آثار الصدق


الحلقة مفرغة

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أما بعد:

أسعد الله أوقاتكم، وجمعنا الله وإياكم في الدنيا على الهداية، وفي الآخرة في دار الرحمة والغفران، وآباءنا وأمهاتنا وإخواننا المسلمين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

وهذا الدعاء ينبغي أن يرافقه العمل؛ لأن العلماء يقولون: إن المؤمن يعيش دائماً بين الخوف والرجاء، الخوف من عذاب الله، والرجاء في رحمة الله.

ومن الرجاء والخوف ما يكون رجاءً وخوفاً حقيقياً, ومنها ما يكون رجاءً وخوفاً صورياً كاذباً.

والرجاء الحقيقي:هو الذي يكون مصحوباً بالعمل.

والخوف الحقيقي:هو الذي يكون مصحوباً بالامتناع عن المحرمات، والقيام بالفرائض والواجبات.

أما الذي يرجو رحمة الله دون أن يتعرض لها، ويخشى عقاب الله دون أن يهرب منه، فهذا رجاؤه كاذب، وخوفه كاذب.

وقد ذكر الله عز وجل في القرآن الكريم نماذجاً من الرجاء الصادق، فقال عز وجل:إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ [فاطر:29]. عملوا المقدمات التي يبرهنون بها على أن رجاءهم صادق.

وأضرب لكم على ذلك مثالاً لمن يرجو الرجاء الصادق، ومن يرجو الرجاء الكاذب:

لو أن إنساناً يريد نعمة الولد؛ ونعني بالولد: الذكر والأنثى؛ لأنه إذا أُطلِق، فهو يُراد به الجنسَين، حتى لا يظن أحد أن المراد به الذكر دون الأنثى، يقول الله عز وجل:يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [النساء:11] .. وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ [البقرة:233]، إلى غير ذلك من الآيات، فالذكورة والأنوثة تندرج تحت لفظ الولد، فإذا أراد رجل أن يُنعم الله عليه بنعمة الولد؛ لِمَا تحدثه هذه النعمة من زينة في هذه الحياة؛ فإن الله قد نص على هذا في القرآن فقال: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الكهف:46]، ولا يستطيع الإنسان أن يعرف قدر هذه الزينة إلا إذا مارس أسبابها -إذا تزوج- ووجد أن قطعة من جسده وفلذة كبده تسير على الأرض أمامه؛ فإنه يحس بنوع من الجمال تضفيه هذه النعمة على حياته.

فلو أراد إنسان هذه النعمة وجلس يدعو ويرجو الله أن يرزقه ولداً، دون أن يتزوج، فهل يُسمى هذا الرجاء رجاء صادقين؟! لا. إذا أردتَ أن تُرزق هذه النعمة فإنك لا بد أن تتزوج، ثم بعد ذلك تطلب من الله أن يرزقك الولد، ولكن إذا ظللت في الصباح والمساء تطلب من الله أن يرزقك بولد يملأ عليك الحياة سروراً وحبوراً دون أن تتزوج؛ فإن هذا يُسمى: رجاء الكاذبين؛ لأن لله سنناً في الكون، لا يُنَـزِّل لك ولداً من السماء هكذا بدون زوجة، بل لا بد أن تتزوج.

وكذلك لو أن عند إنسان مزرعة، وهذه المزرعة قابلة للحراثة، وقابلة للزراعة، ولكن الرجل كسلان، لا يستطيع أن يعمل فيها، ويزرعها، ويسقيها، ويتعهدها، فجاء إليها، وطلب من الله عز وجل أن يزرع له هذه المزرعة، وأن ينبت فيها الأشجار، وأن يوجد فيها الثمار، وأن يشق فيها الآبار، وأن تكون خضراء صيفاً وشتاءً، ودعا بأدعية كثيرة، فهل يمكن أن يكون هذا؟! وطلب من الله عز وجل وقال: اللهم أنزل لي (دَرَكْتَرات) من السماء و(حراثات) من عندك، يا رب العالمين، وعمالاً يعملون فيها بالليل، وآتي في النهار وهي مزروعة. هذا دعاء المغفلين! لا يمكن أن يحصل هذا!

متى تكون راجياً وداعياً حقيقياً؟!

إذا جئتَ على المزرعة، فنظَّفتَها، ثم حرثتَها، ثم بذرتَها، ثم أسقيتَها، وبعدما انتهى كل شيء مما عندك، بقي ما عند الله، وما هو؟ هو الإنبات، أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ [الواقعة:64]، فتأتي فتقول: اللهم أنبت لنا الزرع، اللهم بارك لنا في ثمارنا، اللهم احفظها من الآفات. هنا يكون دعاؤك ورجاؤك دعاء الصادقين، الذين أخذوا بالأسباب وتعرضوا لها، واعتمدوا على مسببها وهو الله عز وجل.

أهمية الأكل الحلال في استجابة الدعاء

لا نريد أن نسهب في هذا الموضوع؛ ولكني جئت إليه من باب أن دعاءنا ينبغي أن يكون مرافَقاً ومصاحَباً للعمل؛ فإذا دعا العبد ربه وعمل صالحاً كان حرياً أن يكون -إن شاء الله- من أهل الاستجابة، أما ذلك الرجل الذي تعرفونه في الحديث، والحديث في صحيح مسلم : (الرجل أشعث أغبر)، أي: جميع ملابسات ودواعي الاستجابة موجودة، أشعث، أغبر، وبعد ذلك، (يمد يديه إلى السماء) يرفعها، وبعد ذلك يقول: (يا رب! يا رب!) يدعو الله، ويكرر، هذه كلها وسائل إجابة؛ لكن: (مطعمه حرام، ومشربه حرام، وغُذِّي بالحرام) فهل يُستجاب له؟ قال: (فأنى يستجاب له؟!) ما أخذ بوسائل الدعاء الحقيقية من الكسب الحلال؛ لأن الكسب الحرام حاجز بين العبد وبين الله بالدعاء، لا يستجيب الله لجسد نُبِتَ على سُحت أو غُذِّي بالحرام، وكما جاء في الحديث، والحديث موجه لـسعد بن أبي وقاص ، خال النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (يا سعد ! أطِبْ مطعمك تُجَبْ دعوتُك) إذا أردت أن تكون مستجاب الدعوة ففكِّر في المال الذي تأكله، ولا يدخل بطنك إلا حلالٌ، وطبعاً هذا الحلال هو من الدخل الذي يأتيك، فراتبك إن كنت موظفاً، يجب أن تحرص كل الحرص على ألا يكون فيه ريالٌ من حرام، كيف؟! عن طريق الدوام المخلص المنضبط، من أول دقيقة إلى آخر دقيقة، وإذا تأخرت فيكون بعذر، ولدى صاحب الصلاحية علم ليأذن لك، أما التهرب والتسيُّب والتأخر، كأن تأتي في الساعة الثامنة ثم توقِّع على الساعة السابعة والنصف، فتتأخر كل يوم نصف ساعة، فهذه ستخرج منك يوم القيامة دماً، تخرج عذاباً من ظهرك، فإن حضرت في الساعة السابعة والنصف فوقع في الساعة السابعة والنصف، وإذا جئت في الساعة الثامنة إلا ربعاً فَضَعْ الساعة الثامنة إلا ربعاً، واذهب إلى المدير وقل له أنك تأخرت ربع ساعة، فإن أردت أن تحسبها احسبها؛ لأن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، لكن إذا كان هناك مدير جيد يريد أن يربي العاملين عنده على الجدية والإخلاص، وقام بهذا الأمر اتخذه كل الناس عدواً، وقالوا: فلان مشدِّد، هذا منفِّر.

وذلك المتساهل المتسيب، الذي ليس عنده من عمل، يقولون عنه: هو طيب، الله يذكره بالخير، الله أكبر يا ذاك الرجل! ما أحسن منه! سبحان الله! انعكست المفاهيم! أصبح المتساهل هو الطيب، والجِدِّي هو الرديء، لماذا؟ لأن مفاهيمنا مغلوطة، ونظراتنا معكوسة، فإنا لله وإنا إليه راجعون! فلا بد من الأخذ بالأسباب.

لا نريد أن نسهب في هذا الموضوع؛ ولكني جئت إليه من باب أن دعاءنا ينبغي أن يكون مرافَقاً ومصاحَباً للعمل؛ فإذا دعا العبد ربه وعمل صالحاً كان حرياً أن يكون -إن شاء الله- من أهل الاستجابة، أما ذلك الرجل الذي تعرفونه في الحديث، والحديث في صحيح مسلم : (الرجل أشعث أغبر)، أي: جميع ملابسات ودواعي الاستجابة موجودة، أشعث، أغبر، وبعد ذلك، (يمد يديه إلى السماء) يرفعها، وبعد ذلك يقول: (يا رب! يا رب!) يدعو الله، ويكرر، هذه كلها وسائل إجابة؛ لكن: (مطعمه حرام، ومشربه حرام، وغُذِّي بالحرام) فهل يُستجاب له؟ قال: (فأنى يستجاب له؟!) ما أخذ بوسائل الدعاء الحقيقية من الكسب الحلال؛ لأن الكسب الحرام حاجز بين العبد وبين الله بالدعاء، لا يستجيب الله لجسد نُبِتَ على سُحت أو غُذِّي بالحرام، وكما جاء في الحديث، والحديث موجه لـسعد بن أبي وقاص ، خال النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (يا سعد ! أطِبْ مطعمك تُجَبْ دعوتُك) إذا أردت أن تكون مستجاب الدعوة ففكِّر في المال الذي تأكله، ولا يدخل بطنك إلا حلالٌ، وطبعاً هذا الحلال هو من الدخل الذي يأتيك، فراتبك إن كنت موظفاً، يجب أن تحرص كل الحرص على ألا يكون فيه ريالٌ من حرام، كيف؟! عن طريق الدوام المخلص المنضبط، من أول دقيقة إلى آخر دقيقة، وإذا تأخرت فيكون بعذر، ولدى صاحب الصلاحية علم ليأذن لك، أما التهرب والتسيُّب والتأخر، كأن تأتي في الساعة الثامنة ثم توقِّع على الساعة السابعة والنصف، فتتأخر كل يوم نصف ساعة، فهذه ستخرج منك يوم القيامة دماً، تخرج عذاباً من ظهرك، فإن حضرت في الساعة السابعة والنصف فوقع في الساعة السابعة والنصف، وإذا جئت في الساعة الثامنة إلا ربعاً فَضَعْ الساعة الثامنة إلا ربعاً، واذهب إلى المدير وقل له أنك تأخرت ربع ساعة، فإن أردت أن تحسبها احسبها؛ لأن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، لكن إذا كان هناك مدير جيد يريد أن يربي العاملين عنده على الجدية والإخلاص، وقام بهذا الأمر اتخذه كل الناس عدواً، وقالوا: فلان مشدِّد، هذا منفِّر.

وذلك المتساهل المتسيب، الذي ليس عنده من عمل، يقولون عنه: هو طيب، الله يذكره بالخير، الله أكبر يا ذاك الرجل! ما أحسن منه! سبحان الله! انعكست المفاهيم! أصبح المتساهل هو الطيب، والجِدِّي هو الرديء، لماذا؟ لأن مفاهيمنا مغلوطة، ونظراتنا معكوسة، فإنا لله وإنا إليه راجعون! فلا بد من الأخذ بالأسباب.

أيها الإخوة في الله! سبق أن قلنا: إن أسوأ الأخلاق وأقبحها وأشنعها في الدين والأخلاقيات عند الأمم هو: الكذب، وأن أفضلها وأرقاها وأعظمها هو: الصدق، والصدق فضيلة، حثت عليه الأديان، وأيضاً هو خلق كريم، تتخلق به الشعوب الراقية.

فالأمم المتمدنة الناهضة ترى أن من العيب أن تكذب، حتى ولو لم تكن على دين؛ لأن الكذب يلغي شخصية الإنسان، والكذب يجعل الإنسان كأنه غير موجود، ليس له قيمة؛ لأن قيمتك في صدقك وثقة الناس فيك، فإذا كنتَ لستَ بصادق، ولست موضع ثقة للناس، فلا قيمة لك، بل قيمتك قيمة حيوانية، لا مفاهيم، ولا مبادئ وأخلاق.

كان الصدق عند العرب شيء معروف، لا أحد يكذب أبداً.

وقبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم كان يُسمى: الصادق الأمين صلوات الله وسلامه عليه، وكان أبو بكر الصديق صِدِّيق هذه الأمة، وأيضاً أثنى الله في كتابه على إسماعيل، فقال: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً [مريم:54-55].

ويقول عز وجل وهو يمتدح صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن صدقوا حقيقة في إيمانهم فقال: رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً [الأحزاب:23].

وقال: لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ [الأحزاب:8].

وقال: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ [الزمر:33].

فالصدق: محمدة في الدنيا والآخرة.

وبعد أن تكلمنا في الأسبوع الماضي عن الكذب وعاقبته، وأنه دمار وخسارة ووبال في الدنيا والآخرة، وأنه مادة الكفر والنفاق، فإن الكفر والنفاق بناء أساسه وأركانه وأعمدته وقواعده الكذب، وأي شيء يُبنى على الكذب هل تكون له خاتمة؟! لا والله، بعدها قُدِّمت أسئلة كثيرة، واتصل بي بعض الإخوة بعدما خرجت من المسجد يسألون قائلين: ما حكم من يلجأ إلى الكذب اضطراراً -أي: أنه لا يريد أن يكذب عن اختيار؛ لكنه مضطر- لأنه لو صدق لتعرض للضرر، ولعرَّض نفسه لشيء من العنت والحرج والمشقة، فما الحكم؟

نقول له: إن الصدق مطلوب، والكذب غير وارد أبداً، حتى ولو كان الصدق يعرضك لشيء من الأذى والمشقة؛ لأنك في هذا الموقف الذي تريد أن تصدق فيه أو تكذب وقعت بين فَكَّي (كمَّاشة)، بين عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة، أنت إن كذبت سلمت من سخط الدنيا، أو ضيق الدنيا، أو مؤاخذة الدنيا، كأن تكذب على الأستاذ لكي تسلم من العصا، أو تكذب على أبيك كي تسلم من المؤاخذة، أو تكذب على زوجتك حتى تسلم من اللّوم، أو تكذب على جارك، أو تكذب على قريبك، وتقول في نفسك -مثلاً-: لو قلتُ له الصدق ربما يغضب عليَّ، فأنا أداري خاطره؛ لكي لا يغضب عليَّ، فكذبتَ هنا؛ لكن رتَّبت بكذبتك هذه عليك عقوبة من عقوبات الآخرة، تنتظرك، ولو أنك صدقت في الدنيا لرتَّبت على نفسك عقوبة من عقوبات الدنيا، تنتهي منك، فأنت وازن وقارن بين عقوبة الدنيا وعقوبة الآخرة، تجد أنه لا نِسْبة ولا تناسب، إذا كانت عقوبة الدنيا واحدة، فعقوبة الآخرة ملايين، دعهم يغضبوا، ماذا هناك؟! اصدق عند المرأة، ودعها تغضب؛ لأنك لو كذبتَ فليتَها ترضى، اصدق عند الجار، واصدق عند المدير، وبعد ذلك إذا صدقت باستمرار أرحتَ نفسك؛ لأن الصدق عُملة واحدة لها وجه واحد فقط، ليس عندك إلا الصدق؛ لكن الكذب فيه تلوُّن، ولهذا يقول الحكماء: إذا كنتَ كَذوباً فكن ذَكوراً. أي: اجعل ذاكرتك قوية لكي لا تقول كذبة الآن، وتأتي غداً تنقضها، وكم جهدك تتذكر كل ساعة، ودائماً الذي يكذب ينسى.

وأذكر مرة من المرات، وأنا مسئول، جاءني أحد العاملين يطلب مني إجازة اضطرارية لمدة ثلاثة أيام، فقلتُ له: لِمَ؟ ماذا عندك من شُغل؟! فطبعاً لا بد أن أقتنع بالعذر حتى أعطيه الإجازة، فقال: عندي أختي مريضة، ومنوَّمة في المستشفى، وهو ليس لديه أخت، ولا معه مريضة، وإنما معه عمل آخر، قلتُ: لا مانع، فوقعت له على الإجازة، وذهب، وبعد فترة، أظنها حوالي بعد شهر، ونحن جالسون، وهو يصب الشاي، فكأنه أتى بقطعة خبز من حب جيد، فقلت له: والله هذا الحَب جيد، يا أخي! فقال: تريد أن أعطيك من هذا الحب؟ قلت: من أين؟ قال: معي في المنـزل أتيت به من المزرعة، فقلتُ: متى؟ قال: يوم أخذت تلك الإجازة، فقلت له: أنت أخذت ثلاثة أيام؛ لأن أختك مريضة، أم لكي تسوِّي الزرع والجرجير، قال: الله أكبر على الكذب! فقلت له: كفى، عرفتُ الآن أنك كذاب.

فكم تساوي هذه الكذبة؟! فلو أنه جاءني ذاك اليوم وقال لي: عندي (عَرْنة) في الزرع، وأريد أن (أدوسها)، وما عندي فرصة، فأنا أخرج من الدوام بعد العصر، فهل سأقول له: لا؟! بل أقول: نعم. لا مانع؛ لكن وضَعَها كذبة، ونسيها؛ لأنها ليست صدقاً.

فالصدق هو الذي لا ينساه الإنسان، أما الكذب فينساه الإنسان.

فيقول الحكماء: إذا كنتَ كَذوباً فكن ذَكوراً. أي: شغِّل (مخَّك) إلكترونياً، بحيث لا تنسى أبداً.

ومرة من المرات، وكنا في الدوام، افتقدت أحد العمال، وما وجدتُه، وكان يوم ثلاثاء -وتعرفون أن يوم الثلاثاء أكثر الناس يخرجون دون إذن؛ لكي يتقضون من السوق- فبحثنا، أين فلان؟ أين فلان؟ فأجاب رجل آخر وقال: غير موجود، فجلست أبحث عنه حتى جاء بعد صلاة الظهر، فقلت له: أين أنت يا أخي؟! فقال: بل أين أنت؟ أنا بحثت عنك وما وجدتُك، فقلت له: أنا موجود وما خرجت، قال: جئتك إلى مكتبك وما وجدتُك، فظننتُك ذهبتَ هكذا أو هكذا، قلتُ: ماذا هناك؟ قال: جاءني اتصال هاتفي أن أختي توفيت في المستشفى -وهذا غير الأول وطبعاً يعرفون أننا لا نعرف أهاليهم؛ لأنهم من بلاد بعيدة- فقلت: توفيت؟ قال: نعم. توفيت، واستلمنا الجثة، ونتصل الآن على الجماعة، لكي يأتوا بعد العصر، ثم ظهر من بعد أن الرجل لديه ثلاثة رءوس من الغنم، ويريد بيعها في سوق الثلاثاء، وما لديه فرصة إلا اليوم، وما استطاع أن يعتذر، فجاء بهذه الكذبة، فقلت: جزاك الله خيراً، وأحسن الله عزاءكم، ما اسم الأخت الكريمة المتوفاة؟ قال: فلانة، قلت: تعال نسجلها، وفي أي قسم؟ قال: في قسم النساء، -فهنا يتضح أن الكذب لا يمكن أن يستمر- قال: قسم النساء، قلت: خيراً، ثم استدعيت أحد الموظفين وقلت له: اكتب كتاباً إلى إدارة المستشفى، واطلب منهم معلومات كافية عن المتوفاة فلانة بنت فلان؛ نظراً لأن أخاها يعمل عندنا، ونريد أن نمنحه إجازة من أجل العزاء، قال العامل: اكتب اكتب -أي: يريد أن يتحداني- قلت للموظف: اكتب، واذهب أنت، فذهب العامل، وإذا بالموظف يكتب فعلاً، والعامل قلق، يتتبع الخبر، هل سيكتب حقيقة أم مجرد تخويف؟ أخيراً: كُتب الكتاب، وجيء به إليَّ من أجل التوقيع، وعندما أردت التوقيع إذا بالعامل يدخل عليَّ، ويقول: حذار، الكذب ليس بجيد، أنا أتيت لكم بهذا العذر، أريد أن تعذرني فتورطني وتكتب للصحيَّة، وليس هناك من أحد، والله ما ماتت أختي، ولا معي أخت، فقلت: إذاً لماذا تكذب عليَّ؟! هل أنا مغفل؟! قال: لا. قلت: فماذا؟ قال: استحييتُ منك، قلت: سبحان الله! والله ما استحييت مني، لو أنك استحييت مني لصدقت معي؛ لكنك ظننتَ أنني (كرتون) جالس على الكرسي، وأن كذبتك ستنطلي عليَّ، أتدري؟ والله لأضاعِّفنَّ عليك العقوبة، فالعقوبة عندنا: (50%)، ثم: يوم على الكذب، والإدلاء بمعلومات غير صحيحة، فأصُكُّه بيومين، قال: كفى تبت ولن أكذب إلى يوم القيامة.

فالشاهد في الموضوع -أيها الإخوة- أنه لا يوجد داعٍ للكذب، ونحن نقول هذا -أيها الإخوة- ونؤكد عليه باستمرار: لا يوجد داعٍ للكذب، لكن أكثر الناس يكذبون من غير داعٍ ولا ضرورة، فكيف تكذب؟! لا. بل كن صادقاً في كل شيء، في كل تصرفاتك، وعوِّد أولادك على الصدق، واجعل لهم ثواباً، فلو دخلت المنزل ووجدتَ -مثلاً- (راديو) مكسوراً، أو (ثلاجة) مخلوعة، ثم جاء ولدك وقال: أنا فعلت ذلك يا أبي، فقل له: لا يهمك -إن شاء الله- لن تكررها، ولو أنك كذبتَ ثم اكتشفتُ بعد ذلك لعاقبتُك عقوبة مضاعفة؛ لكن ما دمتَ صادقاً فأنا أشكر فيك هذه الشجاعة الأدبية، وأشكر فيك هذا الصدق والوفاء، سامحك الله، فبهذه الطريقة! يحب الولد الصدق إلى يوم القيامة؛ لأن الصدق نجاة.

وسوف أذكر لكم الآن القصة التي وعدتُكم بها؛ لنعيش في أجوائها، وكان بالإمكان أن آتي بها مما حفظت من الحديث، ولكني آثرتُ أن أنقل لكم الحديث بنصه، كما رواه الإمام البخاري في صحيحه ، وهو من حديث كعب بن مالك ، حديث الثلاثة الذين خُلِّفوا؛ لننتقل جميعاً إلى ذلك الجو العظيم، وتلك المشاهد التي مرت بهذا الصحابي الجليل وهو مشهد التخلف، ثم مشهد المعاناة بعد رحيل النبي صلى الله عليه وسلم، وذهابه إلى الغزو، ثم مشهد الألم الذي حصل له بعد أن رجع الرسول، ماذا يقول ويكذب، ثم مشهد الصدق، ثم مشهد المعاناة، وأخيراً مشهد الفرج الذي جاء بعد توبة الله عز وجل على كعب بن مالك ، وصاحبيه هلال بن أمية ومرارة بن الربيع رضي الله عنهم وأرضاهم.

نبذة مختصرة عن راوي الحديث ابن شهاب الزهري

الحديث يرويه الإمام البخاري في صحيحه ، وهو من رواية ابن شهاب الزهري ، الذي ذكرنا لكم طرفاً من سيرته، والسيرة ذكرها الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء : [وهو أنه دخل هو وسليمان بن يسار على هشام بن عبد الملك ، فسأل هشامٌ سليمانَ بن يسار -وهذا الأخير إمام من أئمة الدين- قال له: من الذي تولى كِبْرَه؟ ...] وذلك في قضية الإفك، التي دارت حول عرض عائشة رضي الله عنها، قال الله: وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النور:11]، وبني أمية متعاطفين مع عائشة وضد علي رضي الله عنهما.

فقال: [من الذي تولى كِبْرَه؟ قال سليمان بن يسار : عبد الله بن أُبَي بن سلول -زعيم المنافقين- قال: كذبتَ، بل علي بن أبي طالب ، فسكتَ سليمان ، قال: أمير المؤمنين أعلم، ثم دخل الزهري قال له: يا زهري ! من الذي تولى كِبْرَه في الإفك؟ قال: عبد الله بن أُبَي بن سلول ، قال: كذبتَ، بل علي بن أبي طالب ، قال: أنا أكذبُ -لا أبا لك-؟! بل كـذبتَ أنتَ وأبوك وجـدك، والله لو نادى منادٍ من السماء أن الكذب حلال ما كذبتُ]

ابن شهاب هذا لا يعرف الكذب رضي الله عنه وأرضاه، وهو إمام وعَلَم من أعلام الإسلام، وحافظ من حفاظ الأمة، وهو تابعي، أدركَ أبا هريرة ، ولقي بعض الصحابة، مثل ابن مسعود ، وأخذ عنهم.

يقول هو عن نفسه؛ فهو حافظ، وعقليته عقلية كمبيوتر، لا ينسى شيئاً، فيقول: [والله ما استودعتُ قلبي شيئاً فنسيه قط] ولم يكن له في بيته كتاب واحد، كانت كتبه كلها في رأسه، وما عنده مرجع واحد إلا رأسه، وكانت تودع عنده الأمانات من العلم، إذا أراد الرجل أن يحج أو يغزو أو يسافر، وعنده عشرة أحاديث أو خمسين حديثاً أو ستين حديثاً فإنه يذهب إلى ابن شهاب الزهري ويستودعها عنده حتى يرجع؛ لأنه يخاف أن يسافر، وينساها من جراء أعمال السفر.

وتذكر كتب العلم أن رجلاً غزا في سبيل الله، وكان معه مائة حديث، فجاء إلى ابن شهاب الزهري ، وقال: [إن عندي مائة حديث، وإني أخشى أن تتفلت عليَّ، وإني ذاهب للغزو في سبيل الله، أريد أن أستودعها عندك ، قال له: كثرت عندنا الأمانات؛ لكن هات ما عندك، فسمَّع ذاك، وهذا يسجل، من مرة واحدة فقط، فذهب الرجل، وبعد عشر سنوات من الجهاد استوطن، ثم حنَّ إلى بلاده ورجع، فلما رجع كان أول شيء يسأل عنه الحديث، يريد أحاديثه، فجاء إلى ابن شهاب ، وقال له: يا إمام! إني كنتُ قد استودعتُ عندك مائة حديث قبل سفري إلى الغزو، وقد جئت اليوم، وأنا أريدها، قال: متى؟ قال: قبل عشر سنوات ، قال: أبطأتَ علينا -أي: تأخرت علينا- لكن سجل، هات قلمك -ثم يُمليها عليه كاملة، مائة حديث، كأنها مكتوبة بين عينيه-]

ويقول هو عن نفسه: [ترددتُ بين الحجاز والشام خمساً وأربعين سنة، والله ما استطرفت بها حديثاً واحداً -يقول: ما وجدتُ طريفاً، أي: جديداً في الشام ولا في الحجاز - إلا وهو في رأسي] كل الأحاديث الموجودة في الشام وفي الحجاز موجودة في رأسه، رضي الله عنه وأرضاه.

يقول الإمام مالك : [جلستُ إلى الزهري ، فحدثني بمائة حديث ثم التفت إليَّ -و مالك لا يحتاج إلى تعريف؛ لأنه علاَّمة- فقال: يا مالك ! كم حفظتَ من الأحاديث؟ -أي: التي قلتُها لك الآن؟- قال: حفظتُ أربعين -ومن الذي يحفظ من مرة واحدة أربعين حديثاً؟ أي أن نسبة الحفظ عنده (40%)- قال: حفظتُ أربعين ، فوضع الزهري يده على جبهته، وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون! كيف نقص الحفظ] يقول: كيف نقص الحفظ؟ لم تعد تحفظ إلا (40%)؟ أما الزهري فيحفظ (100%) كلها فلا ينقص، رحمة الله عليه.

وكانت علومه كلها من رأسه، وكان يكثر من شرب العسل، ويقول: [إن شرب العسل يُقوي الذاكرة] وأنا لا أدري، هل هذا الكلام صحيح أم لا؟ لكن ذكره عنه العلماء، والذي أعرف أن شرب العسل شفاء من كثير من الأدواء، خصوصاً أدواء البطن والقرحة والتهابات القولون وأدواء الباطنية، فهذه كما نص القرآن: يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاس [النحل:69]، ففيه شفاء؛ لكن أفادنا الإمام هذا أن شرب العسل يقوي الذاكرة، ويجعل الإنسان سريع الحفظ، وبالإمكان -والحمد لله- أن نشرب العسل باستمرار؛ ولأنه لا يضر؛ لأن بعض الشباب أو الناس يقول: أريد أن آكل عسلاً، فإذا أكلت ملعقة يضيمني ويحرقني، هذا بالطبع يحصل؛ لأنه يأكله، فلا تأكله بل اشربه، فهناك فرق بين من يأكل ويشرب؛ لأنك إذا أكلته هكذا ونزل إلى معدتك، فإنه يكون ثقيلاً وحاراً، أما إذا ذوَّبتَه في الماء الفاتر، ثم شربته، فإنه يسري مباشرة من الفم إلى المعدة، والمعدة لا تجري عليه إي إجراء، كل أطعمة الدنيا تحتاج إلى هضم إلا العسل فإنه مهضوم في بطن النحلة، ينـزل مباشرة إلى الدم ويسري في الجسم مباشرة، فلا يحتاج إلى أي إجراءات داخلية؛ لأنه كان يكثر من شرب العسل.

يحدث عنه عمرو بن دينار -وهذه عظيمة جداً- يقول: [ما رأيتُ أنَصُّ للحديث من الزهري -أي: أحْفَظَ لِنَصِّ الحديث- وما رأيتُ أحداً أهون عنده الدنيا منه، والله لقد كانت عنده الدراهم كالبَعَر -يقول: الدنيا هذه إذا رآها فما كأنه يقلب إلا بَعَراً- لا يحسب لها حساباً، ولا يعرف لها وزناً].

ويقول عنه عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: [عليكم بـابن شهاب ، فإنكم لا تجدون أحداً أعلم بالسنة منه رضي الله عنه وأرضاه]

تخلف كعب رضي الله عنه عن غزوة تبوك

يحدِّث هذا الحديث الذي نحن بصدده، فيقول: عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك أن عبد الله بن كعب بن مالك -ولده الكبير- وكان الذي يقود أباه ويلازمه عندما كَبُر وعمي، يقول: سمعت كعب بن مالك -أي: أباه- يحدِّث حين تخلف عن غزوة تبوك، فيقول:لم أتخلف عن غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في غزوة تبوك ، غير أني كنتُ تخلفتُ بـبدر ، ولم يعاقب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً تخلف عنها؛ لأنه إنما خرج لاقتطاع عير قريش، حتى جمع الله بينه وبينهم على غير ميعاد، ما خرج الرسول صلى الله عليه وسلم في بدر للقتال، بل خرج لاقتطاع القافلة؛ ولكن وقعت المعركة، ونصر الله فيها رسوله وحزبه، ولقد شهدتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة - كان من النقباء الذين بايعوا في العقبة - يقول: وما أحب أن لي بها بدراً ، -يقول: ما أحب أني شهدتُ بدراً ولا شهدتُ بيعة العقبة - إن كانت بدر أذكر في التاريخ منها -أي: أن بدراً مشهورة في تاريخ الإسلام أكثر من شهرة قصة ليلة العقبة -.

ولقد كان من خبري: أنني لم أكن أقوى ولا أيسر حين تخلفتُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الغزوة ثم يقول: والله ما اجتمعت عندي راحلتان قط إلا في تلك الغزوة -يقول: ما كنت أقدَر ولا أيسر مني في تلك الغزوة- وما اجتمع عندي راحلتان -أي: جَمَلان في أي غزوة إلا تلك الغزوة- ولم يكن رسـول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا وَرَّى بغيرها -وَرَّى، أي: أخفى جهة السير إلى هذه الجهة، وذكر أنه سيذهب إلى جهة أخرى- إلا هذه الغزوة، فقد غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبر المسلمين بها -لم يقل لهم: نذهب إلى جهة معينة غير الجهة التي ذهب إليها لأنه كان في حر شديد، وفي سفر بعيد، وملاقاة عدو كثير-.

فجلَّى للمسلمين أمرها، حتى يأخذوا الأُهبة، ويستعدوا لها كامل الاستعداد، والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يومها كثير جداً، لا يجمعهم كتاب حافظ -أي: لا يوجد ديوان يستطيع أحدٌ أن يعدهم فيه؛ لأنهم كما ذُكِر في السنن أنهم بلغوا أربعين ألفاً، وقيل: ثلاثين ألفاً، وقيل: عشرة آلاف، والصحيح: أنهم ثلاثون ألفاً-.

قال كعب : فما رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أنه سيخفى -أي: من كثرة الناس يعتقد أن أي شخص يريد أن يتأخر أنه لن يظهر- ما لم ينـزل فيه وحي، وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين طابت الثمار والظلال، وتجهز رسول الله، وتجهز المسلمون، وطفقتُ أغدو لكي أتجهز، فأرجع ولم أقضِ شيئاً، فأقول في نفسي: إنني قادر.

ولم يزل يُنادَى بي حتى اشتد بالناس السير، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم أقضِ من جهازي شيئاً، فقلت: أتجهز بعده بيوم أو يومين، ثم ألحق بهم، فغدوتُ بعد أن فصَلُوا لأتجهز، فرجعتُ ولم أقضِ شيئاً، ثم غدوتُ، ثم رجعتُ ولم أقضِ شيئاً، فلم يزل بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو، وهممتُ بعدهم أن أرتحل فأدركهم، وليتني فعلتُ، فلم يُقدَّر لي ذلك -ما عنده أي عذر، إنما كان يُسَوِّف، ويقول: سأخرج، حتى ذهب عليه الوقت ولم يخرج- ثم كنتُ إذا خرجتُ إلى السوق بعد خروج النبي صلى الله عليه وسلم فطفتُ في السوق أحزنني أنني لا أرى إلا رجلاً مغموساً في النفاق -يقول: المخلفون كلهم كانوا من المنافقين، وهو مؤمن- فيقول: ما من أحد أراه إلا منافقاً، فأحزن كثيراً، أو رجلاً ممن عذر الله من الضعفاء الذين اعتذروا وأعفاهم الله من الغزو -الأعمى والأعرج والمريض هؤلاء أعذرهم الله عز وجل- ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك ، فقال وهو جالس في تبوك: ما فعل كعب ؟ فقام رجل من بني سلمة، وقال: يا رسول الله! حبسه بُرْداهُ، ونَظَرُه في عِطْفِه -البُرد: الثوب، ونَظَرُه، أي: تَلَفُّتِه في جنبه، أي: مشغول بشكله وجماله- فقام معاذ بن جبل رضي الله عنه وأرضاه وقال: بئس ما قلتَ، والله يا رسول الله! ما علمنا عليه إلا خـيراً.

الله أكبر! ما أعظم الدفاع عن المؤمن بظهر الغيب، وهذا يجب أن يحيا في نفوس الناس، فإذا سمعتَ أن رجلاً ينال من مؤمن، وأنت تعرف البراءة في المؤمن أن تدافع عنه، وتقول الحق، وتقول: والله ما علمنا عليه إلا خيراً؛ لأن هذا الرجل أراد بها منـزلة عند النبي صلى الله عليه وسلم من أنه هو جاهد وغزا، وذلك جالس.

قال: حبسه برداه، ونظره في عطفه، فقال معاذ : بئس ما قلتَ، والله ما علمنا عليه يا رسول الله إلا خيراً، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئاً.

مشهد الصدق من قصة كعب رضي الله عنه

قال كعب : فلما بلغني أنه قفل راجعاً من تبوك -جاءت الأزمة الشديدة الآن، ماذا يقول كعب لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟- حضرني همي، وطفقت أتذكر الكذب، وأقول: بماذا أخرج من سخطه غداً؟ واستعنت على ذلك بكل ذي رأي من أهلي، فلما قيل: إن رسول الله قد أظل قادماً زاح عني الباطل، وعرفتُ أني لن أخرج منه أبداً بشيء من الكذب، فأجمعتُ وعزمتُ على صدقه مهما كانت النتائج، وأصبح رسول الله قادماً، وكان إذا قدم من سفرٍ بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين، ثم جلس للناس، فلما فعل جاءه المخلفون من الأعراب -المنافقون الذين جاءوا يعتذرون- فطفقوا يقدمون الأعذار، ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلاً، فقَبِل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم، وبايعهم، واستغفر لهم، فسلموا من سخط الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن ماذا حصل؟ نزل قول الله عز وجل فيهم: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [التوبة:80]، هذه أول المصيبة، فما العمل الآن؟! يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ [التوبة:94]. يقول: (أما أنا فلما سلمتُ عليه تَبَسَّم تَبَسُّم المُغْضَب -أي: المعاتب- لماذا يا كعب تتخلف عن الجهاد؟ -ثم قال: تعال، فجئتُ أمشي حتى جلستُ بين يديه، قال: ما خلَّفك يا كعب ؟! ألم تكن قد ابتعت ظهراً؟ -اشتريت لك ظهراً، أي: جملاً- قلتُ: بلى. ثم قلت: إني والله لو جلستُ عند غيرك من أهل الدنيا لرأيتُ أني سأخرج من سخطه بعذر -يقول: سألفق له، وهو رجل قدير على الكلام- ولقد أعطيت جدلاً -عندي إمكانية- ولكن والله لقد علمتُ لئن حدثتُك اليوم بحديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك عليَّ في الدنيا أو في الآخرة -يقول: لا أستطيع الكذب- والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفتُ عنك، فقال صلى الله عليه وسلم: أما هذا فقد صدق، قم حتى يقضي الله فيك -لا يستطيع رسول الله أن يستغفر له؛ لأنه ليس له عذر، كيف يستغفر له؟! فقال: الحكم فيك لله تبارك وتعالى- قال: فقمتُ وخرجتُ وقام رجال من بني سلمة واتبعوني، وقالوا: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنباً قبل هذا -لا يوجد لك أي ذنب- ولقد عجزت ألا تكون اعتذرت إلى رسول الله بما اعتذر به المتخلفون، ولقد كان كافيك استغفار النبي صلى الله عليه وسلم -فلو استغفر لك الرسول فقد انتهى عذرك وقُبِل، وما عليك شيء- يقول: فما زالوا بي يؤنبونني حتى أردتُ أن أرجع فأُكذب نفسي -فيقولون له: ارجع؛ لأنه الآن أصبح في مصيبة، فما دام أنه لم يستغفر له، لم يبقَ إلا سخط الله وعذاب الله-، يقول: هل بقي معي أحدٌ غيري؟ -أي: هل قال هذا الكلام أحدٌ غيري؟- قالوا: نعم. رجلان، قلتُ: من هما؟ قالوا: مرارة بن الربيع وهلال بن أمية ، فذكروا لي رجلين قد شهدا بدراً -انظروا كيف يكون الزملاء الصالحون، يقول: ذكروا لي اثنين من أهل بدر ، صادقين- فقلتُ: والله إنَّ لي فيهما أسوة -أنا معهم، مصيري مصيرهم- فمضيتُ حينما ذكروهما لي).

مشهد المعاناة من قصة كعب رضي الله عنه

يقول كعب : (ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا نحن الثلاثة من بين من تخلَّف عنهم، فاجتنبنا الناس، وهجرونا، وتغيروا لنا، حتى تنكَّرت في نفسي الأرض، فما هي بالأرض التي أعرفها، فلبثنا في ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباي -يعني: هلال ومرارة - فقعدا في بيوتهما، واستكانا يبكيان، وأما أنا فكنتُ أشَبَّ القوم وأجْلَدَهم، كنتُ أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف في الأسواق، ولا يكلمني منهم أحد، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلم عليه وهو في مجلسه في الصلاة، فأقول في نفسي: هل حرَّك شفتيه برد السلام، أم لا؟ ثم أصلي قريباً منه، فأسارقه النظر -أتلفت إليه بعيني- فإذا أقبلتُ على صلاتي نظر إليَّ، وإذا التفت نحوه أعرض عني، حتى إذا طال عليَّ ذلك من جفوة الناس مشيت يوماً من الأيام، وتسوَّرتُ جدار حائط لـأبي قتادة -ابن عمه- أحب الناس إليَّ، فسلمت عليه، فوالله ما رد عليَّ السلام). انظروا كيف تكون الاستجابة والانقياد والامتثال؟ ما دام أن الرسول نهى ولو أنه ابن عمه، ولو أنه أقرب الناس إليه، ما دام أنه منهي عنه فيجب الامتثال، من كان يراقبه وهو في الحائط لو أنه سلَّم عليه، وقال: لا عليك يا رجل! وإن شاء الله تفرج؟! ولكنهم يخافون الله، ويعملون العمل بمراقبة عظيمة، قال: (فوالله ما رد عليَّ السلام، فقلتُ له: يا أبا قتادة ! أنشدك بالله، هل تعلمني أحب الله ورسوله؟ فسكت، فعدتُ فنشدتُه، فسكت، فعدت فنشدته، فقال: الله ورسوله أعلم -فقط لم يرد عليه سوى بهذه الكلمة- ففاضت عيناي بالدمع، وبكيت، وتوليت، حتى تسورت الجدار، فبينما أنا أمشي في سوق المدينة ، جاءت محنة جديدة، إذا بنبطي من أنباط أهل الشام ، ممن قدم بالطعام يبيعه في المدينة ، يقول: من يدلني على كعب ؟ فطفق الناس يشيرون له إليَّ، فجاءني ودفع إليَّ كتاباً من ملك غسان، فإذا فيه: يا كعب ! أما بعد: فإنه بلغنا أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك). يقول صاحب الفتح : رحم الله كعباً ، فلقد ملئ إيماناً. لو كان ضعيف الإيمان لانهار أمام هذا الإغراء، ولقال مباشرة: ما دام أنهم هجروني فسأبدل بأرضهم أرضاً أخرى.

لكن يقول: (فطفقت إلى التنور، ويَمَّمْتُه، وسجرت فيه الرسالة، وقلت: هذا البلاء.

يقول: وبعد أن مضت علينا أربعون ليلة إذا برسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني ويقول: إن رسول الله يأمرك أن تعتزل امرأتك -هذه مصيبـة أكـبر- قلت: أطلقها؟ قال: لا. بل اعتزلها ولا تقربها، وأرسل إلى صاحبيَّ مثل ذلك، فقلت لامرأتي: الحقي بأهلكِ، فتكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر.

قال كعب : فجاءت امرأة هلال بن أمية إلى رسول الله وقالت: يا رسول الله! إن هلالاً شيخ كبير ضائع، والله يا رسول الله! ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا -رضي الله عنهم وأرضاهم- فأذن لي أن أجلس معه، قال كعب : فقال لي بعض أهلي: لو استأذنتَ رسول الله كما استأذنت امرأة هلال ، فقلتُ: والله لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما يدريني ماذا يقول لي وأنا رجل شاب؟ -ربما لن يسمح لي- فلبثتُ بعد ذلك عشر ليالي -وذلك مع الأربعين ليلة، كم صارت؟ صارت خمسين ليلة- حتى كَمُلَت لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول الله عن كلامنا).

مشهد الفرج من قصة كعب رضي الله عنه

يقول: فلما صليتُ صلاة الفجر صُبح خمسين ليلة وأنا على ظهر بيت من بيوتنا، فبينما أنا جالس أذكر الله في الحالة التي ذكر الله في القرآن، قد ضاقت عليَّ نفسي، وضاقت عليَّ الأرض بما رحُبت، سمعتُ صوت صارخ يأتي من جهة جبل سَلْع ، بأعلى صوته: يا كعب بن مالك ! أبشِرْ -يُسْمِعُهُ في آخر الليل، أحد الصحابة يصيح ويبشره- قال: فخررتُ ساجداً، وعرفتُ أنه قد جاء الفرج، وآذَنَ رسولُ الله بتوبة الله علينا، فذهب الناس يبشروننا، وذهب قِبَل صاحبيَّ مبشرون، وجاء إليَّ رجلٌ وهو راكب على فرسه، وسعى ساعٍ من أسلم، فأوفى على الجبل، وكان الصوت أسرع من الفرس، فلما جاءني الذي سمعتُ صوته يبشرني بتوبة الله عليَّ نزعتُ له ثوبيَّ، فكسوتُه إياهما ببُشراه، ووالله ما أملك غيرهما يومئذٍ. وهذا فيه جواز تبشير البشير، فإذا جاءك شخص يبشرك بـمولود، أو يبشرك برُتبة، أو يبشرك بأي أمر تفرح به، ففيه جواز أن تعطيه بشارة؛ لأن هذا مما يوحد ويؤلف القلوب.

قال: (فانطلقتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلقاني الناس فوجاً فوجاً، يهنئونني بالتوبة من الله، يقولون: لِتَهْنَكَ توبة الله عليك يا كعب ! قال كعب :حتى دخلتُ المسجد، وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس حوله الناس، فقام إليَّ طلحة بن عبيد الله . -وهذا أيضاً مما ينبغي أن يكون عليه خلق المسلم يقول: فقام إليَّ طلحة بن عبيد الله- يهرول، حتى صافحني وهنَّأني، والله ما قام إليَّ رجل غيره، ولا أنساها لـطلحة أبداً، قال كعب : فلما سلَّمتُ علـى رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجُهـه يبْرُق من السرور؛ لأن الرسول كان إذا أُعجِب وسُرَّ بشيء يُرَى ذلك في وجهه صلوات الله وسلامه عليـه، يقول: فقال لي: أبشر يا كعب ! بخير يوم مرَّ عليك منذ ولدتك أمُّك، فقلتُ: أمِنْ عندك يا رسول الله، أم من الله؟ قال: بل من عند الله عز وجل، وكان إذا سُرَّ استنار وجهُه حتى كأنه قطعة قمر، وكنا نعرف ذلك من وجهه صلوات الله وسلامه عليه، فلما جلستُ بين يديه قلتُ: يا رسول الله! إن من توبتي أن أنخلع من مالي كله صدقة إلى الله وإلى رسوله، فقال صلى الله عليه وسلم: بل أمْسك عليك بعض مالك، فهو خير لك -أي: تصدَّق بشيء منه فقط، وأمسك على الباقي- قلت:فإني أُمْسك سهمي الذي بـخيبر ، فقلتُ: يا رسول الله! إن الله إنما نجَّاني بالصدق، وإن من توبتي ألا أحدِّث إلا صدقاً ما بقيت، قال كعب : فوالله ما أعلم أحداً من المسلمين أبلاه الله بصدق الحديث منذ ذكرتُ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن مِمَّا أبلاني، ما تعمَّدتُ منذ ذكرتُ ذلك إلى يومي هذا كذباً، وإني لأرجو أن يحفظني الله عز وجل فيما بقي). وأنزل الله عز وجل على رسوله توبة الثلاثة في قوله: لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [التوبة:117-118]، ثم أنزل الله عز وجل في الذين كذَبوا واعتذروا بالأعذار الكاذبة، فقال: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * يَحْـلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [التوبة:95-96]، ثم نزل قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119].

هذه هي القصة، كما أوردها الإمام البخاري في صحيحه ، ونستخرج منها العبر والعظات، ونقتدي به رضي الله عنه، ونتحمل آثار الصدق؛ فإنها مهما بلغت لن تصل إلى آثار الكذب التي فيها العذاب والدمار في الدنيا وفي الآخرة.

أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يجعلني وإياكم من الصادقين، وأن يحمينا وإياكم من الكذب، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، والله أعلم.

أذكر لكم الآن بعض الإجابات المختصرة على بعض الأسئلة.


استمع المزيد من الشيخ سعيد بن مسفر - عنوان الحلقة اسٌتمع
اتق المحارم تكن أعبد الناس 2930 استماع
كيف تنال محبة الله؟ 2929 استماع
وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً 2805 استماع
أمن وإيمان 2678 استماع
حال الناس في القبور 2676 استماع
توجيهات للمرأة المسلمة 2605 استماع
فرصة الرجوع إلى الله 2572 استماع
النهر الجاري 2478 استماع
دور رجل الأعمال في الدعوة إلى الله 2468 استماع
مرحباً شهر الصيام 2403 استماع