خطب ومحاضرات
من أمثال القرآن
الحلقة مفرغة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم ارزقنا حبك، وحب من يحبك، وحب كل عمل يقربنا إلى حبك.
اللهم ما أعطيتنا مما نحب فاجعله عوناً لنا على ما تحب، وما زويت عنا مما نحب فاجعله فراغاً وقوة لنا فيما تحب.
لقد طَرَأَ في بالي حديث حب الله عز وجل للعبد، وإلقاء الحب والقبول له في أهل السماء، ثم في أهل الأرض، وقد طَرَأَ في بالي معانٍ كثيرة كنت أتمنى أن تكون موضوع هذا الدرس، وهو: كيف ينال العبد محبة الله؟! لأنه ليس مهماً أن تُحِبَّ أنت، ولكن المهم أن تُحَبَّ، فكم من مدعٍ للمحبة لم ينلها، ولم يصل إليها! ولكنني ملزمٌ بالحديث فيما أعلن عنه من عنوان وهو: (من أمثال القرآن) ولعلها تحين إن شاء الله فرصة أخرى فيما بعد للحديث عن أسباب نيل محبة الله عز وجل.
أيها الأحبة: الأمثلة وضَرْبُها أسلوب تربويٌ بليغ التأثير، جاء في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك ضمن الأساليب المؤثِّرة التي تقرب المعاني، وتوضح الأمور، وقد عُنِي بها القرآن، وعُنِيت بها السنة المطهرة، وجاءت الأمثال كثيرة في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى عدَّ بعض العلماء الأمثال التي وردت في القرآن فقط بثلاثة وأربعين مثلاً، كلها لتقريب المعنى؛ لأن المثال وسيلة إيضاح، والمعلم الناجح هو الذي يستطيع أن يستخدم وسائل الإيضاح لإيصال المعاني والمعلومات إلى أذهان الطلاب والتلاميذ، والأمثلة أفضل وسيلة توضح المراد والمعنى؛ لأنها نموذج تقرب المعنى إلى الذي يسمع، فيفهم بضرب المثال أكثر مما يفهم بسرد الكلام، ولو اشتمل السرد على أبلغ المعاني، وعلى أعظم الأساليب، إلا أن المثال يفهم سريعاً، ولذا كثرت الأمثال في كتاب الله، وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أيها الإخوة: كم من الأمثال تدور على ألسنة الناس! ولكن في القرآن وفي السنة ما هو أبلغ وأعمق منها:
قول العرب: (القتل أنفى للقتل)
هذا مثال عربي، معناه: أن إقامة الحدود وقتل القاتل تقضي على القتل.
لكن القرآن جاء بعبارة أعظم وأبلغ من هذا المثل، فقال عز وجل: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:179] في القصاص! فهل في الموت حياة؟! كيف يجتمع النقيضان؟ الموت موت، والحياة حياة، فكيف يكون في القصاص حياة؟!
نعم. في القصاص حياة، لكنها حياة لمن؟ حياة ليس لمن يُقْتَص منه، بل حياة للمجتمع؛ لأن القاتل حين يعلم أنه إذا قَتَلَ قُتِلَ توقَّفَ وارتدع عن القتل، فيحصُل بتوقفه وامتناعه عن القتل حياة للأنفس الأخرى؛ لكن القاتل الذي يعلم أنه لا يُقْتَل يتمادى في الطغيان، وينتهك، ويسفك الدماء؛ لأنه يعرف أنه لن يحصل له شيء، ولذا يقول الله في القصاص من الجناة حياة لبقية الناس، وصدق الله عز وجل: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:179].
قول العرب: (من جهل شيئاً عاداه)
هذا مَثَلٌ واقعي، فالذي لا يعرف السلعة لا يقدرها.
وكما يقول العوام: (إلِّليْ ما يِعْرِفِ الصَّقْر يَشَوِيْه) يظنه حمامة، وهو صقر لا يؤكل؛ لأنه من ذوات المخلب؛ لكنه لا يعلم هل هذا صقر أم حمامة، فيشويه.
وكذلك من يجهل الشيء لا يعرف قيمته، بل ربما يتصدى لمعاداته.
ولكن في القرآن الكريم ما هو أبلغ من هذا المثل، وهو قول الله عز وجل: بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ [يونس:39] لَمَّا جهلوا دين الله، وجهلوا شريعة الله، وجهلوا حقيقة هذا الدين العظيم، كذَّبوه لعدم إحاطتهم بالعلم به، وإلا لو علموه لما عادَوه، ولهذا إنما تقع الخشية لله عز وجل من العلماء إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] (ومن كان بالله أعْرَف كان منه أخْوَف) ولو أجريت استقراءً لمن تقع منه المعاصي والذنوب والمخالفات تجد أنها تقع من الذين لا يعرفون الله، أما كل من استقرت معرفة الله في قلوبهم فتجد في قلوبهم مثل النار من خشية الله عز وجل.
فـ(مَن جَهِل شيئاً عاداه) ولكن القرآن يقول: بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ [يونس:39].
قول العرب: (ما تزرع تحصد)
فالذي تزرعه تحصده، والشخص الذي يزرع بُرَّاً ماذا يخرج له؟ بُرٌّ، أليس كذلك؟
والذي يضع بَعَراً، أيخرج له بُرٌّ؟! لا. سينتظر وينتظر، ثم يكشف الطين ويرى البعر؛ إن كان جيداً لقيه، وربما قد تلف، وحتى إنه لن يلقاه، فما تزرع تحصد.
لكن المثال في القرآن الكريم جاء ببلاغة أعظم، يقول الله عز وجل: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ [النساء:123].
ويقول عز وجل: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ * وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [النمل:89-90] شخص يزرع طوال حياته السوء، ويزرع الشر والفساد، ويعمل الإجرام، ويهتك الأعراض، ويسفك الدماء، ويعتدي على الحرمات، ويعاند الجبار، ويترك أوامر الله، ويقع فيما حرم الله، هذا ماذا يلقى؟ هل يتصور أنه يلقى حسنات على هذا الفعل؟! لا؛ لأنه يعمل سوءاً، والذي يعمل السوء يجد السوء، والذي يعمل الحسن يجد الحسن، يقول الله عز جل: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النجم:31].
ويقول عز وجل: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ [يونس:26-27] يعمل طوال ليله ونهاره ويكسب، وسَمَّى الله جمع السيئات كسباً، وإلا فهو ليس بكسب؛ لكنه على سبيل التهكم، والشخص الذي يجمع السيئات، كاسب أم خاسر؟! خاسر؛ لكن الله يقول: وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ [يونس:27] ماذا يحصل؟! جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا [يونس:27] أم أنه يتوقع صاحب السيئات أنه يجد على السيئة حسنة! هل هذا معقول؟! لا. أبداً.
فيقول الله عز وجل: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً [النساء:123].
قول العرب: (لا تلد الحية إلا حية)
الحية لا يأتي ولدها أو ابنتها إلا مثلها حية، لا تتوقع أن يأتيك شيء لطيف من حية.
ولكن القرآن جاء بأبلغ من هذا في قوله تبارك وتعالى على لسان نوح عليه السلام: إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً [نوح:27] متى قال نوح هذا؟
ما قاله ابتداءً، فنوحٌ مِن أولي العزم، عليه وعلى نبينا وعلى سائر الأنبياء أفضل الصلاة والسلام، وهو من الخمسة أصحاب الفضيلة والمقام الرفيع، دعا إلى الله مدة قدرها (ألف سنة إلا خمسين عاماً) مارَسَ شتى الأساليب، وأخذ بجميع الأنواع: قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً [نوح:5] كان يدعو ليلاً ونهاراً، نحن كم ندعو؟ إذا ألقى أحدنا درساً في الأسبوع قال: والله إني تعبتُ، وإذا جلس مع شخص يتكلم بكلمتين، قال: الحمد لله نحن نعمل لهذا الدين ليلاً ونهاراً: قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلَّا فِرَاراً * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُـمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً [نوح:5-8] دعوة علنية ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً [نوح:9] دعوة سرية، وبعد هذا العمر الطويل والجهد العظيم يوحي الله إليه ويقول له: أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ [هود:36] كم عددهم؟ في أصح الروايات أنهم (اثنا عشر) رجلاً، ثمرة تسعمائة وخمسين سنة، يقول الله: وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ [هود:40] آمن معه اثنا عشر رجلاً، مع هذا العمر الطويل والجهد المكثف، والأساليب المتنوعة، لم يستجيبوا ولم يدعُ نوح عليهم؛ لكن لما أوحى الله إليه أنهم لن يؤمنوا، دعا الله عليهم؛ لأنه لا فائدة، ومادام أنه لن يؤمن أحد منهم، فلماذا يبقون؟! فقال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً [نوح:26] لماذا؟! قال: إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ [نوح:27] أحد احتمالين:
الأول: إما أن يضلوا هؤلاء (الاثني عشر) الذين هم عندي الآن؛ لأن تأثيرهم سيكون بليغاً، والكثرة تغلب.
الثاني: أنهم إذا لم يضلوا الذين آمنوا؛ فإن أولادهم الذين يأتون منهم فجرة وكفرة: وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً [نوح:27] و(لا تلد الحية إلا الحية) كما تقول العرب، إذاً لا معنى لبقائهم، دمِّرهم يا رب عن بكرة أبيهم فاستجاب الله دعوته.
لماذا استجاب الله دعوة نوح؟
لأنه استنفد جميع جهده، فالإنسان لا يعتمد على دعائه لله وينام! لا. بل إن نوحاً عَمِلَ وعَمِلَ وعَمِلَ، وعدَّد، ونوَّع، وبذل كل ما عنده، ولما عرف بواسطة الوحي أنه لن يؤمن أحد، إذاً فما معنى أن يبقوا أحياء وهم لم يؤمنوا، فلابد من التدمير، فدعا الله، وقال: ربِّ إنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [القمر:10].
فاستجاب الله له الدعوة، وقـال تعالى: فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ [القمر:11]* وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً [القمر:12] ليس فقط مكاناً معيناً، بل الأرض كلها تحولت إلى ينابيع وإلى ماء، حتى موقد النار (التنور) الذي يتوقع أن الماء في كل مكان إلا هو ليس فيه ماء بل فيه نار؛ لكن فار التنور، والأرض كلها صارت ماءً فَالْتَقَى الْمَاءُ [القمر:12] ماء السماء على ماء الأرض فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ [القمر:12] أي: أُحْكِم من قِبَل الرب تبارك وتعالى، وحَمَله الله عز وجل على السفينة ذات الألواح والدُّسُر أي: المسامير تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر:14] تجري برعاية الله.
وقد قال الله تبارك وتعالى: فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ [المؤمنون:27] أمره الله أن يحمل فيها أهله ومَن آمن معه، فظن نوح عليه السلام أن الأهلية هنا أهلية النسب، فقال لَمَّا رفض ولدُه أن يركب: رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ [هود:45] أنت قلت: يركب أهلي، وهذا ابني أبى أن يركب فلا تغرقه، قال الله: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ [هود:46] انظروا القوة في العبارة، لكن الأنبياء يعرفون الله، فنزَّه الله: قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ [هود:47] يُنَزِّه الله وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي [هود:47] لا إله إلا الله! يستغفر ويطلب الرحمة من سؤاله لله أن ينجي ابنه، رغم أنه لم يسأل بدافع الأبوة، ولا الحنان، وإنما بدافع الوعد من الملك الديان، أنه من أهله، فظن أنه يركب باعتباره من الأهل.
فصحح الله نظرة نوح عليه السلام. وقال: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ [هود:46] الأهلية هنا هي: أهلية العقيدة، وأهلية الملة والدين، وما دام كافراً فليس من أهلك.
ففي هذا إشارة إلى أن العلاقة التي تربط الناس بعضهم ببعض هي علاقة العقيدة بالدرجة الأولى، ثم تأتي بعد ذلك الروابط الأخرى؛ لكن إذا انتفت علاقة العقيدة فلا علاقة قال تعالى: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ [المجادلة:22] لا إله إلا الله!
من ذلك، قول العرب: (القتل أنفى للقتل) :
هذا مثال عربي، معناه: أن إقامة الحدود وقتل القاتل تقضي على القتل.
لكن القرآن جاء بعبارة أعظم وأبلغ من هذا المثل، فقال عز وجل: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:179] في القصاص! فهل في الموت حياة؟! كيف يجتمع النقيضان؟ الموت موت، والحياة حياة، فكيف يكون في القصاص حياة؟!
نعم. في القصاص حياة، لكنها حياة لمن؟ حياة ليس لمن يُقْتَص منه، بل حياة للمجتمع؛ لأن القاتل حين يعلم أنه إذا قَتَلَ قُتِلَ توقَّفَ وارتدع عن القتل، فيحصُل بتوقفه وامتناعه عن القتل حياة للأنفس الأخرى؛ لكن القاتل الذي يعلم أنه لا يُقْتَل يتمادى في الطغيان، وينتهك، ويسفك الدماء؛ لأنه يعرف أنه لن يحصل له شيء، ولذا يقول الله في القصاص من الجناة حياة لبقية الناس، وصدق الله عز وجل: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:179].
قول العرب في بعض الأمثال: (مَن جَهِل شيئاً عاداه) :-
هذا مَثَلٌ واقعي، فالذي لا يعرف السلعة لا يقدرها.
وكما يقول العوام: (إلِّليْ ما يِعْرِفِ الصَّقْر يَشَوِيْه) يظنه حمامة، وهو صقر لا يؤكل؛ لأنه من ذوات المخلب؛ لكنه لا يعلم هل هذا صقر أم حمامة، فيشويه.
وكذلك من يجهل الشيء لا يعرف قيمته، بل ربما يتصدى لمعاداته.
ولكن في القرآن الكريم ما هو أبلغ من هذا المثل، وهو قول الله عز وجل: بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ [يونس:39] لَمَّا جهلوا دين الله، وجهلوا شريعة الله، وجهلوا حقيقة هذا الدين العظيم، كذَّبوه لعدم إحاطتهم بالعلم به، وإلا لو علموه لما عادَوه، ولهذا إنما تقع الخشية لله عز وجل من العلماء إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] (ومن كان بالله أعْرَف كان منه أخْوَف) ولو أجريت استقراءً لمن تقع منه المعاصي والذنوب والمخالفات تجد أنها تقع من الذين لا يعرفون الله، أما كل من استقرت معرفة الله في قلوبهم فتجد في قلوبهم مثل النار من خشية الله عز وجل.
فـ(مَن جَهِل شيئاً عاداه) ولكن القرآن يقول: بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ [يونس:39].
من ذلك أيضاً قول العرب: (ما تزرع تحصد):
فالذي تزرعه تحصده، والشخص الذي يزرع بُرَّاً ماذا يخرج له؟ بُرٌّ، أليس كذلك؟
والذي يضع بَعَراً، أيخرج له بُرٌّ؟! لا. سينتظر وينتظر، ثم يكشف الطين ويرى البعر؛ إن كان جيداً لقيه، وربما قد تلف، وحتى إنه لن يلقاه، فما تزرع تحصد.
لكن المثال في القرآن الكريم جاء ببلاغة أعظم، يقول الله عز وجل: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ [النساء:123].
ويقول عز وجل: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ * وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [النمل:89-90] شخص يزرع طوال حياته السوء، ويزرع الشر والفساد، ويعمل الإجرام، ويهتك الأعراض، ويسفك الدماء، ويعتدي على الحرمات، ويعاند الجبار، ويترك أوامر الله، ويقع فيما حرم الله، هذا ماذا يلقى؟ هل يتصور أنه يلقى حسنات على هذا الفعل؟! لا؛ لأنه يعمل سوءاً، والذي يعمل السوء يجد السوء، والذي يعمل الحسن يجد الحسن، يقول الله عز جل: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النجم:31].
ويقول عز وجل: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ [يونس:26-27] يعمل طوال ليله ونهاره ويكسب، وسَمَّى الله جمع السيئات كسباً، وإلا فهو ليس بكسب؛ لكنه على سبيل التهكم، والشخص الذي يجمع السيئات، كاسب أم خاسر؟! خاسر؛ لكن الله يقول: وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ [يونس:27] ماذا يحصل؟! جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا [يونس:27] أم أنه يتوقع صاحب السيئات أنه يجد على السيئة حسنة! هل هذا معقول؟! لا. أبداً.
فيقول الله عز وجل: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً [النساء:123].
من الأمثال أيضاً في لغة العرب قولهم: (لا تلد الحية إلا الحية):
الحية لا يأتي ولدها أو ابنتها إلا مثلها حية، لا تتوقع أن يأتيك شيء لطيف من حية.
ولكن القرآن جاء بأبلغ من هذا في قوله تبارك وتعالى على لسان نوح عليه السلام: إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً [نوح:27] متى قال نوح هذا؟
ما قاله ابتداءً، فنوحٌ مِن أولي العزم، عليه وعلى نبينا وعلى سائر الأنبياء أفضل الصلاة والسلام، وهو من الخمسة أصحاب الفضيلة والمقام الرفيع، دعا إلى الله مدة قدرها (ألف سنة إلا خمسين عاماً) مارَسَ شتى الأساليب، وأخذ بجميع الأنواع: قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً [نوح:5] كان يدعو ليلاً ونهاراً، نحن كم ندعو؟ إذا ألقى أحدنا درساً في الأسبوع قال: والله إني تعبتُ، وإذا جلس مع شخص يتكلم بكلمتين، قال: الحمد لله نحن نعمل لهذا الدين ليلاً ونهاراً: قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلَّا فِرَاراً * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُـمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً [نوح:5-8] دعوة علنية ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً [نوح:9] دعوة سرية، وبعد هذا العمر الطويل والجهد العظيم يوحي الله إليه ويقول له: أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ [هود:36] كم عددهم؟ في أصح الروايات أنهم (اثنا عشر) رجلاً، ثمرة تسعمائة وخمسين سنة، يقول الله: وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ [هود:40] آمن معه اثنا عشر رجلاً، مع هذا العمر الطويل والجهد المكثف، والأساليب المتنوعة، لم يستجيبوا ولم يدعُ نوح عليهم؛ لكن لما أوحى الله إليه أنهم لن يؤمنوا، دعا الله عليهم؛ لأنه لا فائدة، ومادام أنه لن يؤمن أحد منهم، فلماذا يبقون؟! فقال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً [نوح:26] لماذا؟! قال: إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ [نوح:27] أحد احتمالين:
الأول: إما أن يضلوا هؤلاء (الاثني عشر) الذين هم عندي الآن؛ لأن تأثيرهم سيكون بليغاً، والكثرة تغلب.
الثاني: أنهم إذا لم يضلوا الذين آمنوا؛ فإن أولادهم الذين يأتون منهم فجرة وكفرة: وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً [نوح:27] و(لا تلد الحية إلا الحية) كما تقول العرب، إذاً لا معنى لبقائهم، دمِّرهم يا رب عن بكرة أبيهم فاستجاب الله دعوته.
لماذا استجاب الله دعوة نوح؟
لأنه استنفد جميع جهده، فالإنسان لا يعتمد على دعائه لله وينام! لا. بل إن نوحاً عَمِلَ وعَمِلَ وعَمِلَ، وعدَّد، ونوَّع، وبذل كل ما عنده، ولما عرف بواسطة الوحي أنه لن يؤمن أحد، إذاً فما معنى أن يبقوا أحياء وهم لم يؤمنوا، فلابد من التدمير، فدعا الله، وقال: ربِّ إنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [القمر:10].
فاستجاب الله له الدعوة، وقـال تعالى: فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ [القمر:11]* وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً [القمر:12] ليس فقط مكاناً معيناً، بل الأرض كلها تحولت إلى ينابيع وإلى ماء، حتى موقد النار (التنور) الذي يتوقع أن الماء في كل مكان إلا هو ليس فيه ماء بل فيه نار؛ لكن فار التنور، والأرض كلها صارت ماءً فَالْتَقَى الْمَاءُ [القمر:12] ماء السماء على ماء الأرض فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ [القمر:12] أي: أُحْكِم من قِبَل الرب تبارك وتعالى، وحَمَله الله عز وجل على السفينة ذات الألواح والدُّسُر أي: المسامير تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر:14] تجري برعاية الله.
وقد قال الله تبارك وتعالى: فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ [المؤمنون:27] أمره الله أن يحمل فيها أهله ومَن آمن معه، فظن نوح عليه السلام أن الأهلية هنا أهلية النسب، فقال لَمَّا رفض ولدُه أن يركب: رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ [هود:45] أنت قلت: يركب أهلي، وهذا ابني أبى أن يركب فلا تغرقه، قال الله: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ [هود:46] انظروا القوة في العبارة، لكن الأنبياء يعرفون الله، فنزَّه الله: قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ [هود:47] يُنَزِّه الله وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي [هود:47] لا إله إلا الله! يستغفر ويطلب الرحمة من سؤاله لله أن ينجي ابنه، رغم أنه لم يسأل بدافع الأبوة، ولا الحنان، وإنما بدافع الوعد من الملك الديان، أنه من أهله، فظن أنه يركب باعتباره من الأهل.
فصحح الله نظرة نوح عليه السلام. وقال: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ [هود:46] الأهلية هنا هي: أهلية العقيدة، وأهلية الملة والدين، وما دام كافراً فليس من أهلك.
ففي هذا إشارة إلى أن العلاقة التي تربط الناس بعضهم ببعض هي علاقة العقيدة بالدرجة الأولى، ثم تأتي بعد ذلك الروابط الأخرى؛ لكن إذا انتفت علاقة العقيدة فلا علاقة قال تعالى: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ [المجادلة:22] لا إله إلا الله!
استمع المزيد من الشيخ سعيد بن مسفر - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
اتق المحارم تكن أعبد الناس | 2930 استماع |
كيف تنال محبة الله؟ | 2929 استماع |
وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً | 2805 استماع |
أمن وإيمان | 2678 استماع |
حال الناس في القبور | 2676 استماع |
توجيهات للمرأة المسلمة | 2605 استماع |
فرصة الرجوع إلى الله | 2572 استماع |
النهر الجاري | 2478 استماع |
دور رجل الأعمال في الدعوة إلى الله | 2468 استماع |
مرحباً شهر الصيام | 2403 استماع |