شرح السنة [14]


الحلقة مفرغة

قال أبو محمد الحسن بن علي البربهاري رحمه الله تعالى: [ واعلم أنه لم تجئ بدعة قط إلا من الهمج الرعاع أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، فمن كان هكذا فلا دين له، قال الله تبارك وتعالى: فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ [الجاثية:17]، وقال: وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ [البقرة:213]وهم علماء السوء وأصحاب الطمع والبدع.. ].

في هذه الفقرة أشار الشيخ الإمام رحمه الله إلى سمة هامة من سمات أهل الأهواء والبدع، وإلى خصلة ينبغي أن يتنبه لها في كل عصر، وهي أن غالب أتباع أصحاب البدع من العوام وأشباه العوام، الرعاع والذين ليس عندهم علم ولا فقه من الغوغاء، وهم الهمج الرعاع أتباع كل ناعق، وأهل الأهواء أول ما تبدأ الفتنة منهم باستجلاب وخداع هؤلاء.

وإذا تأملنا رءوس البدع الذين بدءوا بالفتن على المسلمين، وخرجت عن فتنهم الفرق، نجدهم يقصدون الرعاع الهمج، الذين لا فقه لهم ولا عقل ولا رأي في الدين، ويستدرون عواطفهم بالشعارات.

ومسألة الشعارات ليست جديدة، إذ يظن بعض الناس أن الشعارات من الأمور المحدثة، وليس كذلك، فكل أهل الأهواء أصحاب شعارات، وكلهم يستهوون الناس بما يستميلون به عواطف العامة، ويثيرون الفتنة من خلال هؤلاء الهمج، فأول من فعل ذلك -كما هو معروف- ابن سبأ اليهودي ابن السوداء ، فإنه عجز عن أن يدخل على الأمة من خلال علمائها ولا من خلال عقلائها ولا من خلال أمرائها، فدخل عليها من خلال السفهاء من حدثاء الأسنان ومن العوام والعجم الذين لم يكتمل فقههم في الدين، ومن الرعاع والهمج، فصار يستثير عواطفهم، ويتكلم بما يهمهم، ويدعي أنه يتكلم عن مظالمهم، وأنه مشفق على أحوالهم، وأنه ناصح لهم.

وهذا الصنف من الناس كل من رفع لهم هذه الشعارات تبعوه في كل زمان.

ثم لما ظهرت الخوارج والشيعة رفعت هذه الرايات؛ لتستميل وتستدر عواطف الرعاع والهمج بهذه الأساليب؛ بإثارة العواطف.. باسم الغيرة على الدين.. باسم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ثم جاءت بعدهم القدرية وفعلت ذلك، ثم جاءت بعدهم المعتزلة وفعلت ذلك، ولذلك نجد أن من أسباب وقوع الهمج والرعاع أن أهل الأهواء يتظاهرون أو يظهرون بالزهد والورع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحرص على مصالح الأمة، ولا بد أن يكون ذلك من أسباب استجلاب العوام والرعاع.

وأصدق مثال لذلك:

رءوس المعتزلة واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد ، فقد اشتهرا بالزهد والورع والحرص على مصالح الناس ودفع المظالم.

فمن هنا يرفع كل صاحب بدعة شعار بدعته على هذه الأسس، ثم من خلالها يدخل على هؤلاء الهمج الرعاع بتثبيت بدعته، سواء كانت اعتقادية أو قولية أو عملية، والغالب أنها تجتمع.

إذاً: فقول الشيخ صحيح، والواقع يشهد له أنه لم تجئ بدعة قط إلا من الهمج والرعاع، يعني: هم الذين يتبعونها، وإلا فقد يكون مخترع البدعة من الأذكياء العباقرة؛ لكن قصده أن البدعة لا تنتشر ولا تستفحل إلا من خلال انتشارها بين هذا الصنف الذين يميلون مع كل ريح، أتباع كل ناعق.

قوله: (فمن كان هكذا فلا دين له)، بمعنى أنه لا يصمد على دين، بل يتلون بحسب الأحوال، وفعلاً فإن الرعاع ليس لهم دين، قد يكون عندهم شيء من الصلاح والتقوى لكن ليس لهم قرار، ليس لهم اتباع؛ لأنهم مقلدة، فمن هنا تتقلب بهم الأهواء من حيث يشعرون ولا يشعرون، فيتلونون من لون إلى لون ومن فئة إلى فئة ومن فرقة إلى فرقة.

ولذلك إذا حدثت الفتن الكبار يكون للرعاع بسبب اتباعهم للناعقين قوة ضاغطة حتى على الراسخين في العلم والعقلاء والكبار وأهل الأمر والنهي، حيث يعجزون عن مقاومة اتجاه الرعاع؛ لأن أهل الأهواء يستغلون الرعاع، فمن هنا إذا حدثت الفتن قد تكون السنة في غربة بسبب أن الرعاع مع الناعقين، لا يتثبتون ولا يرجعون إلى أهل العلم، ولا إلى أهل المشورة والرأي، خاصة إذا وجدوا رايات وشعارات تحجبهم عن العلماء.

ثم قال بعد ذكر الآية: (وهم علماء السوء)، أي: الذين اختلفوا هم علماء السوء وأصحاب الطمع والبدع.

قال رحمه الله تعالى: [ واعلم أنه لا يزال الناس في عصابة من أهل الحق والسنة يهديهم الله ويهدي بهم غيرهم، ويحيي بهم السنن، فهم الذين وصفهم الله تعالى مع قلتهم عند الاختلاف فقال: وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ، فاستثناهم فقال: فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة:213]، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال عصبة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون) ].

هذا استدراك في مكانه، فإن على طالب العلم والعالم إذا ذكر أمر الفتن والأهواء والبدع أن يستدرك ما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم وتواتر عنه؛ أنه لا تزال طائفة على الحق ظاهرين؛ لئلا يصاب الناس باليأس، ولذلك لا ينبغي للواعظ وطالب العلم والمتكلم في هذه الأمور أن يشعر الناس باليأس، ويبالغ في وصف الباطل وأهل الباطل وما هم عليه، بل لا بد أن يفتح للناس باب الأمل الذي وعد به الله عز وجل.

وحينما نذكر البدع والأهواء والمفاسد وكثرتها وانتشارها، فلا بد أن نبين للناس أن الحق لا يضيع، وأن الله عز وجل تكفل بحفظ الدين، ووعد بظهور طائفة على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، وأن هذه الطائفة تتمثل بالعلماء الراسخين الذين هم على السنة بأتباعهم، وأنهم بهم القدوة والحجة، ولابد أن يكونوا أعلاماً يشار إليهم بالأصابع والبنان في كل مكان وزمان، وإن كثر الخبث.

فمن هنا ندرك فداحة خطأ الذين يشحنون قلوب الناس باليأس.

نعم، ذكر المفاسد وغيرها يستثير غيرة الناس، ويجعلهم يأتمرون بالمعروف ويتناهون عن المنكر، ويحذرهم من غوائل الفساد والجريمة والانحراف، لكن لا يكفي ذلك عن الاستدراك وفتح باب الأمل، وأن الله عز وجل وعد، وأن الوعد مشروط باتباع السنة والاعتصام بها، والاجتماع على الحق وعلى أهل الحق.

فالمؤلف ذكر هذا الأمر بعد أن ذكر كثرة الهالكين وكثرة أصحاب الطمع والرعاع الذين يميلون مع كل ناعق، ولكن مع ذلك لا تزال في الناس طائفة من أهل الحق والسنة يكون بهم الحق ظاهراً وتقوم بهم الحجة، ويكونون دعاة بقدوتهم وبأعمالهم وبسلوكهم.

قال رحمه الله تعالى: [ واعلم -رحمك الله- أن العلم ليس بكثرة الرواية والكتب، إنما العالم من اتبع العلم والسنن، وإن كان قليل العلم والكتب، ومن خالف الكتاب والسنة فهو صاحب بدعة وإن كان كثير العلم والكتب.. ].

يقصد بهذا أنه لا يشترط فيمن يكون على السنة أن يكون عالماً، لكن السنة لا تتبع إلا بعلم، وعلماء الأمة هم العلماء الراسخون، لكنه يقول: ليس هذا شرطاً في وصف الشخص بأنه على السنة، فالعامي المستمسك بالحق الذي يتبع الهدى هو من أهل السنة، ولو لم يكن صاحب رواية ولا صاحب كتب.

وكذلك العالم الراسخ في العلم الذي ينفع الله به ليس من شرط علمه أن يؤلف ويكتب، ولا من شرط علمه أن يكثر من الرواية، فإذاً السنة تحصل على ثلاثة أصناف:

الصنف الأول: هم العلماء الراسخون، أئمة الهدى، هؤلاء تقوم بهم الحجة، وهم الأعلام الذي ترجع إليهم الأمة، وهم أهل الحل والعقد، وهم الذين يرسمون المنهج في كل زمان للأمة في علمها وعقيدتها ومناهجها ومصالحها العامة.

ثم الدرجة الثانية: من دونهم من طلاب العلم والدعاة والصالحين، ولا يلزم أن يكونوا من العلماء المتبحرين، فإنهم على السنة ما داموا على نهج أئمة الهدى قديماً وحديثاً.

فسائر طلاب العلم الذين يطلبون العلم هم أهل السنة ولو لم يكثروا الرواية ولو لم يؤلفوا.

ثم الدرجة الثالثة: العامة الذين يستقيمون على دين الله عز وجل فيقيمون الفرائض ويشهدون الجماعات، ويدينون للعلماء بالفضل والقدر والمرجعية، هؤلاء وإن كانوا عوام فهم من أهل السنة قطعاً.

وعامة أهل السنة -أي أكثرهم- من هذا الصنف، فلا يشترط في المستمسك بالسنة أن يكون عالماً، لكن يتبع مناهج العلماء ويرجع إليهم، ويجتمع معهم فيما اجتمعوا عليه.

قال رحمه الله تعالى: [ واعلم -رحمك الله- أن من قال في دين الله برأيه وقياسه وتأوله من غير حجة من السنة والجماعة؛ فقد قال على الله ما لا يعلم، ومن قال على الله ما لا يعلم فهو من المتكلفين.. ].

يشير بهذا إلى منهج أهل الأهواء، ومخالفة هذا المنهج للسنة مخالفة تضاد وتباين، وهو أن أهل الأهواء يقولون في دين الله برأيهم وقياسهم، ويقصد هنا القياس في أصول الدين.. لا القياس في الأحكام؛ لأن القياس في الأحكام مبني على الاجتهاد في أمر معلوم؛ إما باستنباط حكم من دليل، أو بقياس مسألة على أخرى لها دليل، أو ترجع إلى قاعدة شرعية تقوم عليها الأدلة، فهذا قياس عمل عليه المجتهدون من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة الفقه.

فكان يلزم في كثير من المستجدات أن يقيسوا ما يستجد على ما له حكم سابق في دليل أو مستنبط من قاعدة، والممنوع الذي يذمه السلف -وذكره الشيخ هنا- هو القياس في أمر العقيدة، قياس صفات الله عز وجل وأسمائه وأفعاله وذاته على المخلوقين، وكذلك قياس أمور الغيب على عالم الشهادة.

قياس قضايا القطعيات على الأمور غير القطعية، كل ذلك من القياس الفاسد، وهو منهج أهل الأهواء، ولذلك نجد أن أغلب أهل الأهواء ما أتوا في فساد عقائدهم إلا من باب القياس، حيث استعملوا القواعد الفلسفية والعقلانية فجعلوها وسيلة لقياس قضايا العقيدة على أوهام الناس وأفكارهم، فضلوا وأضلوا.

إذاً: من قال في دين الله برأيه وقياسه فقد ضل.

وكذلك التأويل من غير حجة من السنة والجماعة، فمن تأول، أي: عمل واجتهد، على غير حجة من قواعد أهل السنة؛ فقد أخطأ وقال على الله ما لم يعلم.

وهذا يشمل أمور الاجتهاد، فمن اجتهد من غير حجة بينة، أو دليل واضح، أو رجوع إلى قاعدة، أو تبع فتاوى العلماء المعتبرين؛ فإن كلامه في الدين من القول على الله بغير علم.

ومن سمات أهل الأهواء أنهم يتجرءون على القول على الله بغير علم، سواء في العقائد والأحكام، ومع ذلك فقد كثر ذلك في هذا العصر حتى عند من ينتسبون للسنة، وهذه ظاهرة يجب على طلاب العلم أن يعنوا بعلاجها بشكل واضح، وأن ينبهوا الناس لها.

أقول: إنه في عصرنا الآن كثرت جرأة الناس -حتى أهل السنة من طلاب العلم ومن العوام وغيرهم- على القول على الله بغير علم، وصاروا يتناولون قضايا العقيدة والأحكام كما يتناولون سائر أمور الحياة، بل ربما يتردد أو يتورع أحدهم من أن يتكلم في قضايا العلوم المادية خوفاً من أن ينتقد، ولا يتورع عن الكلام في الدين والقول على الله بغير علم، والقول في الدين برأيه.

وصار الكلام في الدين والقول على الله بغير علم فاكهة المجالس، حتى عند بعض الصالحين والمتدينين، وهذا مسلك خطير وظاهرة لم تكن معروفة، وهي توقع في الأهواء إن عاجلاً أو آجلاً.

فينبغي التحذير منها والتنبيه لها، لأن من قال على الله ما لا يعلم فهو من المتكلفين؛ لأنه تكلف ما لا علم له به.

قال رحمه الله تعالى: [ والحق ما جاء من عند الله عز وجل، والسنة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والجماعة ما اجتمع عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان .. ].

هذه قواعد معروفة، فالحق ما جاء من عند الله عز وجل، يعني: الوحي الذي جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن هذا هو الحق، وهو الميزان وهو المرجع، فلا يجوز لمسلم أن يبحث عن الحق من غير الوحي.

فهو بهذا يشير إلى مصدر التلقي، والمسلم يجب أن يتلقى دينه مما جاء عن الله عز وجل.

ثم عرف السنة، وهذا من أجود التعاريف وأخصرها وأبينها أيضاً، أعني قوله: (والسنة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم).

فالسنة ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو بيان أو نحو ذلك من السيرة وغيرها.

ثم ذكر الجماعة أيضاً بأخصر معانيها، وهي ما اجتمع عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان ، وكذلك علي ، لكنه قصد بذلك أن علياً رضي الله عنه ما جاء بجديد؛ لأن الخلافة ما استقرت في عهده بسبب القلاقل والأحداث، فأكثر ما أشار به علي رضي الله عنه لا يخرج عن سنة الثلاثة.

وعلى هذا فإن هذا من تعاريف الجماعة، فالجماعة هم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقتهم، ثم من تبعهم على نهجهم فهو من الجماعة.

إذاً فللجماعة مفهومان معروفان:

الجماعة بمعنى الجماعة الأولى، وهم الصحابة رضي الله عنهم، ومن جاء بعدهم فهو منهم بالتبع.

والمفهوم الآخر: أن الجماعة هم من اجتمعوا على الحق في كل زمان ومكان، وأولى من اجتمع على الحق الصحابة، فيعرف بهم غيرهم، ولذلك حينما يقتصر بعض السلف في تعريف الجماعة على الصحابة لا يقصد بذلك حصر الجماعة، لكن يقصد بذلك أنهم هم الأنموذج، ومن جاء بعدهم إلى قيام الساعة تبع لهم، وإلا فما حصر أحد من السلف الجماعة بالصحابة إلا المعاصرين لهم، فلما جاءت الأجيال التالية لهم ممن كان من الجماعة دخلت في هذا التعريف بالتبع، وهذا تعريف أو اصطلاح ساد عند السلف الأوائل أن يعرفوا الشيء بأوضح معانيه، أو بأبين أمثلته، أو بأفضل درجاته.

والدليل على هذا أنهم عرفوا علم العقيدة بالتوحيد، يقصدون بالتوحيد العقيدة كلها، بينما التوحيد هو توحيد الله عز وجل بأسمائه وصفاته وأفعاله، وتوحيده بالربوبية والإلهية والعبادة، وبقية الأمور سميت توحيد تبعاً؛ لأن توحيد الله هو أشرف علوم التوحيد وأعلاها وأجلها، فسمي العلم بأشرف أجزائه، فكذلك الجماعة أحياناً تحصر بالصحابة لا على سبيل الحصر الأنموذجي.. وأن من جاء بعدهم تبع لهم.

قال رحمه الله تعالى: [ ومن اقتصر على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه أصحابه والجماعة؛ فلج على أهل البدعة كلهم، واستراح بدنه، وسلم له دينه إن شاء الله؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ستفترق أمتي)، وبين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناجي منها فقال: (ما أنا عليه وأصحابي)، فهذا هو الشفاء والبيان، والأمر الواضح والمنار المستنير، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إياكم والتعمق، وإياكم والتنطع، وعليكم بدينكم العتيق) ].

هذا الحديث أثر عن ابن مسعود ، لكن معانيه ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم، أما النهي عن التعمق والتنطع فقد ورد في نصوص كثيرة صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، أما قوله: (وعليكم بدينكم العتيق) فهذا من كلام ابن مسعود .

و ابن مسعود وغيره من الصحابة كثيراً مما يروون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إما بالنص، أو يفهمون معاني كلام النبي صلى الله عليه وسلم فينطقون به حكمة أو قواعد.

وفي هذه الفقرة أشار الشيخ إلى أن من وقف على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فمعه الحجة، وفعلاً! فإن من وقف على سنة النبي صلى الله عليه وسلم في محاجة أهل البدع، فهذا هو المحق.

وقوله: (فلج) بمعنى خصم وقويت حجته في الخصومة، وانتصر.

ولذلك نجد السلف في محاوراتهم ومناظراتهم يقفون على هذا الأصل، كما فعل الإمام أحمد في مناظرته للجهمية أمام الخلفاء، فإنه ناظرهم بالكتاب والسنة، حتى كان يجيب بالآية ويجيب بالحديث، مما استثار حفيظة خصومه، وجعلهم يغضبون، وهو لا يقصد استفزازهم، لكن قصدي أنه أوقفهم على النص، وهذا هو المنهج السليم، فإن الآيات اشتملت على الدلالة الشرعية والدلالة العقلية ضد البدع والأهواء والشرك.

فمن هنا ينبغي لطالب العلم أن يتحرى دلالات القرآن وحجج القرآن وحججه وبراهينه في الرد على المخالفين، فإنها قواعد، فمن اقتصر على السنة في استدلاله وفي عمله وفي قدوته وفي انتسابه إلى الحق، وفي محاجته وجداله، وفي علمه وتعليمه، خصم أهل الأهواء والبدع؛ لأنه جاء بالحق الخالص.

قوله: (فلج على أهل البدع كلهم واستراح بدنه وسلم له دينه إن شاء الله؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ستفترق)) بمعنى أنه بين أن الافتراق سيكون، وأن الذين هم على الحق سيفلجون ويغلبون وينتصرون، وهم الجماعة، وهم من كان على ما عليه النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته.

إذاً فالسنة هي الشفاء وهي البيان وهي الأمر الواضح وهي المنار المستنير؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سماها: الواضحة، وقال ابن مسعود في الأثر: (إياكم والتعمق)، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التنطع في الدين والتعمق فيه؛ لأن من التنطع الخروج عن مقتضى السنة، سواء في الاستدلال أو في منهج التلقي أو في المحاجة والجدال، أو في العمل والتطبيق، فكل من خرج عن السنة فهو متعمق خارج عن مقتضى الحق، والله أعلم.