تقوى الله تعالى سبيل الفلاح في الدنيا والآخرة
مدة
قراءة المادة :
13 دقائق
.
تقوى الله تعالى سبيل الفلاح في الدنيا والآخرةقال الله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ ﴾ [الأعراف: 201، 202].
يقول الطبري رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة: إن الذين اتقوا الله تعالى من خلقه فخافوا عقابه بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه، إذا مسَّهُم طائف من الشيطان من غضب، أو أي عارض كان مما يصدُّ عن واجب حق الله تعالى عليهم، تذكَّروا عقاب الله عز وجل، وثوابه، ووعده، ووعيده، وأبصروا الحق، فعملوا به، وانتهوا إلى طاعة الله جل جلاله فيما فرض عليهم وتركوا فيه طاعة الشيطان.
﴿ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ ﴾ [الأعراف: 202]؛ أي: وإخوان الشياطين تمدُّهم الشياطين في الغي؛ أي: يزيدونهم؛ ثم لا يقصرون عما قصر عنه الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان؛ وإنما هذا خبرٌ من الله تعالى عن فريقي الإيمان والكفر، بأن فريق الإيمان وأهل تقوى الله تعالى إذا استزلَّهم الشيطان تذكَّروا عظمة الله سبحانه وعقابه، فكفَّتهم رهبتُه عن معاصيه، وردَّتهم إلى التوبة والإنابة إلى الله عز وجل مما كان منهم من زلَّة، وإن فريق الكافرين يزيدهم الشيطان غيًّا إلى غيِّهم إذا ركبوا معصية من معاصي الله سبحانه، ولا يحجزهم تقوى الله تعالى، ولا خوف المعاد إليه عن التمادي فيها والزيادة منها[1].
ويقول السيوطي رحمه الله: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا ﴾ هم المؤمنون، وفي قوله: ﴿ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ ﴾، قال: الغضب، وقيل: اللمة من الشيطان، وقيل: الهمُّ بالفاحشة، وعدم العمل بها، وقيل: زلوا ثم تابوا.
ثم أشار رحمه الله إلى ما أخرجه البيهقي في شعب الإيمان من طريق وهب بن جرير عن أبيه قال: كنت جالسًا عند الحسن إذ جاءه رجل فقال: يا أبا سعيد، ما تقول في العبد يذنب الذنب ثم يتوب، قال: لم يزدد بتوبته من الله إلا دنُوًّا، قال: ثم عاد في ذنبه ثم تاب، قال: لم يزدد بتوبته إلا شرفًا عند الله، قال: ثم قال: ألم تسمع ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قلت: وما قال ؟ قال: ((مثل المؤمن مثل السنبلة، تميل أحيانًا، وتستقيم أحيانًا - وفي ذلك تكبر- فإذا حصدها صاحبها حمد أمره كما حمد صاحب السنبلة بُرَّهُ))، ثم قرأ قـوله تعـالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ﴾ [الأعراف: 201] ﴿ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ﴾ [الأعراف: 202]، قال: هم الجن يوحون إلى أوليائهم من الإنس، ﴿ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ ﴾ [الأعراف: 202]؛ أي: لا يسأمون[2].
أسس عامة:
تتضمن الآية الكريمة أسسًا عامةً تجدُر الإشارة إليها كتمهيد للمضامين التربوية المتضمنة في الآيتين المشار إليهما، ومن هذه الأُسُس:
أولًا: إن الزلل والانحراف عن منهج الله تعالى ليس قاصرًا على الإنسان المسلم العامي؛ بل حتى المؤمن المتقي الله تعالى - على الرغم من تقواه ومعرفته بالله عز وجل - قد ينتابُه شيءٌ من التقصير، أو اقتراف بعض الذنوب لأي سبب من الأسباب؛ لأن الجميع بشر، وليسوا معصومين من الزَّلَل البتةَ؛ كما جاء في حديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( كلُّ ابن آدم خطَّاء وخيرُ الخطَّاءين التَّوَّابون))[3].
ثانيًا: إضافة إلى عجز الإنسان وقصوره، فإن الشيطان يتربَّص به الدوائر فهو ألدُّ أعدائه، كما أخبر بذلك المولى سبحانه في آيات كثيرة، منها قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ [يوسف: 5]، وقوله: ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا ﴾ [الإسراء: 53].
ويقول أبو السعود رحمه الله في تفسير الآية من سورة يوسف المشار إليها: عداوته قديمة وظاهرة فلا يألو جهدًا في إغوائك وإضلالك وحملك على ما لا خير فيه[4].
وتخيَّل أيها الإنسان المسلم ماذا يفعل هذا العدوُّ المبين من خطوات ومؤامرات محكمة للإيقاع بك وإغوائك عن سبيل المؤمنين والصالحين؟ فانتبه لخطواته ونزغاته وَكُنْ عَلَى حَذَرٍ دائم منه!!
ثالثًا: المتقون يتميَّزون عن غيرهم إنْ وقعوا في شيء من الذنوب والمعاصي والزلَّات لم يستمرؤوها ويتلذَّذُوا ويجاهروا بها كما يفعله بعض المقصِّرين، فسرعان ما يتذكَّرون عظمة الله تعالى وقدرته وأليم عقابه، ويصحون مـن غفلتهم، ويعودون إلى خالقهم عالم السر وأخفى متذللين مستغفرين نادمين على ما اقترفوه من ذنب وتجاوزٍ لحدود الله تعالى وحرماته؛ لأنهم على علم ومعرفة تامة بأن الله تعالى غفور رحيم؛ قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [النساء: 110].
المضامين التربوية:
احتوت الآية الكريمة على مضامين تربوية عديدة نحن في أمسِّ الحاجة إليها اليوم، ومنها:
أولًا: إن الإنسان بصفة عامة ينتابه حالة من الضَّعْف، والقصور البشري، وقد أشار القرآن الكريم والسنة الشريفة إلى أنواع من هذا القصور، فهو: [كفَّار، كفور، خصيم مبين، ضعيف، عجول، قتور، أكثرُ شيء جدلًا، ظلوم جهول، هلوع، لربه لكنود ...] إلخ.
وعلى المهتمين بالعملية التربوية والتعليمية وإصدار اللوائح والقوانين في المجتمع التي تُنظِّم شؤون الناس في كافة المجالات أن يُراعوا هذه الحالات من الضَّعْف والقصور، وخصوصًا عند وضع المناهج الدراسية، وعند تطبيق مبدأ الثواب والعقاب، وعند الامتحانات الدراسية، وعند القبول في الجامعات والكليات والمعاهد والمدارس، وغير ذلك؛ لأن مراعاة هذه الطبيعة البشرية يُوجِد حالةً من التوازُن والتجانُس والتكيُّف بين الفرد وبين المجتمع الذي يعيش فيه فيعيش المجتمع بعامة والفرد بخاصة في أمن واستقرار وسلام.
ثانيًا: العناية التامَّة بالإكثار من ذكر الله تعالى على الدوام وفي كل الأحوال، بقراءة القرآن الكريم، والمحافظة على الأذكار المشروعة أدبار الصلوات المفروضة، والحرص على الأوراد الشرعية صباحًا ومساءً، امتثالًا لقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ﴾ [الأحزاب: 41، 42].
فكل ذلك وسيلة من وسائل حفظ الأمن للإنسان المسلم والمجتمع المسلم من نزغات الشيطان وإغوائه، فالخيرُ كلُّه في ذكر الله تعالى والقُرْب منه، فمن كان لله أقرب كان عن الشيطان أبعد.
ثالثًا: الاستعاذة من الشيطان ونزغاته؛ قال تعالى: ﴿ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [فصلت: 36].
ويقول ابن عاشور رحمه الله عند تفسير هذه الآية: إن فائدة الاستعاذة تجديد داعيةِ العصمة المركوزة في نفس النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الاستعاذة بالله من الشيطان استمدادٌ للعصمة وصقل لزكاء النفس مما قد يقترب منها من الكدرات، فبذلك تسلم نفسه صلى الله عليه وسلم من أن يغشاها شيءٌ من الكُدُرات، ويلحق به في ذلك صالحو المؤمنين[5].
رابعًا: الأوبة والعودة إلى الله تعالى في حالات المنشط والمكره والعُسْر واليُسْر؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾ [التحريم: 8].
فمن تعرَّف على الله تعالى في الرخاء وجد الله تعالى معه في الشدَّة، كما جاء في ذلك الحديث المشهور عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامَكَ، تعرَّف إلى الله في الرَّخاء يعرفْكَ في الشِّدَّة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله))[6].
خامسًا: تجنُّب الرفقة السيئة، والحرص عل مصاحبة الأخيار الذين يُعينون على طاعة الله تعالى والتمسُّك بأوامره واجتناب نواهيه؛ قال الله تعالى: ﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴾ [الكهف: 28][7].
سادسًا: محاسبة النفس لما تقوم به من أعمال وما تتلفَّظ به من أقوال وَفْق ميزان الشرع؛ قال تعالى: ﴿ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ [ق: 18]، وقال تعالى: ﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ﴾ [الإسراء: 36]، ولا شك أن محاسبة النفس دليلُ خير وفلاح، ويتأتَّى معها بتوفيق الله الاستقامة والصلاح.
سابعًا: تذكر عقاب الله تعالى وثوابه ووعده ووعيده؛ قال تعالى: ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 281]، وقال تعالى: ﴿ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ﴾ [مريم: 71، 72]، فمن تذكَّر محاسبة الله تعالى له في كل أموره، ودقَّق وراقب كل أقواله وأفعاله ومعاملاته، فلا شك سيكون حسابُه سهلًا مُيسَّرًا؛ بل سيفوز بما أعدَّه الله تعالى له من الخير والرضوان والفلاح العظيم.
ثامنًا: الابتعاد عن اقتراف الذنوب والمعاصي كبيرها وصغيرها، قليلها وكثيرها، وعدم الإصرار عليها؛ قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [آل عمران: 135].
تاسعًا: وجوب التفقُّه في دين الله تعالى، والاستزادة من العلوم الشرعية على وجه الخصوص؛ لقول الرسـول صلى الله عليه وسلم: ((ومـن يرد الله به خيرًا يُفقِّهْه في الدين))[8]؛ لأن الذي لا يتعلَّم ولا يتفقَّه في الدين لم يرد الله به خيرًا والعياذ بالله تعالى، وبالتالي فإنه قد يقع في الكثير من المحرَّمات والمحظورات الشرعية التي بسببها ربما يعيش معيشة ضنكًا في الدنيا والآخرة، ويجرُّ على نفسه ومجتمعه وأُمَّته المصائب والنكبات.
عاشرًا: وجوب إخلاص النية لله تعالى؛ لأن العبد إذا أخلص أعماله لله سبحانه، كان ذلك سببًا لبُعْد الشيطان عنه، وقد أكَّد ابن تيمية رحمه الله ذلك بقوله: "إن إخلاص الدين لله يمنع من تسلُّط الشيطان ومن ولاية الشيطان التي تُوجِب العذاب؛ كما قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ﴾ [يوسف: 24].
[1] الطبري؛ تفسير الطبري (جامع البيان في تأويل القرآن)، ج9، ص157-159).
[2] السيوطي؛ الدر المنثور في التفسير بالمأثور، ج 3، ص 632-633.
[3] ابن ماجه؛ سنن ابن ماجه، حديث رقم: 4251، ج 2، ص 1420، وحسَّنه الألباني في تعليقه.
[4] أبو السعود؛ إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم، ج 4، ص 253.
[5] ابن عاشور، التحرير والتنوير، ج 1، ص 191.
[6] ابن حنبل، المسند، مسند عبدالله بن عباس رضي الله عنهما، حديث رقم 2666، ج 6، ص 198، وصحَّحه شعيب الأرناؤوط في تعليقه.
[7] انظر: التوجيه الخامس عن الرفقة الصالحة ضمن المبحث الرابع: الأسرة الصالحة وأثرها في التربية.
[8]البخاري؛ صحيح البخاري، باب: من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، حديث رقم 71، ج 1، ص 39.