شرح العقيدة التدمرية [15]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فقد وصلنا في التدمرية إلى القاعدة الخامسة عند قوله: وقد وقع بنو آدم في عامة ما يتناوله هذا الكلام من أنواع الضلالات. ولا يزال الشيخ يتكلم عن الاشتباه والتشابه، والفرق بين هذا وذاك، هذا من ناحية، والناحية الأخرى: لا يزال الشيخ يتكلم عن القياس الفاسد الذي هو من باب الشبهات؛ لأنه تشبيه للشيء في بعض الأمور بما ليس فيه من جانب آخر، والتفريق بين المجتمعين، والجمع بين المفترقين، إذ إنه سبب ضلال كثير من الضلال في العقيدة وفي غيرها، كما لا يزال الشيخ يقرر مذاهب طوائف ضلت من هذه الجهة، أي: في عدم الجمع بين المتشابهات من الوجوه التي تجتمع فيها، ومن التفريق بين المتشابهات أحياناً ووجوه تفترق فيها، ومن عدم التفريق بين الاشتباه والتشابه.. بين الشبه والتشابه، وبين الاجتماع والافتراق وما بينهما من تداخل وتقاطع.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: [ وقد وقع بنو آدم في عامة ما يتناوله هذا الكلام من أنواع الضلالات، حتى آل الأمر إلى من يدعي التحقيق والتوحيد والعرفان منهم إلى أن اشتبه عليهم وجود الرب بوجود كل موجود فظنوا أنه هو، فجعلوا وجود المخلوقات عين وجود الخالق، مع أنه لا شيء أبعد عن مماثلة شيء، وأن يكون إياه أو متحداً به أو حالاً فيه من الخالق مع المخلوق ].

لأن هذا أمر بدهي بالفطرة وبالعقل السليم وبقواعد الشرع القطعية، بأن الله عز وجل ليس كمثله شيء في جميع الأحوال، في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله؛ ولأنه يستحيل أن يكون المخلوق كالخالق في وجوه التشابه من حيث الكمال، وعليه فالتشابه لفظي أو نسبي في بعض الحقائق النسبية التي النسبة فيها لا تساوي شيئاً، وسيأتي وجوه ضرب أمثلة على وجوه الاشتراك اللفظي، وأيضاً مدى ضلال الذين ضلوا إما في التشبيه بسبب وجود التشابه اللفظي في ذكر أسماء الله وصفاته، أو العكس، أي: نفي التشابه إلى حد تسلطوا فيه على نفي قطعيات النصوص في الكتاب والسنة.

قال رحمه الله تعالى: [ فمن هنا اشتبه عليه وجود الخالق بوجود المخلوقات كلها، حتى ظنوا وجودها وجوده، فهم أعظم الناس ضلالاً من جهة الاشتباه، وذلك أن الموجودات تشترك في مسمى (الوجود) فرأوا الوجود واحداً، ولم يفرقوا بين الواحد بالعين والواحد بالنوع.

وآخرون توهموا أنه إذا قيل: الموجودات تشترك في مسمى (الوجود) لزم التشبيه والتركيب فقالوا: لفظ الوجود مقول بالاشتراك اللفظي، فخالفوا ما اتفق عليه العقلاء مع اختلاف أصنافهم من أن الوجود ينقسم إلى قديم ومحدث.. ونحو ذلك من أقسام الموجودات ].

كلمة (قديم) من الشيخ رحمه الله مجاراة لأهل الكلام في اصطلاحاتهم؛ لأنه يناقشهم هنا، ولذلك فأنا أشعر بشيء من الضيق والتذمر من قراءتنا لهذه المقاطع، ولولا أنها رغبة عدد من الحاضرين من طلاب العلم -إن شاء الله- المتمكنين في الجملة، وإلا فلسنا بحاجة إلى مثل هذه التعمقات، والشيخ إنما كتب هذا لأهل الكلام، أو للذين ابتلوا ببعض مصطلحات أهل الكلام، أو الذين يخشى عليهم من الانجرار وراء الكلاميات، وخاصة في ذلك الوقت، والذي بدأ مثله الآن في الآونة الأخيرة وفي وقتنا الحاضر، إذ إننا نرى طوائف من شبابنا الآن قد استهوتهم الكلاميات، واستهوتهم مناهج العصرانيين والعقلانيين والمعتزلة، حتى إنهم الآن أصبحوا جماعات وخلايا خطيرة تدعو إلى هذا المنهج، فهؤلاء قد ينفع معهم الدخول في مثل هذه الأمثال.

والشاهد أن الشيخ حينما قال: إن الوجود ينقسم إلى قديم، ومحدث. مجاراة منه لأهل الكلام في استعمال الاصطلاح، فهو أراد أن يقنعهم ويناقشهم، وإلا فالمفروض أن يقول: إن الوجود ينقسم إلى أزلي ومحدث، أو إلى: الأول الذي ليس قبله شيء، والمخلوق الذي يعتريه النقص والخلل .. إلخ، بمعنى: أنه مقرر في نفوس العقلاء أن الوجود منه وجود الله عز وجل، وهو الأول الذي ليس قبله شيء، بدون ما نستعمل القديم، وإلى وجود المحدثات التي وجدت من لا شيء، وكانت شيئاً بعد أن لم تكن شيئاً، والتي مصيرها الخلل والسهو والنسيان بالنسبة لتصرفات العقلاء، ومصيرها الفناء بالنسبة لجميع الخلق.

إذاً: المقارنة بين الأول والمحدث مقارنة لا تكون إلا في بعض وجوه المعاني العامة المشتركة، والاشتراك اللفظي في بعض الصفات، مثل: الوجود، فهو اشتراك نسبي، فإذا نسبناه إلى الله عز وجل فهو الوجود المطلق الذي ليس قبله شيء، وليس بعده شيء، وإذا نسبناه إلى المخلوق فهو وجود نسبي ضئيل، ووجود محكوم بالفناء.. وهكذا.

الرد على الطوائف المنكرة للوجود الذاتي لله وسبب وقوعهم في هذا الإنكار

قال رحمه الله تعالى: [وطائفة ظنت أنه إذا كانت الموجودات تشترك في مسمى (الوجود) لزم أن يكون في الخارج عن الأذهان موجود مشترك فيه، وزعموا أن في الخارج عن الأذهان كليات مطلقة.. مثل: وجود مطلق، وحيوان مطلق، وجسم مطلق، ونحو ذلك، فخالفوا الحس والعقل والشرع، وجعلوا ما في الأذهان ثابتاً في الأعيان، وهذا كله من نوع الاشتباه ].

يشير الشيخ بهذا الكلام إلى فلسفة المتفلسفة، وإلى خيالات أهل الكلام الذين تكلموا في هذه الأمور، فالفلاسفة وضعوا تصورات للغيب، وزعموا أنها حقائق، وهي في الحقيقة ما هي إلا خيال، وهذا ما قصده الشيخ بكلمة: (الخارج)، أي: خارج الوجود، بل ليس مما يعقل وجوده أصلاً، وإنما هو مجرد تعابير خيالية تقوم على التخرص وعلى التوهم في الأذهان؛ لأنها صدرت عن أذهان المكلفين، أذهان هؤلاء الفلاسفة ومن سلك سبيلهم، هؤلاء الذين ظنوا أن الموجودات تشترك في مسمى الوجود، فلزم من ذلك أن يكون هذا الاشتراك حتى في الأمور الخيالية، وأن هناك موجوداً مشتركاً يفترض وجوده، يسمونه: الوجود المطلق، أو مطلق الوجود.

ولذلك هذا الصنف ومن تبعهم لا يعتقدون لله وجوداً حقيقياً أو ذاتياً؛ لأنهم وصفوه بالوجود المطلق، أو بمطلق الوجود على اختلاف بين العبارتين، فالوجود المطلق هو الذي لا يوجد إلا في الخيال، وعند التحقيق لا يكون له وجود، وهذا سبب رئيسي في وجوب إنكار الأسماء والصفات عند الجهمية، وسبب رئيسي في إنكار الصفات عند المعتزلة، وسبب أساسي في إنكار متكلمي الأشاعرة والماتريدية لصفات الله، ما عدا سبع أو عشرين على اختلاف بينهم.

فالذين أنكروا بقية الصفات ما عدا السبع أو العشرين، أو الذين أنكروا الصفات كلها، أو الذين أنكروا الأسماء والصفات يشتركون في وهم، لكنه يتسع عند بعضهم ويضيق عند آخرين، هذا الوهم هو أنهم يعتقدون أن الله عز وجل ليس له وجود ذاتي، ولذلك تجدهم ينفرون من إثبات الاستواء ومن إثبات العلو ومن إثبات الصفات الفعلية من النزول والمجيء؛ لأن من يعتقد أن وجود الله في الأذهان فقط من الطبيعي أن ينفر من الصفات التي تدل على وجود حقيقي لله، وهذا هو مصدر الأدلة التي حرفت بهؤلاء عن منهج السلف، فاشتركوا في هذا الوهم، لكن منهم مقل، مثل: الجهمية وغلاة الفلاسفة والمتكلمين، ومنهم مكثر، مثل: المعتزلة، ومنهم من وسع الهوة حتى اعتقد أنه لا وجود لله إلا هذا الوجود المطلق، أو مطلق الوجود.

كذلك الذين قالوا: بالوجود المطلق أو مطلق الوجود انقسموا إلى قسمين: المعطلة الذين جعلوا وجود الله معنوياً، أو الذين نفوا وجود الله الذاتي واعتقدوا أنه هو هذا الوجود، ثم انقسم هذا القسم الأخير إلى ثلاثة أقسام: منهم من رأى الحلول، ومنهم من رأى الاتحاد، ومنهم من رأى وحدة الوجود.

فهذه مذاهب خبيثة دخلت على المسلمين من الأمم، وذلك مصداقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سنن من كان قبلكم)، وبعض الناس قد يستغرب، فلا يستغرب؛ لأن كل من خرج عن نهج السلف في إثبات أصول الدين، أو في التزام الوحي، أو في التعبير عن الدين بالألفاظ الشرعية وقع في هذه المسالك.. أو في غيرها من مسالك الضلالة، نسأل الله العافية.

قال رحمه الله تعالى: [وطائفة ظنت أنه إذا كانت الموجودات تشترك في مسمى (الوجود) لزم أن يكون في الخارج عن الأذهان موجود مشترك فيه، وزعموا أن في الخارج عن الأذهان كليات مطلقة.. مثل: وجود مطلق، وحيوان مطلق، وجسم مطلق، ونحو ذلك، فخالفوا الحس والعقل والشرع، وجعلوا ما في الأذهان ثابتاً في الأعيان، وهذا كله من نوع الاشتباه ].

يشير الشيخ بهذا الكلام إلى فلسفة المتفلسفة، وإلى خيالات أهل الكلام الذين تكلموا في هذه الأمور، فالفلاسفة وضعوا تصورات للغيب، وزعموا أنها حقائق، وهي في الحقيقة ما هي إلا خيال، وهذا ما قصده الشيخ بكلمة: (الخارج)، أي: خارج الوجود، بل ليس مما يعقل وجوده أصلاً، وإنما هو مجرد تعابير خيالية تقوم على التخرص وعلى التوهم في الأذهان؛ لأنها صدرت عن أذهان المكلفين، أذهان هؤلاء الفلاسفة ومن سلك سبيلهم، هؤلاء الذين ظنوا أن الموجودات تشترك في مسمى الوجود، فلزم من ذلك أن يكون هذا الاشتراك حتى في الأمور الخيالية، وأن هناك موجوداً مشتركاً يفترض وجوده، يسمونه: الوجود المطلق، أو مطلق الوجود.

ولذلك هذا الصنف ومن تبعهم لا يعتقدون لله وجوداً حقيقياً أو ذاتياً؛ لأنهم وصفوه بالوجود المطلق، أو بمطلق الوجود على اختلاف بين العبارتين، فالوجود المطلق هو الذي لا يوجد إلا في الخيال، وعند التحقيق لا يكون له وجود، وهذا سبب رئيسي في وجوب إنكار الأسماء والصفات عند الجهمية، وسبب رئيسي في إنكار الصفات عند المعتزلة، وسبب أساسي في إنكار متكلمي الأشاعرة والماتريدية لصفات الله، ما عدا سبع أو عشرين على اختلاف بينهم.

فالذين أنكروا بقية الصفات ما عدا السبع أو العشرين، أو الذين أنكروا الصفات كلها، أو الذين أنكروا الأسماء والصفات يشتركون في وهم، لكنه يتسع عند بعضهم ويضيق عند آخرين، هذا الوهم هو أنهم يعتقدون أن الله عز وجل ليس له وجود ذاتي، ولذلك تجدهم ينفرون من إثبات الاستواء ومن إثبات العلو ومن إثبات الصفات الفعلية من النزول والمجيء؛ لأن من يعتقد أن وجود الله في الأذهان فقط من الطبيعي أن ينفر من الصفات التي تدل على وجود حقيقي لله، وهذا هو مصدر الأدلة التي حرفت بهؤلاء عن منهج السلف، فاشتركوا في هذا الوهم، لكن منهم مقل، مثل: الجهمية وغلاة الفلاسفة والمتكلمين، ومنهم مكثر، مثل: المعتزلة، ومنهم من وسع الهوة حتى اعتقد أنه لا وجود لله إلا هذا الوجود المطلق، أو مطلق الوجود.

كذلك الذين قالوا: بالوجود المطلق أو مطلق الوجود انقسموا إلى قسمين: المعطلة الذين جعلوا وجود الله معنوياً، أو الذين نفوا وجود الله الذاتي واعتقدوا أنه هو هذا الوجود، ثم انقسم هذا القسم الأخير إلى ثلاثة أقسام: منهم من رأى الحلول، ومنهم من رأى الاتحاد، ومنهم من رأى وحدة الوجود.

فهذه مذاهب خبيثة دخلت على المسلمين من الأمم، وذلك مصداقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سنن من كان قبلكم)، وبعض الناس قد يستغرب، فلا يستغرب؛ لأن كل من خرج عن نهج السلف في إثبات أصول الدين، أو في التزام الوحي، أو في التعبير عن الدين بالألفاظ الشرعية وقع في هذه المسالك.. أو في غيرها من مسالك الضلالة، نسأل الله العافية.

قال رحمه الله تعالى: [ ومن هداه الله فرق بين الأمور وإن اشتركت من بعض الوجوه، وعلم ما بينهما من الجمع والفرق والتشابه والاختلاف، وهؤلاء لا يضلون بالمتشابه من الكلام؛ لأنهم يجمعون بينه وبين المحكم الفارق الذي يبين ما بينهما من الفصل والافتراق.

وهذا كما أن لفظ (إنا) و(نحن) وغيرهما من صيغ الجمع يتكلم بها الواحد الذي له شركاء في الفعل، ويتكلم بها الواحد العظيم الذي له صفات تقوم كل صفة مقام واحد، وله أعوان تابعون له، لا شركاء له، فإذا تمسك النصراني بقوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ [الحجر:9] ونحوه على تعدد الآلهة، كان المحكم كقوله تعالى: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة:163].. ونحو ذلك مما لا يحتمل إلا معنى واحداً يزيل ما هناك من الاشتباه، وكان ما ذكره من صيغة الجمع مبيناً لما يستحقه من العظمة والأسماء والصفات، وطاعة المخلوقات من الملائكة.. وغيرهم ].

هذا منهج ضروري في الاستدلال، إذ إن كل الفرق التي ضلت عن منهج السلف إلى الافتراق، سواء فرق الغلو أو فرق التقصير، كلها تخل بهذا المنهج، أعني: منهج أخذ تفسير النصوص بعضها ببعض، سواء في الغيبيات: أسماء الله وصفاته، أمور القدر، أمور الآخرة، أمور الوعد والوعيد، أو فيما يتعلق بالأحكام، مع أن أصول العقيدة كلها، العلمية والعملية لا تستقيم ولا يستقيم الاعتقاد فيها حتى يؤخذ بشمولية النصوص، وأن تفسر النصوص بعضها ببعض، ويرد بعضها إلى بعض، وهذا المنهج النصراني الذي زعم أن دليله على التثليث: أن الله عز وجل عبر عن نفسه بـ(نحن)، أي: أنه يدل على جماعة، وعليه فهم ثلاثة! فيرد عليه: بأن الله عز وجل عبر عن نفسه بلفظ المفرد، وعليه فيرد هذا بهذا، وهذه قاعدة عظيمة يحتاجها طلاب العلم اليوم أكثر من أي وقت مضى؛ لأن الخلط فيها الآن أصبح من أكبر أسباب جهل عقيدة السلف، والتنكر لها من ناحية، ومن أكبر أسباب انجذاب كثير من شبابنا اليوم إلى مسالك الافتراق والهوى القديمة والحديثة، فتجده يستدل بنص بين فيما يظهر له، كآية أو حديث على عقيدة أو موقف أو مبدأ أو اتجاه، لكن يجهل أو يتجاهل ما يفسر هذا النص أو يقيده أو يبينه، فيتجاهل تفسيرات السلف الشمولية لهذه النصوص، ولذلك كثيراً ما أقرر فأقول: يجب أن نفرق بين صورتين على سبيل المثال: بين إنسان طالب علم إلى الآن ما استوعب إلا القليل، أو ما عرف إلا القليل من النصوص، وبين إمام راسخ كالإمام أحمد الذي قيل عنه: إنه يحفظ ألف ألف سند، أي: مليوناً، ففرق بين هذا وذاك، وفرق بين من يحفظ مليون سند وبين من صح عنده ما يزيد على ثلاثين ألفاً من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وفرق بين هذا الذي صح عنده ما يزيد على ثلاثين ألف حديث وبين إنسان حافظ لبعض الصحاح أو بعض الأسانيد.

ومن هنا ندرك أهمية وفضل الرسوخ في العلم على نهج السلف، وإلا قد يكون هناك إنسان راسخ في العلم لكنه صاحب هوى يعميه عن الأخذ بمنهج الاستدلال، وقد يوجد من المنتسبين للفرق من عنده عمق ورسوخ في بعض العلوم الشرعية، لكنه ابتلي بالمنهج المنحرف في الاستدلال، فلا ينفعه علمه، بل يضره، نسأل الله العافية.

قال رحمه الله تعالى: [ وأما حقيقة ما دل عليه ذلك من حقائق الأسماء والصفات، وما له من الجنود الذين يستعملهم في أفعاله، فلا يعلمهم إلا هو وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر:31]، وهذا من تأويل المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله.

بخلاف الملك من البشر إذا قال: قد أمرنا لك بعطاء. فقد علم أنه هو وأعوانه، مثل: كاتبه وحاجبه وخادمه.. ونحو ذلك، أمروا به، وقد يعلم ما صدر عنه ذلك الفعل من اعتقاداته وإراداته.. ونحو ذلك.

والله سبحانه وتعالى لا يعلم عباده الحقائق التي أخبر عنها من صفاته وصفات اليوم الآخر، ولا يعلمون حقائق ما أراد بخلقه وأمره من الحكمة، ولا حقائق ما صدرت عنه من المشيئة والقدرة.

وبهذا يتبين أن التشابه يكون في الألفاظ المتواطئة، كما يكون في الألفاظ المشتركة التي ليست بمتواطئة، وإن زال الاشتباه بما يميز أحد النوعين من إضافة أو تعريف، كما إذا قيل: فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ [محمد:15] فهناك قد خص هذا الماء بالجنة، فظهر الفرق بينه وبين ماء الدنيا، لكن حقيقة ما امتاز به ذلك الماء غير معلوم لنا، وهو ما أعده الله لعباده الصالحين مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله.

وكذلك مدلول أسمائه وصفاته التي يختص بها، التي هي حقيقة، لا يعلمها إلا هو.

ولهذا كان الأئمة كالإمام أحمد.. وغيره ينكرون على الجهمية وأمثالهم من الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، تأويل ما تشابه عليهم من القرآن على غير تأويله، كما قال أحمد في كتابه الذي صنفه في (الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله).

وإنما ذمهم لكونهم تأولوه على غير تأويله، وذكر في ذلك ما يشتبه عليهم معناه، وإن كان لا يشتبه على غيرهم، وذمهم على أنهم تأولوه على غير تأويله، ولم ينف مطلق لفظ (التأويل)، كما تقدم من أن لفظ (التأويل) يراد به التفسير المبين لمراد الله به، فذلك لا يعاب بل يحمد، ويراد بالتأويل الحقيقة التي استأثر الله بعلمها، فذاك لا يعلمه إلا هو، وقد بسطنا في غير هذا الموضع ].

أشار الشيخ هنا إلى مسألة مهمة لا بد من الوقوف عندها قليلاً، فقال رحمه الله: (وكذلك مدلول أسمائه وصفاته التي يختص بها، التي هي حقيقته، لا يعلمها إلا هو). أي: أن الحقيقة نفياً وإثباتاً على نوعين:

الأولى: بمعنى: المعاني اللائقة بجلال الله عز وجل، وهذه معلومة حتى عند المخاطبين، فنعلم أن الله عالم حقيقة، ورحيم حقيقة، وأنه سبحانه شديد العقاب، وأنه مستو حقيقة على ما يليق بجلاله، لكن حقيقة على المعنى.

الثانية: وهي التي نفاها الشيخ هنا: وهي الكيفية التي عليها أسماء الله وصفاته وذاته، فهذه لا يعلمها إلا الله، بل كل أمور الغيب لا يعلم حقيقتها، أي: كيفيتها، إلا الله عز وجل، مثل: الجنة ونعيمها، فنحن نؤمن بأنها حقيقة، لكن لا نعلم كيفية هذه الحقيقة على جهة التفصيل، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)، فلم يقل: على عقل بشر. بل قال: (على قلب بشر)؛ لأن خاطر القلب أبعد وأعمق من خاطر العقل؛ ولأن خاطر القلب ذوق قد يدركه أصحاب الفراسة وخلص المؤمنين، لكن مع ذلك لا يدركه أصحاب العقول، ومع ذلك: (ولا خطر على قلب بشر) أي: لا يأت في خاطره أصلاً ولا يرد.

إذاً: الحقيقة المنفية في أسماء الله وصفاته هي الكيفيات، لا الحقيقة المثبتة، وهي أن ذات الله وأسماءه وصفاته وأفعاله حقائق على معان تليق بجلال الله، وهذه الحقائق نعلمها بمجملها، لكن لا نعلم حقيقة الكيفية.