شرح لمعة الاعتقاد [15]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين.

قال المؤلف رحمه الله: [ ويؤتى بالموت في صورة كبش أملح؛ فيذبح بين الجنة والنار، ثم يقال : يا أهل الجنة! خلود ولا موت، ويا أهل النار! خلود ولا موت ].

تقدم الكلام على أول هذا البحث عند قول المؤلف رحمه الله: (والجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان)، وصلة لهذا الموضوع قال رحمه الله: (ويؤتى بالموت في صورة كبش أملح) الموت هو مفارقة الحياة، والصحيح أنه خلق من خلق الله عز وجل، ولذلك يؤتى به في صورة كبش أملح، ودليل ذلك قول الله جل وعلا: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك:2]، فالموت ليس مجرد العدم؛ إذ العدم ليس بشيء، إنما الموت خلق من خلق الله جل وعلا، وهو مفارقة الحياة، ويؤتى به يوم القيامة إذا استقر أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار -نعوذ بالله من الخسران- في صورة كبش أملح، أي: يمثله الله عز وجل على صورة كبش أملح، فيذبح بين الجنة والنار على مرأى من أهل الجنة والنار، وكل يراه ويعرفه؛ لأنه قد ذاقه: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185]، فإذا جاء لا يؤتى به على صورة منكرة غير معروفة مجهولة للمخاطبين، بل على صورة معروفة معلومة لمن يدعون ويخاطبون من أهل الجنة وأهل النار، فيذبح بين الجنة والنار، أي: يذبح وينتهي الموت، فلا موت بعد هذا الذبح، ثم يقال: (يا أهل الجنة! خلود ولا موت، ويا أهل النار! خلود ولا موت)، وهذا يدل على بقاء كل من أهل الجنة والنار فيما هو فيه إلى أبد الآباد.

وقد تقدم أن خلود الجنة لا خلاف فيه بين أهل العلم، وأن أول من أحدث القول بفناء الجنة هو الجهم بن صفوان ، وهو قول مبتدع أنكره عليه أهل الإسلام، وأما خلود النار ففيه قولان لأهل العلم من السلف والخلف، وجمهور العلماء من السلف والخلف على أن النار باقية خالدة لا تتحول ولا تفنى.

والقول الثاني: أنها تفنى، وهو قول لجماعة من الصحابة ومن بعدهم من سلف الأمة وخلفها، والصحيح من هذين القولين بقاء النار، وأنها لا تفنى، كما دل على ذلك ثلاث آيات في كتاب الله عز وجل في ثلاثة مواضع:

الآية الأولى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا * إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا [النساء:168-169] .

والشاهد ذكر التأبيد، وإلا فإن ذكر التخليد في مواضع كثيرة، لكن الكلام على التأبيد، وأنه لا نهاية للنار.

الآية الثانية: إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا [الأحزاب:64-65].

الآية الثالثة: في سورة الجن: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا [الجن:23] .

هذه ثلاثة مواضع في كلام الله عز وجل تدل على صحة ما ذهب إليه جمهور العلماء من السلف والخلف من أن النار باقية لا تفنى، نسأل الله السلامة منها!

وقد يرد سؤال وهو: كيف فهم الصحابة القائلون بفناء النار ذلك الفهم من النصوص؟

فنقول: الأفهام تختلف، لكن العبرة بفهم الغالب العام، والذي عليه جمهور الصحابة ومن بعدهم من سلف الأمة وخلفها أن النار باقية لا تفنى، وقد تكون خفيت عليهم هذه الآيات، بمعنى أنهم ما استحضروها، وربما أجابوا عليها بما في الآيات الأخرى أن التأبيد طول المدة وليس التخليد المطلق، وهذه مسألة أطال العلماء البحث فيها، لكن الكلام على دلالات النصوص لا على ما قال المخالف فيها؛ لأن المخالف قد يخفى عليه النص لما تكلم بالكلام، وقد يكون عنده مانع من القول بدلالة آية أخرى، والمراد أننا بالنظر إلى الأدلة تبين لنا فيما يظهر أنه الصواب: أن النار خالدة لا تفنى كما دلت عليه هذه النصوص، لكن هل يبدع من قال: إن النار تفنى؟

الجواب: لا، إنما يبدع الذي يقول: إن الجنة تفنى، أما النار ففيها خلاف العلماء المتقدم.

قال المؤلف رحمه الله: [ فصل:

ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، وسيد المرسلين، لا يصح إيمان عبد حتى يؤمن برسالته، ويشهد بنبوته، ولا يقضى بين الناس في يوم القيامة إلا بشفاعته، ولا تدخل الجنة أمة إلا بعد دخول أمته.

صاحب لواء الحمد، والمقام المحمود، والحوض المورود، وهو إمام النبيين وخطيبهم، وصاحب شفاعتهم، أمته خير الأمم، وأصحابه خير أصحاب الأنبياء عليهم السلام ].

هذا الفصل ذكر المؤلف رحمه الله في أوله ما خص الله به محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم من الفضائل والخصائص، والنبي صلى الله عليه وسلم أعطاه الله جل وعلا من الخصائص والفضائل ما لم يعط نبياً غيره، كما في حديث جابر في الصحيحين: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي)، فله من الخصائص والفضائل ما ليس لغيره، وهذه الخصائص منها ما يتعلق به، ومنها ما هو له ولأمته، ومنها ما هو في الدنيا، ومنها ما هو في الآخرة:

منها ما هو له خاصة، كقوله: (وبعثت للناس عامة).

ومنها ما هو له ولأمته كقوله: (نصرت بالرعب)، وأوضح من هذا قوله: (جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً).

ومنها ما هو في الدنيا كهذه التي ذكرناها.

ومنها ما هو في الآخرة: كشفاعته صلى الله عليه وسلم في الموقف؛ فهذه له دون غيره.

ومنها: أن أمته تدخل الجنة قبل الأمم، وهذا له ولأمته صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ فما خصه الله به شيء كثير، وما شاركه فيه غيره من الأنبياء ففي غالب موارده له فيه التقدم، وإن كان في بعض الخصائص يتقدم عليه غيره، لكن هذا التقدم لا يعني أنه أفضل منه، بل هو أفضل الخلق صلى الله عليه وسلم، كما قال في حديث أبي هريرة وغيره: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر)، وسيادته يوم القيامة تدل على سيادته في الدنيا ولا شك؛ لأنه صلى الله عليه وسلم إذا قدمه الله في يوم الجزاء فهو المقدم في هذه الدنيا؛ لأن التقديم يوم القيامة دليل على التقدم في الدنيا، كما قال الله جل وعلا: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ [الواقعة:10].

قال رحمه الله: ( ومحمد رسول الله )، أي: أرسله الله جل وعلا، وأدلة هذا كثيرة جداً من الكتاب ومن السنة، والشواهد الدالة على صدقه، والآيات والبراهين الدالة على صحة رسالته؛ كثيرة جداً لا تنحصر في قول الله ولا في قول النبي صلى الله عليه وسلم، بل دلائل صدق نبوة النبي صلى الله عليه وسلم منها ما هو حالّ فيه، ومنها ما هو في خبره، ومنها ما هو في أسماء الله عز وجل وصفاته؛ فدلائل النبوة متعددة كثيرة كلها تدل على صحة رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه رسول رب العالمين صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أرسله الله عز وجل إلى الناس عامة.

يقول المؤلف رحمه الله: ( خاتم النبيين )، أي: ختم الله به النبيين، وقد جاء هذا في قول الله تعالى: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب:40]، فختم الله به الرسالات.

خاتم لها وجهان: خاتَم وخاتِم، الخاتِم بالكسر هو الذي ختمهم وأغلقت به الرسالة.

والخاتَم بالفتح كالخاتم الذي يلبس فيتجمل ويتزين به، ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو جمال الأنبياء وزينتهم وإمامهم صلى الله عليه وسلم، وهو خاتِمهم أي: الذي ختم الله عز وجل به الرسالات، فلا نبي بعد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

وخاتم المرسلين أيضاً؛ لأنه إذا كان خاتم النبيين فهو خاتم المرسلين؛ لأن كل رسول نبي، فإذا كان قد ختم الله به النبوات فإنه قد ختم به الرسالات صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

قال: (وسيد المرسلين)، أي: صاحب الشرف والعلو والمقام الرفيع فيهم صلى الله عليه وسلم، ولا ريب أنه صلى الله عليه وسلم سيد المرسلين، ويدلك على ذلك تدافع أولي العزم من الرسل للشفاعة في ذلك الموقف حتى تصير إليه صلى الله عليه وسلم، فيقول: (أنا لها، أنا لها)؛ فهذا يدل على سيادته وشرفه وعلو مكانته ورفيع منزلته صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح الإمام مسلم من حديث أبي هريرة : (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة)، فهو سيد كل من ولده آدم، وسيادته لولد آدم تدل على سيادته للمرسلين؛ لأن المرسلين جميعهم من ولد آدم.

قال رحمه الله: ( لا يصح إيمان عبد حتى يؤمن برسالته )، ولا شك أنه لا يصح إيمان عبد حتى يؤمن بأن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب القرشي الهاشمي رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعثه الله بين يدي الساعة بالحق بشيراً ونذيراً، من لم يؤمن بهذا فإنه لا يصح له إيمان، ولا يثبت له عقد، ولا يستقر له في الإسلام قدر، ولذلك كان مفتاح الدخول إلى هذه الشريعة أن يقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله)، فمن لم يشهد بذلك لم يتحقق له إسلام ولا إيمان.

يقول رحمه الله: ( ويشهد بنبوته )، هذا مكمل للأول، ودليله دليل السابق.

شفاعته للقضاء بين أهل الموقف

قال رحمه الله: ( ولا يقضى بين الناس في القيامة إلا بشفاعته )، وهذا قد جاءت به النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم، منها ما في الصحيحين من حديث أبي سعيد وأبي هريرة : أن الأنبياء يتدافعون الشفاعة إذا جاءهم الناس يطلبون منهم، فتصير إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: (أنا لها، أنا لها)، فيسجد تحت العرش ثم يقول الله له: (ارفع رأسك، وقل يسمع، واشفع تشفع)، فيشفع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في أن يأتي الله عز وجل لفصل القضاء والحكم بين الناس؛ فإذا شفع صلى الله عليه وسلم جاء الرب جل وعلا للفصل بين الناس فيما يكون بينهم، هذا معنى قوله رحمه الله: (ولا يقضى بين الناس في القيامة إلا بشفاعته)، أي: بتوسطه لدى الله جل وعلا أن يأتي لفصل القضاء، وهذا مما لا شك فيه، وقد ثبتت به السنة، وجاءت الإشارة إليه في قول الله تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء:79]؛ فالمقام المحمود جاء بيانه في سنة النبي صلى الله عليه وسلم بأنه مقامه بين الناس حين يشفع لهم في فصل القضاء، فإنه يحمده على هذا كل أحد.

شفاعته لأهل الجنة بدخولها

قال رحمه الله: ( ولا تدخل الجنة أمة إلا بعد دخول أمته )، الجنة هي دار النعيم الكامل التي أعد الله فيها لعباده الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. نسأل الله أن نكون من أهلها! هذه الدار لا يدخلها أحد قبل أمة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (نحن الآخرون الأولون يوم القيامة) أول الأمم دخولاً الجنة أمة الإسلام، أمة النبي صلى الله عليه وسلم؛ مع كونها آخر الأمم من حيث الزمن والتاريخ في الحياة الدنيا، لكن هذا التأخر الزمني لم يمنع من أن يسبقوا الأمم قبلهم في دخول الجنة، وذلك لما خصهم الله به من كمال الشريعة، وتمام العبودية لله عز وجل.

ويدل لهذا: أن أول شفيع في دخول الجنة هو النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم أشفق ما يكون على أمته؛ ولذلك يشفع في أمته، والأحاديث التي جاءت في ذكر الشفاعة العظمى ومجيء الناس للنبي صلى الله عليه وسلم لطلب الشفاعة، إذا نظرت إلى سياقها في أكثر ما ورد في الصحيحين وغيرها من دواوين السنة؛ تجد أنه إذا جاءه الناس لطلب فصل القضاء يشفع النبي صلى الله عليه وسلم لدى الله عز وجل في أمته.. (فأقول: أمتي أمتي، فيقول الله عز وجل: أخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان).

وهذه الشفاعة التي ذكرها أهل العلم في داويين السنة ليست هي الشفاعة العظمى التي هي المقام المحمود، إنما هي شفاعته في بعض من دخل النار من أمته أن يخرج منها، أو من استحق النار ألا يدخلها، والسبب في ذكر هذا دون ذكر الشفاعة العظمى في أكثر هذه الأحاديث: أن الشفاعة العظمى لم ينكرها الخوارج ولا المعتزلة، إنما أنكروا وناقشوا وخالفوا في شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر، أما شفاعته في الأمم لفصل القضاء فإنهم لم ينكروا ذلك، ولم يخالفوا فيه. والمراد: أن هذه الأمة هي أول الأمم دخولاً الجنة، وهذا معنى قوله رحمه الله: ( ولا يدخل الجنة أمة إلا بعد دخول أمته ).

لواء الحمد المعقود للنبي صلى الله عليه وسلم في الموقف

ذكر المؤلف رحمه الله شيئاً مما اختص الله به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (صاحب لواء الحمد)، واللواء هو الراية التي يحملها قائد الجيش في الغالب؛ فرسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع له يوم القيامة لواء يحمله، وهذا اللواء يسمى بلواء الحمد، ولذلك أضاف اللواء إلى الحمد فقال: (صاحب لواء الحمد)، والحمد أي حمد الله جل وعلا، وهو: ذكر المحمود بصفات الكمال محبة وتعظيماً، فالنبي صلى الله عليه وسلم هو أعلى الناس حمداً لربه في ذلك الموقف، ويدل لذلك ما في الصحيحين من حديث أبي هريرة وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر الشفاعة قال: (فأسجد فأحمد الله عز وجل بمحامد يفتحها علي لا أعلمها الآن)، محامد يدركها ويعلمها في تلك الساعة، وفي ذلك الوقت؛ ولذلك يعطى لواء الحمد صلى الله عليه وسلم؛ لكونه أعظم الخلق حمداً لربه في ذلك الموقف.

وهذا اللواء للعلماء فيه قولان: منهم من قال: إنه لواء معنوي، ومنهم من قال: إنه لواء حقيقي، والصواب أنه لواء حقيقي؛ لأن الأصل فيما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم الحقيقة لا المجاز، ولا تقل: كيف يكون حقيقياً، نقول: أمر الآخرة ليس مما تدرك العقول حقائقه وتتبين كيفياته، بل نؤمن به على ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم دون أن نلج في كيفية ذلك، فإن النصوص قد أخبرت بألوية تكون يوم القيامة، ففي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ينصب لكل غادر يوم القيامة لواء، يقال: هذه غدرة فلان)، وهذا اللواء حقيقي، ولذلك يشار إليه ويقال: هذه غدرة فلان، وهذا اللواء الذي عقد للغادر لواء حقيقي يدرك، فما المانع من أن يكون لواء الحمد الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم هو لواء حقيقي، وهذا هو الأصل?!

واختلف العلماء رحمهم الله في سبب اللواء، فقيل: إن اللواء سببه أنه يفتح للنبي صلى الله عليه وسلم من الحمد ما لا يفتح لغيره، وقيل: إن هذا اللواء سببه موقف النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم، حيث يفتح الله له من الفضل والمكانة والعمل ما ينفع به جميع الناس مسلمهم وكافرهم في الشفاعة في فصل القضاء؛ لأنه قد جاء في بعض الآثار: أن الكفار يطلبون الخلاص من موقف القيامة حتى ولو كان ذلك إلى النار؛ لأن الإنسان في الشدة قد يتصور أن هذا أعلى ما يكون من العذاب، ويغيب عنه أن ما سيقبل عليه أعظم وأشد؛ ولذلك جاء في بعض الآثار: أن شدة الموقف على أهله تحمل الكفار أن يقولوا: ربنا خلصنا ولو إلى النار، ويظنون أن النار أهون من ذلك الموقف، وهي في الحقيقة أشد وأنكى، نسأل الله السلامة والعافية!

والمراد أن النبي صلى الله عليه وسلم يحمده في ذلك الموقف كل أحد حتى الكفار، وهذا من معاني اللواء المحمود، وثم أقوال أخرى في سبب اللواء المحمود منها: أنه لإجلاس الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم على العرش، والذي يظهر: أنه لما له من المنزلة في ذلك الموقف، والفضائل العامة التي تعم كل أحد، والخاصة التي تختص بها أمته، وتختصه هو صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

حوض النبي عليه الصلاة والسلام

ثم قال: ( والمقام المحمود )، أي: صاحب المقام المحمود، والمكان هو مكان القيام؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم يقوم المقام المحمود الذي يحمده عليه كل أحد، وهو: شفاعته لفصل القضاء.

ثم قال: ( والحوض المورود ) ذكرنا ذلك فيما تقدم عند قول المؤلف رحمه الله على الحوض: ( ولنبينا محمد صلى الله عليه وسلم حوض في القيامة )، وقلنا: إن معنى الحوض: مجمع الماء، وهو مجمع عظيم يكون للنبي صلى الله عليه وسلم، ثبت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر:1]، وبما جاء متواتراً عنه صلى الله عليه وسلم من إثبات حوضه يوم القيامة.

إمامته وقدوته للأنبياء في الموقف

قال: ( وهو إمام الأنبياء ) أي: مقدمهم الذي يؤمه الأنبياء، ويأتمون به، ويقتدون به؛ لعظيم منزلته ورفيع مكانته، وهو إمامهم في الدنيا وإمامهم في الآخرة، أما إمامته لهم في الدنيا؛ فلأنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم صلى بهم وأمهم في بيت المقدس ليلة المعراج، وأما إمامته لهم في الآخرة؛ فأولوا العزم وأصحاب العلو والرفعة والمكانة من الأنبياء يتدافعون الشفاعة حتى تصير إليه صلى الله عليه وسلم، وهذا من إمامته لهم صلى الله عليه وسلم.

قال: ( وخطيبهم ) الخطيب هو الذي يتكلم في بيان الحاجة، وقوله: ( خطيبهم ) أي: خطيب الأنبياء، وقد جاء هذا في جامع الترمذي من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم (أخبر بأنه خطيب الأنبياء إذا وفدوا)، أي: إذا وفدوا على الله عز وجل في أرض المحشر؛ وذلك أنه هو الذي يطلب من الله عز وجل الشفاعة للخلق، ويتأخر عنها كل الأنبياء، ولا يتكلم عندها أحد إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا [طه:109]، وأولهم رسولنا صلى الله عليه وسلم، فهو أول من يكلم الله جل وعلا في المحشر، فهو خطيبهم إذا وفدوا، وشعيب عليه السلام خطيب الأنبياء، وقد جاء في وصفه في بعض الآثار: (أنه خطيب الأنبياء)، لكنه خطيبهم في الدنيا، وذلك لجميل بيانه وحسن كلامه في دعوته لقومه صلى الله عليه وسلم، أما الخطيب الذي يكون يوم القيامة فهو رسول الله صلى الله عليه وسلم.

( وصاحب شفاعتهم ) يعني الذي تصير إليه الشفاعة في ذلك الموقف؛ فإن الأنبياء يتدافعونها حتى تصل إليه صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

يقول: (أمته خير الأمم)، ولا شك أن هذه الأمة خير الأمم، قال الله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110]، وقال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143]، فهاتان الآيتان تدلان على خيرية الأمة في الدنيا، والخيرية في الدنيا تدل على الخيرية في الآخرة.

وأما الخيرية في الآخرة فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث علي في مسند الإمام أحمد في بيان ما أعطاه الله عز وجل وخصه : (وجعلت أمتي خير الأمم)، فأمة النبي صلى الله عليه وسلم خير الأمم، خيريتها في التوحيد والعمل به، والثواب عليه، وفي الشريعة، وخيريتها في الآخرة لتقدمها على الأمم وسبقها لهم إلى كل فضل، فخيرية الأمة لها من الأوجه والجوانب ما يطول تتبعه وذكره.

ثم قال رحمه الله: ( وأصحابه خير أصحاب الأنبياء عليهم السلام )، بدأ بهذه الجملة في الكلام عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ونشرح ذلك إن شاء الله تعالى في الدرس القادم، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.