شرح حديث النعمان بن بشير: لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم
مدة
قراءة المادة :
6 دقائق
.
شرح حديث النعمان بن بشير:لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم
عَنْ أبِي عبدِ اللهِ النُّعمانِ بنِ بشيرٍ رَضْيَ اللهُ عنهما، قَالَ: سَمِعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: «لتُسَوُّنَّ صُفوفَكم أو ليُخالِفنَّ اللهُ بينَ وُجوهِكم».
متفق عليه.
وفِي روايٍة لمسلم: كانَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُسوي صفوفَنا حتَّى كأنَّما يسوي بها القِداحَ، حتَّى إذا رأى أنَّا قد عقَلنا عنه ثمَّ خرَج يومًا، فقام حتَّى كادَ أن يكبرَ، فرأَى رجلًا باديًا صدُره، فقال: «عِبادَ اللهِ لتُسوُّنَّ صُفوفَكم أو لَيخالِفنَّ اللهُ بين وُجوهِكم».
قَالَ العلَّامةُ ابنُ عثيمينَ - رحمه الله -:
قَالَ المؤلِّفُ رحِمَه اللهُ تعالَى، فيما نقلَه عن النُّعمانِ بنِ بشيرٍ - رَضْيَ اللهُ عنهما - أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «لتُسوُنَّ صفوفَكم، أو ليُخالِفنَّ اللهُ بين وجُوهِكم».
الجملة الأولى: مؤكَّدةٌ بثلاثةِ مؤكِّدات؛ بالقَسَمِ المقدرِ، واللام، ونون التوكيدِ، «أو لَيخالِفنَّ اللهُ بين وجُوهِكم»، يعني إن لم تسو الصفوف؛ خالف الله بين وجوهكم، وهذا الجملة أيضًا مؤكدة بثلاثة مؤكدات: بالقسم، واللام، والنون.
واختلف العلماء - رحمهم الله - في معنى مخالفة الوجه.
فقال بعضهم: إنَّ المعنى أن الله يخالفُ بين وجوههم مخالفة حسِيَّة، بحيث يلوي الرقبة، حتى يكون وجه هذا مخالفًا لوجه هذا، والله على كلِّ شيءٍ قدير، فهو عزَّ وجلَّ قلَبَ بعض بني آدم قردةً، قال لهم: كونوا قردة، فكانوا قردة، فهو قادر على أن يلوي رقبة إنسان حتى يكون وجهُه من عند ظهره، وهذه عقوبة حسية.
وقال بعضُ العلماءِ: بل المراد بالمخالفة: المخالفة المعنوية، يعني مخالفة القلوب؛ لأن القلب له اتجاه، فإذا اتفقت القلوب على وجهةٍ واحدة حصل في هذا الخير الكثير، وإذا اختلفت تفرقت الأمة.
فالمراد بالمخالفة مخالفة القلوب، وهذا التفسير أصح؛ لأنه قد ورد في بعض الألفاظ: (أو ليخالفن الله بين وجوهكم).
وفي رواية: (لا تختلفوا فتختلف قلوبكم).
وعلى هذا فيكون المراد بقوله: (أو ليخالفن الله بين وجوهكم)، أي بين وجهات نظركم، وذلك باختلاف القلوب.
وعلى كل حال، ففي هذا دليل على وجوب تسوية الصفوف، وأنه يجب على المأمومين أن تسوى صفوفهم، وأنهم إن لم يفعلوا ذلك، فقد عرضوا أنفسهم لعقوبة الله والعياذ بالله.
وهذا القول ـ أعني وجوب تسوية الصف ـ هو الصحيح، والواجب على الأئمة أن ينظروا في الصف، فإذا وجدوا فيه اعوجاجًا أو تقدمًا أو تأخرًا، نبهوا على ذلك، وكان النبي صلى الله عليه وسلم ـ أحيانًا -يمشي على الصفوف يسويها بيده الكريمة ـ عليه الصلاة والسلام ـ، من أول الصف لآخره، ولما كثر الناس في زمن الخلفاء، أمر عمر بين الخطاب ـ رضي الله عنه ـ رجلًا يسوي الصفوف إذا أقيمت الصلاة، فإذا جاء وقال إنها قد سويت كبر للصلاة، وكذلك فعل عثمان ـ رضي الله عنه ـ، وكل رجلًا يسوي صفوف الناس، فإذا جاء وقال قد استوت كبر.
وهذا يدل على اعتناء النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين بتسوية الصف.
ولكن مع الأسف الآن نجد أن المأمومين لا يبالون بالتسوية، يتقدم إنسان ويتأخر إنسان ولا يبالي، وربما يكون مستويًا مع أخيه في أول الركعة، ثم عند السجود يحصل من الاندفاع تقدم أو تأخر، ولا يساوون الصف في الركعة الثانية، بل يبقون على ما هو عليه، وهذا خطأٌ، فالمهم أنه يجب تسوية الصف.
فإذا قال قائل: إذا كان هناك إمام ومأموم فقط، فهل يتقدم الإمام
قليلًا، أو يسوي المأموم؟
فالجواب: أنه يساوي المأموم؛ لأنه إذا كان إمام ومأموم، فالصف واحد، لا يمكن أن يكون المأمون خلف الإمام وحده، بل هم صف واحد، والصف الواحد يسوى فيه خلافًا لما قال بعض أهل العلم إنه يتقدم الإمام قليلًا؛ لأن هذا لا دليل عليه، بل الدليل على خلافه، وهو أن يسوي بين الإمام والمأموم إذا كانا اثنين.
ثم قال في رواية: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يسوي صفوفنا كأنما يسوي بها القداح).
والقداح: هي ريش السهم، كانوا يسوونها تمامًا، بحيث لا يتقدم شيء على شيء، مثل مشط البندق، يكون مستويًا، فكان يسوي الصفوف كأنما يسوي بها القداح، حتى إذا رأى أنا قد عقلنا عنه، يعني فهمنا وعرفنا أن التسوية لابد منها، خرج ذات يوم فرأى رجلًا باديًا صدره، فقال: (عباد الله، لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم) , فدل هذا على سبب قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لتسون صفوفكم)، لأن سببه أنه رأى رجلًا باديًا صدره فقط، يعني ظاهرًا صدره قليلًا من على الصف، فدل ذلك على أن من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه يتفقد الصف، وأنه يتوعد من تقدم على الصف بهذا الوعيد: (لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم).
فعلينا أن نبين هذه المسألة لأئمة المساجد، وكذلك للمأمومين حتى ينتبهوا لهذا الأمر ويعتنوا بشأن تسوية الصف، ولا يحصل تهاون بين الناس.
والله الموفق
المصدر: «شرح رياض الصالحين» (2 /274 - 287)