خطب ومحاضرات
حقيقة الإيمان [1، 2]
الحلقة مفرغة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
ما هذه الحياة؟ وما حقيقتها؟ ومن أين أتى إليها هذا الإنسان؟ ولماذا جاء إليها؟ وإلى أين سينتقل بعد أن يؤدي دوره على مسرحها؟ أسئلة تتردد في ذهن كل إنسان، أسئلة محيرة، وقد عجزت كل الفلسفات والمذاهب في القديم والحديث عن الإجابة على هذه التساؤلات؛ لأن الذكاء والعبقرية والعقل لوحده لا يستطيع أن يجيب على هذه الأسئلة؛ لأن العلم بالشيء لا بد أن يكون من معلم، فلو جئت -مثلاً- بشابٍ يعيش في أغوار تهامة أو في الصحراء، ودرجة الذكاء عنده متوقدة، أي: ذكي جداً لدرجة العبقرية، ولكنه لم يدرس في المدارس وأعطيته مسألة رياضية أو فك أقواس وقلت له: فك لي هذه الأقواس. وهو لم يدرس شيئاً حتى الحروف الأبجدية، فهل يستطيع ذلك بذكائه وعبقريته وفطرته فقط أو لا بد من أستاذ الرياضيات ليعلمه؟
كذلك لو جئت إلى أستاذ (الإنجليزي) الذي يقرأ اللغة (الإنجليزية) والذي ننظر إليه بإعجاب وهو كالبلبل يترنم بها، لو جئناه برسالة باللغة (الأردية) -لغة الباكستانيين- وقلنا: يا أستاذ (الإنجليزي) اقرأ هذه الرسالة.
قال: لا أدري. ثم قلنا له: تعرف (الإنجليزي) وما تعرف هذه؟!
قال: نعم. اللغة (الإنجليزية) أعرفها؛ لأني درست حروفها وأبجدياتها وكلماتها وتركيباتها وقواعدها وكل ما فيها عرفته، لكن هذه لغة تختلف عن هذه اللغة فلا أعرف منها حرفاً واحداً.
لكن أنت ذكي؟!
- أنا ذكي في مجال تخصصي، لكن شيئاً لم أدرسه لا أعرفه.
وكذلك قس على هذا في كل العلوم، لا يمكن بالعقل لوحده أو بالذكاء أن تدرك علماً من العلوم إلا بالمعلم، أليست هذه قاعدة؟
وسائل إدراك الغيبيات
إذاً: تعيشون لماذا؟ قال: نعيش لنأكل. وتأكل لماذا؟ قال: آكل لكي أعيش. وأعيش لآكل، وفي حلقة مغلقة ودائرة مستديرة، يأكل ليعيش ويعيش ليأكل.
وبعد ذلك والنهاية؟! قال: والنهاية الموت.
إذاً: أنت كنت من قبل ميتاً في العدم أفتخلق من أجل أن تموت؟! لو كان الغرض أن الله خلقك من أجل أن تموت، فقد كنت ميتاً ولم يكن هناك داع لأن تأتي، فلا داعي لأن تحمل بك أمك تسعة أشهر وتضعك كرهاً وتحملك وتربيك، ثم أنت تعاني ثم تتعب ثم تدرس، ثم تعيش ستين أو سبعين سنة، وبعد ذلك تموت، تعيش كل هذه المراحل الصعبة ثم تموت، لا، خطأ، لماذا الجواب خطأ؟ لأنهم لا يعرفون، لماذا جاءوا؟ مثل ما قيل: أين تكونون بعد هذه الحياة؟ قالوا: لا يوجد شيء بعد هذه الحياة، عدم. من قال لكم لا توجد؟ قالوا: عقولنا. عقولكم أخطأت؛ لأنكم لا تستطيعون حل المسألة الرياضية مثل ما قلنا، ولا قراءة الرسالة (بالأردية) لأنكم ما تعلمتم من معلم، ولهذا حاولتم أن تحلوا المسائل بعقولكم من غير معلم، ووقعتم في الخطأ.
وقلتم أيضاً: ليس هناك شيء بعد هذه الحياة، ومن قال لكم: إنه لا يوجد شيء بعد هذه الحياة؟ من الذي مات من الناس منذ خلق آدم إلى يومنا هذا وذهب إلى الآخرة واكتشف أنه ليس هناك شيء، ثم بعث ورجع وقال للناس: لا تتعبوا أنفسكم فلا يوجد هناك شيء؟ هل هناك أحد وقع منه هذا الأمر؟ لا أحد، كل من يموت لا يرجع، ولا يعطينا حقائق عما حصل له في القبر من النعيم، أو العذاب، نحن لا ندري، فهل عدم علمنا يؤهلنا إلى أن نقول: لا يوجد شيء، هل أرى أبها الآن وأنا جالس عندكم؟ لا أراها، هل من حقي أن أقول: إنَّ أبها ليست موجودة؟
هل أنا فككت الذرة؟ لم أفكّ الذرة ولا أعرف عنها شيئاً، ولكن درسناها أنها (نيترون) مع (بروتون) وما أدري ما هو، وأنها تتفتت، إذاً هل قمتم بذلك أنتم أو أنا؟ ومدرس العلوم هل فتت الذرة؟ بل ما رآها بعينه، لكنه مؤمن بها ونحن كلنا مؤمنون بها، حسناً هل منكم من زار أمريكا؟ يمكن لا يوجد منا أحد زارها لكننا مؤمنون بها، فمعنى عدم رؤية الإنسان للشيء لا يؤهله ذلك إلى أن يقول: إن هذا الشيء ليس موجوداً.
قصة الجاذبية معروفة، إسحاق نيوتن كان جالساً تحت شجرة يستظل بظلها، فسقطت حبة تفاح من الشجرة فنزلت إلى الأرض، فهو فكر، لأن عنده عقلاً كبيراً، قال: لماذا الحبة عندما انقطعت ما صعدت إلى فوق؟ أو لماذا ما ذهبت شرقاً أو غرباً، أو شمالاً أو جنوباً؟ أو لماذا ما بقيت في مكانها عندما انفكت من غصنها؟ لماذا نزلت؟ عقله سأله، قال: ثقلها. حسناً، لماذا لم يؤهلها ثقلها لتصعد إلى الأعلى؟ هناك شيء سحبها إلى الأسفل، وبعد تفكير وجد أنها الجاذبية، والجاذبية هذه خاصية من خواص الحياة، فكل شيء على وجه الأرض مربوط بحبال الجذب إليها، هل رأيتم الجاذبية؟ الآن لما انفك (الميكرفون) من يد المدير وسقط على الأرض، من الذي أسقطه؟ الجاذبية، حتى أنتم ضحكتم على تلك السقطة: هل أنتم رأيتم حبال الجذب لما جذبته؟
مثال آخر: القارورة هذه لو أني أفكها الآن أين تسير؟ تسقط، من الذي سحبها إلى تحت؟ الجاذبية، أين حبال الجاذبية، هل ترون شيئاً؟ إذاً: الجاذبية موجودة أو ليست موجودة؟ موجودة.
لو أن شخصاً قال: لا توجد جاذبية .. ماذا نقول له؟ نقول: هذا أحمق. يا أخي! عينك لا ترى كل شيء، الجاذبية موجودة لكن عينك لا تراها.
الموجات الصوتية الآن عندما نأتي المذياع ونشغله يعطينا إذاعة القرآن وإذاعة جدة وإذاعة لندن، وكل الإذاعات نسمعها، أغلق المذياع فلن تجد شيئاً، أين كانت كل هذه الأصوات التي أظهرها لنا هذا الجهاز؟ كانت موجودة في الهواء، لكن هل أراها أنا؟ هل أرى الموجة ثلاثمائة وخمسة وعشرين من جدة، وأرى الموجة ثلاثمائة وخمسة عشر من الرياض، وأرى الموجة الآتية من أمريكا ولندن ومن كل مكان؟ لا أرى شيئاً، لكن من الذي يلتقطها؟ المذياع، إذا فتحنا المذياع هربت الموجات، إذا فتحنا المذياع التقطها، هل عدم رؤيتي للموجات يدعوني للتكذيب بهذه الموجات؟ وإذا كذبت وقلت: والله لا توجد موجة في هذه الصالة .. لماذا؟ لأني لم أرها. يقول لي: أنت ما رأيت الموجات لكن المس أثر الموجات بالجهاز.
فليس كل شيء لا تدركه ولا تراه بعينك غير موجود، ولو عملنا بهذه القاعدة في حياتنا لما تعلمنا العلوم، الآن كلكم تدرسون ويأتي أستاذ الجغرافيا بخريطة العالم، ويضع الخريطة هكذا كوسيلة إيضاح، ويأتي بالمؤشر ويقول: هذا البحر الأبيض وهذا البحر الأحمر، وهذا المحيط الهادي، وهذه أمريكا، وهذه كندا بجانبها، وهذه أمريكا الجنوبية، لو قام أحد الطلاب وقال: لا تلعب علينا أرجوك، ولا تضيع أدمغتنا، أين أمريكا؟ لا يوجد هنا إلا ورقة مصبوغة، والله لا وجود لـأمريكا ولا روسيا ولا يوجد نهر ولا بحر ولا شيء، وكذَّب بهذا الموضوع، ما رأيكم هل تنتشر العلوم؟ وهل يمكن أن تقوم حضارة للأمم؟
نقول لهذا: يا مغفل! لا نستطيع أن نذهب بك لتنظر إلى العالم كله، ونركبك طيارة لتنظر إلى كل دولة بعينك، فليس كل شيء يجب أن تراه العين، وإلا أيضاً بالمنطق هذا نفسه لو سألتكم وقلت لكم: أنا عاقل. تقولون لي أنتم: ما تعقل به؟ أقول: أعقل بعقلي، وهذا العقل هنا في المخ. وتقولون أنتم لي: لا ليست بعاقل. لماذا؟ أنا عاقل أتصرف وأتكلم تصرف العقلاء وكلام العقلاء، تقولون: أين عقلك؟ خذ فأساً واضرب به رأسك وأرنا إياه حتى ننظر، وإلا لحكمنا عليك بالجنون لأنا ما رأينا عقلك.
أجل، العين ليست وسيلة الإدراك، وإنما هناك وسائل مسعفة لتدرك بها الأشياء ولتطل منها على عالم الأشياء، وهي ما يسمى بالحواس الخمس، العطر مثلاً إذا أردت أن تعرف نوعيته: عودي أو وردي أو أي نوعية، تضعه عند عينك أو عند أنفك؟ تضعه عند أنفك، لكن لو وضعته عند عينك، هل تشم عينك رائحة العطر؟ لا. وكذلك إذا أردت أن تعرف طعم التفاحة أين تضعها عند أنفك أو في فمك؟ في فمك؛ لأن لسانك عنده قدرة على معرفة عالم الأطعمة، والأنف عنده قدرة على الإطلال على عالم الروائح، والعين عندها قدرة الإطلال على عالم الأشكال والألوان، اليد عندها قدرة وإدراك للإطلال على عالم الأجسام تحس، وما ليس بجسم تلمسه ولا لون تراه، ولا رائحة تشمه، ولا طعم تذوقه، ما تدركه بالحواس الخمس، فماذا تفعل؟ ترفضه؟ لا، قبل التخيل هناك وسيلة اسمها وسيلة الأثر.
قاعدة: الأثر يدل على المؤثر
فأنت بالأثر تستطيع أن تصل إلى الإيمان بحقيقة المؤثر، ولذا هذه الغرفة الآن مليئة بهواء (الأكسجين) ولو أخرجت ورقة من جيبي الآن أمامكم فأنفخها هكذا فتتحرك، لكنكم لا ترون شيئاً خرج من فمي، مدفع حركها، أو عصا خرجت من فمي وقالت لها هكذا، شيء تحرك، هل رأيتم شيئاً خرج من فمي؟ خرج هواء، هناك تيار هوائي لكن لا ترونه بالعين، كيف رأيتموه؟ رأيتموه بأثر حركته على الورقة، نأخذ من هذا قاعدة: أن كل شيء لا ندركه بأعيننا لا ينبغي لنا أن نكذِّب بوجوده، وإذا قلنا: إنه غير موجود فقد ألغينا عقولنا.
الآن يوجد جبل ظمك، وفي زاوية من زوايا هذا الجبل وتحت صخرة من الصخرات هناك مجموعة من النمل، أو لا يمكن هذا؟ لكن لما قلت لكم ذلك: قام واحد من الإخوة الآن وجاء وفتح الستار وتلفت، هل نظرت جبل ظمك ؟ قال: نعم. قلت: سوف ترى ذرة تحت حجر هناك. قال: كذاب. لا يوجد، أين الذرة؟ أين النملة هذه؟ يا أخي! أنت لا تراها من هنا، إن كنت تريد أن تراها فاركب سيارة واطلع الجبل وانظرها. قال: أريد أن أراها من هنا. نقول: لعينك البصرية مجال وقدوة الرؤية عندها محدودة؛ لأن الله خلق الإنسان وأعطى لكل عضو وجارحة قدرة معينة، فمثلاً: بطنك له قدرة في الأكل، إذا وردت على الطعام فإنك تأكل حتى تشبع، لكن إذا شبعت والطعام جيد وبقيت أصناف من الطعام ما قد عممت عليها ونفسك تقول لك: لا تفوتك، لكن بطنك امتلأت، ماذا تفعل؟ غصباً، تضغط على بطنك، وإذا فعلت ذلك وضغطت على بطنك غصباً، يحصل عندك عسر هضم، وتقعد مريضاً شهراً وأنت تدور على المستشفيات تشتكي من بطنك، لماذا؟ لأنك أنت الذي خربت بطنك؛ لأن لبطنك قدرة معينة على الأكل، عندما أطعمتها فوق طاقتها لم تقدر.
كذلك عضلة رجلك لها قدرة على أن تقف وقتاً معيناً، لكن إذا أوقفتها أربعين ساعة سقطت، كذلك أعضاؤك، سمعك هذا له قدرة على السماع من مسافة، لكن عندما تمر وهناك شخص يصيح على مسافة 2 أو 3كيلو فينقطع صوته فإن أذنك لا تسمع؛ لأن مجال قدرة أذنك على السماع محدودة، عينك كذلك محدودة.
كل جارحة فيك لا تستطيع أن تلم بكل شيء، وإذا لم تر بعينك هذا الشيء؛ لضعف في إمكانات عينك وقدراتك أنت، فلا يعني هذا أن هذا الشيء غير موجود.
ولذا فالذي يقول: إنه ليس هناك شيء بعد هذه الحياة، نقول له: ما أدراك أنه ليس هناك شيء؟ قال: لأني لم أنظر إلى شيء، نقول له: حسناً، والذي لا تنظر إليه ما تؤمن به. قال: أجل. قلت: كذاب، عقليتك فاسدة، وهناك شيء يسألنا بنفس السؤال يقول: لماذا جئنا؟ ومن أين؟ وإلى أين؟ هذه الثلاثة الأسئلة المحيرة لا يمكن أن تجيب عليها البشرية من عند أنفسها، لا بد أن تكون الإجابة من قوة خارجة عن الإنسانية، والبشرية هي التي جاءت بالإنسان، وهي التي تتوفى الإنسان، وهي التي تقلب الإنسان إلى عالم آخر.
الإنسان أمام التسيير والتخيير المكتوب عليه
بعد ذلك اللون .. الطول .. العرض .. الذكاء .. المواهب .. الزمن .. العمر... كل هذه بغير اختيار، أنت أتيت ولم يؤخذ رأيك في كل قضاياك، وبعد ذلك تعيش فترة الحياة وأنت باختيار، لكن تموت بغير اختيار.
وهنا يبدو جواب على الناس الذين يقولون: الإنسان مسير أم مخير؟
نقول: هو مسير ومخير. كيف؟ مثل الراكب الآن في الطائرة؛ عندما تركب من هنا إلى الرياض أو من هنا إلى جدة، أنت في عموم الرحلة مسير، هل تستطيع أن تنزل في الطائف؟ أو عندما تنظر إلى وادٍ وأنت فوق الطائرة تقول له: قف قف لأجل أن نقيل في هذا المكان، أو: متعب نريد أن نجلس هنا، لا، رحلة مصممة من أبها إلى جدة، لا تذهب إلا من هذا الخط فقط ولا يمكن أن تمر إلى غيرها، فأنت مسير، ولكن يمكنك أن ترقد على كرسيك، ويمكنك أن تقرأ جريدة أو قرآناً، وتقدر أن تأكل، أو لا تأكل، فأنت مخير في حدود كرسيك، لكن مع العموم مسير مع الناس كلهم، وكذلك أنت أيها الإنسان! مسير يوم خلقت، ومسير يوم تموت، ومخير بين الحياة والموت؟!! بإمكانك أن تهتدي، ومن يمنعك من الهداية؟ وبإمكانك أن تضل، ومن يمنعك من الضلال؟
إذا أذن المؤذن وأنت جالس في البيت فهل هناك قوة -إذا أردت أن تقوم وتصلي- تستطيع أن تأتي وتضغط على أرجلك وتشد عضلاتك وتضع (قف) على إمكاناتك ولا تقوم لتصلي؟ لا شيء يمنعك، لكن أنت لا تريد أن تقوم.
وآخر يريد أن يقوم ليصلي، هل هناك من جاء وسحبه بأنفه وقال: قم فصلِّ؟ لا. ذهب إلى الصلاة باختياره، وذاك ترك الصلاة باختياره.
وآخران قُدِمَ لهما شرابان حليب وخمر، فأحدهما قال: أنا أشرب الحليب فقط، لماذا؟ باختياره، والثاني قال: أريد الخمر، لماذا؟ باختياره، هل هذا أجبر على الحليب، وهذا أجبر على الخمر؟ لا، بالاختيار، فأنت بين الموت والحياة .. بين البقاء وبين الإجلاء .. بين الوجود والعدم في فترة اختيار، ولذا كانت هذه الفترة فترة اختيار وفترة تكليف وتبعة ومسئولية؛ لأنه لو لم يكن لديك الاختيار لم يكن عليك مسئولية، والله منزه عن الظلم، كيف يخلقك ويعطيك الاختيار ولا يجازيك؟ أو كيف يخلقك ولا يعطيك القدرة على الاختيار ويجازيك؟ أمعقول هذا؟! ولذا ترون أن المجنون الذي سلب العقل مرفوع عنه القلم؛ لأن التكليف منوط بالعقل، فإذا لم يعط إنساناً عقلاً فهل يعرف كيف يتصرف؟ هل يعرف متى يدخل الوقت فيقوم ويصلي؟ هل يعرف حلالاً وحراماً، هل يعرف واجباً وفرضاً؟ لا يعرف شيئاً فهو مجنون، فالله لعدله رفع عنه التكليف: (رفع القلم عن ثلاثة -يعني: المسئولية والعهدة- المجنون حتى يعقل، والصغير حتى يبلغ، والنائم حتى يستيقظ)، فلما لم يكن هناك عقل فليس هناك تكليف، لكن إذا وجد العقل ووجد الاختيار والقدرة على سلك سبيل الخير أو سلك سبيل الشر ثبت الاختيار، وثبتت معه العهدة والمسئولية؛ لأنك تعصي الله باختيارك فتحل النتيجة باختيارك، وتطيع الله باختيارك فتجد ثمرة اختيارك.
ولا يقل أحد الناس: لا، أنا مكتوب عليَّ أن أعصي، ولهذا لا أستطيع إلا أن أعصي، لماذا تزني؟ كان مكتوباً. حسناً .. تعال إلى هذا الإنسان الذي يقول: مكتوب واضربه على وجهه بكفك، وإذا قال: لماذا ضربتني على وجهي؟ فقل له: مكتوب، والله كتب في الأجل أني سأضربك على وجهك، هل يرضى بالكتاب عليه بالصفعة هذه؟ ما رأيكم يرضى ويقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، جزاك الله خيراً، والله إنك صادق وأنه مكتوب علي.
ويومه الثاني يرضى؟ لا، أبداً لا يرضى.
حسناً.. هذا الرجل إذا استلم الراتب ووضعه في جيبه فقفزت وأخذت راتبه كله، وبعد ذلك يمسكونك ويقولون: ماذا بك؟ فتقول: الله كتب عليَّ أن أسرقه! هل هذا عذر يقبله الناس ويقبله هذا الذي أخذت عليه ماله؟ لا يقبل القضاء والقدر في ما يتعلق به، لكن في ما يتعلق بربه يقبله، يزني ويقول: إن الله كتب عليَّ ذلك، ويسرق ويقول: إن الله كتب عليَّ ذلك، ويشرب الخمر ويقول: إن الله كتب عليَّ ذلك.. سبحان الله!
معنى الكتابة في الأزل
هذا سؤال مهم جداً أرجو أن تنتبهوا إلى الإجابة عليه؛ لأن سوء الفهم للحديث الذي ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤدي بالإنسان إلى الهلاك والضلال.
إن الله كتب حينما وُلِدَ الإنسان في بطن أمه، ومرت أربعة أشهر -مائة وعشرون يوماً- وبدأ الشهر الخامس ينزل الملك ويبدأ يحدد النوع ويكتب أجله ورزقه وشقي أم سعيد، ما معناه؟
معنى الكتابة أولاً: يقول العلماء: إنها سابقة لا سائقة، الكتابة سابقة عند الله ولكنها ليست سائقة، أي: أنها ليست ملزمة ومجبرة للإنسان .. كيف؟
الآن إذا أراد إنسان أن يبني عمارة ما الذي يلزمه في أول مراحل البناء؟ أن يعمل مخططاً، ثم يذهب إلى المكتب الهندسي ويقول: أنا عندي أرض مساحتها عشرون متراً في عشرين متراً، على شارع عام، أريد أن أعمل فيها عمارة، ويعطيه كل التصورات التي يريدها؛ الدور الأول محلات تجارية، والبدروم مستودعات، والدور الثاني شقق سكنية، والدور الثالث أريده سكن لي أنا وعائلتي، المبنى يتكون من ثلاثة أدوار: المجلس أريده أن يكون عشرة في خمسة، (والمبلط) بجانبه سبعة في ثلاثة؛ لأني كريم وصاحب ولائم وعندي أقارب ومناسبات كثيرة، وأيضاً أريد غرفة للنوم والحمام بداخلها، يعطيه كل هذه المواصفات ويقوم المهندس فيترجم هذه المعلومات كلها في مخطط كامل، وبعد ذلك يعرضه عليه ويجري عليه تعديلات سهلة على الورق، فإذا استقر الرأي قال: يا (مهندس) نفذ! فتقوم العمارة سليمة.
لكن ما رأيكم في صاحب العمارة لو جاء وأتى باليمنيين من السوق والمقاولين وبدون مخطط وقال: ابدءوا في بناء العمارة. قالوا: كيف نفعل العمارة؟ قال: ابدءوا على كيفكم افعلوا العمارة المهم (البلك والإسمنت) والحديد موجود، حسناً وأين نجعل المجلس؟ اجعلوه هنا على اليمين، على أساس الناس إذا دخلوا على اليمين. (والمقلة؟) قال: ضعوه بجانبه. كيف نعمله؟ قال: قدروا وانظروا. وبعد العصر جاء واحد وقال: لماذا وضعتم المجلس على اليمين؟ هذا خطأ الشمس لا تدخل هنا، اجعل المجلس في الشمال، فدعا العمال: وضع المجلس هنا خطأ، انقلوا المجلس هنا، بعد قليل .. المهم ما رأيكم في عمارة هذا الإنسان؟ هل هي سليمة أو تنهدم رأساً؟ وبعد ذلك الأساس كم هو؟ قال: ضعوا القواعد هنا متر في متر، أي: الأرض صلبة، جاء واحد قال: لا، ثلاثة أدوار يا شيخ! ولعل الله أن يمد في عمرك ويضع لك أولادك أيضاً دورين أو ثلاثة .. لا، ضع القاعدة مترين في مترين، فدعاهم وقال: انقضوه، خذوا (الصبة) هذه واجعلوها مترين في مترين، جاء شخص بعد ذلك قال: يا شيخ أنت مخطئ كيف تضع مترين في مترين؟ أنت على شارع عام يا شيخ، والدنيا تتطور كل يوم، هل تريد أن تهد عمارتك بعد ذلك؟ اجعلها ثلاثة في ثلاثة يا شيخ، لا تبخل على نفسك، وإلا ندمت بعد ذلك.
بالله ما رأيك في هذا المسكين؟ هل عمارته هذه سليمة، أم أنها خطأ في خطأ؟ لماذا؟ لأنه مرتجل، ودائماً الارتجال نتيجته الفشل باستمرار.
أليس المدرسون عندكم في المدرسة يضعون خطة للدراسة في أول العام، ويقسمون المنهج على أشهر السنة، بحيث يطالب كل مدرس الشهر الأول بأن ينجز من وإلى، وفي الشهر الثاني من وإلى، هذا في العرف؟ لكن يمكن في الشهر الأول يزيد قبل الحل، ويمكن في الشهر الثاني لظروف معينة يمد عليه المنهج لصعوبة بعض بالمواد، لكنه في هذا الإطار، لكن لو جاء في أول السنة وقام المدير وقسم المنهج على أشهر السنة قال: لا داعي للتقسيم هل تريدني أن أمر على الطلاب مرور الكرام؟ أم تريدني أن آخذ المنهج والطلاب لا يفهمونه؟ ماذا يفعل المدير لهذا المدرس؟ يقول المدير له: أنت مدرس فوضوي، ولا تصلح لعملية التعليم؛ لأنك لم تنظم المادة ولا قسمت المنهج، الآن كيف أسير الطلاب هؤلاء؟ أنجحهم إلى سنة ثانية وهم لم يدرسوا المنهج، أو أسقطهم سنة وأعطل مستقبلهم؟ إذاً: أنت الفاشل وسوف أبعدك من هنا.
فالتخطيط مطلوب لكل عمل، وإذا كان هناك ارتجال فكيف يصير العمل؟ خطأ في خطأ، وقفنا عند هذه الناحية، ولله المثل الأعلى.
الله تبارك وتعالى حينما أراد أن يخلق الكون والحياة لم يرتجل وإنما عمل -نحن نسميه في عرفنا مخططاً- القضاء والقدر، أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب في اللوح المحفوظ. قال له: وما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة -عمل المخطط- كل ما هو كائن مكتوب في اللوح والمخطط عند الله، والتنفيذ في الميدان.
ومعنى الكتابة: سبق العلم، وهو أن الله عز وجل علم في الأزل أنَّ زيداً وعمراً من الناس، وهذين الشخصين سوف يوجدان ويخلقان ويبلغان سن التكليف، ويعلمان بأوامر الشرع، وتكون لديهما القدرة على اختيار سبيل الخير أو الشر، ولكن زيداً من الناس رجل عاقل استقام واستجاب لأوامر الله وقام على الدين حتى مات، فعلم الله أنه نتيجة استقامة زيد على دينه أن يكون سعيداً، فكتبه سعيداً وهو في بطن أمه، وأن عمراً هذا سيبلغ سن التكليف وسوف يكون رجلاً، وسوف تبلغه الشريعة، ولكنه لن يستجيب لأمر الله ولا لداعي الله، وإنما سيستجيب لداعي الشيطان والهوى والشهوات والمعاصي؛ فكتبه الله شقياً.
أفنريد على الله ألا يعلم ماذا سيكون غداً؟ إذا كنا أنا وأنتم لا نعلم ماذا سيصير غداً .. أليس كذلك؟ أنريد ألا يعلم الله ماذا سيصير غداً أيضاً؟!! إذا كان الله لا يعلم ماذا سيصير غداً فهو مثلنا، فعلم الله مثل علمنا، لكن ما دام أن الله عز وجل عليم فوجب أن يكون علم الله أقدر وأنفذ من علمنا، فهو يعلم ماذا سيكون غداً.
موقف الإنسان من علم الله الأزلي
لو أتينا إلى أحد المدرسين وليكن في التوجيه، وجاء المدير فدخل عليه في الفصل وقال: يا أستاذ كم تتوقع نسبة النجاح عندك في الفصل في نهاية السنة؟ فالمدرس شغَّل عينه كذا في الطلاب، وراجع دفتر المكتب، ورأى العلامات والذين يتجاوبون معه في الدراسة والمجتهدين، والذين يحلون الواجبات وينتبهون للشرح، والذي عنده تفاعل مع الدرس، فذهب إلى المدير وقدم له بياناً، فقال له: الفصل فيه (20) طالباً، (18) طالباً أتوقع نجاحهم، أما (2) فأشك في نجاحهما؛ لأنهما مهملان؛ أولاً: كثيرو الغياب، ثانياً: أنهما ينامان بكثرة في الفصل، من حين أن يدخل يضع يده على الماسة ونام نومة إلى أن يأتي الأستاذ فيوقظه: ولد.. أين أنت؟ قم. قال: سهران البارحة. سهران في ماذا؟ أفي الجهاد؟ لا سهران على المسلسل والورقة و(البلوت) والقهوة، ويأتي في الصباح نائماً، صارت المدرسة للنوم، يأتي ليحصل التعليم فيحصل النوم.
حسناً.. هل أديت الواجب؟ قال: نسيت الدفتر. حسناً والمسألة؟ قال: الامتحان بعيد يا أستاذ، لا تشدد علينا، الله يبارك فيك، يسروا ولا تعسروا. ويستشهد بالأحاديث.
فجاء الأستاذ إلى المدير وقال: أما فلان وفلان فإنهم ساقطان، إلا إن غيرا من وضعهما. فالمدير وضع الورقة عنده في الماسة، وبعد ذلك مرت السنة، وفي آخر السنة طلعت النتائج وجاء الأستاذ الذكي الذي يعرف طلابه معرفة دقيقة وقد تحققت نبوءته في الطلاب وظهرت النتيجة: نجح (18) طالباً، والطالبان ساقطان.
وبعد ذلك سألوهم الطلاب: لماذا سقطتم؟ قالا: بسبب الأستاذ فهو في أول السنة كتب ورقة للمدير وقال: نحن سنسقط.
بالله ما رأيكم في هذا العذر أهو مقبول؟! يعتمدون على ذكاء الأستاذ، هؤلاء الطلاب قالوا: إن الأستاذ في أول السنة لما سأله المدير من الذي سينجح، ومن الذي سيسقط؟ فقال: هناك طالبان سيسقطان، فنحن توقعنا أننا نحن، ولهذا لا تلومونا نرجوكم، أليس الأستاذ قد قال ذلك تلك الأيام، وقد كتب علينا في أول السنة. هل عذرهم مقبول يا إخوان؟!!
وهكذا الذي يزني ويسرق ويعصي، ولا يصوم ولا يصلي، ويعق ويرتكب المعاصي، تقول له: يا أخي! لماذا؟ قال: يمكن أن الله كتب عليَّ هذا. مثل ذاك الذي يقول: يمكن أن الأستاذ قد سجلني مع الذين سيسقطون. وأنا يمكن أن الله قد كتبني في الأزل أني شقي، ولهذا يمكن يا أخي أن تذبح نفسك على مذبحة (يمكن)؟ فهذه (يمكن) للاحتمالات.
الآن لو أن شخصاً دعوته وقلت له: العشاء الليلة عندنا، فقال لك: يمكن آتيك، تقبل منه، (يمكن) هذه أو تقول له: بلا يمكن، هل ستأتي؟ قل لي من أجل أن أجهز العشاء، أو لا تأتي لكي أستريح، لكن قال لك: والله لا آتي، إذاً قل: إنك لن تأتي. لكن لو قال لك: يمكن أن آتي. وذهبت إلى البيت، وبعد ذلك جاءتك الأفكار يمكن أن يأتي، وبعد ذلك ذهبت وأخذت الذبيحة وتريد أن تذبحها من أجل الضيف، وحين أوشكت على أن تذبح الذبيحة جاءك شعور ثانٍ يمكن ما يأتي، وما ذنب التيس الضعيف؟ دعه يعيش، ولماذا أخسر تيساً وأكلف المرأة وأتعبها بطبخ الذبيحة ويمكن أن لا يأتي، والله لا أضحي بالتيس على (يمكن) هذه. سبحان الله! التيس غالٍ عندك لا تضحي به على (يمكن)، وتضحي برقبتك على (يمكن)؟ وتجازف بحياتك ومصيرك من أجل (يمكن)؟
وبعد ذلك ذهبت إلى الله وقدمت عليه وهلكت هلاكاً ليس بعده هلاك، فالله يقول: وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزمر:47] كل ما خطر في بالك فالنار بخلاف ذلك، فالنار اسمها نار، نحن نعرف النار والله ما توعدنا بشيء لا نعرفه، بل توعدنا بشيء وأعطانا منه نموذجاً حياً، قال: أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً [الواقعة:71-73] ما معنى تذكرة؟ أي: موعظة تذكركم بالنار الكبيرة، أم هذه وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ [الواقعة:73] أي: لكي تطبخوا عليها الطعام، وتستدفئوا بها في البرد، لكن الهدف منها حقيقة تذكرة، لكن الذي يرى أعمالنا يقول: هؤلاء لا يعرفون النار أو ضد النار، فإما أننا لا نعرف النار -وكلنا نعرف النار- وإما أنا ضد النار، ولسنا ضد النار، والذي ضد النار لا يأخذ له جمرة من الجمرات بل يأخذ له عود كبريت يولعه ويصبر عليه، فإذا وصلت النار إلى العود مما يلي إصبعه وأحرقته فلا يفكها، دعها تؤلمه قليلاً، يصبر ويتصبر ويتصبر، يرى إلى أي مدى يتحمل النار، والله ما يتحمل النار، لكن يهلك نفسه بالذنوب والمعاصي وترك الطاعات والواجبات ويكون مصيره الدخول في نار الآخرة التي يقول فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (إن ناركم هذه جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم، ولولا أنها أطفئت في الماء مرتين ما استمتعتم بها) هي جذوة أصلها من النار ثم أطفئت حتى خمدت، ثم بقي فيها نار تحرق فأطفأها الله حتى خمدت، ثم بقيتها النار هذه التي عندنا! ولذا ورد في بعض الآثار: [لو خرج أهل النار من النار ووجدوا نار الدنيا مشتعلة لقالوا فيها قِيلة، ولعاينوا فيها نوماً] نار الدنيا يعاينوا فيها نوماً، لماذا؟ لأن نار الآخرة يقول الله فيها: لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلا شَرَاباً [النبأ:24] يقول: البرد هنا هو النوم، فلا يوجد نوم، كيف تنام وأنت في عذاب؟
أيضاً أهل الجنة لا يذوقون النوم، لماذا؟
لأن النوم يفوت عليهم النعيم، كيف ينام وهو في نعيم، فالنوم جعل في الدنيا لغرض: من أجل إعادة نشاط الجسم، فالإنسان إذا تعب ينام قليلاً فيقوم وهو نشيط، لكن في الآخرة لا يوجد تجديد ولا تعب، كلها نعيم في نعيم، فإذا نام فاته جزء من النعيم؛ فاته الحور والقصور، والحبور والسرور، فهل ينام؟ لا، لا نوم فيها، لكنَّ الذي في النار لماذا ينام؟ إذا نام استراح من العذاب، ولهذا المريض الذي أصبح متعباً ونام قليلاً قال: والله إني وجدت قليلاً من الراحة، رقدت، وتخلصت من ألم، ولكن هذا إذا رقد فاته العذاب، فلا يرقد ولا ينام ليزداد عذابه، ولا ينام هذا في الجنة ليزداد نعيمه.
علم الآخرة، ولماذا جئنا، وما الهدف من مجيئنا، وأين سنكون بعد أن نموت، هل يمكن أن نتعلم ذلك من رءوسنا بدون معلم؟ لا يمكن، وإذا قمنا ووضعنا علوماً من رءوسنا حول هذه المواضيع تكون علومنا غير سليمة مثل البَدَوِي الذي تعطيه مسألة رياضية وتقول له: حلها لي، يحلها خطأً؛ لأنه لا يعرف يفك الأقواس، ولا المعادلة (س تربيع مع س ص)، فإذا قلت له: والله إما أن تحل المسألة هذه وإلا أذبحك، ماذا يصنع؟ يحلها خطأ، وإذا حلَّها خطأً تصبح النتائج خطأ، وتستمر سلسلة الأخطاء؛ لأنه ليس عنده معلم، وما تعلم ممن يملك العلم في هذا المجال، والبشرية لما أرادت أن تدخل نفسها في علوم لا تعرفها، ولا عندها أهلية العلم بها وقعت في الخطأ، فعندما تسأل نفسها: لماذا جئنا؟ لا تدري بالجواب؛ لأنه ليس هناك معلم يعلمها (لماذا جاء) فما اهتدوا إلى شيء إلا أن قالوا: جئنا لنعيش.
إذاً: تعيشون لماذا؟ قال: نعيش لنأكل. وتأكل لماذا؟ قال: آكل لكي أعيش. وأعيش لآكل، وفي حلقة مغلقة ودائرة مستديرة، يأكل ليعيش ويعيش ليأكل.
وبعد ذلك والنهاية؟! قال: والنهاية الموت.
إذاً: أنت كنت من قبل ميتاً في العدم أفتخلق من أجل أن تموت؟! لو كان الغرض أن الله خلقك من أجل أن تموت، فقد كنت ميتاً ولم يكن هناك داع لأن تأتي، فلا داعي لأن تحمل بك أمك تسعة أشهر وتضعك كرهاً وتحملك وتربيك، ثم أنت تعاني ثم تتعب ثم تدرس، ثم تعيش ستين أو سبعين سنة، وبعد ذلك تموت، تعيش كل هذه المراحل الصعبة ثم تموت، لا، خطأ، لماذا الجواب خطأ؟ لأنهم لا يعرفون، لماذا جاءوا؟ مثل ما قيل: أين تكونون بعد هذه الحياة؟ قالوا: لا يوجد شيء بعد هذه الحياة، عدم. من قال لكم لا توجد؟ قالوا: عقولنا. عقولكم أخطأت؛ لأنكم لا تستطيعون حل المسألة الرياضية مثل ما قلنا، ولا قراءة الرسالة (بالأردية) لأنكم ما تعلمتم من معلم، ولهذا حاولتم أن تحلوا المسائل بعقولكم من غير معلم، ووقعتم في الخطأ.
وقلتم أيضاً: ليس هناك شيء بعد هذه الحياة، ومن قال لكم: إنه لا يوجد شيء بعد هذه الحياة؟ من الذي مات من الناس منذ خلق آدم إلى يومنا هذا وذهب إلى الآخرة واكتشف أنه ليس هناك شيء، ثم بعث ورجع وقال للناس: لا تتعبوا أنفسكم فلا يوجد هناك شيء؟ هل هناك أحد وقع منه هذا الأمر؟ لا أحد، كل من يموت لا يرجع، ولا يعطينا حقائق عما حصل له في القبر من النعيم، أو العذاب، نحن لا ندري، فهل عدم علمنا يؤهلنا إلى أن نقول: لا يوجد شيء، هل أرى أبها الآن وأنا جالس عندكم؟ لا أراها، هل من حقي أن أقول: إنَّ أبها ليست موجودة؟
هل أنا فككت الذرة؟ لم أفكّ الذرة ولا أعرف عنها شيئاً، ولكن درسناها أنها (نيترون) مع (بروتون) وما أدري ما هو، وأنها تتفتت، إذاً هل قمتم بذلك أنتم أو أنا؟ ومدرس العلوم هل فتت الذرة؟ بل ما رآها بعينه، لكنه مؤمن بها ونحن كلنا مؤمنون بها، حسناً هل منكم من زار أمريكا؟ يمكن لا يوجد منا أحد زارها لكننا مؤمنون بها، فمعنى عدم رؤية الإنسان للشيء لا يؤهله ذلك إلى أن يقول: إن هذا الشيء ليس موجوداً.
قصة الجاذبية معروفة، إسحاق نيوتن كان جالساً تحت شجرة يستظل بظلها، فسقطت حبة تفاح من الشجرة فنزلت إلى الأرض، فهو فكر، لأن عنده عقلاً كبيراً، قال: لماذا الحبة عندما انقطعت ما صعدت إلى فوق؟ أو لماذا ما ذهبت شرقاً أو غرباً، أو شمالاً أو جنوباً؟ أو لماذا ما بقيت في مكانها عندما انفكت من غصنها؟ لماذا نزلت؟ عقله سأله، قال: ثقلها. حسناً، لماذا لم يؤهلها ثقلها لتصعد إلى الأعلى؟ هناك شيء سحبها إلى الأسفل، وبعد تفكير وجد أنها الجاذبية، والجاذبية هذه خاصية من خواص الحياة، فكل شيء على وجه الأرض مربوط بحبال الجذب إليها، هل رأيتم الجاذبية؟ الآن لما انفك (الميكرفون) من يد المدير وسقط على الأرض، من الذي أسقطه؟ الجاذبية، حتى أنتم ضحكتم على تلك السقطة: هل أنتم رأيتم حبال الجذب لما جذبته؟
مثال آخر: القارورة هذه لو أني أفكها الآن أين تسير؟ تسقط، من الذي سحبها إلى تحت؟ الجاذبية، أين حبال الجاذبية، هل ترون شيئاً؟ إذاً: الجاذبية موجودة أو ليست موجودة؟ موجودة.
لو أن شخصاً قال: لا توجد جاذبية .. ماذا نقول له؟ نقول: هذا أحمق. يا أخي! عينك لا ترى كل شيء، الجاذبية موجودة لكن عينك لا تراها.
الموجات الصوتية الآن عندما نأتي المذياع ونشغله يعطينا إذاعة القرآن وإذاعة جدة وإذاعة لندن، وكل الإذاعات نسمعها، أغلق المذياع فلن تجد شيئاً، أين كانت كل هذه الأصوات التي أظهرها لنا هذا الجهاز؟ كانت موجودة في الهواء، لكن هل أراها أنا؟ هل أرى الموجة ثلاثمائة وخمسة وعشرين من جدة، وأرى الموجة ثلاثمائة وخمسة عشر من الرياض، وأرى الموجة الآتية من أمريكا ولندن ومن كل مكان؟ لا أرى شيئاً، لكن من الذي يلتقطها؟ المذياع، إذا فتحنا المذياع هربت الموجات، إذا فتحنا المذياع التقطها، هل عدم رؤيتي للموجات يدعوني للتكذيب بهذه الموجات؟ وإذا كذبت وقلت: والله لا توجد موجة في هذه الصالة .. لماذا؟ لأني لم أرها. يقول لي: أنت ما رأيت الموجات لكن المس أثر الموجات بالجهاز.
فليس كل شيء لا تدركه ولا تراه بعينك غير موجود، ولو عملنا بهذه القاعدة في حياتنا لما تعلمنا العلوم، الآن كلكم تدرسون ويأتي أستاذ الجغرافيا بخريطة العالم، ويضع الخريطة هكذا كوسيلة إيضاح، ويأتي بالمؤشر ويقول: هذا البحر الأبيض وهذا البحر الأحمر، وهذا المحيط الهادي، وهذه أمريكا، وهذه كندا بجانبها، وهذه أمريكا الجنوبية، لو قام أحد الطلاب وقال: لا تلعب علينا أرجوك، ولا تضيع أدمغتنا، أين أمريكا؟ لا يوجد هنا إلا ورقة مصبوغة، والله لا وجود لـأمريكا ولا روسيا ولا يوجد نهر ولا بحر ولا شيء، وكذَّب بهذا الموضوع، ما رأيكم هل تنتشر العلوم؟ وهل يمكن أن تقوم حضارة للأمم؟
نقول لهذا: يا مغفل! لا نستطيع أن نذهب بك لتنظر إلى العالم كله، ونركبك طيارة لتنظر إلى كل دولة بعينك، فليس كل شيء يجب أن تراه العين، وإلا أيضاً بالمنطق هذا نفسه لو سألتكم وقلت لكم: أنا عاقل. تقولون لي أنتم: ما تعقل به؟ أقول: أعقل بعقلي، وهذا العقل هنا في المخ. وتقولون أنتم لي: لا ليست بعاقل. لماذا؟ أنا عاقل أتصرف وأتكلم تصرف العقلاء وكلام العقلاء، تقولون: أين عقلك؟ خذ فأساً واضرب به رأسك وأرنا إياه حتى ننظر، وإلا لحكمنا عليك بالجنون لأنا ما رأينا عقلك.
أجل، العين ليست وسيلة الإدراك، وإنما هناك وسائل مسعفة لتدرك بها الأشياء ولتطل منها على عالم الأشياء، وهي ما يسمى بالحواس الخمس، العطر مثلاً إذا أردت أن تعرف نوعيته: عودي أو وردي أو أي نوعية، تضعه عند عينك أو عند أنفك؟ تضعه عند أنفك، لكن لو وضعته عند عينك، هل تشم عينك رائحة العطر؟ لا. وكذلك إذا أردت أن تعرف طعم التفاحة أين تضعها عند أنفك أو في فمك؟ في فمك؛ لأن لسانك عنده قدرة على معرفة عالم الأطعمة، والأنف عنده قدرة على الإطلال على عالم الروائح، والعين عندها قدرة الإطلال على عالم الأشكال والألوان، اليد عندها قدرة وإدراك للإطلال على عالم الأجسام تحس، وما ليس بجسم تلمسه ولا لون تراه، ولا رائحة تشمه، ولا طعم تذوقه، ما تدركه بالحواس الخمس، فماذا تفعل؟ ترفضه؟ لا، قبل التخيل هناك وسيلة اسمها وسيلة الأثر.
فالأثر يدل على المؤثر، البدوي الأعرابي الذكي يقول: سماءٌ ذات أبراج، وأرضٌ ذات فجاج، وبحارٌ تزخر، ونجومٌ تزحف -هذه كلها عوالم تلفت النظر، ويقول- الأثر يدل على المسير، والبعر يدل على البعير، وسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، أفلا يدل ذلك على السميع البصير؟!!
فأنت بالأثر تستطيع أن تصل إلى الإيمان بحقيقة المؤثر، ولذا هذه الغرفة الآن مليئة بهواء (الأكسجين) ولو أخرجت ورقة من جيبي الآن أمامكم فأنفخها هكذا فتتحرك، لكنكم لا ترون شيئاً خرج من فمي، مدفع حركها، أو عصا خرجت من فمي وقالت لها هكذا، شيء تحرك، هل رأيتم شيئاً خرج من فمي؟ خرج هواء، هناك تيار هوائي لكن لا ترونه بالعين، كيف رأيتموه؟ رأيتموه بأثر حركته على الورقة، نأخذ من هذا قاعدة: أن كل شيء لا ندركه بأعيننا لا ينبغي لنا أن نكذِّب بوجوده، وإذا قلنا: إنه غير موجود فقد ألغينا عقولنا.
الآن يوجد جبل ظمك، وفي زاوية من زوايا هذا الجبل وتحت صخرة من الصخرات هناك مجموعة من النمل، أو لا يمكن هذا؟ لكن لما قلت لكم ذلك: قام واحد من الإخوة الآن وجاء وفتح الستار وتلفت، هل نظرت جبل ظمك ؟ قال: نعم. قلت: سوف ترى ذرة تحت حجر هناك. قال: كذاب. لا يوجد، أين الذرة؟ أين النملة هذه؟ يا أخي! أنت لا تراها من هنا، إن كنت تريد أن تراها فاركب سيارة واطلع الجبل وانظرها. قال: أريد أن أراها من هنا. نقول: لعينك البصرية مجال وقدوة الرؤية عندها محدودة؛ لأن الله خلق الإنسان وأعطى لكل عضو وجارحة قدرة معينة، فمثلاً: بطنك له قدرة في الأكل، إذا وردت على الطعام فإنك تأكل حتى تشبع، لكن إذا شبعت والطعام جيد وبقيت أصناف من الطعام ما قد عممت عليها ونفسك تقول لك: لا تفوتك، لكن بطنك امتلأت، ماذا تفعل؟ غصباً، تضغط على بطنك، وإذا فعلت ذلك وضغطت على بطنك غصباً، يحصل عندك عسر هضم، وتقعد مريضاً شهراً وأنت تدور على المستشفيات تشتكي من بطنك، لماذا؟ لأنك أنت الذي خربت بطنك؛ لأن لبطنك قدرة معينة على الأكل، عندما أطعمتها فوق طاقتها لم تقدر.
كذلك عضلة رجلك لها قدرة على أن تقف وقتاً معيناً، لكن إذا أوقفتها أربعين ساعة سقطت، كذلك أعضاؤك، سمعك هذا له قدرة على السماع من مسافة، لكن عندما تمر وهناك شخص يصيح على مسافة 2 أو 3كيلو فينقطع صوته فإن أذنك لا تسمع؛ لأن مجال قدرة أذنك على السماع محدودة، عينك كذلك محدودة.
كل جارحة فيك لا تستطيع أن تلم بكل شيء، وإذا لم تر بعينك هذا الشيء؛ لضعف في إمكانات عينك وقدراتك أنت، فلا يعني هذا أن هذا الشيء غير موجود.
ولذا فالذي يقول: إنه ليس هناك شيء بعد هذه الحياة، نقول له: ما أدراك أنه ليس هناك شيء؟ قال: لأني لم أنظر إلى شيء، نقول له: حسناً، والذي لا تنظر إليه ما تؤمن به. قال: أجل. قلت: كذاب، عقليتك فاسدة، وهناك شيء يسألنا بنفس السؤال يقول: لماذا جئنا؟ ومن أين؟ وإلى أين؟ هذه الثلاثة الأسئلة المحيرة لا يمكن أن تجيب عليها البشرية من عند أنفسها، لا بد أن تكون الإجابة من قوة خارجة عن الإنسانية، والبشرية هي التي جاءت بالإنسان، وهي التي تتوفى الإنسان، وهي التي تقلب الإنسان إلى عالم آخر.
الآن الناس يموتون بغير اختيار، ولو أن الموت بالاختيار هل هناك أحد يموت؟ كل شخص لا يريد أن يموت، حسناً.. حينما يُخلقون يخلقون باختيار أم بغير اختيار؟ من الذي جيء إليه وهو في بطن أمه وقالوا له: ما رأيك تريد أن تخلق أم لا؟ إن الإنسان يخلق رغم أنفه وبغير اختياره، كذلك التحديد في النوعيات ذكر أو أنثى ليس باختياره.
بعد ذلك اللون .. الطول .. العرض .. الذكاء .. المواهب .. الزمن .. العمر... كل هذه بغير اختيار، أنت أتيت ولم يؤخذ رأيك في كل قضاياك، وبعد ذلك تعيش فترة الحياة وأنت باختيار، لكن تموت بغير اختيار.
وهنا يبدو جواب على الناس الذين يقولون: الإنسان مسير أم مخير؟
نقول: هو مسير ومخير. كيف؟ مثل الراكب الآن في الطائرة؛ عندما تركب من هنا إلى الرياض أو من هنا إلى جدة، أنت في عموم الرحلة مسير، هل تستطيع أن تنزل في الطائف؟ أو عندما تنظر إلى وادٍ وأنت فوق الطائرة تقول له: قف قف لأجل أن نقيل في هذا المكان، أو: متعب نريد أن نجلس هنا، لا، رحلة مصممة من أبها إلى جدة، لا تذهب إلا من هذا الخط فقط ولا يمكن أن تمر إلى غيرها، فأنت مسير، ولكن يمكنك أن ترقد على كرسيك، ويمكنك أن تقرأ جريدة أو قرآناً، وتقدر أن تأكل، أو لا تأكل، فأنت مخير في حدود كرسيك، لكن مع العموم مسير مع الناس كلهم، وكذلك أنت أيها الإنسان! مسير يوم خلقت، ومسير يوم تموت، ومخير بين الحياة والموت؟!! بإمكانك أن تهتدي، ومن يمنعك من الهداية؟ وبإمكانك أن تضل، ومن يمنعك من الضلال؟
إذا أذن المؤذن وأنت جالس في البيت فهل هناك قوة -إذا أردت أن تقوم وتصلي- تستطيع أن تأتي وتضغط على أرجلك وتشد عضلاتك وتضع (قف) على إمكاناتك ولا تقوم لتصلي؟ لا شيء يمنعك، لكن أنت لا تريد أن تقوم.
وآخر يريد أن يقوم ليصلي، هل هناك من جاء وسحبه بأنفه وقال: قم فصلِّ؟ لا. ذهب إلى الصلاة باختياره، وذاك ترك الصلاة باختياره.
وآخران قُدِمَ لهما شرابان حليب وخمر، فأحدهما قال: أنا أشرب الحليب فقط، لماذا؟ باختياره، والثاني قال: أريد الخمر، لماذا؟ باختياره، هل هذا أجبر على الحليب، وهذا أجبر على الخمر؟ لا، بالاختيار، فأنت بين الموت والحياة .. بين البقاء وبين الإجلاء .. بين الوجود والعدم في فترة اختيار، ولذا كانت هذه الفترة فترة اختيار وفترة تكليف وتبعة ومسئولية؛ لأنه لو لم يكن لديك الاختيار لم يكن عليك مسئولية، والله منزه عن الظلم، كيف يخلقك ويعطيك الاختيار ولا يجازيك؟ أو كيف يخلقك ولا يعطيك القدرة على الاختيار ويجازيك؟ أمعقول هذا؟! ولذا ترون أن المجنون الذي سلب العقل مرفوع عنه القلم؛ لأن التكليف منوط بالعقل، فإذا لم يعط إنساناً عقلاً فهل يعرف كيف يتصرف؟ هل يعرف متى يدخل الوقت فيقوم ويصلي؟ هل يعرف حلالاً وحراماً، هل يعرف واجباً وفرضاً؟ لا يعرف شيئاً فهو مجنون، فالله لعدله رفع عنه التكليف: (رفع القلم عن ثلاثة -يعني: المسئولية والعهدة- المجنون حتى يعقل، والصغير حتى يبلغ، والنائم حتى يستيقظ)، فلما لم يكن هناك عقل فليس هناك تكليف، لكن إذا وجد العقل ووجد الاختيار والقدرة على سلك سبيل الخير أو سلك سبيل الشر ثبت الاختيار، وثبتت معه العهدة والمسئولية؛ لأنك تعصي الله باختيارك فتحل النتيجة باختيارك، وتطيع الله باختيارك فتجد ثمرة اختيارك.
ولا يقل أحد الناس: لا، أنا مكتوب عليَّ أن أعصي، ولهذا لا أستطيع إلا أن أعصي، لماذا تزني؟ كان مكتوباً. حسناً .. تعال إلى هذا الإنسان الذي يقول: مكتوب واضربه على وجهه بكفك، وإذا قال: لماذا ضربتني على وجهي؟ فقل له: مكتوب، والله كتب في الأجل أني سأضربك على وجهك، هل يرضى بالكتاب عليه بالصفعة هذه؟ ما رأيكم يرضى ويقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، جزاك الله خيراً، والله إنك صادق وأنه مكتوب علي.
ويومه الثاني يرضى؟ لا، أبداً لا يرضى.
حسناً.. هذا الرجل إذا استلم الراتب ووضعه في جيبه فقفزت وأخذت راتبه كله، وبعد ذلك يمسكونك ويقولون: ماذا بك؟ فتقول: الله كتب عليَّ أن أسرقه! هل هذا عذر يقبله الناس ويقبله هذا الذي أخذت عليه ماله؟ لا يقبل القضاء والقدر في ما يتعلق به، لكن في ما يتعلق بربه يقبله، يزني ويقول: إن الله كتب عليَّ ذلك، ويسرق ويقول: إن الله كتب عليَّ ذلك، ويشرب الخمر ويقول: إن الله كتب عليَّ ذلك.. سبحان الله!
ما معنى الكتابة في الأزل؟
هذا سؤال مهم جداً أرجو أن تنتبهوا إلى الإجابة عليه؛ لأن سوء الفهم للحديث الذي ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤدي بالإنسان إلى الهلاك والضلال.
إن الله كتب حينما وُلِدَ الإنسان في بطن أمه، ومرت أربعة أشهر -مائة وعشرون يوماً- وبدأ الشهر الخامس ينزل الملك ويبدأ يحدد النوع ويكتب أجله ورزقه وشقي أم سعيد، ما معناه؟
معنى الكتابة أولاً: يقول العلماء: إنها سابقة لا سائقة، الكتابة سابقة عند الله ولكنها ليست سائقة، أي: أنها ليست ملزمة ومجبرة للإنسان .. كيف؟
الآن إذا أراد إنسان أن يبني عمارة ما الذي يلزمه في أول مراحل البناء؟ أن يعمل مخططاً، ثم يذهب إلى المكتب الهندسي ويقول: أنا عندي أرض مساحتها عشرون متراً في عشرين متراً، على شارع عام، أريد أن أعمل فيها عمارة، ويعطيه كل التصورات التي يريدها؛ الدور الأول محلات تجارية، والبدروم مستودعات، والدور الثاني شقق سكنية، والدور الثالث أريده سكن لي أنا وعائلتي، المبنى يتكون من ثلاثة أدوار: المجلس أريده أن يكون عشرة في خمسة، (والمبلط) بجانبه سبعة في ثلاثة؛ لأني كريم وصاحب ولائم وعندي أقارب ومناسبات كثيرة، وأيضاً أريد غرفة للنوم والحمام بداخلها، يعطيه كل هذه المواصفات ويقوم المهندس فيترجم هذه المعلومات كلها في مخطط كامل، وبعد ذلك يعرضه عليه ويجري عليه تعديلات سهلة على الورق، فإذا استقر الرأي قال: يا (مهندس) نفذ! فتقوم العمارة سليمة.
لكن ما رأيكم في صاحب العمارة لو جاء وأتى باليمنيين من السوق والمقاولين وبدون مخطط وقال: ابدءوا في بناء العمارة. قالوا: كيف نفعل العمارة؟ قال: ابدءوا على كيفكم افعلوا العمارة المهم (البلك والإسمنت) والحديد موجود، حسناً وأين نجعل المجلس؟ اجعلوه هنا على اليمين، على أساس الناس إذا دخلوا على اليمين. (والمقلة؟) قال: ضعوه بجانبه. كيف نعمله؟ قال: قدروا وانظروا. وبعد العصر جاء واحد وقال: لماذا وضعتم المجلس على اليمين؟ هذا خطأ الشمس لا تدخل هنا، اجعل المجلس في الشمال، فدعا العمال: وضع المجلس هنا خطأ، انقلوا المجلس هنا، بعد قليل .. المهم ما رأيكم في عمارة هذا الإنسان؟ هل هي سليمة أو تنهدم رأساً؟ وبعد ذلك الأساس كم هو؟ قال: ضعوا القواعد هنا متر في متر، أي: الأرض صلبة، جاء واحد قال: لا، ثلاثة أدوار يا شيخ! ولعل الله أن يمد في عمرك ويضع لك أولادك أيضاً دورين أو ثلاثة .. لا، ضع القاعدة مترين في مترين، فدعاهم وقال: انقضوه، خذوا (الصبة) هذه واجعلوها مترين في مترين، جاء شخص بعد ذلك قال: يا شيخ أنت مخطئ كيف تضع مترين في مترين؟ أنت على شارع عام يا شيخ، والدنيا تتطور كل يوم، هل تريد أن تهد عمارتك بعد ذلك؟ اجعلها ثلاثة في ثلاثة يا شيخ، لا تبخل على نفسك، وإلا ندمت بعد ذلك.
بالله ما رأيك في هذا المسكين؟ هل عمارته هذه سليمة، أم أنها خطأ في خطأ؟ لماذا؟ لأنه مرتجل، ودائماً الارتجال نتيجته الفشل باستمرار.
أليس المدرسون عندكم في المدرسة يضعون خطة للدراسة في أول العام، ويقسمون المنهج على أشهر السنة، بحيث يطالب كل مدرس الشهر الأول بأن ينجز من وإلى، وفي الشهر الثاني من وإلى، هذا في العرف؟ لكن يمكن في الشهر الأول يزيد قبل الحل، ويمكن في الشهر الثاني لظروف معينة يمد عليه المنهج لصعوبة بعض بالمواد، لكنه في هذا الإطار، لكن لو جاء في أول السنة وقام المدير وقسم المنهج على أشهر السنة قال: لا داعي للتقسيم هل تريدني أن أمر على الطلاب مرور الكرام؟ أم تريدني أن آخذ المنهج والطلاب لا يفهمونه؟ ماذا يفعل المدير لهذا المدرس؟ يقول المدير له: أنت مدرس فوضوي، ولا تصلح لعملية التعليم؛ لأنك لم تنظم المادة ولا قسمت المنهج، الآن كيف أسير الطلاب هؤلاء؟ أنجحهم إلى سنة ثانية وهم لم يدرسوا المنهج، أو أسقطهم سنة وأعطل مستقبلهم؟ إذاً: أنت الفاشل وسوف أبعدك من هنا.
فالتخطيط مطلوب لكل عمل، وإذا كان هناك ارتجال فكيف يصير العمل؟ خطأ في خطأ، وقفنا عند هذه الناحية، ولله المثل الأعلى.
الله تبارك وتعالى حينما أراد أن يخلق الكون والحياة لم يرتجل وإنما عمل -نحن نسميه في عرفنا مخططاً- القضاء والقدر، أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب في اللوح المحفوظ. قال له: وما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة -عمل المخطط- كل ما هو كائن مكتوب في اللوح والمخطط عند الله، والتنفيذ في الميدان.
ومعنى الكتابة: سبق العلم، وهو أن الله عز وجل علم في الأزل أنَّ زيداً وعمراً من الناس، وهذين الشخصين سوف يوجدان ويخلقان ويبلغان سن التكليف، ويعلمان بأوامر الشرع، وتكون لديهما القدرة على اختيار سبيل الخير أو الشر، ولكن زيداً من الناس رجل عاقل استقام واستجاب لأوامر الله وقام على الدين حتى مات، فعلم الله أنه نتيجة استقامة زيد على دينه أن يكون سعيداً، فكتبه سعيداً وهو في بطن أمه، وأن عمراً هذا سيبلغ سن التكليف وسوف يكون رجلاً، وسوف تبلغه الشريعة، ولكنه لن يستجيب لأمر الله ولا لداعي الله، وإنما سيستجيب لداعي الشيطان والهوى والشهوات والمعاصي؛ فكتبه الله شقياً.
أفنريد على الله ألا يعلم ماذا سيكون غداً؟ إذا كنا أنا وأنتم لا نعلم ماذا سيصير غداً .. أليس كذلك؟ أنريد ألا يعلم الله ماذا سيصير غداً أيضاً؟!! إذا كان الله لا يعلم ماذا سيصير غداً فهو مثلنا، فعلم الله مثل علمنا، لكن ما دام أن الله عز وجل عليم فوجب أن يكون علم الله أقدر وأنفذ من علمنا، فهو يعلم ماذا سيكون غداً.
إن علم الله الأزلي ليس معناه أنه ملزم لنا، وأضرب لكم على هذا مثالاً من واقع المدرسين:
لو أتينا إلى أحد المدرسين وليكن في التوجيه، وجاء المدير فدخل عليه في الفصل وقال: يا أستاذ كم تتوقع نسبة النجاح عندك في الفصل في نهاية السنة؟ فالمدرس شغَّل عينه كذا في الطلاب، وراجع دفتر المكتب، ورأى العلامات والذين يتجاوبون معه في الدراسة والمجتهدين، والذين يحلون الواجبات وينتبهون للشرح، والذي عنده تفاعل مع الدرس، فذهب إلى المدير وقدم له بياناً، فقال له: الفصل فيه (20) طالباً، (18) طالباً أتوقع نجاحهم، أما (2) فأشك في نجاحهما؛ لأنهما مهملان؛ أولاً: كثيرو الغياب، ثانياً: أنهما ينامان بكثرة في الفصل، من حين أن يدخل يضع يده على الماسة ونام نومة إلى أن يأتي الأستاذ فيوقظه: ولد.. أين أنت؟ قم. قال: سهران البارحة. سهران في ماذا؟ أفي الجهاد؟ لا سهران على المسلسل والورقة و(البلوت) والقهوة، ويأتي في الصباح نائماً، صارت المدرسة للنوم، يأتي ليحصل التعليم فيحصل النوم.
حسناً.. هل أديت الواجب؟ قال: نسيت الدفتر. حسناً والمسألة؟ قال: الامتحان بعيد يا أستاذ، لا تشدد علينا، الله يبارك فيك، يسروا ولا تعسروا. ويستشهد بالأحاديث.
فجاء الأستاذ إلى المدير وقال: أما فلان وفلان فإنهم ساقطان، إلا إن غيرا من وضعهما. فالمدير وضع الورقة عنده في الماسة، وبعد ذلك مرت السنة، وفي آخر السنة طلعت النتائج وجاء الأستاذ الذكي الذي يعرف طلابه معرفة دقيقة وقد تحققت نبوءته في الطلاب وظهرت النتيجة: نجح (18) طالباً، والطالبان ساقطان.
وبعد ذلك سألوهم الطلاب: لماذا سقطتم؟ قالا: بسبب الأستاذ فهو في أول السنة كتب ورقة للمدير وقال: نحن سنسقط.
بالله ما رأيكم في هذا العذر أهو مقبول؟! يعتمدون على ذكاء الأستاذ، هؤلاء الطلاب قالوا: إن الأستاذ في أول السنة لما سأله المدير من الذي سينجح، ومن الذي سيسقط؟ فقال: هناك طالبان سيسقطان، فنحن توقعنا أننا نحن، ولهذا لا تلومونا نرجوكم، أليس الأستاذ قد قال ذلك تلك الأيام، وقد كتب علينا في أول السنة. هل عذرهم مقبول يا إخوان؟!!
وهكذا الذي يزني ويسرق ويعصي، ولا يصوم ولا يصلي، ويعق ويرتكب المعاصي، تقول له: يا أخي! لماذا؟ قال: يمكن أن الله كتب عليَّ هذا. مثل ذاك الذي يقول: يمكن أن الأستاذ قد سجلني مع الذين سيسقطون. وأنا يمكن أن الله قد كتبني في الأزل أني شقي، ولهذا يمكن يا أخي أن تذبح نفسك على مذبحة (يمكن)؟ فهذه (يمكن) للاحتمالات.
الآن لو أن شخصاً دعوته وقلت له: العشاء الليلة عندنا، فقال لك: يمكن آتيك، تقبل منه، (يمكن) هذه أو تقول له: بلا يمكن، هل ستأتي؟ قل لي من أجل أن أجهز العشاء، أو لا تأتي لكي أستريح، لكن قال لك: والله لا آتي، إذاً قل: إنك لن تأتي. لكن لو قال لك: يمكن أن آتي. وذهبت إلى البيت، وبعد ذلك جاءتك الأفكار يمكن أن يأتي، وبعد ذلك ذهبت وأخذت الذبيحة وتريد أن تذبحها من أجل الضيف، وحين أوشكت على أن تذبح الذبيحة جاءك شعور ثانٍ يمكن ما يأتي، وما ذنب التيس الضعيف؟ دعه يعيش، ولماذا أخسر تيساً وأكلف المرأة وأتعبها بطبخ الذبيحة ويمكن أن لا يأتي، والله لا أضحي بالتيس على (يمكن) هذه. سبحان الله! التيس غالٍ عندك لا تضحي به على (يمكن)، وتضحي برقبتك على (يمكن)؟ وتجازف بحياتك ومصيرك من أجل (يمكن)؟
وبعد ذلك ذهبت إلى الله وقدمت عليه وهلكت هلاكاً ليس بعده هلاك، فالله يقول: وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزمر:47] كل ما خطر في بالك فالنار بخلاف ذلك، فالنار اسمها نار، نحن نعرف النار والله ما توعدنا بشيء لا نعرفه، بل توعدنا بشيء وأعطانا منه نموذجاً حياً، قال: أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً [الواقعة:71-73] ما معنى تذكرة؟ أي: موعظة تذكركم بالنار الكبيرة، أم هذه وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ [الواقعة:73] أي: لكي تطبخوا عليها الطعام، وتستدفئوا بها في البرد، لكن الهدف منها حقيقة تذكرة، لكن الذي يرى أعمالنا يقول: هؤلاء لا يعرفون النار أو ضد النار، فإما أننا لا نعرف النار -وكلنا نعرف النار- وإما أنا ضد النار، ولسنا ضد النار، والذي ضد النار لا يأخذ له جمرة من الجمرات بل يأخذ له عود كبريت يولعه ويصبر عليه، فإذا وصلت النار إلى العود مما يلي إصبعه وأحرقته فلا يفكها، دعها تؤلمه قليلاً، يصبر ويتصبر ويتصبر، يرى إلى أي مدى يتحمل النار، والله ما يتحمل النار، لكن يهلك نفسه بالذنوب والمعاصي وترك الطاعات والواجبات ويكون مصيره الدخول في نار الآخرة التي يقول فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (إن ناركم هذه جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم، ولولا أنها أطفئت في الماء مرتين ما استمتعتم بها) هي جذوة أصلها من النار ثم أطفئت حتى خمدت، ثم بقي فيها نار تحرق فأطفأها الله حتى خمدت، ثم بقيتها النار هذه التي عندنا! ولذا ورد في بعض الآثار: [لو خرج أهل النار من النار ووجدوا نار الدنيا مشتعلة لقالوا فيها قِيلة، ولعاينوا فيها نوماً] نار الدنيا يعاينوا فيها نوماً، لماذا؟ لأن نار الآخرة يقول الله فيها: لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلا شَرَاباً [النبأ:24] يقول: البرد هنا هو النوم، فلا يوجد نوم، كيف تنام وأنت في عذاب؟
أيضاً أهل الجنة لا يذوقون النوم، لماذا؟
لأن النوم يفوت عليهم النعيم، كيف ينام وهو في نعيم، فالنوم جعل في الدنيا لغرض: من أجل إعادة نشاط الجسم، فالإنسان إذا تعب ينام قليلاً فيقوم وهو نشيط، لكن في الآخرة لا يوجد تجديد ولا تعب، كلها نعيم في نعيم، فإذا نام فاته جزء من النعيم؛ فاته الحور والقصور، والحبور والسرور، فهل ينام؟ لا، لا نوم فيها، لكنَّ الذي في النار لماذا ينام؟ إذا نام استراح من العذاب، ولهذا المريض الذي أصبح متعباً ونام قليلاً قال: والله إني وجدت قليلاً من الراحة، رقدت، وتخلصت من ألم، ولكن هذا إذا رقد فاته العذاب، فلا يرقد ولا ينام ليزداد عذابه، ولا ينام هذا في الجنة ليزداد نعيمه.
استمع المزيد من الشيخ سعيد بن مسفر - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
اتق المحارم تكن أعبد الناس | 2930 استماع |
كيف تنال محبة الله؟ | 2929 استماع |
وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً | 2805 استماع |
أمن وإيمان | 2678 استماع |
حال الناس في القبور | 2676 استماع |
توجيهات للمرأة المسلمة | 2605 استماع |
فرصة الرجوع إلى الله | 2572 استماع |
النهر الجاري | 2478 استماع |
دور رجل الأعمال في الدعوة إلى الله | 2468 استماع |
مرحباً شهر الصيام | 2403 استماع |