فتاوى مسجد ابن تيمية


الحلقة مفرغة

السؤال: هل صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أولياء الله الذين إذا رآهم الناس ذكروا الله).

الجواب: هذا الحديث جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً: (أولياء الله الذين إذا رؤوا ذكر الله)، قال الألباني في السلسلة الصحيحة: أخرجه المروزي في زوائد الزهد لـابن المبارك ، والطبراني في الكبير، وأبو نعيم في أخبار أصبهان، والضياء في المختارة.

وقوّاه الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله تعالى في السلسلة الصحيحة، المجلد الرابع، برقم (1733).

وهذا الحديث يبين علامة من علامات الأولياء الذين قال الله عز وجل عنهم: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62-63]. فبين النبي صلى الله عليه وسلم علامة من علاماتهم، هي أنهم إذا رآهم الناس وشاهدوهم تذكروا برؤيتهم الله سبحانه وتعالى.

السؤال: إذا حاضت المرأة بعد أذان الظهر بنحو عشر دقائق، أو خمس دقائق، أو بمقدار صلاة ركعة واحدة، فهل تقضي الظهر عندما تطهر من الحيض أم يسقط عنها؟

الجواب: تقضي الظهر إذا أدركت منه مدة قدر ركعة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة).

فالمرأة إذا حاضت بعد دخول وقت الظهر فإنها تقضي صلاة الظهر؛ لأنه بدخول وقت الظهر قد وجب عليها أن تصلي الظهر، وبدخول وقت يساوي الوقت الذي يستغرق لصلاة ركعة واحدة تجب عليها الصلاة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة)، وإذا طهرت قبل غروب الشمس بمقدار ركعة واحدة وجب عليها أن تصلي الظهر وتصلي العصر، وكذلك إذا طهرت قبل صلاة الفجر -ولو بمقدار ركعة واحدة- فإنها تقضي المغرب والعشاء.

السؤال: ما قولكم في رأي الشرع فيمن أودع أمواله في البنوك ولم يعقد مع صاحب البنك القرض الذي يجري فيه الربا -أي: الذي ورد فيه الخبر: (كل قرض جرّ منفعة فهو ربا)، والحكم يدور مع العلة، فإذا كان تحريم مثل هذا القرض بسبب وجود علة الربا -وهي الفائدة- فإنه سيودع أمواله في البنك بدون أن يتفق معهم على أخذ فائدة، والهدف من وضع الأموال في البنك هو حفظها من التعرض للضياع، وليس المقصود منه الاتجار والربح، ثم إن هيئة البنك تستثمر تلك الأموال في عمليات تحقق لها ربحاً، وقد لا تستثمرها، فهل يجوز للمسلم أن يتقاضى جزءاً معيناً حددته هيئة البنك عند سحب الأموال وعدمه مقابل ما أودع؟

الجواب: ننبه أولاً على أن صيغة السؤال في المسائل الشرعية ينبغي أن تكون بلفظ ما (حكم الشرع) وليس من أدب السؤال قول (ما رأي الشرع) إذ الحكم يجب امتثاله، أما قول (ما رأي الشرع) فيدل على أن ذلك وجهة نظر يمكن الأخذ بها ويمكن أن تترك.

أما جواب السؤال فإنه لا يجوز للمسلم أن يودع أمواله في البنوك التي تتعامل بالربا، إلا إذا كان يخشى عليها من الضياع، ولا يجوز له أن يدفعها للبنك بناءً على أنه يأخذ فائدة من البنك، وإذا كان الشخص يخشى على نقوده من السرقة ونحو ذلك فله أن يودعها في البنك بدون فائدة؛ لأنه مضطر إلى ذلك، أما أخذ الفائدة من البنك فهو تعامل بالربا، وهو محرم بالكتاب والسنة والإجماع.

أما القول بإن ترك الفائدة للبنوك الكافرة عون لها على المسلمين، وعدم أخذ هذه الأموال مثل إعطائهم مالاً يعينهم على حرب المسلمين فليس الأمر كذلك، وإنما تركها تعفف من المسلم عما حرم الله عليه، كما يترك لهم قيمة ما حرم الله من الخمر والخنزير، وكما يجوز له الصدقة على فقرائهم إذا كانوا غير حربيين.

وقد أجاب على هذا السؤال فضيلة الشيخ عبد الله بن قعود ، والشيخ عبد الله بن غديان ، والشيخ عبد الرزاق عفيفي ، والشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن باز .

السؤال: أحد الناس يعمل في أحد البنوك بالمملكة السعودية، فهل العمل في البنوك التي تتعامل بالربا حرام أم مباح؟ وإذا كان حراماً فهل يستقيل من هذا العمل؟

الجواب: العمل في البنوك وهي بوضعها الحالي تتعامل بالربا حرام، فلا يجوز لك أن تستمر في العمل في البنك الذي تعمل فيه، وأكثر العلماء يقولون: أكثر المعاملات في البنوك المصرفية الحالية تشتمل على الربا، فهو حرام بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، وقد حكم النبي صلى الله عليه وسلم بأن من أعان آكل الربا وموكله بكتابة له أو شهادة أو ما أشبه ذلك كان شريكاً لآكله وموكله في اللعنة والطرد من رحمة الله، ففي صحيح مسلم وغيره من حديث جابر رضي الله عنه: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هُم سواء)، والذين يعملون في البنوك المصرفية أعوان لأرباب البنوك في إدارة أعمالها، كتابة، أو تقييداً، أو شهادة، أو نقلاً للأوراق، أو تسليماً للنقود، أو تسلماً لها، إلى غير ذلك مما فيه إعانة للمرابين.

وبهذا يعرف أن عمل الإنسان في المصارف الحالية حرام، فعلى المسلم أن يتجنب ذلك، وأن يبتغي الكسب من الطرق التي أحلها الله، وهي كثيرة، وليتق الله ربه، ولا يعرض نفسه للعنة الله ورسوله، وهذا فيه الكفاية إن شاء الله تعالى.

وقد أجاب على هذا السؤال العلماء الذين أجابوا على السؤال السابق.

السؤال: ما الحكم إذا كان الصيدلي يبيع بعض الأدوية والأشياء الأخرى التي على أغلفتها بعض الصور المحرمة، مع العلم بأنه ليس من السهل طمس هذه الصور، بالإضافة إلى أنه ربما لا يباع الدواء عند طمس الصورة الموجودة على غلافه؟

الجواب: إذا كان الأمر كما ذكر جاز بيع الدواء الذي عليه صورة.

السؤال: ما الحكم إذا باع الصيدلي أدوات التجميل الخاصة بالنساء، علماً أن غالبية من يستعملنها من المتبرجات الفاجرات العاصيات لله ورسوله اللاتي يستخدمن هذه الأشياء للتزين لغير أزواجهن والعياذ بالله؟

الجواب: إذا كان الأمر كما ذكر فلا يجوز له البيع لهن؛ لأنه من التعاون على الإثم والعدوان، وقد نهى الله تعالى عنه بقوله تعالى: وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2].

السؤال: هل يجوز سجود الشكر وسجود التلاوة بدون حجاب وبدون تكبير؟

الجواب: يجوز سجود الشكر وسجود التلاوة بدون حجاب، ويكبر عند السجود وعند الرفع منه.

السؤال: هل الكلام بسبب المرافقة في العمل مع من هو مقيم على المعصية بعد النصح له فيه شيء؟

الجواب: ينبغي أن تستمر على نصحه وتعامله بالحكمة والموعظة الحسنة، وتجادله بالتي هي أحسن، وتدعو الله له لعل الله أن يهديه، وبالله التوفيق.

السؤال: من المعلوم أن بعض العلماء الذين نهجوا منهج الخلف في فهم صفات الله سبحانه وتعالى قد لجئوا لأسلوب تأويل هذه الصفات؛ خشية الوقوع في التشبيه، فما الحكم في هؤلاء؟

الجواب: هم يؤولون قوله تعالى: (استوى على العرش) بمعنى: (استولى!) أو (يد الله) بمعنى: قوة الله، وهكذا، والذي يجب هو أن نسلك مسلك السلف في إجراء هذه الصفات على ظاهرها، بدون تشبيه وبدون تعطيل كما هو معلوم.

يقول الشنقيطي رحمه الله: ونحن نرجو أن يغفر الله تعالى للذين ماتوا على هذا الاعتقاد؛ لأنهم لا يقصدون تشبيه الله بخلقه، وإنما يحاولون تنزيهه عن مشابهة خلقه، فقصدهم حسن، ولكن طريقهم إلى ذلك القصد سيء، وإنما نشأ لهم ذلك السوء بسبب أنهم ظنوا لفظ الصفة التي مدح الله بها نفسه يدل ظاهره على مشابهة صفة الخلق.

أي: لما سمعوا قوله تعالى: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75] فأول ما سمعوا كلمة (بيدي) تخيلوا ما هو معهود لديهم من صفات المخلوقين فوقعوا في التشبيه، ثم قالوا: ينبغي أن نبطل هذا التشبيه؛ لأنه كفر فقادهم ذلك إلى التعطيل، فنفوا الصفة.

فهم في بداية الأمر وقعوا في التشبيه أصلاً، وظنوا أن ظاهر اللفظ هو التشبيه، فلذلك وقعوا في النفي حتى يتفادوا التشبيه، ولو أنهم منذ البداية قالوا: إن ظاهرها هو ما يليق بالله سبحانه وتعالى لَمَا وقعوا في التشبيه ولا في التعطيل.

يقول: فنفوا الصفة التي ظنوا أنها لا تليق قصداً منهم لتنزيه الله، وأوّلوها بمعنىً آخر يقتضي التنزيه في ظنهم، فقالوا: (استوى على العرش) أي: استولى على العرش. فهم كما قال الشافعي رحمه الله تعالى:

رام نفعاً فضر من غير قصد ومن البر ما يكون عقوقا

يقول: ونحن نرجو أن يغفر الله لهم خطأهم، وأن يكونوا داخلين في قوله تعالى: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الأحزاب:5].

وخطؤهم المذكور لاشك فيه، ولا يصح أن يأتي إنسان فيقول: هناك علماء وأئمة يؤولون صفات الله فكيف تخالفونهم؟ فأقول: لسنا نحن الذين نخالفهم، لكنهم خالفوا من هُم أجلّ منهم قدراً وأعظم منهم علماً، ألا وهم أئمة السلف في القرون الخيرية الأولى ومن تبعهم بإحسان.

إذاً: ليست المسألة أن إنساناً متأخراً يتعقب علماء الخلف، وإنما بعض رجال الخلف خالفوا قول السلف الذين هم أعلم الأمة بدينهم، فيكون خطؤهم المذكور لا شك فيه، ولو وفقهم الله لتطهير قلوبهم من التشبيه أولاً وجزموا بأن ظاهر صفات الخالق هو التنزيه عن مشابهة صفة المخلوق لسلموا مما وقعوا فيه.

فمثلاً: لو أنهم من البداية سمعوا قوله تعالى: اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54] فقالوا: استوى استواءً يليق بجلال الله، ولا ندري كيف هو؛ لأنه لا يعلم كيف هو إلا هو لسلموا.

فأي شيء تتخيله عن الله سبحانه وتعالى بعقلك فاعلم أن الله ليس على تلك الصفة، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11] فلا شك في أن النبي صلى الله عليه وسلم عالم كل العلم بأن الظاهر المتبادر مما مدح الله به نفسه في آيات الصفات هو التنزيه التام عن صفات المخلوقين، ولو كان يخطر في ذهن النبي صلى الله عليه وسلم أن ظاهر هذه الصفات لا يليق بالله لأنه تشبيه بصفات الخلق لبادر كل المبادرة إلى بيان ذلك، ولكنه لم يفصّل؛ لأنه يعلم أن الصحابة يفهمون أن ظاهر هذه الصفات هو ما يليق بالله وليس ما يقتضي التشبيه؛ لأنه لا يجوز في حق النبي صلى الله عليه وسلم تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه، ولا سيما في العقائد وفيما ظاهره الكفر والتشبيه.

إذاً: لو كان ظاهره يخالف ما يليق بالله سبحانه وتعالى لنفاه النبي صلى الله عليه وسلم، فكونه لم يبين ذلك فمعناه أن الظاهر هو ما يليق بالله، وليس الظاهر هو ما يعرفه المخلوقون، فسكوت النبي صلى الله عليه وسلم عن بيان هذا يدل على أن ما زعمه المؤولون لا أساس له من الصحة.

السؤال: بعض الناس -خاصة الصوفية- يستدلون بآية في سورة الكهف على جواز اتخاذ قبور الصالحين مساجد، فيقولون: إذا كان من المقرر شرعاً تحريم بناء المساجد على القبور فهناك أدلة على جواز ذلك، ومن هذه الأدلة قوله تبارك وتعالى في سورة الكهف: قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا [الكهف:21]، ووجه دلالة الآية على ذلك أن الذين قالوا: (لنتخذن عليهم مسجداً) كانوا نصارى -حسب ما هو مذكور في كتب التفسير-، فيكون اتخاذ المسجد على القبر من شريعتهم، وشريعة من قبلنا شريعة لنا إذا حكاها الله سبحانه وتعالى ولم يعقبها بما يدل على ردها، كما في هذه الآية الكريمة. فما صحة هذا الاستدلال؟!

الجواب: يقول فضيلة العلامة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني : الجواب على هذه الشبهة من وجهين:

أولاً: إن الصحيح المتقرر في علم الأصول أن شريعة من قبلنا ليست شريعة لنا، وهم بنوا هذا الاستدلال على أن شرع من قبلنا شرع لنا، فيكون هذا أمراً غير متفق عليه، والقول الراجح في علم الأصول أن شريعة من قبلنا ليست شريعة لنا لأدلة كثيرة، من هذه الأدلة قوله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [المائدة:48]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي) وقال في آخر هذه الخمس: (وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة) فمعناه: إن شريعتي غير شرائع الأنبياء قبلي.

فإذاً: الأنبياء السابقين كموسى وعيسى ونوح وغيرهم كان كل نبي منهم أو رسول يأتي بشريعة لقومه خاصة، فكونها لقومه خاصة معنا أنها لا تلزم غيرهم، وحينئذٍ لا تلزمنا نحن المسلمين، وإنما الذي يلزمنا هو بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وشريعته، فإذا تبين هذا فلسنا ملزمين بالأخذ بما في الآية، أي: لو وافقنا ابتداءً على أن الآية تفيد أن في شريعة النصارى أنهم يبنون المساجد على قبور الصالحين فإذا ثبت أن شرع من قبلنا ليس شرعاً لنا فلا يجوز لهؤلاء الناس أن يستدلوا بالآية على أن شرع من قبلنا شرع لنا؛ لأن هذه القاعدة غير صحيحة، بل الصحيح أن لنا شريعة خاصة ولهم شريعة خاصة.

إذاً: لا يلزمنا المخالف بالأخذ بما فهمه من الآية من جواز بناء المساجد على القبور.

أما الوجه الثاني الذي يرد به على استدلالهم بآية سورة الكهف فنقول: هبْ أن الصواب قول من قال: شريعة من قبلنا شريعة لنا. فإذا فرضنا هذا جدلاً فإن العلماء الذين يقولون: إن شرع من قبلنا شرع لنا يشترطون أن لا يخالف شرعنا، فإن خالفه فالذي يقدم شرعنا؛ لأن شرعنا أتى لينسخ هذه الشرائع.

وما ورد في هذه الآية مشروط بإذا لم يرد في شرعنا ما يخالفه، وهذا الشرط معدوم هنا؛ لأن الأحاديث تواترت في النهي عن بناء المساجد على القبور، فذلك دليل على أن ما في الآية ليس شريعة لنا.

وهناك وجه ثالث في الرد، وهو أنه لا يلزم أن تفيد الآية أن بناء المساجد على القبور كان شرعاً عندهم؛ لأن غاية ما فيها أنه: قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا [الكهف:21]، وليس فيها تصريح بأن الذين قالوا ذلك كانوا مؤمنين، وليس هناك ما يدل على أنهم كانوا مؤمنين صالحين متمسكين بشريعة نبي مرسل، بل الظاهر خلاف ذلك.

والحافظ ابن رجب رحمه الله في شرح حديث: (لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) يقول: وقد دل القرآن على مثل ما دل عليه هذا الحديث، وهو قول الله عز وجل في قصة أصحاب الكهف: قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا [الكهف:21]، فجعل اتخاذ القبور على المساجد من فعل أهل الغلبة على الأمور، وذلك يشعر بأن مستنده القهر والغلبة واتباع الهوى، وأنه ليس من فعل أهل العلم والفضل المتبعين لما أنزل الله على رسله من الهدى.

وقال الشيخ علي بن عروة : حكى ابن جرير في قوله تعالى: ( قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ ) قولين:

الأول: أن القائلين هم المسلمون منهم.

والثاني: أنهم أهل الشرك منهم، فالله أعلم.

يقول: والظاهر أن الذين قالوا ذلك هم أصحاب الكلمة والنفوذ، ولكن هل هم محمودون أم لا؟ فيه نظر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذّر ما صنعوا).

إذاً: لم يقتصر على عدم كونه في شريعتهم، بل لعنهم الله من أجل بناء المساجد على القبور.

وقد روينا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه لما وجد قبر دانيال في زمانه بالعراق أمر بأن يخفى عن الناس، وأن تدفن تلك الرقعة التي وجدها عنده فيها شيء من المواعظ والأخبار وغيرها.

يقول الألوسي : واستدل بالآية على جواز البناء على قبور العلماء، واتخاذ المساجد عليها، وجواز الصلاة عندها، وممن ذكر ذلك الشهاب الخفاجي في حواشيه على البيضاوي ، وهو قول باطل عاطل فاسد كاسد.

ثم أتى بالأحاديث الثابتة في تحريم بناء المساجد على القبور، وأتبعها بكلام الحافظ الهيتمي في بيان أن ذلك من الكبائر.

ثم قال: وقد أفتى جمع بهدم كل ما بقرافة مصر من الأبنية، حتى قبة الإمام الشافعي عليه الرحمة التي بناها بعض الملوك أفتوا أنها تهدم، وينبغي لكل أحد هدم ذلك ما لم يخش منه مفسدة، فيتعين الرفع للإمام أخذاً من كلام ابن الرفعة في الصلح، فإن الله سبحانه وتعالى قص علينا بلا إنكار.

أي: إن قالوا: إن ربنا حكى كلام هذه الفئة: قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا [الكهف:21] ولم ينكر عليهم نقول: نعم لم ينكر سياق القرآن صراحة عليهم، ولكن إنكار الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم ولعنهم على هذا الفعل واضح، وإنكار الرسول كإنكار الله، مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء:80].

فيقال لهم: هل تنكرون السنة؟ فإن كانوا ينكروا السنة فإنهم فرقة ضالة تنبأ بها النبي عليه الصلاة والسلام، وإن كانوا يؤمنون بالسنة فقد ثبت في السنة إنكار الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا الفعل، وأنه لعن الذين يتخذون المساجد على القبور، فالآية ليست خارجة مخرج المدح لهؤلاء الناس، وليس فيها -أيضاً- ما يحضنا على التأسي بهم.

ومتى يمكن القول بأن عدم إنكار الله سبحانه وتعالى على هؤلاء القوم يعني إباحة هذا الفعل؟

نقول: ذلك إذا كان في وسطهم شخص معصوم، فمتى لم يثبت أن فيهم معصوماً -أي: نبياً مرسلاً- فلا يدل فعلهم -فضلاً عن عزمهم- على مشروعية ما كانوا بصدده؛ لأنه ما كان فيهم رسول، لكن هؤلاء الناس لم يأت ما يدل على الوثوق بفعلهم.

وتأول بعض العلماء اتخاذهم للمسجد على القبور بأنه ليس المعنى الذي نفهمه الآن من بناء المساجد على القبور في مكان واحد، قال: وإنما هو اتخاذ مسجد قريب من كهفهم، وليس المقصود اتخاذ المساجد على القبور بالصورة التي نعرفها في هذا الزمان.

وأيضاً فإن الإنسان الذي يستدل بهذه الآية على جواز بناء المساجد على القبور مَثَله كمثل الإنسان الذي يستدل بقوله تعالى في شأن سليمان عليه السلام: يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ [سبأ:13] على جواز صناعة التماثيل والأصنام، فأما في شرعنا فهذه الأشياء محرمة قطعاً، وكذلك بناء المساجد على القبور.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة اسٌتمع
قصتنا مع اليهود 2627 استماع
دعوى الجاهلية 2562 استماع
شروط الحجاب الشرعي 2560 استماع
التجديد في الإسلام 2514 استماع
تكفير المعين وتكفير الجنس 2505 استماع
محنة فلسطين [2] 2466 استماع
انتحار أم استشهاد 2438 استماع
تفسير آية الكرسي 2404 استماع
وإن عدتم عدنا 2395 استماع
الموت خاتمتك أيها الإنسان 2394 استماع