شرح العقيدة التدمرية [25]


الحلقة مفرغة

بيان قولهم: إن الله واحد في أفعاله لا شريك له

قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [ وأشهر الأنواع الثلاثة عندهم هو الثالث: وهو توحيد الأفعال، وهو أن خالق العالم واحد، وهم يحتجون على ذلك بما يذكرونه من دلالة التمانع .. وغيرها، ويظنون أن هذا هو التوحيد المطلوب, وأن هذا هو معنى قولنا: لا إله إلا الله، حتى قد يجعلون معنى الإلهية القدرة على الاختراع.

ومعلوم أن المشركين من العرب الذين بعث إليهم محمد صلى الله عليه وسلم أولاً لم يكونوا يخالفونه في هذا، بل كانوا يقرون بأن الله خالق كل شيء، حتى إنهم كانوا يقرون بالقدر أيضاً، وهم مع هذا مشركون.

فقد تبين أن ليس في العالم من ينازع في أصل هذا الشرك، ولكن غاية ما يقال: إن من الناس من جعل بعض الموجودات خلقاً لغير الله، كالقدرية .. وغيرهم، لكن هؤلاء يقرون بأن الله خالق العباد وخالق قدرتهم، وإن قالوا: إنهم خلقوا أفعالهم.

وكذلك أهل الفلسفة والطبع والنجوم الذين يجعلون أن بعض المخلوقات مبدعة لبعض الأمور ].

المقصود بـ(الطبع) هنا: الطبائعيون الذين يزعمون أن الطبيعة بذاتها هي التي تسير نفسها بنفسها، أو أن الطبيعة ركبت على أنها تحدث أحداثاً ليس لله عز وجل فيها دخل، أو الذين يرون أن الأمور تنبني على ما طبعت عليه، وهم صنفان:

الأول: الذين يرون أن الطبيعة هي الخالق، وهي المخلوق، ولا فرق في ذلك، وعلى هذا فهم يرون أنها بذاتها هي التي تسير نفسها بنفسها.

الثاني: وهو المقصود هنا، وهؤلاء يزعمون أن الكون ركب على طبع، أي: أنه ركب على نظام، وهذا النظام يجعله يسير نفسه بنفسه، دون أن يكون للرب عز وجل فيه دخل، أو أن بعض أجزاء الكون ركبت وطبعت على أنها تنشئ أفعالها أو أفعال غيرها من دون تقدير الله، وهذا التصور نتج عنه -حينما دخل على بعض فرق الأمة- اعتقاد بأن هناك من المخلوقات من يدبر مع الله عز وجل، وأنه يستقل بشيء من أفعال الخلق أو أمور الخلق من دون الله، فبعضهم أحال ذلك على النجوم والكواكب، ومنهم من أحال ذلك على الأشخاص، كالأئمة الذين يقدسونهم بعض الناس، فجعلوا لهم تدبيراً في الكون جزئياً أو كلياً، أو الذين يقدسون الأولياء، إذ زعموا أن الأولياء يدبرون الكون أو بعض الكون، بل إنهم صنفوا الأولياء إلى أصناف، فزعموا أن القطب والغوث يدبر الكون كله، وأن من دونه من الأوتاد -أحياناً يقولون: أربعة أو اثنا عشر أو أربعة ثم اثنا عشر- يأخذ ربعاً من أرباع الكون يدبره.

والمهم أن منشأ الفلسفة واحد، وهو اعتقاد أن هناك من يدبر الكون مع الله عز وجل، وهذا خلل في توحيد الربوبية، وبالتالي نتج عنه بالضرورة الخلل في توحيد الإلهية؛ لأن من زعم أن ثم مخلوقاً يدبر مع الله لاشك أنه سيصرف له شيئاً من العبادة من دون الله.

قال رحمه الله تعالى: [ فهم مع الإقرار بالصانع يجعلون هذه الفاعلات مصنوعة مخلوقة ].

كلمة (الصانع) هذه استعملها الشيخ رحمه الله على غير القاعدة التي يقول بها ويقول بها السلف، وكان المفروض أننا لا نورد كلمة (الصانع) إطلاقاً، وإنما يقال: الخالق، لكن الشيخ أورد مصطلحاتهم ليقيم الحجة عليهم، وقد فعل ذلك في كثير من مؤلفاته التي قصد بها الذين ابتلوا بالنزعة الفلسفية والنزعة الكلامية؛ لأنهم يستعملون هذه الكلمات أو العبارات، بل إن بعضهم قل أن يصف الرب عز وجل بصفاته، بل يقول: الصانع، وعلى هذا فإن الشيخ ربما أراد التنزل معهم في هذا المصطلح .. وغيره حتى يحرجهم، أو يبين وجه الباطل عندهم، أو استدراجهم إلى استعمال مصطلحاتهم حتى يأخذوا بالحق، أو يقبلوا به، ولا يعني هذا أنه يجوز لنا استعمال مثل هذه المصطلحات، ولذا أقول: من كشيخ الإسلام ابن تيمية في التصدي لمثل هذا المقام، بأن يستعمل مصطلحات القوم لهدم أصولهم؟ إن هذا يندر أن يرقى له طالب علم، أو متخصص، ولذلك ينبغي أن تتفادى هذه المصطلحات؛ لأن لها معاني لا تليق بالله عز وجل، فينبغي أن يقال: الخالق بدل الصانع.

ولذا من الخلط والتهور الذي يقع فيه كثير من طلاب العلم أنهم يستعملون أساليب استعملها شيخ الإسلام للرد على أهل الأهواء، مع اختلاف الحال والمقام والقدر، سواء كانت أساليب كلامية أو مناهج أو طريقة الدعوة أو طريقاً لهم في الحجة أو أساليب عملية تنفيذيه، فنقول: إذا الواحد منا وصل إلى مثل مقام شيخ الإسلام ابن تيمية ، في سعة علمه، وقدراته العقلية، وقوة حجته، وإلزامه للخصوم، واحترام الخصوم له، فقد كان خصومه من أكثر الناس ثناء عليه واعترافاً بفضله، وهذه قل أن توجد في التاريخ، وأنا قد وجدت فعلاً أن أكثر من أثنى على شيخ الإسلام، واعترف له بسعة العلم، والمقدرات الراقية في العلم والتعامل، هم خصومه كـالسبكي .. وغيره، وعدد من الشافعية والمالكية والأحناف، ومن الفرق، كالأشاعرة .. وغيرهم، عند ذلك لا مانع أن يستعمل بعض أساليب العلم، وهذا ما أشرت إليه في أول كلامي عند حديثي عن الإجابة عن بعض الأسئلة، فقد قلت: إن بعض الناس الآن يقلد على غير جدارة، ويأتينا بأساليب ومناهج شيخ الإسلام ابن تيمية تجاه بعض القضايا على غير وجهها، وأظن أنه لو كان شيخ الإسلام ابن تيمية حياً لكان هو أول من يرد على هذا الصنف من الناس، ويبلغهم بأنهم أساءوا إليه، وأساءوا إلى الإسلام، وأساءوا إلى السلف بهذا المنهج المعوج.

قال رحمه الله تعالى: [ هم مع الإقرار بالصانع يجعلون هذه الفاعلات مصنوعة مخلوقة، لا يقولون: إنها غنية عن الخالق، مشاركة له في الخلق.

فأما من أنكر الصانع فذاك جاحد معطل للصانع، كالقول الذي أظهره فرعون، والكلام الآن مع المشركين بالله المقرين بوجوده، فإن هذا التوحيد الذي قرروه لا ينازعهم فيه هؤلاء المشركون، بل يقرون به مع أنهم مشركون، كما ثبت في الكتاب والسنة والإجماع، وكما علم بالاضطرار من دين الإسلام ].

لماذا ركز الشيخ على هذه القضية؟ إن استطراده في مثل هذا الكتاب إنما هو رد على المتكلمين المعجبين بطرائق الفلاسفة، والذين أشغلوا أوقاتهم وأضاعوا أعمارهم وجهودهم في الرد على قضية ليس لها وجود، وهو لا يقصد بذلك طلاب العلم الذين يريدون تحصيل العقيدة على الوجه الشرعي، ولذلك ترون أنه أحياناً نترك بعض الاستطرادات في هذا المقام؛ لأنه ما كتبها لنا ولا نحتاجها أصلاً، لكن في مثل هذه الأمور قد يرد على فئة من المسلمين، وهم أهل الكلام الذين أضاعوا أوقاتهم كما قلت، وبذلوا جهوداً جبارة ومؤلفات، بل إن بعضهم أفنى عمره -كثير من أساطين علم الكلام- في مثل هذه المتاهات والأوهام ليثبت وجود الرب، وأنه واحد، وأنه الخالق، وأنه المدبر، مع أنه لا ينازعهم في ذلك أحد، وإنما توهموا خصوماً لا وجود لهم، أو لهم وجود، لكن ليس لهم من القوة والكيان ما يجعلنا نصرف جهوداً جبارة في سبيل ذلك.

وأغلب الذين فتنوا بذلك هم من المثاليين، حتى إنه ليس لهم أثر في الحياة العملية بين الناس، فلا يوجد له أتباع، وإنما أتباعهم مثلهم من عشاق الأوهام والمتاهات فقط، لكن أن تكون الأمة على هذا أو فرقة أو جماعة كبيرة فلا، وإلى الآن أنا لا أتصور أنه توجد الآن فئة ذات كيان وديانة وأمة ودولة همها إثبات وجود الصانع كما عبروا عنه؛ لأن هذه بدهية لا تحتاج التكلف، ولذلك كما قلت: إن بعضهم قد أفنى عمره في ذلك، والموفق منهم من أدرك حال الشيخوخة، وعندما انتهت قواه أدرك أنه على باطل، كـالشهرستاني والبغدادي والجويني والرازي والغزالي ، ومنهم من أقر بالحيرة في النهاية، مثل الإيجي والآمدي ، فهذه هي مسالك القوم، والشيخ إنما رد عليهم ليبين لهم وللأمة ولمن جاء بعدهم أن هذا المسلك ليس من المطالب الشرعية، بل هو من التخرصات والأوهام التي لا فائدة منها.

وقوع الغلط من المشركين في قولهم: إن الله واحد في صفاته لا شبيه له

قال رحمه الله تعالى: [ وكذلك النوع الثاني، وهو قولهم: لا شبيه له في صفاته، فإنه ليس في الأمم من أثبت قديماً مماثلاً له في ذاته، سواء قال: إنه يشاركه، أو قال: إنه لا فعل له، بل من شبه به شيئاً من مخلوقاته فإنما يشبهه به في بعض الأمور.

وقد علم بالعقل امتناع أن يكون له مثل في المخلوقات، يشاركه فيما يجب أو يجوز أو يمتنع عليه، فإن ذلك يستلزم الجمع بين النقيضين كما تقدم، وعلم أيضاً بالعقل أن كل موجودين قائمين بأنفسهما فلابد بينهما من قدر مشترك، كاتفاقهما في مسمى (الوجود) و(القيام بالنفس) و(الذات) .. ونحو ذلك، فإن نفي ذلك يقتضي التعطيل المحض، وأنه لابد من إثبات خصائص الربوبية، وقد تقدم الكلام على ذلك ].

عادة الشيخ أن يضرب أمثلة في مثل هذا المقام وإن كانت بدهيات؛ لأنه بالأمثلة يفهم السياق لاسيما في هذه الأمور الصعبة.

قوله: (قد علم بالعقل امتناع أن يكون له مثل في المخلوقات) أي: بعقل كل عاقل يحترم عقله، وإن لم يكن مسلماً.

وقوله: (يشاركه فيما يجب) هذه عبارة فلسفية، فـ(يجب) بمعنى: يلزم بداهة، وليس الوجوب وجوب الأمر الشرعي كما يفهم في الأحكام الشرعية، وإنما (يجب) بمعنى: يلزم فيما تقرره العقول بالشكل البدهي، فمثلاً: ليس لأحد أن يزعم أن هناك أحداً يشارك الله عز وجل فيما يجب له من خصائص، ككونه عز وجل (الأول) فليس قبله شيء، إذ إن عدم الإقرار بها يؤدي إلى التسلسل، وإلى الممنوع عقلاً، وكذلك (الآخر) الذي ليس بعده شيء، وهذا يمتنع أن يكون له مثل من المخلوقات؛ لأنه لو كان له مثل ما صرح له إذا كان مخلوقاً، فمعناه: أنه مبدع محدث، وكون المحدث لابد له من بداية.

وقوله: (أو يجوز) ليس معناه: أنه جائز شرعاً، بل هو بمعنى: يحتمل، فيقر به العقل ولو لم يكن، كالرؤية لله عز وجل، فالعقل السليم لا يمنع أن الله يرى، لكن يمنع أن تكون عند البشر قدرات أن يروه في الدنيا، والله عز وجل سيهيئ للبشر قدرات يوم القيامة ليروه.

إذاً: هذا مثال للجواز، فكل موجود يجوز أن يرى، بمعنى: يحتمل أن يرى، لا أن (يجوز) بمعنى: يصلح شرعاً، بل هنا (يجوز) بمعنى: يحتمل أن يقع، أو يتوقع وقوعه، وهذا يقبله العقل ولو لم يحدث، ولو كان مستحيلاً حدوثه بناء على موانع أخرى، لكن كل موجود موصوف يسمى يمكن أن يرى.

وقوله: (أو يمتنع) كالموت، فهذا ممتنع عقلاً، أي: أن كل حي لابد أن يموت، ويبقى حي لا يموت، وهو الله عز وجل؛ لأنه من يقدر الموت.

إذاً: هذه بدهيات فيما يجب، فكونه عز وجل الأول والآخر لا يشاركه فيه أحد فيما يجوز أن يمكن كالرؤية، أو يمتنع كالموت.

قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [ وأشهر الأنواع الثلاثة عندهم هو الثالث: وهو توحيد الأفعال، وهو أن خالق العالم واحد، وهم يحتجون على ذلك بما يذكرونه من دلالة التمانع .. وغيرها، ويظنون أن هذا هو التوحيد المطلوب, وأن هذا هو معنى قولنا: لا إله إلا الله، حتى قد يجعلون معنى الإلهية القدرة على الاختراع.

ومعلوم أن المشركين من العرب الذين بعث إليهم محمد صلى الله عليه وسلم أولاً لم يكونوا يخالفونه في هذا، بل كانوا يقرون بأن الله خالق كل شيء، حتى إنهم كانوا يقرون بالقدر أيضاً، وهم مع هذا مشركون.

فقد تبين أن ليس في العالم من ينازع في أصل هذا الشرك، ولكن غاية ما يقال: إن من الناس من جعل بعض الموجودات خلقاً لغير الله، كالقدرية .. وغيرهم، لكن هؤلاء يقرون بأن الله خالق العباد وخالق قدرتهم، وإن قالوا: إنهم خلقوا أفعالهم.

وكذلك أهل الفلسفة والطبع والنجوم الذين يجعلون أن بعض المخلوقات مبدعة لبعض الأمور ].

المقصود بـ(الطبع) هنا: الطبائعيون الذين يزعمون أن الطبيعة بذاتها هي التي تسير نفسها بنفسها، أو أن الطبيعة ركبت على أنها تحدث أحداثاً ليس لله عز وجل فيها دخل، أو الذين يرون أن الأمور تنبني على ما طبعت عليه، وهم صنفان:

الأول: الذين يرون أن الطبيعة هي الخالق، وهي المخلوق، ولا فرق في ذلك، وعلى هذا فهم يرون أنها بذاتها هي التي تسير نفسها بنفسها.

الثاني: وهو المقصود هنا، وهؤلاء يزعمون أن الكون ركب على طبع، أي: أنه ركب على نظام، وهذا النظام يجعله يسير نفسه بنفسه، دون أن يكون للرب عز وجل فيه دخل، أو أن بعض أجزاء الكون ركبت وطبعت على أنها تنشئ أفعالها أو أفعال غيرها من دون تقدير الله، وهذا التصور نتج عنه -حينما دخل على بعض فرق الأمة- اعتقاد بأن هناك من المخلوقات من يدبر مع الله عز وجل، وأنه يستقل بشيء من أفعال الخلق أو أمور الخلق من دون الله، فبعضهم أحال ذلك على النجوم والكواكب، ومنهم من أحال ذلك على الأشخاص، كالأئمة الذين يقدسونهم بعض الناس، فجعلوا لهم تدبيراً في الكون جزئياً أو كلياً، أو الذين يقدسون الأولياء، إذ زعموا أن الأولياء يدبرون الكون أو بعض الكون، بل إنهم صنفوا الأولياء إلى أصناف، فزعموا أن القطب والغوث يدبر الكون كله، وأن من دونه من الأوتاد -أحياناً يقولون: أربعة أو اثنا عشر أو أربعة ثم اثنا عشر- يأخذ ربعاً من أرباع الكون يدبره.

والمهم أن منشأ الفلسفة واحد، وهو اعتقاد أن هناك من يدبر الكون مع الله عز وجل، وهذا خلل في توحيد الربوبية، وبالتالي نتج عنه بالضرورة الخلل في توحيد الإلهية؛ لأن من زعم أن ثم مخلوقاً يدبر مع الله لاشك أنه سيصرف له شيئاً من العبادة من دون الله.

قال رحمه الله تعالى: [ فهم مع الإقرار بالصانع يجعلون هذه الفاعلات مصنوعة مخلوقة ].

كلمة (الصانع) هذه استعملها الشيخ رحمه الله على غير القاعدة التي يقول بها ويقول بها السلف، وكان المفروض أننا لا نورد كلمة (الصانع) إطلاقاً، وإنما يقال: الخالق، لكن الشيخ أورد مصطلحاتهم ليقيم الحجة عليهم، وقد فعل ذلك في كثير من مؤلفاته التي قصد بها الذين ابتلوا بالنزعة الفلسفية والنزعة الكلامية؛ لأنهم يستعملون هذه الكلمات أو العبارات، بل إن بعضهم قل أن يصف الرب عز وجل بصفاته، بل يقول: الصانع، وعلى هذا فإن الشيخ ربما أراد التنزل معهم في هذا المصطلح .. وغيره حتى يحرجهم، أو يبين وجه الباطل عندهم، أو استدراجهم إلى استعمال مصطلحاتهم حتى يأخذوا بالحق، أو يقبلوا به، ولا يعني هذا أنه يجوز لنا استعمال مثل هذه المصطلحات، ولذا أقول: من كشيخ الإسلام ابن تيمية في التصدي لمثل هذا المقام، بأن يستعمل مصطلحات القوم لهدم أصولهم؟ إن هذا يندر أن يرقى له طالب علم، أو متخصص، ولذلك ينبغي أن تتفادى هذه المصطلحات؛ لأن لها معاني لا تليق بالله عز وجل، فينبغي أن يقال: الخالق بدل الصانع.

ولذا من الخلط والتهور الذي يقع فيه كثير من طلاب العلم أنهم يستعملون أساليب استعملها شيخ الإسلام للرد على أهل الأهواء، مع اختلاف الحال والمقام والقدر، سواء كانت أساليب كلامية أو مناهج أو طريقة الدعوة أو طريقاً لهم في الحجة أو أساليب عملية تنفيذيه، فنقول: إذا الواحد منا وصل إلى مثل مقام شيخ الإسلام ابن تيمية ، في سعة علمه، وقدراته العقلية، وقوة حجته، وإلزامه للخصوم، واحترام الخصوم له، فقد كان خصومه من أكثر الناس ثناء عليه واعترافاً بفضله، وهذه قل أن توجد في التاريخ، وأنا قد وجدت فعلاً أن أكثر من أثنى على شيخ الإسلام، واعترف له بسعة العلم، والمقدرات الراقية في العلم والتعامل، هم خصومه كـالسبكي .. وغيره، وعدد من الشافعية والمالكية والأحناف، ومن الفرق، كالأشاعرة .. وغيرهم، عند ذلك لا مانع أن يستعمل بعض أساليب العلم، وهذا ما أشرت إليه في أول كلامي عند حديثي عن الإجابة عن بعض الأسئلة، فقد قلت: إن بعض الناس الآن يقلد على غير جدارة، ويأتينا بأساليب ومناهج شيخ الإسلام ابن تيمية تجاه بعض القضايا على غير وجهها، وأظن أنه لو كان شيخ الإسلام ابن تيمية حياً لكان هو أول من يرد على هذا الصنف من الناس، ويبلغهم بأنهم أساءوا إليه، وأساءوا إلى الإسلام، وأساءوا إلى السلف بهذا المنهج المعوج.

قال رحمه الله تعالى: [ هم مع الإقرار بالصانع يجعلون هذه الفاعلات مصنوعة مخلوقة، لا يقولون: إنها غنية عن الخالق، مشاركة له في الخلق.

فأما من أنكر الصانع فذاك جاحد معطل للصانع، كالقول الذي أظهره فرعون، والكلام الآن مع المشركين بالله المقرين بوجوده، فإن هذا التوحيد الذي قرروه لا ينازعهم فيه هؤلاء المشركون، بل يقرون به مع أنهم مشركون، كما ثبت في الكتاب والسنة والإجماع، وكما علم بالاضطرار من دين الإسلام ].

لماذا ركز الشيخ على هذه القضية؟ إن استطراده في مثل هذا الكتاب إنما هو رد على المتكلمين المعجبين بطرائق الفلاسفة، والذين أشغلوا أوقاتهم وأضاعوا أعمارهم وجهودهم في الرد على قضية ليس لها وجود، وهو لا يقصد بذلك طلاب العلم الذين يريدون تحصيل العقيدة على الوجه الشرعي، ولذلك ترون أنه أحياناً نترك بعض الاستطرادات في هذا المقام؛ لأنه ما كتبها لنا ولا نحتاجها أصلاً، لكن في مثل هذه الأمور قد يرد على فئة من المسلمين، وهم أهل الكلام الذين أضاعوا أوقاتهم كما قلت، وبذلوا جهوداً جبارة ومؤلفات، بل إن بعضهم أفنى عمره -كثير من أساطين علم الكلام- في مثل هذه المتاهات والأوهام ليثبت وجود الرب، وأنه واحد، وأنه الخالق، وأنه المدبر، مع أنه لا ينازعهم في ذلك أحد، وإنما توهموا خصوماً لا وجود لهم، أو لهم وجود، لكن ليس لهم من القوة والكيان ما يجعلنا نصرف جهوداً جبارة في سبيل ذلك.

وأغلب الذين فتنوا بذلك هم من المثاليين، حتى إنه ليس لهم أثر في الحياة العملية بين الناس، فلا يوجد له أتباع، وإنما أتباعهم مثلهم من عشاق الأوهام والمتاهات فقط، لكن أن تكون الأمة على هذا أو فرقة أو جماعة كبيرة فلا، وإلى الآن أنا لا أتصور أنه توجد الآن فئة ذات كيان وديانة وأمة ودولة همها إثبات وجود الصانع كما عبروا عنه؛ لأن هذه بدهية لا تحتاج التكلف، ولذلك كما قلت: إن بعضهم قد أفنى عمره في ذلك، والموفق منهم من أدرك حال الشيخوخة، وعندما انتهت قواه أدرك أنه على باطل، كـالشهرستاني والبغدادي والجويني والرازي والغزالي ، ومنهم من أقر بالحيرة في النهاية، مثل الإيجي والآمدي ، فهذه هي مسالك القوم، والشيخ إنما رد عليهم ليبين لهم وللأمة ولمن جاء بعدهم أن هذا المسلك ليس من المطالب الشرعية، بل هو من التخرصات والأوهام التي لا فائدة منها.

قال رحمه الله تعالى: [ وكذلك النوع الثاني، وهو قولهم: لا شبيه له في صفاته، فإنه ليس في الأمم من أثبت قديماً مماثلاً له في ذاته، سواء قال: إنه يشاركه، أو قال: إنه لا فعل له، بل من شبه به شيئاً من مخلوقاته فإنما يشبهه به في بعض الأمور.

وقد علم بالعقل امتناع أن يكون له مثل في المخلوقات، يشاركه فيما يجب أو يجوز أو يمتنع عليه، فإن ذلك يستلزم الجمع بين النقيضين كما تقدم، وعلم أيضاً بالعقل أن كل موجودين قائمين بأنفسهما فلابد بينهما من قدر مشترك، كاتفاقهما في مسمى (الوجود) و(القيام بالنفس) و(الذات) .. ونحو ذلك، فإن نفي ذلك يقتضي التعطيل المحض، وأنه لابد من إثبات خصائص الربوبية، وقد تقدم الكلام على ذلك ].

عادة الشيخ أن يضرب أمثلة في مثل هذا المقام وإن كانت بدهيات؛ لأنه بالأمثلة يفهم السياق لاسيما في هذه الأمور الصعبة.

قوله: (قد علم بالعقل امتناع أن يكون له مثل في المخلوقات) أي: بعقل كل عاقل يحترم عقله، وإن لم يكن مسلماً.

وقوله: (يشاركه فيما يجب) هذه عبارة فلسفية، فـ(يجب) بمعنى: يلزم بداهة، وليس الوجوب وجوب الأمر الشرعي كما يفهم في الأحكام الشرعية، وإنما (يجب) بمعنى: يلزم فيما تقرره العقول بالشكل البدهي، فمثلاً: ليس لأحد أن يزعم أن هناك أحداً يشارك الله عز وجل فيما يجب له من خصائص، ككونه عز وجل (الأول) فليس قبله شيء، إذ إن عدم الإقرار بها يؤدي إلى التسلسل، وإلى الممنوع عقلاً، وكذلك (الآخر) الذي ليس بعده شيء، وهذا يمتنع أن يكون له مثل من المخلوقات؛ لأنه لو كان له مثل ما صرح له إذا كان مخلوقاً، فمعناه: أنه مبدع محدث، وكون المحدث لابد له من بداية.

وقوله: (أو يجوز) ليس معناه: أنه جائز شرعاً، بل هو بمعنى: يحتمل، فيقر به العقل ولو لم يكن، كالرؤية لله عز وجل، فالعقل السليم لا يمنع أن الله يرى، لكن يمنع أن تكون عند البشر قدرات أن يروه في الدنيا، والله عز وجل سيهيئ للبشر قدرات يوم القيامة ليروه.

إذاً: هذا مثال للجواز، فكل موجود يجوز أن يرى، بمعنى: يحتمل أن يرى، لا أن (يجوز) بمعنى: يصلح شرعاً، بل هنا (يجوز) بمعنى: يحتمل أن يقع، أو يتوقع وقوعه، وهذا يقبله العقل ولو لم يحدث، ولو كان مستحيلاً حدوثه بناء على موانع أخرى، لكن كل موجود موصوف يسمى يمكن أن يرى.

وقوله: (أو يمتنع) كالموت، فهذا ممتنع عقلاً، أي: أن كل حي لابد أن يموت، ويبقى حي لا يموت، وهو الله عز وجل؛ لأنه من يقدر الموت.

إذاً: هذه بدهيات فيما يجب، فكونه عز وجل الأول والآخر لا يشاركه فيه أحد فيما يجوز أن يمكن كالرؤية، أو يمتنع كالموت.