شرح السنة [10]


الحلقة مفرغة

قال أبو محمد الحسن بن علي البربهاري رحمه الله تعالى: [ والله تبارك وتعالى سميع بصير عليم يداه مبسوطتان، قد علم الله أن الخلق يعصونه قبل أن يخلقهم، علمه نافذ فيهم، فلم يمنعه علمه فيهم أن هداهم للإسلام ومن به عليهم كرماً وجوداً وتفضلاً فله الحمد ].

مدارك العقول في صفات الله تعالى

في هذه الفقرة أشار الشيخ إلى شيء من قواعد إثبات الصفات لله عز وجل، وذكر أنموذجاً من صفاته، وهو السمع والبصر والعلم واليدين، وهذه الصفات منها ما هو خبري ومنها ما هو معلوم بالعقل والخبر، فالعلم معلوم بالعقل بالضرورة لله عز وجل، وكذلك جاء به الخبر.

والسمع والبصر كذلك مما تقر به العقول، وقد جاء به السمع، وإن كان بعض أهل العلم يرى أن السمع والبصر موقوفان على الوحي لأنهما سمعيان فقط؛ لكن الصحيح أن العقول السليمة تقتضي إثبات السمع والبصر لله عز وجل كإثبات العلم.

أما اليد واليدان فإنما تثبت بالخبر فقط فهي سمعية؛ لأنها لا تدخل في مدارك العقل ولا يد للعقل في إثباتها قبل أن تثبت في السمع وترد في الخبر الصحيح، فلما وردت بالخبر الصحيح فلابد أن يقر بها العقل؛ لأن إدراك العقل على نوعين:

النوع الأول: ما يدركه العقل ابتداء، وهذا يشمل جميع صفات الكمال لله عز وجل على جهة الإجمال، وكثير من صفات الكمال على جهة الإفراد.

النوع الثاني: ما لا يستطيع العقل أن ينفيه، وإذا ثبت فإنه يؤيده، وهي الصفات الخبرية مثل الاستواء والنزول والمجيء والرضا والغضب واليد، فهذه الصفات خبرية لا ينفيها العقل، ولا يستطيع أن يثبتها استقلالاً لو لم ترد بالكتاب والسنة؛ لأنها خبرية بحتة تتعلق بالأفعال التي لا يمكن استنباطها بالعقول ابتداء، أو تتعلق بالصفات الذاتية التي لا يمكن استنباطها بالعقول ابتداء، لكن إذا ثبتت فإن العقل يؤيدها ولا ينفيها.

ولذلك لما لم يوفق أهل الأهواء من المعتزلة والجهمية ومتكلمة الأشاعرة إلى هذا التصور وقعوا في الخلط، فإنهم ظنوا ألا يثبت لله عز وجل إلا ما أثبته العقل استقلالاً، وأن ما لم يثبته العقل استقلالاً فإنه لابد له من تأويل. وهذا غلط! فإننا نقول: ما يدخل في مدارك العقل على نوعين: نوع يثبت ابتداء كالعلم والحكمة والإرادة لله عز وجل، ونوع لا يثبت ابتداء لكنه إذا ورد لا يملك العقل أن ينفيه، أي أنه ليس في إثباته ما يناقض العقل، وهذا كالصفات الخبرية.

سبق العلم لله عز وجل

ثم ذكر مسألة سبق العلم لله عز وجل، وأن الله علم أن أهل المعاصي يعصونه قبل أن يخلقهم، وهذا فيه رد على القدرية الذين يقولون: لا قدر والأمر أنف، فإن القدرية الأولى تنفي العلم السابق لله عز وجل فيما يتعلق بأفعال الشر التي يفعلها العباد، ويزعمون أنهم عملوها دون أن يقدرها الله عز وجل ودون أن يعلمها، ثم بعد ذلك أثبتوا العلم ونفوا التقدير في مراحل تالية من مراحل تطور القدرية، فهو بهذا يرد على القدرية الأولى.

ثم قال: (علمه نافذ فيهم، فلم يمنعه علمه فيهم أن هداهم للإسلام ومن به عليهم كرماً وجوداً وتفضلاً).

يشير بهذا إلى أن الله عز وجل حينما قدر الهداية للمهتدين فذلك لسابق علمه بأنهم سيسلكون طريق المهتدين، وكذلك العكس؛ فإن الله عز وجل حينما قدر الشقاوة على أهل الشقاوة فإن ذلك راجع إلى علمه عز وجل السابق بما هم فاعلون، فقدر مصائرهم بنتائج أعمالهم التي يعلم أنهم سيعملونها.

في هذه الفقرة أشار الشيخ إلى شيء من قواعد إثبات الصفات لله عز وجل، وذكر أنموذجاً من صفاته، وهو السمع والبصر والعلم واليدين، وهذه الصفات منها ما هو خبري ومنها ما هو معلوم بالعقل والخبر، فالعلم معلوم بالعقل بالضرورة لله عز وجل، وكذلك جاء به الخبر.

والسمع والبصر كذلك مما تقر به العقول، وقد جاء به السمع، وإن كان بعض أهل العلم يرى أن السمع والبصر موقوفان على الوحي لأنهما سمعيان فقط؛ لكن الصحيح أن العقول السليمة تقتضي إثبات السمع والبصر لله عز وجل كإثبات العلم.

أما اليد واليدان فإنما تثبت بالخبر فقط فهي سمعية؛ لأنها لا تدخل في مدارك العقل ولا يد للعقل في إثباتها قبل أن تثبت في السمع وترد في الخبر الصحيح، فلما وردت بالخبر الصحيح فلابد أن يقر بها العقل؛ لأن إدراك العقل على نوعين:

النوع الأول: ما يدركه العقل ابتداء، وهذا يشمل جميع صفات الكمال لله عز وجل على جهة الإجمال، وكثير من صفات الكمال على جهة الإفراد.

النوع الثاني: ما لا يستطيع العقل أن ينفيه، وإذا ثبت فإنه يؤيده، وهي الصفات الخبرية مثل الاستواء والنزول والمجيء والرضا والغضب واليد، فهذه الصفات خبرية لا ينفيها العقل، ولا يستطيع أن يثبتها استقلالاً لو لم ترد بالكتاب والسنة؛ لأنها خبرية بحتة تتعلق بالأفعال التي لا يمكن استنباطها بالعقول ابتداء، أو تتعلق بالصفات الذاتية التي لا يمكن استنباطها بالعقول ابتداء، لكن إذا ثبتت فإن العقل يؤيدها ولا ينفيها.

ولذلك لما لم يوفق أهل الأهواء من المعتزلة والجهمية ومتكلمة الأشاعرة إلى هذا التصور وقعوا في الخلط، فإنهم ظنوا ألا يثبت لله عز وجل إلا ما أثبته العقل استقلالاً، وأن ما لم يثبته العقل استقلالاً فإنه لابد له من تأويل. وهذا غلط! فإننا نقول: ما يدخل في مدارك العقل على نوعين: نوع يثبت ابتداء كالعلم والحكمة والإرادة لله عز وجل، ونوع لا يثبت ابتداء لكنه إذا ورد لا يملك العقل أن ينفيه، أي أنه ليس في إثباته ما يناقض العقل، وهذا كالصفات الخبرية.

ثم ذكر مسألة سبق العلم لله عز وجل، وأن الله علم أن أهل المعاصي يعصونه قبل أن يخلقهم، وهذا فيه رد على القدرية الذين يقولون: لا قدر والأمر أنف، فإن القدرية الأولى تنفي العلم السابق لله عز وجل فيما يتعلق بأفعال الشر التي يفعلها العباد، ويزعمون أنهم عملوها دون أن يقدرها الله عز وجل ودون أن يعلمها، ثم بعد ذلك أثبتوا العلم ونفوا التقدير في مراحل تالية من مراحل تطور القدرية، فهو بهذا يرد على القدرية الأولى.

ثم قال: (علمه نافذ فيهم، فلم يمنعه علمه فيهم أن هداهم للإسلام ومن به عليهم كرماً وجوداً وتفضلاً).

يشير بهذا إلى أن الله عز وجل حينما قدر الهداية للمهتدين فذلك لسابق علمه بأنهم سيسلكون طريق المهتدين، وكذلك العكس؛ فإن الله عز وجل حينما قدر الشقاوة على أهل الشقاوة فإن ذلك راجع إلى علمه عز وجل السابق بما هم فاعلون، فقدر مصائرهم بنتائج أعمالهم التي يعلم أنهم سيعملونها.

قال رحمه الله تعالى: [ واعلم أن البشارة عند الموت ثلاث بشارات:

يقال: أبشر يا حبيب الله برضا الله والجنة.

ويقال: أبشر يا عدو الله بغضب الله والنار.

ويقال: أبشر يا عبد الله بالجنة بعد الإسلام. هذا قول ابن عباس ].

يظهر لي والله أعلم أنه يقصد انقسام الناس في مصائرهم يوم القيامة وأنها على ثلاثة أقسام: الأول أهل الجنة الذين يدخلون الجنة ابتداء برحمة الله وفضله، نسأل الله أن يجعلنا جميعاً منهم.

والقسم الثاني: الذين يهلكون فيدخلون النار نسأل الله أن يعيذنا من النار.

والقسم الثالث هم أهل الكبائر الذين يستحقون العذاب بأعمالهم ثم يطهرهم الله عز وجل في النار ويخرجون بشفاعات الشافعين التي يأذن الله بها وبرحمته عز وجل.

فالعبارة فيها نوع من اللبس في الصنف الثالث أو البشارة الثالثة، قال: (ويقال: أبشر يا عبد الله بالجنة بعد الإسلام) فالعبارة فيها اضطراب وركاكة.

ولذلك لا يستبعد ما ذكره المحقق في كلمة الإسلام قال: وبدل كلمة الإسلام كلمة (الانتقام) وإن كانت (الانتقام) غير لائقة لكنها واردة في الشرع، أي: فيقال: أبشر يا عبد الله بالجنة بعد التطهير في النار، فهي تناسب الانتقام، فإذا كانت كلمة الانتقام لها أصل في المخطوطات فربما تكون هي الأصح، والله أعلم.

قال رحمه الله تعالى: [ واعلم أن أول من ينظر إلى الله تعالى في الجنة الأضراء ثم الرجال ثم النساء، بأعين رءوسهم، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته)، والإيمان بهذا واجب وإنكاره كفر ].

مسألة الرؤية من أصول الدين الكبرى؛ لكن هذا التفصيل لم ترد به نصوص صحيحة، أعني قوله إن أول من ينظر إلى الله عز وجل هم الأضراء -أي: المؤمنون الذين كانوا مكفوفين في الدنيا- ثم الرجال ثم النساء، فهذا ليس عليه دليل صحيح، وما ورد فيه من آثار فهي ضعيفة أو موضوعة.

أما أصل الرؤية فلا شك أنه من قواطع الدين ومما تواترت به النصوص، وصار من الأصول الكبرى الفوارق بين أهل السنة وأهل الأهواء والبدع؛ ولا شك أن الإيمان بها واجب وإنكارها كفر، لا إنكار ما ذكره المؤلف من الترتيب.

قال رحمه الله تعالى: [ واعلم رحمك الله أنه ما كانت زندقة قط، ولا كفر ولا شك ولا بدعة ولا ضلالة ولا حيرة في الدين إلا من الكلام وأهل الكلام والجدال والمراء والخصومة، والعجب كيف يجترئ الرجل على المراء والخصومة والجدال، والله تعالى يقول: مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا [غافر:4]، فعليك بالتسليم والرضا بالآثار وأهل الآثار والكف والسكوت ].

التسليم والكف والسكوت هو الأصل والمراء محرم، لكن بين الأمرين ما يباح عند الحاجة وما يلزم عند الضرورة، وهو الجدال بالتي أحسن، وبشروط الجدال التي سبق الإشارة إليها في درس ماض، فإن هذا يجب عندما يحتاج الدين إلى دفاع، ويحتاج الحق إلى نصر والباطل إلى رد، فإذا ظهرت البدعة واستشرى أمرها واستفحلت شعارات أهل الأهواء والبدع، فلابد من المجادلة بإقامة الحجة عليهم.

وكذلك الجدال في الاجتهاديات يجوز ما لم يصل إلى المراء وذلك للوصول إلى الحق الذي يقتضيه الدليل والشيخ في إشارته القوية إلى تحريم المراء والخصومة والجدل يقصد الخصومة التي تصل إلى المراء.

وقوله: (واعلم رحمك الله أنها ما كانت زندقة قط ولا كفر.. إلا بالكلام والجدال والمراء والخصومة)، فهذا في الجملة صحيح لكن لا يدل على حصر وجود هذه الضلالات على هذا السبب، فإن أسباب وجود الزندقة والكفر والشك والبدعة والضلالة والحيرة في الدين كثيرة، لكن أعظمها وأشدها وأنكاها وأبغضها إلى يومنا هذا هو الجدل والمراء والخصومات في الدين، وقد يكون بعضها أقرب إلى الجدل من بعض، فالزندقة لاشك أنها ما دخلت على المسلمين إلا بعد انتشار الجدل وكذلك الكفر، أما البدعة فقد بدأت قبل وجود الجدال وقد اندست بين المسلمين بسبب الجهل وتقليد الأمم الأخرى وبسبب الأهواء، فبدع الخوارج الأولى بدأت شرارتها صامته همساً لم يكن فيها جدال ظاهر، ثم توسعت بالجدال وتعمقت وتجارت بأهلها كما يتجارى الكلب بصاحبه، وشرارتها الأولى كانت شبهات يقذفها شياطين الإنس والجن في آذان ضعاف الدين وضعاف العقول.

وكذلك بدع الشيعة الأولى ظهرت بالجدال، وكانت قد بدأت بهمسات من شياطين الجن والإنس في قلوب العجم، وبعد أن ظهرت استفحلت وانتشرت وعمت بها البلوى بالجدال، فالجدال مرحلة تالية من بداية الأهواء، وبعض الأهواء نشأت بسبب الجدال استقلالاً، مثل مذهب القدرية.

وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية سبباً ظريفاً يؤيد القول بأن الجدل سبب لظهور بعض البدع والفرق، فذكر أن أكبر سبب لظهور القدرية هو جدال الناس في احتراق الكعبة ما بين سنة ستين إلى أربعة وستين تقريباً، فلما احترقت بدأ الناس يتكلمون بعلم وبغير علم: هل احترقت بتقدير من الله أو بغير تقدير من الله؟ فخاض العوام في هذه الأمور، فأدخلت النصارى واليهود شبهاتهم من خلال هذه القصة على الناس!

فهذا يدل على أن من الفرق ما كان سبب ظهوره الجدال والخصومات والمراء في الدين.

ومن ذلك أيضاً المشبهة، لا شك أنه ما ظهرت المشبهة والمجسمة إلا من المراء والجدال الذي حصل مع الجهمية.

قال رحمه الله تعالى: [ والإيمان بأن الله تبارك وتعالى يعذب الخلق في النار في الأغلال والأنكال والسلاسل والنار في أجوافهم وفوقهم وتحتهم، وذلك أن الجهمية منهم هشام الفوطي قال: إنما يعذب الله عند النار رد على الله وعلى رسوله ].

هذه من جرأة أهل الأهواء على الكلام في الأمور الغيبية بغير علم وبغير برهان والجرأة في القول على الله بغير علم، فالأصل في الأمور الغيبية أن نقف على ما ورد به النص ولا نزيد ولا ننقص، فكون الله عز وجل يعذب من شاء في النار، وأن النار فيها أغلال وأنكال وسلاسل وأنها أيضاً تمس أجوافهم وأنها من فوقهم ومن تحتهم؛ هذا كله ثبتت به النصوص في القرآن والسنة، أما فلسفة الجهمية أو بعض الجهمية من قولهم: إن الله يعذب عند النار لا منها فهذه فلسفة جر إليها التلقي عن غير الكتاب والسنة والإمعان في تحكيم العقول فيما لا تدرك، والتمادي مع الأوهام والخيالات والوساوس، ثم إن هذا راجع إلى أصول فلسفية موجودة عند الفلاسفة القدامى الذين هم خصوم الأنبياء، وكل الفلاسفة الإلهيين خصوم للأنبياء، فعندهم مواقف غريبة تجاه الأمور الغيبية بما في ذلك اعتقاداتهم عن النار وعن الجنة أنها مجرد أمور تمس الأرواح وليس الأجسام وأن ما لا يقر به العقل في الدنيا فلا يجوز إقراره ولو عن الآخرة فهم يقولون: النار التي وصفت لا يمكن أن يتحملها جسم الإنسان قياساً على الدنيا، فإذاً: يكون العذاب عند النار لا فيها، وغير ذلك من الشبهات.

فلا شك أن هذا رد للحق ورد -كما قال الشيخ- على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قول على الله بغير علم، ولأنه حيدة عن الحق البين في أن الله يعذب أهل النار في النار فهم أهلها خلقت من أجلهم وتمتلئ بهم، نسأل الله العافية.

فالقول بأن الله يعذب أهل النار عند النار فيه عدول واضح عن الحق، وفيه تحكيم لأوهام العقول.