقطة بدخانة .. تريد أن ترتاح وتذهب منك المشاكل؟ تريد أن تذاكر الدروس وأنت منبسط؟ قال: نعم، قال: خذ حبة من المخدرات، فيبدأ الانزلاق بأول حبة .. تريد أن ينشرح صدرك؟ ابحث فقط عن فتاة تتكلم معها في التلفون، أو ترسل لها رسالة، أو تقابلها في مكان، أو أي شيء. حتى يورطه في جريمة الزنا والعياذ بالله، من أين هذه الأفكار؟ من الشيطان، كما أضل آدم يريد أن يضل أبناءه إلى يوم القيامة، فجاء إلى أبينا آدم وقال له: هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى [طـه:120] لأن آدم كما يقول المفسرون: ليس من أهل الجنة في الأصالة، أهل الجنة بالأصالة هم الملائكة، أما آدم هو من أهل الجنة بالتبعية، أي: أصله من الأرض وجاء به الله عز وجل، فهو ليس من أهل الجنة بالأصالة؛ فهو خائف، ودائماً الغريب الذي يقيم في أرض طيبة .. أرض أمن .. أرض خيرات .. وهو ليس من أهل هذه الأرض، يخاف أن يخرج منها، فهو يريد أن يحصل على إقامة دائمة، لا يخرج منها، من أجل ما في هذه الجنة، فجاءه إبليس من هذا الجانب وقال له: مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ [الأعراف:20] يقول: إذا أكلتما من هذه الشجرة سوف تصبحان من الملائكة، وتصبحان من الخالدين في الجنة، ثم قال: وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ [الأعراف:21] حلف لهم بالله إنه لهم ناصح وهو كذاب، ولهذا لا تصدق الذي ينصحك بالباطل ولو حلف لك، لا تصدقه، فإن الشيطان قد حلف لأبينا آدم، وأخرجه من الجنة وهو كذاب، قال الله تعالى: فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ [الأعراف:22] أي: دلاهما بكيد ومكر فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ [الأعراف:22] بمجرد أن أكل الشجرة أبونا آدم بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا [الأعراف:22].

أوجد الله لهما مخارج لهذا الأذى وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ [الأعراف:22] بدءوا يتسترون وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ * قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:23] قال الله عز وجل: قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [طـه:123] أخرج الله آدم، وأخرج الله إبليس، أخرجهم إلى الأرض اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً [طه:123] يا آدم ويا إبليس كلكم بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [طه:123] انتبه، لا تتخذ الشيطان صديقاً لك وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً [النساء:119].

سمعتم الآية: بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى [طـه:123] يقول ابن عباس: [تكفل الله لمن اتبع القرآن والسنة ألا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة] لكن من أعرض عن الدين والقرآن وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، قال: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي [طه:124] يتولاه الشيطان رأساً فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى [طـه:124-127].


استمع المزيد من الشيخ سعيد بن مسفر - عنوان الحلقة اسٌتمع
كيف تنال محبة الله؟ 2926 استماع
اتق المحارم تكن أعبد الناس 2925 استماع
وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً 2803 استماع
أمن وإيمان 2674 استماع
حال الناس في القبور 2674 استماع
توجيهات للمرأة المسلمة 2602 استماع
فرصة الرجوع إلى الله 2570 استماع
النهر الجاري 2474 استماع
دور رجل الأعمال في الدعوة إلى الله 2465 استماع
مرحباً شهر الصيام 2398 استماع