سلسلة شرح كتاب الفوائد [11]


الحلقة مفرغة

ثم يقول ابن القيم رحمه الله: [ إذا استغنى الناس بالدنيا فاستغن أنت بالله ]، يعني: إن كان توكل الناس أو استغناؤهم في الدنيا بمال، أو جاه، أو مركز اجتماعي، أو نحوه، فاجعل استغنائك بالله عز وجل، يعني: أن تستغني بالله لا بغيره، فإذا استغنى الناس بالدنيا عن الدين فاستغن أنت بالدين عن الدنيا، وذلك لأن هناك فرقاً بين من يستغني به ويستغني عنه، فأن يستغنى الإنسان بالله فهذا هو الغنى الحقيقي.

أما أن يستغني الإنسان عن الشيء فهذا إنسان زاهد في هذا الشيء، يعني: أن هذا الاستغناء إن كان عن الله فهو استغناء مذموم بغيض، أما أن يستغني الإنسان بالله سبحانه وتعالى، فهذا يكون عندما يرى الناس قد استغنوا بالدنيا واعتمدوا على ما أعطوا من حطامها.

فحينها يكون استغناؤك بالله سبحانه وتعالى، فإذا استغنى الناس بالدنيا فاستغن أنت بالله.

الخوف من الله وحده

وما هي علامات الاستغناء بالله تعالى؟ هناك نقاط معينة محددة إن توفرت فصاحبها مستغن بالله، وهي على النحو التالي:

أولاً: ألا يخاف إلا من الله عز وجل.

هذه أول علامة تثبت أن الإنسان قد استغنى بالله، وما دام أنه ما خاف إلا من الله عز وجل فعنده توحيد خالص؛ لأن الناس يدخل فيهم الشرك في مسألة الخوف، أي: بأن يخاف أحدهم أن يتكلم كلمة الحق فيذهب في داهية، أو يخاف على أولاده فلا يشهد شهادة الحق حتى لا يسجن، وهكذا خوف الناس من غير الله أي: من المخلوق، قد يوقعهم في الشرك.

والمراد: الخوف الذي يوقع في المخالفة الشرعية، أما أن تخاف المرأة زوجها إن رآها متبرجة، لأنه يأمرها بالحجاب، فهذا محمود، أما إن كان العكس كأن يقول من ليس ملتزماً: أنا أريد امرأة متبرجة، يظهر شعرها وجسمها فتخاف امرأته منه، لئلا يتزوج غيرها فهذا خوف ليس في مكانه؛ لأنه خوف من المخلوق في مخالفة الخالق، وهذه لم تستغن بالله، وإنما استغنت بالدنيا، فدليل استغنائك بالله عز وجل وصدق توكلك واعتمادك عليه ألا تخاف إلا منه، وما دام أنك لا تخاف إلا منه فأنت موحد توحيداً خالصاً.

فهذه أول علامة من علامات الاستغناء بالله.

الثقة بما عند الله

ثانياً: الاستغناء بما في يد الله، ثق بما في يده سبحانه، مثل: أن تملك عشرة جنيهات فتخرج واحداً منها، فإذا كان الجنيه الذي أخرجته أحسن من التسعة التي بقيت عندك، فلست مستغنياً بالله، وكثير من الناس يشعر أن هذا الذي أخرجه يعد ضائعاً، فيخرجه رياء وسمعة.

إذاً: المستغني بالله يعرف أن هذا الجنيه المخرج في ميزان حسناته يوم القيامة، والتسعة التي فضلت عنده قد يصرفها في شيء لا يرضي الله، أو حطام الدنيا الزائل، وفي الحديث: (يقول ابن آدم: مالي.. مالي وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما لبست فأبليت، أو أكلت فأفنيت، أو تصدقت فأبقيت؟) .

فهذا هو الذي يبقى، إذاً: فلنستح من الله حق الحياء، وحق الحياء: أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وأن تذكر الموت والبلى، وأن تعد نفسك مع الموتى، وأن تؤثر ما يبقى على ما يفنى، فهذا هو الذي عنده حياء من الله، ويبقى مستغنياً به عز وجل.

إذاً: فالعلامة الثانية: أن أكون واثقاً بما في يد الله، وقد وقعت هذه العلامة لسيدنا أبي بكر فقال: (يا رسول الله! والذي بعثك بالحق نبياً، إن الذي نعطيه لك لتنفقه في سبيل الله أحب إلينا مما بقي معنا)، إذاً: فـأبو بكر مستغن بالله عز وجل؛ لأنه آخذ نص الحديث: (ثلاث أقسم عليهن)، أول هذه الأشياء: (ما نقص مال عبد من صدقة)، فهو ينقص ظاهراً، لكن حقيقة الأمر زيادته.

إذاً: نظرة المؤمن غير نظرة مدعي الإيمان، فنظرة المؤمن أنه يرى أن هذه النفقات ليست نقصاً، ومثل ذلك الصيام، أي: في ظاهره أنه تعذيب وحرمان من الطعام والشراب، لكن هذا حرمان في الظاهر، أما في باطنه فهو الرحمة، والقرب من الله عز وجل.

الأمل الكبير في الله عند المصائب

ثالثاً: إذا أدلهمت عليك الخطوب، ونزلت بك الابتلاءات والمصائب، فكن دائماً كبير الأمل في الله؛ لأن ربنا سبحانه وتعالى سيقول للمشكلة: كوني كذا، فلا تكون مشكلة، أو يقول لها: كوني أيتها المشكلة! سبب سعادة هذا الإنسان، فتكون كذلك، يعني: المرض والفقر وكثرة الابتلاءات والجار السيئ، كل هذه ظواهرها شر، مثلما قال سيدنا أبو ذر : إني أحب ثلاثة يا رسول الله! أحب المرض وأحب الموت..، فهذه ظواهرها أنها سيئة، لكن ليست كذلك، فالمؤمن يقول: إن جعت رق قلبي، وإذا مرضت خف ذنبي، وإذا مت لقيت ربي، يعني: ترجم هذه الصور السيئة بالنسبة لنا إلى ترجمة إيمانية، مثل أحد الصحابة لما قطعوا له رجله قال: إن كنت قد أخذت فكم أبقيت؟ ولئن كنت ابتليت فكم عافيت؟ يعني: يا رب! إذا كنت أخذت قطعة فقد تركت قطعاً، وإن كنت يا رب! ابتليت فقد عافيت كثيراً.

إذاً: فالمسلم يرى ما بقي عنده من نعم، وعندما يزن الأمور يجد عنده نعماً كثيرة جداً، فهذه بعض الدلائل التي تشير أن العبد قد استغنى بالله عز وجل.

فإذا استغنى الناس بالدنيا استغنى بالله، وإذا فرحوا بها فرح بالله، الناس تفرح بنجاح الولد أو البنت أو أن يجد شقة أو البنت تجد لها عملاً فهذه المسائل إنما هي زائلة، والمسلم الحقيقي أو الصادق، فرحه بقربه من الله، فرحه بدرس علم، فرحه بصلاة جماعة، قيل: يا عمر بن الخطاب ! ما أفضل الأعمال إليك؟ قال: صلاة جماعة، أكفى سهوها وأضمن أجرها، يعني: صلاة الجماعة فهي إن شاء الله مقبولة، وأضمن أجرها، لكن لو صليت وحدي فلا أضمن أجرها ولا آمن سهوها.

وما هي علامات الاستغناء بالله تعالى؟ هناك نقاط معينة محددة إن توفرت فصاحبها مستغن بالله، وهي على النحو التالي:

أولاً: ألا يخاف إلا من الله عز وجل.

هذه أول علامة تثبت أن الإنسان قد استغنى بالله، وما دام أنه ما خاف إلا من الله عز وجل فعنده توحيد خالص؛ لأن الناس يدخل فيهم الشرك في مسألة الخوف، أي: بأن يخاف أحدهم أن يتكلم كلمة الحق فيذهب في داهية، أو يخاف على أولاده فلا يشهد شهادة الحق حتى لا يسجن، وهكذا خوف الناس من غير الله أي: من المخلوق، قد يوقعهم في الشرك.

والمراد: الخوف الذي يوقع في المخالفة الشرعية، أما أن تخاف المرأة زوجها إن رآها متبرجة، لأنه يأمرها بالحجاب، فهذا محمود، أما إن كان العكس كأن يقول من ليس ملتزماً: أنا أريد امرأة متبرجة، يظهر شعرها وجسمها فتخاف امرأته منه، لئلا يتزوج غيرها فهذا خوف ليس في مكانه؛ لأنه خوف من المخلوق في مخالفة الخالق، وهذه لم تستغن بالله، وإنما استغنت بالدنيا، فدليل استغنائك بالله عز وجل وصدق توكلك واعتمادك عليه ألا تخاف إلا منه، وما دام أنك لا تخاف إلا منه فأنت موحد توحيداً خالصاً.

فهذه أول علامة من علامات الاستغناء بالله.

ثانياً: الاستغناء بما في يد الله، ثق بما في يده سبحانه، مثل: أن تملك عشرة جنيهات فتخرج واحداً منها، فإذا كان الجنيه الذي أخرجته أحسن من التسعة التي بقيت عندك، فلست مستغنياً بالله، وكثير من الناس يشعر أن هذا الذي أخرجه يعد ضائعاً، فيخرجه رياء وسمعة.

إذاً: المستغني بالله يعرف أن هذا الجنيه المخرج في ميزان حسناته يوم القيامة، والتسعة التي فضلت عنده قد يصرفها في شيء لا يرضي الله، أو حطام الدنيا الزائل، وفي الحديث: (يقول ابن آدم: مالي.. مالي وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما لبست فأبليت، أو أكلت فأفنيت، أو تصدقت فأبقيت؟) .

فهذا هو الذي يبقى، إذاً: فلنستح من الله حق الحياء، وحق الحياء: أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وأن تذكر الموت والبلى، وأن تعد نفسك مع الموتى، وأن تؤثر ما يبقى على ما يفنى، فهذا هو الذي عنده حياء من الله، ويبقى مستغنياً به عز وجل.

إذاً: فالعلامة الثانية: أن أكون واثقاً بما في يد الله، وقد وقعت هذه العلامة لسيدنا أبي بكر فقال: (يا رسول الله! والذي بعثك بالحق نبياً، إن الذي نعطيه لك لتنفقه في سبيل الله أحب إلينا مما بقي معنا)، إذاً: فـأبو بكر مستغن بالله عز وجل؛ لأنه آخذ نص الحديث: (ثلاث أقسم عليهن)، أول هذه الأشياء: (ما نقص مال عبد من صدقة)، فهو ينقص ظاهراً، لكن حقيقة الأمر زيادته.

إذاً: نظرة المؤمن غير نظرة مدعي الإيمان، فنظرة المؤمن أنه يرى أن هذه النفقات ليست نقصاً، ومثل ذلك الصيام، أي: في ظاهره أنه تعذيب وحرمان من الطعام والشراب، لكن هذا حرمان في الظاهر، أما في باطنه فهو الرحمة، والقرب من الله عز وجل.

ثالثاً: إذا أدلهمت عليك الخطوب، ونزلت بك الابتلاءات والمصائب، فكن دائماً كبير الأمل في الله؛ لأن ربنا سبحانه وتعالى سيقول للمشكلة: كوني كذا، فلا تكون مشكلة، أو يقول لها: كوني أيتها المشكلة! سبب سعادة هذا الإنسان، فتكون كذلك، يعني: المرض والفقر وكثرة الابتلاءات والجار السيئ، كل هذه ظواهرها شر، مثلما قال سيدنا أبو ذر : إني أحب ثلاثة يا رسول الله! أحب المرض وأحب الموت..، فهذه ظواهرها أنها سيئة، لكن ليست كذلك، فالمؤمن يقول: إن جعت رق قلبي، وإذا مرضت خف ذنبي، وإذا مت لقيت ربي، يعني: ترجم هذه الصور السيئة بالنسبة لنا إلى ترجمة إيمانية، مثل أحد الصحابة لما قطعوا له رجله قال: إن كنت قد أخذت فكم أبقيت؟ ولئن كنت ابتليت فكم عافيت؟ يعني: يا رب! إذا كنت أخذت قطعة فقد تركت قطعاً، وإن كنت يا رب! ابتليت فقد عافيت كثيراً.

إذاً: فالمسلم يرى ما بقي عنده من نعم، وعندما يزن الأمور يجد عنده نعماً كثيرة جداً، فهذه بعض الدلائل التي تشير أن العبد قد استغنى بالله عز وجل.

فإذا استغنى الناس بالدنيا استغنى بالله، وإذا فرحوا بها فرح بالله، الناس تفرح بنجاح الولد أو البنت أو أن يجد شقة أو البنت تجد لها عملاً فهذه المسائل إنما هي زائلة، والمسلم الحقيقي أو الصادق، فرحه بقربه من الله، فرحه بدرس علم، فرحه بصلاة جماعة، قيل: يا عمر بن الخطاب ! ما أفضل الأعمال إليك؟ قال: صلاة جماعة، أكفى سهوها وأضمن أجرها، يعني: صلاة الجماعة فهي إن شاء الله مقبولة، وأضمن أجرها، لكن لو صليت وحدي فلا أضمن أجرها ولا آمن سهوها.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وإذا فرحوا بالدنيا فافرح أنت بالله ].

لا بد أن تفرح بالله عز وجل؛ لأنه رزقك الإسلام؛ ولأنه لا توجد نعمة أكبر من نعمة الإسلام، وهذه نعمة لم نحافظ عليها حق الحفاظ، فهي نعمة لا تساويها نعمة، فالمال يأتي ويذهب، والجاه يأتي ويذهب، وأي شيء في الدنيا يضيع إلا الإيمان، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب ولا يعطي الإيمان إلا من أحب) فالله لا يعطي الدين إلا للذي يحبه، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)، وليس معنى (يفقهه في الدين) أن يجعله عالماً وشيخاً كبيراً، ولكن التفقه في الدين هو أن يعرف المسلم ما الذي ينجيه والذي لا ينجيه؟ وأن يعرف المسلك الذي يوصله إلى الجنة، والمسلك الذي يهبط به إلى قعر النار والعياذ بالله.

فالمسلم لا بد أن يضع نصب عينيه ما الذي ينجيه وما الذي يضيعه، فإذا عرف هذا، فإن الله اختار له الخير.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وإذا أنسوا بأحبابهم، فاجعل أنسك بالله ].

مثلما تفرح بالجلسة مع الأحباب وتأنس بالجلوس معهم، فليكن أنسك بالله عز وجل، قال أهل العلم: إن الله اطلع على قلوب العباد، فوجد أشوق القلوب إليه قلب رسول الله صلى الله عليه سلم، فلم ينتظر إلى يوم القيامة لكي يريه وجهه، وإنما عجل له برحلة المعراج لكي يتشرف الحبيب برؤية الله عز وجل، لأنه اطلع على قلبه فوجده قلباً تواقاً، فجعله يرى المعبود الذي يعبده، فأكرمه الله.

وسيدنا موسى عليه السلام طلب رؤية الله عز وجل، ولكن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لم يطلب رؤية الله عز وجل، قال: رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا [الأعراف:143]، والله تعالى يقول: يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي [الأعراف:144].

أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يطلب أن يرى وجه ربه، ومؤكد أنه كان يتمنى ذلك، ولذلك قالوا: سوابق الهمم لا تخرق أسوار الأقدار، أي: أن الذي يخطط ويفكر ويتوقع ويعمل دراسة جدوى لمشروع يريد أن يقوم به، ولكن الله يريد شيئاً آخر، فلا يحصل إلا ما أراده الله وليس ما خططه هذا العبد؛ لأن القدر له أسوار عالية لا يستطيع أحد أن يخترقها إلا بإذن الله وبقضائه وقدره.

ولذلك سألوا سيدنا عمر عندما حصل الطاعون في الشام، قالوا: هل ندخل أم لا ندخل؟ فلم يجبهم عمر ، فقال عبد الرحمن بن عوف : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا كان الطاعون في بلد وأنتم خارجها فلا تدخلوها، وإن كنتم داخلها فلا تخرجوا منها)، فاتضحت الصورة لسيدنا عمر ، فقال: فلنرجع، فقال له بعضهم: أتفر من قدر الله يا أمير المؤمنين؟! فقال: نفر من قدر الله إلى قدر الله.

فلا منجى من الله إلا إليه. ويجب أن يكون إيماننا في حالة من الازدياد، ولا يزداد الإيمان إلا بالتسليم الكامل لله عز وجل.

وأضرب لكم مثالاً: لو أن شخصاً جلس في بيته لمدة ساعة، وسمع عشر مكالمات تلفونية، وفي كل مكالمة مشكلة مختلفة عن الأخرى تماماً، فهذه مشكلة كبيرة وهذه مشكلة صغيرة وهكذا.. ولله في خلقه شئون، كيف يوزع كل هذه الأشياء؟

ورجل يقول لي: هل أنت ربنا؟ فأقول له: استغفر الله! أنا لست رباً، فيقول: أنت لن تحاسبني، فأقول له: ولماذا أحاسبك؟ فيقول: زوجتي للأسف تحضر محاضراتك في المسجد، فقلت له: ولماذا تقول للأسف؟ فقال: لقد ضيقت علي حياتي، فكلما تسمع كلمات منك تأتي وتريد أن تطبقها علي، وأنا لا أعرف الصلاة والصوم، فقلت له: وأنت أتيت إلي لكي تتشاجر معي أو تستوضح مني أو ماذا؟ وقال لي: وأنا أيضاً أحب الجلسات اللطيفة وأريد أن أشرب كأساً من الخمر أو كأسين كل يوم، فقلت له: يكفي أنك رجل تحب الله ورسوله، فقال لي: من أين عرفت هذا؟ فقلت له: الذي يقول هذا الكلام الصريح لا يخاف من أحد ولا يخاف إلا من الله، وطالما أنك غير خائف مني فهذا دليل على أنك خائف من الله، فأخرج ورقة وقلماً من جيبه وسألني عن مواعيد محاضراتي في المسجد.

وأقسم بالله أن هذا الرجل في كل جمعة أراه في أول عمود في المسجد، ولا أحد يصل إلى أول العمود يوم الجمعة إلا الذي يأتي مبكراً في الساعة التاسعة صباحاً، لأنه في الساعة العاشرة لا تجد مكاناً داخل المسجد.

فلو قلت له: دع زوجتك وشأنها، وتشاجرت معه، ربما نفر أكثر.

أنت أحياناً تضطرك الظروف ليس لدرجة أنك تنافق الناس، ولكن دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت لطيفة وعظيمة، والله لو كانت دعوة سيدنا الحبيب صلى الله عليه وسلم مثل بعض الأخوات المنقبات اللاتي يهاجمن النساء في كل مكان، لتوقفت الدعوة، تجد الواحدة من هؤلاء بمجرد أن ترى فتاة في الشارع وهي غير محجبة، فتسحبها من شعرها، وتقول: لابد أن تحتجب، وإن كانت هذه الفتاة تلبس قصيراً، ولكن هؤلاء لا يركزن إلا على النقاب، فلا بد من أسلوب في هذه المسائل.

فالدعوة تحتاج إلى صبر وانشراح صدر، وتحمل في الله عز وجل.

ولكن للأسف تجد بعض الشباب والشابات يأخذون بنصوص الأحاديث أو بمجرد أن يسمعوا محاضرة في مسجد أو من أي شيخ، فيعودون إلى بيوتهم ويخاطبون آباءهم بطريقة غير مؤدبة، فيقولون لهم: لقد سمعنا اليوم شيخاً يتكلم عن النار وعذاب النار والمنافقين وصفات المنافقين، وأنتم لا تصلون الفجر ولا العشاء، فأنتم منافقون وستدخلون النار ولن تدخلوا الجنة.

ولكن لماذا لا نتعلم من سيدنا إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام عندما قال: يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا [مريم:43-44]، وأبوه يقول له: قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا [مريم:46]، ولو أن أحداً في زماننا يقول لولده هكذا، لرد عليه ابنه وقال: والله لن تقدر! ولكن سيدنا إبراهيم لم يقل له هكذا، وإنما قال له: سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا [مريم:47]، وهذا كما في قوله تعالى: وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا [الفرقان:63]، فإذا كان المريض ليس عليه حرج، والذي غاب عنه عقله ليس عليه حرج، فما بالك بشخص غائب عنه الإيمان! فإن مشكلته كبيرة، فهو مثل الذي عندهم أمراض عقلية -ربنا يشفي كل مريض- ويقولون لبعضهم: نحن محتجزون هنا بعيداً عن الناس لكي لا نصاب بالجنون، والناس ينظرون إليهم أنهم مجانين، وهذا بالضبط ما يحصل -مع فارق القياس- فعندما يراكم بعض الناس تدخلون المساجد، فإنهم ينظرون إليكم نفس النظرة، ويقولون: الدين ذهب بعقلهم، وهناك رجل يضحك عليهم يذهبون إليه كل يوم أربعاء، والأغرب من هذا أن بعضهم يقول: هذا هو الذي خرب علينا بلادنا. سبحان الله!!

فالمسلم ينظر إلى هذه الفئات من الناس ولا يتهمها، لأنهم مرضى، وهناك مثل يقول: من ذاق عرف، فلو ذاق أحد طعم الإيمان سيعرفه، فإنه شيء يحس ولا يقال، فمثلاً لو سألك رجل: كم تحب ولدك؟ فهذا ليس سؤالاً؛ لأن كل شخص يحب ابنه، ولا يستطيع أن يصف حبه لابنه، فهذا شيء يحس ولا يقال، وهكذا الإيمان عندما يتشرب في القلوب فتجد صاحبه ينظر للناس نظرة رحمة، حتى العاصي فإنه ينظر له نظرة رحمة، لأنه لو تاب سيكون أحسن مني ومنك؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال فيه: (عاشروا التوابين فإنهم أرق أفئدة).

ورجل آخر قبل سنوات أتى ودق باب بيتي وهو كبير في السن، فقلت له: تفضل ادخل، فقال لي: أنا أتيت لأسأل سؤالاً من الباب، فقلت له: تفضل واسأل بالداخل، فلم يقبل، فقلت له: تفضل واسأل، فقال: هل يغفر ربنا جميع الذنوب؟! قلت له: نعم، الله يغفر الذنوب جميعاً بفضله ورحمته، وربما أن الله سيرحم محافظة الجيزة لأجلك، فقال لي: لماذا؟! وفاضت عيناه بالدموع، فقلت له: عندما يبلغ عمر العبد ستين سنة يقول الله: خففوا عن عبدي الحساب، وعندما يبلغ سبعين سنة يقول: هذا أسيري في الأرض، وعندما يبلغ ثمانين سنة يقول: لا تكتبوا على عبدي سيئة حتى آخذه عندي.

فكلما تقدم العبد في السن كلما خفف الله عنه، لأن الله يسلب منه الصحة والذاكرة، وتجده يذكر شيئاً وينسى شيئاً، وبعدما كان يذهب هنا وهناك، بدأ يجلس في بيته وأصبحت حياته محدودة، فهذه تشمله رحمة الله عز وجل، وهذا من فضل الله على الإنسان.

وأبو ذر رضي الله عنه كان قاطع طريق، لأنه كان من قبيلة غفار، وقبيلة غفار أكبر قطاع طرق في جزيرة العرب، فلما أسلم ودخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ورآه تبسم النبي صلى الله عليه وسلم فيقول أبو ذر : إن الله يهدي من يشاء، فعندما يشاء الله أن يهدي إنساناً فهو يهديه فيمن هدى.

والأنس بالله من جربه عرفه، فالذي دنياه لله عز وجل، وكل حركة لله، من صلاة ودرس العلم، وقراءة وصلة الرحم، وبرنامج حياته كله لا يتحرك إلا لله، فيصبح عنده أنس بالله عز وجل، وما دام عنده أنس، فعنده طمأنينة، وما دام عنده طمأنينة فيكون عنده رضا، ومادام عنده رضا فهو في الجنة قبل أن يدخل الجنة.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وإذا تعرفوا إلى ملوكهم وكبرائهم وتقربوا إليهم لينالوا بهم العزة والرفعة، فتعرف أنت إلى الله وتودد إليه تنل بذلك غاية العز والرفعة ].

فالناس يتعرفون إلى الملوك والكبراء حتى ينالوا منهم حظاً أو كرسياً أو درجة أو علاوة أو غيرها، والمؤمن عندما يتعرف إلى الله يشعر أنه عزيز بالله، قال تعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون:8].

قال الشاعر العربي مع تحفظنا على ما قال:

لا تسقني ماء الحياة بذلة بل فاسقني بالعز كأس الحنظل

ماء الحياة بذلة كجهنم وجهنم بالعز أعظم منزل

فالله سبحانه وتعالى يعز الذليل بطاعته، ويذل العزيز بمعصيته.

وأبو سفيان ظلم جاره، فذهب الجار واشتكى إلى أمير المؤمنين عمر ، وأبو سفيان من أكابر قريش، فقال أمير المؤمنين عمر : يا أبا سفيان ! أرجع الحق إلى صاحبه وإلا ضربتك بالسوط فأرجعه إلى صاحبه، فسجد سيدنا عمر وقال: الحمد لله الذي أعز الذليل بطاعته، فجعل عمر يرفع السوط على أبي سفيان فينصاع أبو سفيان له.

فسجد أبو سفيان وقال: الحمد لله الذي صبّر واحداً مثلي على واحد من أمثال عمر .

وكان جبلة بن الأيهم أميراً نصرانياً ثم أسلم، فبينما كان يطوف حول الكعبة وكان لابساً رداء، فمر به أعرابي فداس على ردائه، فلطمه جبلة في وجهه وقال له: أتدوس يا أعرابي رداء جبلة؟ فذهب الأعرابي واشتكى لسيدنا عمر ، فأتى بـجبلة وقال للأعرابي: ماذا صنع بك جبلة ؟ قال: لطمني أمام الناس قال: الطمه. فلطمه أمام الناس، فارتد جبلة عن الإسلام.

فإذا تعرف الناس إلى الملوك والكبراء لكي ينالوا عزة أو رفعة أو درجة أو منزلة، فتعرف أنت إلى الله عز وجل يعطك رب العباد من عزته ورحمته والمكانة العليا، ولذا قال العلماء: تقرب النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج إلى الله قرب مكانة لا قرب مكان، لأن الله خالق الزمان والمكان؛ فلا يحده زمان ولا مكان.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ قال بعض الزهاد: ما علمت أن أحداً سمع بالجنة والنار تأتي عليه ساعة لا يطيع الله فيها بذكر أو صلاة أو قراءة أو إحسان.

فقال له رجل: إني أكثر البكاء.

فقال: إنك إن تضحك وأنت مقر بخطيئتك، خير من أن تبكي وأنت مدل بعملك ].

أي: لئن تصبح ضاحكاً وأنت نادم، خير لك من أن تصبح باكياً وأنت مدل على الله بعملك، أو تمن على الله بعملك وتقول في نفسك: أنا عملت كذا وكذا وكذا، فلا يوجد أفضل مني، فهذا خطأ، فلابد للمسلم أن يظل مستشعراً تقصيره مهما كانت عبادته.

[ فإن المدل لا يصعد عمله فوق رأسه، فقال: أوصني! فقال: دع الدنيا لأهلها كما تركوا هم الآخرة لأهلها ].

عندما تدعو شخصاً وهو ليس متعوداً على المحاضرات ولا يريد المحاضرات أصلاً، فتقول له: هلا أتيت معنا يوم كذا، لدرس أو لخطبة أو لمحاضرة، فتجده يرد عليك بسخرية، ويقول: اجعل لنا من بركاتك.

فمثلما هو قد ترك لك الآخرة، كافئه واترك له الدنيا، ولن تخسر شيئاً، ولو أخذ الدنيا سيكتشف عندما يموت أنها هباء منثور، قال تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23].

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وكن في الدنيا كالنحلة إن أكلت، أكلت طيباً، وأن أطعمت أطعمت طيباً، وإن سقطت على شيء لم تكسره ولم تخدشه ].

فالنحلة تأكل رحيق الأزهار، وتؤكلنا الشهد، وعندما تقف على العود لا تخدشه ولا تكسره، فالمسلم يجب أن يكون خفيفاً كالظل، لا يكون فضولياً ولا مزعجاً ولا يعيد كلامه أكثر من مرة.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ مبنى الدين على قاعدتين: الذكر والشكر، قال تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [البقرة:152] ].

أي: من ذكر الله ذكره الله، وعكس الشكر الكفران، والعياذ بالله.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقال النبي صلى الله عليه وسلم لـمعاذ : (والله! إني لأحبك، فلا تنس أن تقول دبر كل صلاة: اللهم! أعني علي ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك) ].

أي: اطلب الإعانة من الله، فالإنسان إذا لم يستعن بالله، فإنه سيذكر الله وحالته النفسية جيدة، أما إذا تضايقت حالته أو مرض فلن يستطيع أن يذكر الله، فعندما تكون الاستعانة بالله، ففي كل وقت يعينك على ذكره، ولذلك يجب علينا نقول في كل صلاة: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، فالإعانة من الله دائماً، مثل محطة توليد الكهرباء التي لا تنقطع.

فعلى المسلم أن يقول عقب كل صلاة ثلاث مرات: اللهم أعني على طاعتك وذكرك وحسن عبادتك.

المراد بالذكر

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وليس المراد بالذكر مجرد ذكر اللسان ].

ترى بعض النساء في البيوت تمسك السبحة بيدها وهي تشاهد التلفاز وترى المسلسل وتتخذها عادة، فهذا لا يصح، فإما أن ترى التلفاز وإما أن تذكر الله، فإما الله وإما عباد الله، إما الخالق وإما المخلوق، إما دنيا وإما آخرة، فلا يجتمع الاثنان؛ لأن المتضادات لا تجتمع، فالليل والنهار لا يجتمعان، والكفر والإيمان لا يجتمعان، فإن هذا مستحيل.

فالذكر ليس تسلية، ولكن الذكر استحضار قلب.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ بل الذكر القلبي واللساني، وذكره يتضمن ذكر أسمائه وصفاته ].

يعني: عندما تقول: اللهم! أعني على ذكرك، فذكره يتضمن أسماءه وصفاته، مثل: الرحيم، الغفور، الودود.

وإن كان قلبك مظلماً فمن أسماء الله عز وجل النور، وعندما تشعر أنك في ظلمة من المعصية، فالذي ينور هذه الظلمة هو الله بطاعتك له.

وإن كان في داخل الإنسان ضلالة، فمن أسماء الله: الهادي، فكم هو جميل أن يناديك الناس باسم: عبد الهادي؟ ولكننا من كثر التكرار ننسى حلاوة الاسم، فهو يعبد الهادي الذي يهدي، كما قال تعالى: فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الرعد:33].

وإن كان العبد فقيراً فمن أسماء الله: الغني، ومن ذنوب العبد كثرة العصيان، فالله هو الغفار التواب، فعلى المسلم أن يستحضر القلب وهو يذكر هذه المعاني.

فليست الذكر مجرد ذكر لساني، ولكن لا بد من الذكر اللساني والقلبي، لكي يذكر بهما الأسماء والصفات.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وذكر أمره ونهيه، وذكره بكلامه، وذلك يستلزم معرفته والإيمان به وبصفات كماله ونعوت جلاله والثناء عليه بأنواع المدح، وذلك لا يتم إلا بتوحيده، فذكره الحقيقي يستلزم ذلك كله ويستلزم ذكر نعمه وآلائه وإحسانه إلى خلقه ].

سألت أحد الإخوة، وكان قد سافر عن طريق البحر: هل هذه أول مرة تسافر عن طريق البحر؟ قال: نعم، فقلت له: بماذا كنت تشعر وأنت في الباخرة؟ فأجابني إجابة لطيفة جداً، قال: أشعر بالليل أنه القهار، وأشعر بالنهار بأنه ذو الجمال والرحمة، فبالليل ظلام دامس والباخرة في البحر مثل الريشة، كما قال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ [الشورى:32]، فبالليل رهبة وقهر، وفي النهار جمال ورحمة.

وكما تذهب لزيارة قبر الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، فإنك تلقى الجمال والود والرحمة، وعندما تذهب إلى الكعبة تشعر بالرهبة والجلال والعظمة والقهر والجبروت، فتشعر في المدينة بالحنان، وتشعر في مكة بالخوف وبالذلة لله عز وجل، فتلك لها مذاق وتلك لها مذاق، ونحن لا نقارن هنا، وإنما هذه مثلها مثل الزاويتان المتكاملتان كل زاوية تكمل الأخرى، فهو القهار وفي نفس الوقت هو الرحيم، وهو القوي الغفور، والجبار الودود.

تعريف الشكر

قال المصنف رحمه الله تعالى:[ وأما الشكر فهو القيام بطاعته والتقرب إليه بأنواع محابه ظاهراً وباطناً ].

فالحمد ليس كلاماً، وإنما فعل وعمل وصدق يقين بأن الله عز وجل هو صاحب النعم، فالشكر هو القيام لله بطاعته والتقرب إليه بأنواع محابه ظاهراً وباطناً.